الفصل الرابع: قيمة الإعلان العام
عندما يحاول المرء تحديد قيمة الإعلان العام، يتعرض لمخاطر المغالاة في تقديره أو الإقلال من شأنه. فعندما يستحوذ غِنى النعمة التي أعطاها الله لنا في إعلانه الخاص على كل اهتمامنا، نصبح أحياناً مأخوذين بالنعمة لدرجة يفقد فيها الإعلان العام معناه وقيمته تماماً بالنسبة إلينا. ومن الناحية الأخرى، فإننا عندما نتأمل الصلاح والحق والجمال التي يمكن أن نجدها عن طريق إعلان الله العام في الطبيعة أو في عالم البشر، فإن تلك النعمة الخاصة المعلنة لنا في شخص المسيح وعمله يمكن أن تفقد مجدها وجاذبيتها.
وخطر الشرود بعيداً، سواء لليمين أو لليسار، قائم دائماً في الكنيسة المسيحية. ولذلك فقد قوبل الإعلانان للخاص والعام، كل بدوره، بالتجاهل أو بالإنكار. فكل بدوره نال نصيبه من الإنكار من الناحية النظرية، وبدرجة لا تقل قوة من الناحية العملية أيضاً. وإن كنا في الوقت الحاضر لا نرى حق الإعلان العام مهضوماً كما كان في عصور سالفة، فإن التجربة الأشد التي تنقض علينا من كل جانب هي وضع حدود ضيقة جداً للإعلان الخاص لينحصر في شخص المسيح مثلاً، وأسوأ من ذلك إنكار هذا الإعلان تماماً أو اعتباره جزءاً من الإعلان العام.
ويجب أن نكون على حذر من التطرف في أحد هذين الاتجاهين. وسيكون من الأفضل لنا أن نلقي نظرة على تاريخ الجنس البشري في ضوء الكتاب المقدس لنتعلم ما يدين به البشر للإعلان العام. وعندئذ سيتضح لنا أنه رغم كون البشر، في ضوء هذا الإعلان، قد حققوا إنجازات كبيرة في بعض النواحي، فإن معرفتهم وقدراتهم في مجالات أخرى تحدها حدود لا يمكن تجنبها.
عندما تعدى آدم وحواء وصية الله في الفردوس. لم يكن عقابهما فورياً ولا في كامل قوته. فلم يموتا في يوم خطيتهما بالذات، بل بقيا على قيد الحياة. ولم يزج الله بهما في جهنم، بل أسند إليهما عملاً على الأرض. ولم ينقرض نسلهما، بل وعدهما بنسل المرأة. وبالاختصار، فإننا نجد أنفسنا أمام حال كان الله يعرفه وسبق له أن أسَّسه إلا أن الإنسان لم يكن في مقدوره أن يتوقعه. أنه حال له صفة فريدة حقاً، حال يمتزج فيه غضب الله بالنعمة، والعقاب بالبركة، والدينونة بأناة الله، وكلها تختلط معاً. إنه الحال الذي ما زال قائماً في الطبيعة وبين البشر، الحال الذي يضم بين جوانبه أشدَّ المتناقضات.
فنحن نعيش في عالم غريب، عالم يواجهنا بمتناقضات هائلة: فهنالك العالي وهنالك المنخفض، الكبير والصغير، الجليل والسخيف، الجميل والقبيح، المأساوي والهزلي، الخير والشر، الصدق والكذب، وتتكدس كل هذه معاً في علاقات متبادلة لا يسبر غروها. ووقار الحياة وتفاهتها يستوليان علينا، كلٌّ بدوره. فتدفعنا الأحداث للتفاؤل حيناً، ثم التشاؤم أحياناً أخرى. والبكاء يفسح الطريق للضحك. والعالم كله يتسم بصفة ساخرة أحسن أحدهم إذ وصفها بأنها بسمة في دمعة.
والسبب العميق وراء حال العالم الحاضر هو هذا: إنه بسبب خطية الإنسان فإن الله يعلن على الدوام غضبه، إلا أنه، لمسرة مشيئته، يعلن نعمته بصفة دائمة أيضاً. فإن غضبه يفنينا، إلا أنه في الصباح يشبعنا برحمته (مز 90: 7، 14) فإنما إلى لحظة غضبه، وفي رضاه حياة. وقد يدوم البكاء ليلة، إلا أن الفرح يأتي في الصباح بكيفية فريدة لدرجة أن إحداهما تبدو وكأنها أصبحت الأخرى. والعمل بعرق الجبين لعنة وبركة في آن واحد. وكلاهما يشير إلى الصليب الذي هو في الوقت عينه قمة الدينونة، والنعمة في أقصى مداها. ولهذا فإن الصليب هو النقطة المركزية في التاريخ والذي فيه تنتهي كل المتناقضات.
بدأ هذا الحال بعد السقوط مباشرة، وخلال الفترة الأولى التالية، أي حتى دعوة الله لإبراهيم، وكانت له صفة متميزة. والحد عشر أصحاحاً الأولى من سفر التكوين لها أهمية كبرى، فهنا نجد نقطة الانطلاق وأساس تاريخ العالم كله.
وما يستحق الالتفات بكيفية مباشرة هو أنه رغم التمييز بين الإعلانين الخاص والعام، فإن كلاً منهما ليس بمعزل عن الآخر، فهنالك علاقة متبادلة دائمة بينهما. وكل منهما موجه إلى الناس أي الجنس البشري كما كان عندئذ . . . . . ولم يعط الإعلان الخاص لأفراد أقلاء ولا لشعب خاص، بل لجميع من عاشوا عندئذ. فخلق العالم، والإنسان، وتاريخ الفردوس والسقوط وعقاب الخطية وإعلان نعمة الله الأول (تك 3: 15) وكذلك العبادة الجمهورية (تك 4: 26) وبداية الحضارة (تك 4: 17) والطوفان وبناء برج بابل، كل هذه ثروة حملتها البشرية لتتزود بها لرحلتها عبر التاريخ. ولذلك فليس غريباً أن نعثر عند مختلف شعوب العالم على روايات لهذه الأحداث ولو في صورة مشوشة. فلتاريخ الجنس البشري بداية عامة، وهو يبنى على أساس عريض عام.
ولكن هذه الوحدة وهذه العمومية سريعاً ما حدث انقسام بين البشر. وكان سبب ذلك هو الجانب الديني متمثلاً في العلاقة بين الله والبشر. كانت خدمة الله ما زالت تتسم بالبساطة، ولم تكن هنالك إمكانية عبادة جماعية كما نعرفها اليوم ما دامت البشرية لم تزد عن كونها بضع عائلات. إلا أن خدمة الله رغم ذلك كانت موجودة من البداية في صورة ذبائح وصلوات، وفي تقديم العطايا وتخصيص أفضل الأشياء لله (تك 4: 3، 4). ولا يحدثنا الكتاب المقدس عن كيفية وصول البشر إلى فكرة تقديم الذبائح. وتفسير العلماء لأصل الذبائح يختلف كثيراً في هذه الأيام. إلا أنه من الواضح أن هذه الذبائح الأولى كان نتيجة الإحساس بالاعتماد على الله والعرفان بفضله، وأن الذبائح كانت لها صفة رمزية، إذ كان يقصد بها التعبير عن تكريس الإنسان نفسه لله والخضوع له. فلم تكن العطية في حد ذاتها هي ما يهم، بل موقف المعطي الذي تعبر العطية عنه. فمن جهة الموقف ومن جهة العطية، قدم هابيل ذبيحة أفضل من قايين (عب 11: 4) ولذلك قابلها الرب بالاستحسان. إلا أنه من البداية كان هنالك انقسام بين بني آدم، انقسام بين الأبرار والأشرار، بين الشهداء والقتلى، بين الكنيسة والعالم. ومع أن الله اهتم بقايين حتى بعد ما ارتكب جريمة القتل، فبحث عنه واستنهضه لتغيير مسار حياته، وأحسن إليه بدلاً من أن يوقع به القصاص (تك 4: 9 – 16) فإن تصدع العلاقات ظل قائماً. ثم شق الانقسام طريقه حتى بلغ الذروة ووصل مؤقتاً إلى الانفصال بين أبناء قايين وأبناء شيث.
وتزايد عدم الإيمان والارتداد عن الله بسرعة فائقة من جيل إلى جيل في نسل قايين، إلا أنهم لم يصلوا درجة عبادة الأوثان والتماثيل. ولا يشير الكتاب المقدس إلى وجود مثل هذه بين البشر قبل الطوفان. فصور هذه العبادة الزائفة ليست أصيلة ولكنها نتيجة تطور لاحق، وهي دليل حاسة دينية كتمها أبناء قايين في قلوبهم. ولم يستسلم أبناء قايين للخرافات ولكن لعدم الإيمان، فوصلوا– عملياً إن لم يكن نظرياً– إلى إنكار وجود الله وإعلانه. فعاشوا وتصرفوا كأن الله غير وجود. فأكلوا وشربوا وتزوجوا وزوجوا كما سيكون عند مجيء ابن الإنسان (مت 24: 37، 38) واستنفدوا طاقاتهم سعياً وراء الحضارة، وبحثوا عن خلاصهم عن طريقها (تك 4: 17– 24)، ووجدوا سعادتهم في الحياة الطويلة التي امتدت أحياناً مئات السنين (تك 5: 3 والآيات التالية)، وكانت لهم مواهب عظيمة وقوة بدنية هائلة وكانوا يتباهون بقوة سيوفهم (تك 4: 23، 24)، تصوروا أن قوة ذراعهم تخلصهم.
وقد حافظ أبناء شيث على معرفة الله وعبادة الله لمدة طويلة، بل إننا نقرأ أنه في أيام أنوش بن شيث ابتدأ الناس يدعون باسم الرب (تك 4: 26) وهذا لا يعني أن البشر بدأوا يتعبدون لله بالذبائح والصلوات في ذلك الوقت، فهذا كان قائماً قبل ذلك، فنحن نقرأ عن التقدمات في قصة هابيل وقايين. ومع أنه لا توجد إشارة إلى الصلوات، فهي بلا شك كانت تشكل جزءاً من خدمة الله من البداية، فلا يمكن تصور خدمة الله دون صلاة. بل أن تقديم الذبائح إنما هو صلاة مجسمة. والصلاة تصحب الذبائح دائماً وفي كل مكان. كما أن التعبير الذي نقابله في (تك 4: 26) لا يعني أنه في ذلك الوقت بدأ الناس يدعون الله رباً، لأنه بغض النظر عن كون اسم يهوه معروفاً عندئذ أو غير معروف، فإن طبيعة الله التي يعبر عنها هذا الاسم لم تكن قد أعلنت حتى أعلنها الرب لموسى، وكان هذا بعد ذلك بكثير (خر 3: 14). فمن الأرجح أن معنى العبارة "يدعون باسم الرب" هو أن أبناء شيث انفصلوا كجماعة عن أبناء قايين، وأنهم عقدوا اجتماعات عامة للاعتراف باسم الرب، وبذلك أعلنوا ولاءهم لعبادة الله بصورة علنية وفي اتحاد، مما ميزهم عن أبناء قايين. فصلواتهم وتقدماتهم لم تعد فردية فقط بل أصبحت أيضاً شهادة جماعة متحدة. فعلى قدر ما استسلم أبناء قايين لعبادة العالم وبحثوا عن سعادتهم فيه، ارتبط أبناء شيث بالله ودعوا باسمه في الصلاة والشكر والوعظ والاعتراف في وسط جيل شرير.
عن طريق هذا الوعظ العلني قُدمَّت الدعوة باستمرار لأبناء قايين للتوبة. واستمر هذا حتى بعد ما تفشى الانحطاط الديني والأخلاقي بين أبناء شيث، واختلط هؤلاء أيضاً بالعالم. وقد دعى حفيد أنوش مهللئيل (تك 5: 15) وهذا الاسم يعني "حمد الله". وسار أخنوخ مع الله (تك 5: 22) وعبر لامك، عندما ولد ابنه نوح، عن أمله في أن ابنه سيكون لعائلته مصدر راحة وسط عملهم وتعب أيديهم بسبب الأرض التي لعنها الرب (تك 5: 29) ثم جاء نوح في النهاية يعظ عن البر (2 بط 2: 5) وأعلن لمعاصريه بروح المسيح إنجيل الخلاص (1 بط 3: 19، 20).
إلا أن أمثال هؤلاء القديسين أصبحوا شيئاً فشيئاً حالات نادرة. فلقد تزاوج أبناء شيث وأبناء قايين وأنجبوا أولاداً فاقوا الأجيال السابقة في القوة البدنية (تك 6: 4) وتفشى فساد الجنس البشري. وتصورات قلب الإنسان كانت شراً منذ حداثته فصاعداً، وامتلأت الأرض عنفاً عن طريقهم (تك 6: 5، 12، 13، 8: 21). ومع أن الله في طول أناته أجلّ قضائه مائة وعشرين سنة (تك 6: 3، 1 بط 3: 20) ومع أن وعظ نوح أشار إلى طريق النجاة، فعلى رغم ذلك كله اندفعت البشرية قدماً نحو مصيرها الرهيب حتى هلكت في النهاية بمياه الطوفان.
بعد هذه الدينونة الرهيبة التي نجا منها نوح وعائلته المكونة من سبعة أفراد غيره، بدأ عهد أو تدبير جديد يختلف عن ذلك الذي كان قبل الطوفان. ولقد كان الطوفان، كما يصوره الكتاب المقدس حدثاً فريداً في تاريخ الجنس البشري لا يقابله إلا احتراق العالم في الأيام الأخيرة (تك 8: 21 والآيات التالية) وهذا الطوفان كان بمثابة معمودية تدين العالم وتنقذ المؤمنين (1 بط 3: 19، 20).
وبدأت الحقبة الجديدة على أساس عهد تم إبرامه. فإذا بنى نوح مذبحاً، بعد الطوفان، وقدم عليه ذبائح لله معبراً عن طريقها عن شكره وعن صلاة قلبه، عندئذ قال الرب في نفسه، أنه سوف لا يوقع مثل هذه الدينونة على الأرض ثانية، أنه سيدخل نظاماً ثابتاً في مجرى الطبيعة. والموضوع الجوهري في هذه المناسبة هو أن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته (تك 8: 21) وهذه الكلمات تشبه كثيراً، وفي الوقت نفسه تختلف كثيراً عما نجده في (تك 6: 5) حيث نقرأ أن كل تصور أفكار قلب الإنسان إنما هو شر دائماً. والكلمات المستخدمة في (تك 6: 5) تتعلق بفكرة استئصال الأرض في حين أن الفكرة في (تك 8: 21) تتصل بفكرة حفظها. ففي الموضع الأول يقع التنبيه على الأعمال الشريرة التي عبّرت عن قلب البشرية القديم الفاسد. وفي الموضع الثاني يقع التنبيه على الطبيعة الشريرة التي تبقى في الإنسان حتى بعد الطوفان.
ولذلك فإنه يبدو أن الرب يرغب في أن يقول، في هذه الكلمات الأخيرة، إنه يعرف ما يتوقعه من خلائقه لو تركهم وشأنهم، فإن قلب الإنسان الذي يبقى دائماً كما هو ينجرف ثانية نحو مختلف أنواع الشر ويثير دائماً غضب الله ويدفعه لأن يدمر العالم ثانية وهذا ما لا يريد تعالى أن يفعله. ولذلك فهو سيضع قوانين ثابتة للإنسان وللطبيعة ويرسم لهما منهجاً معيناً يحددهما به. كل هذا يتم في إطار العهد الذي وضعه الله لخليقته بعد الطوفان، ولذلك يطلق عليه عهد الطبيعة.
ومع أن هذا العهد ينبع من نعمة الله فهو يختلف من حيث المبدأ عما نسميه عهد النعمة الذي تأسس مع الكنيسة في المسيح. فإن عهد الطبيعة هذا يقوم على أساس أن قلب الإنسان شرير ويبقى شريراً من حداثة السن فصاعداً. ومضمونه هو رد البركة التي أعطاها الله عند الخليقة، بأن يثمر البشر ويتسلطوا على الحيوانات (تك 9: 1، 3، 7). ولهذا فهو يشمل وصية ضد القتل (تك 9: 5، 6). وقد أقام الله هذا العهد مع نوح باعتباره أباً للسلالة البشرية الثانية ومن خلاله يقوم العهد مع كل البشر، بل مع الخليقة كلها، ومع الكائنات الحية ومع الجماد سواء بسواء (تك 9: 9 والآيات التالية) وهذا العهد مختوم بظاهرة طبيعية هي قوس قزح (تك 9: 12 والآيات التالية) وهدفه تجنب دينونة ثانية مماثلة للطوفان، وضمان استمرار البشر والعالم في الوجود (تك 8: 21، 22؛ 9: 14– 16).
وبذلك فإن حياة الإنسان والعالم ووجودهما أصبحا يعتمدان على أساس مختلف أكثر رسوخاً. فلم يعد الأساس هو عمل الخليقة وناموسها. بل إنه عمل جديد خاص من أعمال نعمة الله وطول أناته. فإن الله لم يُضحِ ملتزماً أن يمنح الإنسان حياته ووجوده على أساس نظام الخليقة والذي تعداه الإنسان على أي حال. ولكنه بعهده هذا يلزم نفسه بالأحرى بالمحافظة على الخليقة رغم سقوطها وعصيانها. ومن هذا الوقت فصاعداً فإن حفظ الخليقة كلها وإدارة شؤونها لا يعتمدان على قرار الإرادة الإلهية، بل على أساس التزام العهد. فبمقتضى شروط العهد يصبح الله ملزماً أما نفسه أن يحفظ العالم ويبقي عليه. وفي هذا العهد أعطى اسمه ومجده، حقه وأمانته، كلمته ووعده ضماناً لخليقته لاستمرارية وجودها. وعلى ذلك فالقواعد التي تحكم الإنسان والعالم أصبحت ثابتة تماماً في عهد نعمة مع الطبيعة كلها. (تك 8: 21، 22) و (أي 14: 5، 6، 26: 10) و (مز 119: 90، 91، 148: 6) و(إش 28: 24) والآيات التالية (إر 5: 24؛ 31: 35، 36؛ 33: 20، 25).
وعهد الطبيعة هذا يوجد نظاماً جديداً يختلف تماماً عما كان عليه قبل الطوفان. فالقوى الطبيعية الهائلة التي كانت تعمل من قبل والتي عملت في الطوفان قد كبح جماحها، والكائنات الرهيبة التي كانت ضمن المخلوقات الحية الموجودة من قبل قد انقرضت الآن، والكوارث الهائلة التي كانت تهز الكون بأرجائه قد أفسحت في المجال لشيء من النظام. وأصبح عمر الإنسان على ظهر هذه البسيطة أقصر من ذي قبل وتناقضت قوته، ورقت طبيعته، وتهذب وفقاً لمطالب المجتمع، وخضع لمتطلبات أنظمته. وعن طريق هذا العهد وضعت للطبيعة وللإنسان قيود وحدود. وظهرت القوانين والأنظمة في كل مكان. فنشأت السدود والحدود لتقف في طريق تيار الشر. وأصبحت الخليقة تتميز بالنظام والمقاييس والعدد. فالله يكبح جماح الوحش في الإنسان وبهذا يمنحه الفرصة لينمي مواهبه وطاقاته في الفن والعلوم، في الدولة والمجتمع، في العمل والوظيفة، وهكذا يحقق الله الشروط التي يصبح بها التاريخ ممكناً.
إلا أننا نقابل مرة أخرى انقطاعاً في مجرى التاريخ بتدخل الله في بلبلة الألسنة في بابل. فبعد الطوفان سكن البشر أولاً في أرض أراراط في المرتفعات الأرمينية وهنالك أصبح نوح فلاحاً (تك 9: 20) وعندما تزايد عدد البشر انتشر بعضهم شرقاً على ضفتي دجلة والفرات، وهكذا جاءوا إلى سهل شنعار أو ما بين النهرين (تك 11: 2) واستقروا هنالك، وبسرعة إذا ازدادوا ثروة وقوة فكروا في بناء برج عال ليبقوا لأنفسهم اسماً ويمنعوا تشتت البشرية. وفي تحد لأمر الله بأن يكثروا ويتسلطوا على كل الأرض، جعلوا مثلهم الأعلى أن يحققوا، عن طريق مركز خارجي، الوحدة بين الناس وأن يربطوا كل الجنس البشري معاً في مملكة عالمية تحقق مكانتها عن طريق القوة ويكون هدفها وكل ما تسعى إليه هو مجد الإنسان. وتظهر لأول مرة في التاريخ فكرة تمركز البشرية جمعاء وتنظيم كل قوتها وحكمتها وفنونها وعلومها وحضارتها ضد الله وضد ملكوته. إنها فكرة ظهرت مراراً وتكراراً في ما بعد وكان تحقيقها هو الهدف الذي سعى إليه أناس يعتبرهم البشر عظماء على مر العصور والأجيال.
من ثم أصبح من الضروري أن يتدخل الله ليجعل تأسيس إمبراطورية أرضية أمراً مستحيل التحقيق بصفة نهائية، مهما بذل البشر من جهد. وحقق الله ذلك ببلبلة الألسنة. لأنه حتى في ذلك الوقت كانت هنالك لغة واحدة. ولا يوضح لنا الكتاب المقدس بصفة محددة كيف حدثت هذه البلبلة ولا في أية حقبة حدثت. إلا أن ما حدث هو أن البشر اختلفوا بعضهم عن بعض عضوياً ونفسياً. وبدأوا ينظرون إلى الأشياء نظرات متباينة ويطلقون عليها أسماء مختلفة، وترتب على ذلك أن انقسموا إلى أمم وشعوب وتشتتوا في جميع أنحاء الأرض. ويجب أن نتذكر أيضاً أن الجو كان مهيئاً لهذه البلبلة بانقسام البشر إلى قبائل وعشائر من نسل أبناء نوح (تك 10: 1 والآيات التالية) وعن طريق هجرة نسل نوح من أرمينيا إلى شنعار (تك 11: 2). وما كانت فكرة برج بابل لتظهر على الإطلاق لو لم يكن تهديد التشتت والخوف منه قائمين لمدة طويلة وبصورة جدية.
بهذه الكيفية يوضح الكتاب المقدس كيف نشأت الأمم الشعوب والألسنة واللغات. وفي الواقع إن انقسام البشر أمر فريد يصعب تفسيره. فالذين يولدون من نفس الوالدين لهم ذات الروح والنفس ويشتركون في ذات الجسد والدم، إلا أن مثل هؤلاء يتعالمون كغرباء. فهم لا يتفهمون بعضهم بعضاً ولا يتحقق التواصل بينهم. وأكثر من ذلك أن الجنس البشري منقسم عنصرياً حيث يتحدى أحدهم وجود الآخر في تصميم كامل لأن يحطم بعضهم بعضاً. فيعيشون قروناً بعد قرون في حروب باردة أو ساخنة. والغريزة العنصرية والإحساس القومي، والعداوة والكراهية كلها قوى تقسم الشعوب بعضها ضد بعض. وهذا عقاب مذهل ودينونة مريعة لا يمكن أن يمنعها تجمع دولي ولا ارتباطات سلام تقيمها لغة "عالمية" أو حكومة تشمل العالم أجمع ولا حضارة دولية.
فإن كان البشر سيتَّحدون ثانية، فإن وحدتهم لن تتحقق عن طريق تجمع خارجي آلي حول برج بابل أو غيره، بل عن طريق نمو من الداخل، تجمع تحت الرأس الواحد لا سواه (أف 1: 10)، عن طريق خليقة السلام التي توجد من كل البشر إنساناً جديداً (أف 2: 15) بالخليقة الجديدة وتجديد الروح القدس (أع 2: 6) وبأن يسير كل البشر في النور الواحد عينه (رؤ 21: 24).
ووحدة البشر التي يمكن أن تسترد عن طريق العمل الداخلي الذي يبدأ في الداخل ويثمر في الخارج، هي بالتالي وحدة تزعزعت أساساً في ذلك العمل الداخلي الذي أدى لبلبلة اللسنة. وقد تزعزعت الوحدة الزائفة من أساسها لتفسح المجال للوحدة الحقيقية. وتحطمت الدول العالمية ليتأسس ملكوت الله على الأرض. ولذلك، فمنذ ذلك الوقت فصاعداً تنفصل الأمم وتنتشر على وجه الأرض. ومن بين هذه الشعوب كلها اختار الله شعب اسرائيل ليحمل إعلانه. والإعلانان العام والخاص اللذان كانا مترابطين حتى الآن ينفصلان لفترة حتى يتقابلا ثانية عند الصليب. فقد انفصل شعب إسرائيل ليسير في طرق الله وشرائعه، ويدع الرب سائر الشعوب يسلكون طرقهم الخاصة (أع 14: 16).
وطبيعي أنه ينبغي لنا ألا نفسر هذا باعتبار أن الله لم يبال بالشعوب الأخرى وأنه تركهم تماماً لمصيرهم المحتوم. فهذه فكرة لا يقبلها العقل. فالله هو الخالق والمتعهد والضابط لكل الأشياء، ولا يوجد شيء أو يحدث شيء دون قوته القادرة على كل شيء والحاضرة في كل مكان.
وفضلاً عن ذلك فإن الكتاب المقدس يتحدث مراراً وتكراراً عن نقيض فكرة إهمال الشعوب الأخرى. فحين قسم العلي الأمم، وحين فرق بني آدم نصب تخوماً لشعوب حسب عدد بني إسرائيل (تث 32: 8). وفي تقسيم الأرض نظر الرب إلى اسرائيل بعين الاعتبار وخصص لهم أرضاً تتناسب مع عددهم. إلا أنه أعطى الشعوب الأخرى أيضاً ميراثهم وأقام حدودهم. وصنع من دم واحد جميع البشر، ورسم لهم ألا يعيشوا في مكان واحد، بل على وجه الأرض كلها. لأنه لم يخلق الأرض عبثاً، بل إنما للسكن صورها (إش 45: 18). وعلى هذا الأساس فإنه رسم خطة للأزمنة الثابتة من قبل، عن الفترة المعينة للشعوب المختلفة وحدود مسكنهم. فمدة الحياة ومكان إقامة الشعوب كلها قررتها مشيئته ووزّعتها عنايته (أع 17: 26).
ومع أنه في أزمنة سابقة سمح الله للأمم أن يسيروا في طرقهم الخاصة فإنه لم يترك نفسه بلا شاهد فهو يصنع معهم خيراً ويعطيهم أمطاراً من السماء وأزمنة مثمرة ويملأ قلوبهم طعاماً وسروراً (أع 14: 16، 17)، وهو يجعل شمسه تشرق على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين (مت 5: 45). وعن طريق إعلانه في الطبيعة والتاريخ أرسل صوته إلى قلوب الجميع وضمائرهم (مز 19: 1). فمنذ خلق العالم أظهر الله أموره غير المنظورة أي قدرته السرمدية ولاهوته عن طريق خليقته (رو 1: 19، 20) ومع أن الأمم لم يتلقوا شريعة مثل شعب إسرائيل، ولذلك فبحصر اللفظ يعتبرون بلا شريعة. فإنهم بعملهم أحياناً ما تطلبه الشريعة يظهرون أنهم في طبيعتهم الأخلاقية شريعة لأنفسهم وان الشريعة مكتوبة في ضمائرهم. ويؤكد هذا أن صوت ضمائرهم الذي يعلو في داخلهم من بعد أفعالهم وأفكارهم إما يبرئهم أو يدينهم (رو 2: 14، 15).
فالإحساس الديني والأخلاقي عند الأمم يثبت إذاً أن الله أدام اهتمامه بهم. فبالكلمة الذي كان عند الله في البدء، والذي كان هو الله، كان كل شيء. وحياة الناس ونورهم كانا في الكلمة. فهم مدينون للكلمة بكيانهم ووعيهم، ووجودهم وإدراكهم. وهذا ليس من حيث الأصل والمبدأ فقط بل أيضاً باعتبار أنه بمرور الزمن كان كلمة الله يحفظهم دائماً. فكلمة الله لم يخلق كل الأشياء فقط. وبهذا المفهوم أعطى البشر حياتهم، وعن طريق الوعي والعقل والفهم أنار كل إنسان يأتي إلى العالم (يو 1: 3– 10).
ويؤكد التاريخ شهادة الكتاب المقدس. ففي دائرة أبناء قايين نشطت اختراعات ومشروعات كثيرة حالاً بعد السقوط (تك 4: 17 والآيات التالية). وسريعاً ما حقق الذين استقروا في سهل شنعار بعد الطوفان مستوى عالياً من الحضارة. وكان نمرود بن كوش بن حام مؤسس مملكة بابل (تك 8: 12). ويتحدث الكتاب المقدس عنه كصياد ماهر أمام الرب لأنه، بقوته البدنية الخارقة أباد الوحوش المفترسة وجعل سهول شنعار مأمونة للسكن مما جذب الناس للاستيطان فيها. وهكذا بنى مدناً كثيرةً مثل بابل وأرك وأكد وكلنة، وكلها في سهول شنعار. ومن هذا الموضع تغلغل إلى بلاد أشور ووضع أساس مدن نينوى ورحوبوت وكالح ورسن.
فلم أقدم مستوطني شنعار، طبقاً للكتاب المقدس، من بني سام بل من بني حام. والدراسات الآشورية الحديثة التي تهتم بالكتابات المسمارية في أشور تؤكد هذا، حيث إنها تقول أيضاً إن قبيلة من السومريين، الذين لا يمكن اعتبارهم جزءاً من الساميين، هي التي استوطنت أولاً في شنعار. إلا أنه حدث أن بعض المهاجرين من نسل سام اكتسحوا في وقت لاحق شعب شنعار. وإن كانوا قد احتفظوا بلغتهم فإنهم أخذوا حضارة السومريين واندمجوا بها ليكونوا الكلدانيين. وتغلب العنصر السامي عندما جعل حامورابي، الذي ربما كان أمرافل (تك 14: 1)، مدينة بابل عاصمة لشنعار، ثم أخضع كل شنعار. ويقدم الفصل العاشر من سفر التكوين الفكرة عينها. فمع أننا نقرأ في الآية الحادية عشرة أن نمرود الذي من نسل حام ذهب إلى أرض أشور وأسس مدناً هنالك، تقول الآية الثانية والعشرون أن أشور، أي الشعب الساكن في أشور، يتصل بأرفكشاد ولود وأرام وينتسب إلى نسل سام.
وقد بلغت الحضارة التي وجدت في أرض شنعار شأناً كبيراً في العلوم والفنون، والأخلاق والقانون، والتجارة والصناعة، وكلما زدنا إلماماً بها عن طريق الحفريات وقفنا أمامها مشدوهين. فنحن لا نعلم كيف ولا متى قامت، إلا أنها على أي حال تنقض الفكرة السائدة بأننا كلما توغلنا في التاريخ القديم صادفنا شعوباً متخلفة همجية. فما دمنا لا نتمسك "بدائية" ونعطي التاريخ فرصة ليقودنا في دراستنا فإن ذلك سيؤكد لنا فكر الكتاب المقدس من أن الحقبة الأخيرة من تاريخ البشرية أيام نوح، بقيادة رجال مثل نمرود، بلغت درجة رفيعة من الحضارة.
وفضلاً عن ذلك فإن هذه الحضارة لم تبق محصورة في أرض شنعار. فإذ ازداد البشر انتشاراً، بعد بلبلة الألسنة، واستقروا في أماكن متفرقة. وتباعدت بعض القبائل شيئاً فشيئاً عن مركز الحضارة والمدنية، وبحثوا لأنفسهم عن مأوى في المساحات الشاسعة في آسيا وأوربا وإفريقيا بقفارها ومخاطرها. ولذلك فليس غريباً أن هذه القبائل والشعوب، وقد عاشت في معزل عن غيرها، بلا روابط تجارية وهي تصارع دائماً مع الطبيعة الجامحة، استمرت على مستوى الحضارة الذي بدأت عنده، أو تراجعت عنه في بعض الأحوال. وأمثال هؤلاء من نتحدث عنهم في الدراسات التاريخية باعتبارهم من "الشعوب البدائية" أو "الشعوب غير المتحضرة". إلا أن هذه التسميات تفتقر إلى الدقة وتقود إلى الخطأ، لأننا نجد بين هذه الشعوب جميع المميزات والمقومات التي تشكل عناصر الحضارة الرئيسية. فكلهم بشر يتميزون عن الكائنات الطبيعية، ولجميعهم إدراك وإرادة، وعقل وفهم، وأسرة ومجتمع، ولهم الأدوات التي يستخدمونها وما يتزينون به.
بالإضافة إلى ذلك، فإنه لا يوجد فارق كبير بين تلك الشعوب، بحيث يستحيل أن نضع حدوداً بين الشعوب "المتحضرة" والشعوب " غير المتحضرة". هنالك فارق حضاري كبير بين من يسكنون في الأدغال في جنوب إفريقيا وسكان جزر المحيط الهادي في آسيا وأجناس الزنوج. إلا أنهم مهما اختلفوا يظلون يشتركون في الفكر والتقليد– عن الطوفان مثلاً– كما في الذكريات والآمال، وكل هذه تشير إلى أصل مشترك.
وكل هذا يصدق بالأكثر على الشعوب المتمدنة، كالهنود والصينيين، والفينيقيين، والمصرين. إن أساس "الصورة العالمية" التي نجدها بين هؤلاء الشعوب هي نفسها تلك التي تسترعي التفاتنا في حفريات بلاد شنعار. هذا هو أساس كل حضارة، ومهد البشرية. فقد انتشرت البشرية من وسط آسيا ومن هذا المركز أخذت عناصر الحضارة التي تشترك فيها الشعوب المتحضرة والتي طورها كل منهم في استقلال عن الآخرين وبأسلوبه الخاص. إن حضارة بابل القديمة، بكتابتها وعلوم الفلك والرياضيات والتقويم وما أشبه، ما زالت هي الأساس الذي تبنى عليه حضارتنا.
إلا أننا، عندما نراجع تاريخ الحضارة كله من زاوية دينية أخلاقية، نحس إحساساً عميقاً بعدم الرضى، ونستفيق من أوهامنا. فقد قال بولس الرسول أن الأمم، وقد عرفوا الله عن طريق الإعلان العام، لم يمجدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم، وأظلم قلبهم الغبي، وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء وأبدلوا بمجد الله الذي لا يفنى صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات (رو 1: 21 – 23) وأي دراسة تاريخية منصفة لتاريخ ديانات الشعوب المختلفة تقودنا إلى النتيجة عينها. يستطيع المرء بمساعدة فلسفة زائفة أن يدرس صور الديانات المختلفة ويصل إلى جوهر غامض للديانات في مشاعر البشر، فيغض الطرف عن جدية النتيجة التي وصل إليها بولس الرسول. إلا أن الحقيقة تبقى أن البشرية في طريق حضارتها الطويل لم تمجد الله ولم تشكره.
حتى بين أقدم من سكنوا سهول شنعار، نقابل عبادة المخلوق بدلاً من الخالق. ويرى بعضهم أن الفكرة التي تأسست عليها ديانة البابليين، شأنها شأن الفكرة التي تتأسس عليها الديانات الأخرى، إنما هي فكرة وحدانية الله. ولا شك أن هذه الفكرة كانت موجودة حتماً قبل تطبيقها على المخلوقات. إلا أن الدين عند البابليين انطوى في الواقع على تمجيد سائر أنواع المخلوقات التي اعتبروها آلهة. ولا يمكننا، في غياب المعلومات التاريخية اللازمة، أن نفسر كيف حدث التحول من عبادة الإله الواحد الحقيقي إلى تمجيد كافة المخلوقات.
إلا أن الافتراض القائل بأن الديانات تطورت من عبادة الشياطين (أي تمجيد سائر النفوس والأرواح وبعض الرموز من النباتات والحيوانات) مروراً بتعدد الآلهة (التمجيد والعبادة لأنواع الآلهة كافة) إلى عقيدة التوحيد (تمجيد الإله الواحد وعبادته) إنما هو افتراض جزافي لا يمكن إثباته. فلم يحدث مثل هذا التطور في أي مكان. وإن كان شعب إسرائيل حالة متميزة مختلفة. إلا أن التاريخ يعلّمنا مراراً وتكراراً أن البشر ينحدرون من الاعتراف بالإله الواحد إلى عبادة آلهة كثيرة. وهذا ما نلاحظه في تاريخ إسرائيل وفي تاريخ كثير من الكنائس المسيحية، وحتى في العصر الذي نعيش فيه. فعندما يهجر الناس الإيمان بالإله الواحد، تظهر على الساحة أفكار تعدد الآلهة بكلّ أنواعها وممارسة الخزعبلات المتنوعة.
وبالإضافة إلى ذلك فإنه لا يوجد مطلقاً فارق كبير بين ما يسمونه الديانات "العليا" والديانات "الدنيا"، بين ديانات من يسمونهم شعوباً متحضرة وغير متحضرة، كما يؤكد بعضهم أحياناً. فالأفكار والممارسات نفسها نجدها بين الشعوب الوثنية كلها بصورة أو بأخرى. كما أننا نجد هذه الأفكار والممارسات نفسها في صور مختلفة بين الشعوب المسيحية، وهي تنتعش حيثما ضعف تأثير الديانة المسيحية في العصر الحديث.
فما هي هذه الأفكار والممارسات؟ هنالك أولاً عبادة الأوثان والصور. ونجد هذه بين الشعوب كافة. وعبادة الأوثان هي أن نضع شيئاً آخر في مكان الإله الواحد الحقيقي، أو إلى جواره، وأن نضع الثقة في ذلك الشيء. وتكون هذه البدائل مخلوقات أحياناً مثل القبة الزرقاء مثلاً بشمسها وقمرها ونجومها، كما في الديانة البابلية والتي تسمى لذلك ديانة عبادة النجوم. كما أنها قد تكون أحياناً عبادة الأبطال أو العباقرة أو عظام الرجال ينظر الناس إليهم كوسطاء يقفون في منتصف الطريق بين الآلهة والبشر كما كان اليونانيون مثلاً وغيرهم يفعلون. وأحياناً أخرى تكون الوثنية في صورة عبادة الأسلاف الذين كانوا يعتقدون أنهم يبلغون بعد الموت حالة أسمى، كما نجدها في الديانة الصينية. وقد تكون البدائل الوثنية لعبادة الله بعض الحيوانات أيضاً، كالثور والتمساح وما أشبه، مثل ديانة قدماء المصريين. أو– لنقدم مثلاً آخر– تكون الوثنية في صورة عبادة النفوس أو الأرواح، فيتصورون أن هذه تحل بصورة إما دائمة وإما مؤقتة في بعض الخلائق، سواء كانت كائنات حية أم جماداً. وبذلك تصبح هذه موضوع العبادة في ديانة الشعوب، متحضرة كانت أو غير متحضرة.
ومهما اتخذت الوثنية من مظاهر فإنها تمثل دائماً عبادة المخلوق بدلاً من الخالق، حيث يزول الفارق بين الله والعالم. وهكذا فات الوثنيون أن يدركوا قداسة الله، أي تميزه وسموه المطلق عن كافة الخلائق.
ونرى ثانياً أن أفكاراً زائفة كثيرة عن الإنسان والعالم تصاحب الوثنية. فالدين عند الأمم ليس شيئاً مستقلاً، بل إنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بجوانب الحياة كافة، وبالدولة والمجتمع، والفنون والعلوم. فلا نجد على الإطلاق ديناً يتكون من مجرد مشاعر ومواقف معينة. فالدين هو علاقة الإنسان بالله يتحكم في سائر العلاقات الأخرى، ولذلك علاقة الإنسان بالله يتحكم في سائر العلاقات الأخرى، ولذلك فهو يفترض وجهة نظر محددة من نحو الإنسان والعالم، وعن أصل جميع الأشياء وجوهرها وغرضها. والأفكار الدينية التي تواكب الاعتقاد بإله من الآلهة تؤثر في الماضي والمستقبل. فهنالك ذكريات للفردوس وتوقعات للمستقبل في جميع الديانات. كما أن هنالك أفكاراً عن أصل الإنسان والعالم ومستقبلهما. وهنالك أفكار عن عصر ذهبي كان في البداية، تبعه عصر فضي ثم حديدي وخزفي. كما أن هنالك أفكاراً عن خلود الإنسان وعن الحياة بعد الموت، وعن دينونة تنتظر الجميع في النهاية وعن مصير مختلف ينتظر الأبرار والأشرار عندئذ. وفي الديانات المختلفة تلقى هذه الأفكار تنبيهاً مختلفاً. فالديانة الصينية تنظر إلى الماضي وتتكون من عبادة الأسلاف. وديانة قدماء المصريين تتطلع إلى المستقبل، وتشغل نفسها بالموتى، وفي الواقع عبادة الموت. إلا أن هذه العناصر موجودة في كل الديانات ولو بدرجات متفاوتة.
وتشترك أشكال الديانات المختلفة كلها في مزج الحق بالكثير من أنواع الخطأ والحماقة. فإذا انمحى الخط الفاصل بين الخالق والمخلوق ضاعت الحدود بين العالم والإنسان، النفس والجسد، السماء والجحيم. وعلى جميع المستويات امتزج الطبيعي بالأخلاقي، والمادي بالروحي، والأرضي بالسماوي. وغيبة الإحساس بقداسة الله، يقابلها غياب الإحساس بالخطية. فالعالم الوثني لا يعرف الله، ولا يعرف العالم والإنسان ولا الخطية والبؤس حق المعرفة.
ونرى في المقام الثالث أن كل ديانات الأمم تتميز ببذل الجهد لبلوغ الخلاص عن طريق السعي البشري. فالوثنية تقود بطبيعتها إلى ديانة الإرادة الذاتية. فإذ يهجر المرء عبادة الإله الواحد الحقيقي، ولا يكون هنالك إعلان موضوعي تاريخي حق يلجأ المرء إليه، فإن الإنسان يسعى لأن يجبر الآلهة أو الأرواح التي اخترعها هو لتعلن عن نفسها. وعليه فالخزعبلات والتنبؤ بالطالع والسحر كلها تصحب دائماً عبادة الأوثان. والعرافة هي الاسم الذي يطلقونه على محاولة الشخص معرفة إرادة الآلهة بنفسه أو بمعاونة العرافيين والذين ينبئون بالطالع والكهنة والذين يدعون تقديم الإعلانات وما أشبه، وعن طريق التنجيم وتفسير الأحلام والوسائل الأخرى. والسحر هو الاسم الذي يطلق على محاولة تسخير إرادة الآلهة لخدمة الشخص نفسه عن طريق صلوات محددة، وتقديم بعض القرابين طواعية، واحتمال السياط وما أشبه من الممارسات.
وطبيعي أن مثل هذه الأشياء تتخذ صوراً متعددة، إلا أنها كلها لها مكانها في الديانات المختلفة وتمثل عنصراً ضرورياً في عبادة الأمم. هنا يحتل الإنسان مكاناً، وهو الذي يسعى لأن يحقق الخلاص لنفسه. ولا يوجد في أي من هذه الديانات تفهم للطبيعة الحقيقية للفداء (المصالحة) والنعمة.
مع أن هذا العرض المختصر يصلح لتقديم الخصائص الأساسية للديانات الوثنية بصفة عامة، فإن بعض التطور قد وجد طريقه إلى بعضها، مما يستحق منا أن نوليه التفاتنا وندرسه بصفة خاصة ولكن باختصار. فمتى حدث أن ديانة شعب ما فقدت من ناحية طابعها وأضحت مجموعة هائلة غريبة من أنواع الخزعبلات والعرافة كافة، فيما الثقافة والمدنية تتقدمان بسرعة من ناحية أخرى، فإن صراعاً لا بد أن يحدث. وكنتيجة لهذا الصراع، وذلك بلا شك من تدبير عناية الله، يولد رجال يحاولون أن يوفقوا بين الاثنين ويعملوا على انتشال الديانة من الهوة التي تردت فيها. وكان زاردشت، الذي عاش في بلاد فارس ربما قبل القرن السابع قبل الميلاد، شخصاً مثل هؤلاء. وكذلك كان كنفوشيوس في القرن السادس قبل الميلاد في الصين، وبوذا في القرن السادس قبل الميلاد في الهند. ومؤسسو ديانات أخرى، وكثيرون غيرهم وإن لم يكونوا معروفين بالاسم.
ولا شك أن الديانات التي أسسها هؤلاء تعتبر من نواح كثيرة أسمى من الديانات القبلية التي نشأوا فيها. إن نظريات التطور والتدهور سواء في ما يتعلق بالديانات أو بنواحي الحضارة المختلفة، كلها نظريات ذات جانب واحد لا تصلح لأن تقدم تفسيراً لوفرة المظاهر التي نراها واضحة في كل هذه، أو على الأقل لأن تشرحها جميعاً داخل إطار صياغة واحدة. ففترات الازدهار والتدهور، أو الانتعاش والانتكاس، موجودة بصفة مستمرة في تاريخ جميع الشعوب وفي مختلف مناحي الحياة.
بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن أن نقول أن هؤلاء الرجال تعمدوا خداع الناس فكانوا آلات الشيطان ووكلاءه. فقد كانوا أناساً جادين، صارعوا داخل نفوسهم ذلك التضارب القائم بين الإيمان القبلي أو الشعبي ووعيهم المستنير. وعن طريق النور الذي نالوه سعوا نحو بلوغ سعادة حقيقية.
إلا أنه مع تسليمنا بذلك، تظل تلك الديانات– رغم ما نالت من إصلاح– مختلفة في الدرجة لا في النوع عن عبادة الأوثان. صحيح أن هؤلاء الرجال شذبوا شجرة الديانات الزائفة، إلا أنهم لم يقتلعوها من جذورها. وقد نبَّه زرادشت في تعليمه على التعارض بين الخير والشر، إلا أنه نظر إلى هذا التباين لا باعتباره أخلاقياً فقط. بل اعتبره مادياً من الدرجة الأولى. ولذلك اضطر لأن يميز بين إله صالح وإله شرير، وخلق بذلك ازدواجية امتدت إلى كل شيء، في الطبيعة وفي الإنسان وفي عالم الحيوان، وكانت النتيجة الطبيعية تشوهت الحياة. وكانت الكنفوشوسية ديانة دولة تكونت من عناصر دينية خارجة عنها وجمعت عبادة آلهة الطبيعة والأسلاف. ولم تكن البوذية في البداية ديانة على الإطلاق، بل فلسفة اعتبرت أن الألم هو مصدر كل شر، وأن الوجود هو مصدر الألم، ولذلك نادت بأن الخلاص يتحقق بامتناع المرء عن أشياء كثيرة، وفقدان الوعي، وإبطال الوجود. وغير هذه من الديانات لم تفسح في المجال للشركة بين الله والإنسان، لأنها لم تتفهم سبب انفصال الإنسان عن الله ولا طريق المصالحة، وخلاص السماء عندها يتكون من الإشباع الكامل للرغبات الحسية.
ولذلك فإذ نراجع كل مجال الإعلان العام، نكتشف أنه– من ناحية– ذو قيمة كبيرة وأنه أوتى ثماراً غنية، إلا أن البشر– من الناحية الأخرى– لم يجدوا الله عن طريق نوره. إننا نجد الإحساس الديني والأخلاقي في كل البشر على أساس الإعلان العام، وهم لذلك يدركون إلى حد ما الحق والباطل، الخير والشر، العدل والظلم، الجمال والقبح، وأن يعيشوا في علاقة الزواج والأسرة، المجتمع والدولة، خاضعين للضوابط الداخلية والخارجية حتى لا يدركهم الانحلال والهمجية، وأنهم داخل نطاق هذه الحدود ينشغلون بالإنتاج والتوزيع، والاستمتاع بكافة الأمور الروحية والمادية. وبالاختصار، فإن الإعلان العام يحافظ على بقاء الجنس البشري ويصون وحدته، ويمكنه من الاستمرار ومن تطوير إنتاجه.
إلا أنه على الرغم من هذا كله تظل الحقيقة التي عبر عنها الرسول بولس قائمة، وهي أن العالم لم يعرف الله في حكمته عن طريق الحكمة (1كو 1: 21). وعندما يصف الرسول العالم بالحكمة فإنه يعني ما يقول بجدية كاملة. ففي ضوء الإعلان العام جمع العالم كنزاً من الحكمة، تلك الحكمة التي تتعلق بالحياة الأرضية. إلا أن حكمة العالم تجعل العالم أقل عذراً، لأنها تثبت أن الجنس البشري لم تنقصه تلك العطايا الإلهية مثل العقل والفهم والإمكانيات الذهنية والأخلاقية. إن حكمة الإنسان توضح أن الإنسان، بسبب ظلام فكره وقساوة قلبه، لم يستخدم العطايا التي منحه الله إياها استخداماً صحيحاً.
حقاً إن النور سطع في قلب الظلام، إلا أن الظلام لم يدركه (يو 1: 5). كان الكلمة في العالم ولكن العالم لم يعرف هذا الكلمة (يو 1: 10) وعليه فالعالم– بكل حكمته– لم يعرف الله (1 كو 1: 21).
- عدد الزيارات: 480