الفصل السادس: مضمون الإعلان الخاص
لاحظنا من قبل الطرق المتعددة التي جاء بها الإعلان الخاص للبشر، ونتقدم الآن إلى دراسة مضمون هذا الإعلان. وكما فعلنا في دراسة الإعلان العام، كذلك يجدر بنا الآن أن نراجع باختصار تاريخ الإعلان الخاص. وبهذه الكيفية - ودون دراسة منفصلة - سيتضح غرض هذا الإعلان.
لم يبدأ الإعلان الخاص بإبراهيم، بل بدأ بعد السقوط مباشرة. ومن ثمّ فإنه من المهم أن نلاحظ أن إبراهيم كان ابن تارح الذي ينتسب إلى الجيل الثامن من نسل سام. ونقرأ عن سام أن يهوه كان إلهه وسيظل كذلك (تك 9: 26). ولقد حُفظت معرفة الرب لأطول مدة وعلى أنقى حال في نسل سام، كما كان الحال مع نسل شيث قبل الطوفان. ولذلك، فعندما يدعو الرب إبراهيم، فهو لا يقدم نفسه له كإله مختلف، بل باعتباره الإله نفسه الذي سبق أن عرفه واعترف به. وعلى أي حال فإننا نعرف من بعض الفصول الكتابية الأخرى، مثل الفصل الذي يحدّثنا عن ملكي صادق (تك 14: 18 - 20) أن معرفة الإله الحقيقي لم تكن قد ضاعت وبالإضافة إلى ذلك فإن الكتاب يحدّثنا عن أن ملك الفلسطينيين أبيمالك، وبني حث في حبرون، وفرعون مصر، كل هؤلاء اعترفوا بإله إبراهيم وأكرموه (تك 20: 3، 21: 22، 23: 6، 26: 29، 40: 8، 41: 16، 38، 39).
وبعد بلبلة الألسنة، وانقسام البشرية، لم ينتشر عدم الإيمان بسرعة بين البشر، إلا أن الخزعبلات والوثنية انتشرتا. هكذا كان الحال في مصر (خر 18: 9 - 12) وفي كنعان (تك 15: 16، 18: 1 والآيات التالية) وفي بابل. حتى بين نسل سام تراجع الدين الصحيح أمام تقدم الوثنية. ومن (يشوع 24: 2، 14 و 15) نعلم أن آباء إسرائيل، تارح أبا إبراهيم، وناحور وهاران عبدوا آلهة أخرى عندما عاشوا على الجانب الآخر من النهر. كما أن (تك 31: 9، 34 و 35: 2 - 4) يحدثنا عن أن لابان كانت له آلهة بيته الخاصة التي كان يعبدها ولذلك دعي لابان أراميّاً، سريانيّاً (تك 31: 20، تث 26: 5).
ولكي يمنع الله البشر من السقوط فريسة للخرافات والإثم، ولكي يحفظ عهد الطبيعة مع نوح من أن ينقض، وقصدَ الله للإنسانية من أن يخيب، اعتمد تعالى أسلوباً آخر في تصرُّفه مع إبراهيم. فهو لا يستطيع أن يبيد الجنس البشري مرةً أخرى بطوفان عام. لذلك ترك سائر البشر يسلكون في طرقهم الخاصة، وأقام عهداً مع شخص واحد، وعن طريق هذا العهد يتابع وعده ويحقّقه. وعندما يتم تحقيق هذا الوعد، يمكنه أن يشمل البشرية كلّها مرة ثانية ببركاته. فتمييز شعبٍ تمييزاً مؤقتاً يصبح وسيلة لتوحيد دائم يضم البشرية جمعاء.
وبذلك تبدأ في إبراهيم حقبة جديدة من تاريخ الإعلان الإلهي. وهذا الجزء من هذا الإعلان الذي أصبح من نصيب آباء العهد القديم، هو في الواقع موائم لما جاء من قبله، ويضم إلى نفسه الإعلان السابق ويحتويه، لكنه ينال الآن دفعة جديدة وتطوراً أكبر. ولذلك فمن الأهمية بمكان أن نتفهم هذا الإعلان الجديد بصفته المتميِّزة الخاصة. وتبرز هذه الأهمية بصورة أكبر لأن الإعلان لإبراهيم وبالتالي ديانة إبراهيم يحدّدان بصورة نهائية ما وصل إلى إسرائيل، وما يكون لذلك جوهر ديانة إسرائيل.
وكثيرون اليوم سدّوا الطريق أمام الفهم الصحيح لجوهر ديانة إسرائيل. فهم يرفضون أولاً أن يسندوا أية قيمة تاريخية إلى فترة آباء العهد القديم، فيعتبرون إبراهيم وإسحق ويعقوب وغيرهم كأنهم أنصاف آلهة أو أبطال مثلما نجد مثلاً في إلياذة هوميروس. كما أنهم ثانياً يعتبرون أن ديانة إسرائيل إنما هي ذات أصل وضيع هو صورة من صور الوثنية مثل الأرواحية (الاعتقاد بأن روحاً موجود في كل شيء مادي) والفتشية (وهي تقديس بعض الأشياء المادية) وعبادة الأسلاف، وعبادة الشياطين المختلفة أو الآلهة المختلفة. ثم إنهم يحاولون من الناحية الثالثة أن يبرزوا أن جوهر ديانة إسرائيل كما أصبحت فيما بعد في أيام الأنبياء، وبصفة خاصة في القرن الثامن قبل الميلاد،إنما كان مجموعة من المبادئ الأخلاقية ترتبط بالإيمان بوحدانية الله، أي الاعتراف بإله واحد قادر على كل شيء في الوقت نفسه صالح وعادل.
والفكر الحديث في دراسات العهد القديم هو محاولة لشرح كامل ديانة إسرائيل وديانات الشعوب الأخرى على أساس طبيعي بحت، كتطور بطيء تدريجي يحدث دون الاستفادة من إعلان خاص. إلا أن الكتاب المقدس بكامله يعارض هذه النظرة، وتحصد هذه المحاولات ثمرة ما غرسته. ولذلك فإن مجهوداتها لبلوغ الفهم الصحيح سواء لأصل ديانة إسرائيل أو طبيعتها تبوء بالفشل.
فليس هذا هو السبيل لاكتشاف أصل ديانة إسرائيل وليس صحيحاً أن كل نبي من أنبياء العهد القديم يأتي بإله جديد مختلف. فجميع الأنبياء يقدمون دائماً الإله نفسه الذي هو إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، إله آبائهم، إله إسرائيل، والذي يجب على الشعب بمقتضى العهد، أن يخدموه ويعبدوه. وكثيرون ممّن يدركون أهمية هذا الرأي يتحوّلون من الأنبياء إلى موسى، فيعتبرونه المؤسس الحقيقي لديانة إسرائيل. إلا أن موسى أيضاً لم يأت، وما كان له أن يأتي، باسم إله غريب غير معروف- وإلا فما كان الشعب ليتجاوب مع رسالته. وبدلاً من ذلك نراه متوائماً مع الشعب ومع تاريخه، ويدعوهم إلى الخروج من مصر باسم الإله الأمين لمواعيده وبأمره، ذلك الإله الذي عاهد الآباء وقد جاء الآن ليحقّق وعده. والتأمُّل الجادُّ في أصل ديانة إسرائيل يدفعنا في الواقع لأن نتمشى مع الكتاب المقدس في ما يتعلق بعصر الآباء.
فيجب أن نعود إلى هذه الحقبة إن كنا نريد أن نتفهم جوهر ديانة إسرائيل وطبيعتها. ومن المؤكّد أنّنا لا نجد هذا الجوهر في ما يسمونه المبادئ الأخلاقية المرتبطة بالإيمان بوحدانية الله. فلا شك أن ديانة إسرائيل تضمَّنت هذا العنصر. إذ نادت بأن الله واحد، وقادر على كل شيء، وبار وقدوس، إلا أن هذا العنصر ليس هو الصفة النهائية القاطعة لديانة إسرائيل. لقد كان هذا الأمر مسلّماً به، ولكنه لم يكن هو مضمون ديانة إسرائيل. فقد كان لبَّ هذا الدين وجوهرَه شيء آخر، وهو أن هذا الإله هو الواحد السرمدي البار والقدوس وقد ارتبط بعهد ليكون إله إسرائيل.
هذه هي الكيفية التي بها فهم بولس هذا الأمر. ففي الفصل الرابع من رسالة رومية، والذي يجب مقارنته مع (غلا 3: 5 والآيات التالية)، يسأل بولس الرسول عن الشيء المميَّز الذي ناله إبراهيم من الله. ويجاوب عن هذا السؤال بالعودة إلى (تك 15: 6) فيقول إنّ هذا الشيء المميز لا يدخل نطاق الأعمال بل هو بر الإيمان، أي في نعمة مغفرة الخطايا، في إحسان الله الذي لا يتأسس على الاستحقاق، أو كما رأى داود في ما بعد، أن مغفرة الخطايا تشكل حال الهناءة والغبطة الذي يصل إليه الخاطئ.
وبالإضافة إلى ذلك يدافع الرسول بولس عن الفكرة فيقول إن عطية النعمة العظيمة هذه لم تُعط لإبراهيم عندما اختتن بل قبل ذلك بكثير (تك 15: 6) وإن ممارسة الختان التي بدأت بعد ذلك بأربع عشرة سنة (تك 17) افترضت بر الإيمان واعتبرت الختان رمزاً وختماً لذلك. ويترتب على هذا أن غفران الخطايا، بل الخلاص بكامله، مستقل عن الناموس ومتطلباته. هذا الأمر بالذات لا تنقصه الصحة في ما يتعلق بالمجال الشمولي لهذا الإحسان: فقد جاء الوعد لإبراهيم مؤكداً أنه سيكون أباً لأمم كثيرة ووارثاً للعالم لا عن طريق الناموس، بل قبل الناموس بزمن طويل وفي استقلال تام عنه.
ويعتمد بولس الرسول في مناقشته كلّها على تاريخ العهد القديم نفسه. والأمر الذي يبرز في هذا التاريخ ليس هو ما يعرفه إبراهيم عن الله أو يفعله من نحو الله، بل هو ما يعطيه الله لإبراهيم. فنرى أولاً أن الله هو الذي يبحث عن إبراهيم، ويدعوه، ويقوده إلى كنعان. ثم ثانياً هو الذي يعده بأن يكون إلهه وإله نسله. وثالثاً، يعد الله إبراهيم، على نقيض التوقعات كافة، أنه سيكون له نسل، وأنه سيكون أباً لأمة عظيمة، وأن تلك الأمة سترث كنعان. ورابعاً، يقول الله إن إبراهيم، من خلال نسله، سيكون بركة لأمم الأرض كلِّها. وخامساً، يصوغ الله هذا الوعد عن طريق ضمان العهد ويختمه بعلامة الختان، وبعد ما اجتاز إبراهيم امتحان الإيمان يؤكد الله هذا الوعد بقسم (تك 12: 1- 3، 7، 13: 14- 17، 15: 1 والآيات التالية، 17- 21، 17: 1 والآيات التالية، 18: 10؛22: 17- 19).
هذه المواعيد كلّها مجتمعةً معاً تشكِّل مضمون الإعلان الإلهي لإبراهيم، ومركزها وجوهرها جميعاً. ذلك الوعد الواحد العظيم: أكون إلهك وإله نسلك. وتمتد هذه المواعيد من خلال الشعب وارض إسرائيل إلى المسيح، ومن المسيح إلى البشرية كلها ثم العالم أجمع (رو 4: 11 والآيات التالية). فجوهر الإعلان ليس الناموس، بل الإنجيل، ليس ما يتطلبه الله منا، بل الوعد الإلهي الكريم. أما من الناحية البشرية، فالإيمان والسلوك، أو السير بالإيمان، هو ما يتصل بهذا الأمر (رو 4: 16 - 22، عب 11: 8 - 21). فنحن لا نمتلك الوعد بغير الإيمان، ويعبّر الإيمان عن نفسه بالسلوك الصالح (تك 17: 1). وإبراهيم هو مثال للإيمان الذي يصدّق. وإسحق مثال لإيمان الحليم، ويعقوب مثال للإيمان المجاهد.
في تاريخ هؤلاء الآباء نجد وصفاً لطبيعة شعب إسرائيل ودعوته. فبينما تسير شعوب الأرض في طرقها الخاصة وهي تطور ما أعطي لها عن طريق الإعلان العام، إذا بالله يدعو بعمل خلاّق شعباً للوجود من إبراهيم (تك 18: 10، تث 32: 6، إش 51: 1، 2). ولا بد لهذا الشعب من أن يعيش بالإيمان مثل إبراهيم، وأن يعترف بأنه مدين بأرض ميراثه لا لقوته الشخصية بل لنعمة الله، وأنّه لن يحقق الهيمنة المباركة على الشعوب المجاورة إلاّ متى تذكّر كإسحق وعد خلاص الرب، ومتى جاهد كيعقوب في تمسكه بإتمام هذا الوعد. فلا الحسابات ولا المشاورات البشرية يمكن أن تعمل على تحقيق ذلك، كما أن الضعفات البشرية والخطية لا يمكن أن تمنعه. فالله هو الذي يعطي الوعد وهو الذي يحققه. حتى إنه بينما يعاقب الخطية يجعلها تخدم تحقيق هدفه. وشعب إسرائيل، شأنه شأن يعقوب لا يكون له نصيب في وعد الرب وبركته إلا متى تصفى بالنار، وكُسِرت قوَّه، فيبلغ النصر عن طريق صراع الإيمان والصلاة ليس عن طريق سواه: لا أطلقك إن لم تباركني (تك 32: 26، هو 12: 4).
ويظل هذا الوعد عينه مضمون جميع إعلانات الله التالية في العهد القديم. وطبيعي أنه يتسع وينمو، كما يستمر هذا الوعد أيضاً لب ديانة إسرائيل وجوهرها. صحيح أن إتمام العهد في سيناء والتدبير الناموسي الذي أسسه الله حينذاك آذنا ببداية حقبة جديدة، إلا أننا لكي نتفهم طبيعة ديانة إسرائيل وتدبير العهد القديم، ينبغي أن نقتنع اقتناعاً عميقاً بأن الوعد الذي أعطي لإبراهيم من قبل لم ينسخه تدبير الناموس الذي تلاه.
وهذا هو التعليم الذي نادى به بولس الرسول بوضوح كامل. ففي (غلاطية 3: 15 والآيات التالية)، يشبّه بولس الرسول الوعد لإبراهيم ولنسله باتفاق، أو بالأحرى بعهد، متى تثبَّت لا يمكن لأحد أن ينقضه. وهذا عينه ينطبق على وعد الله لإبراهيم مع كل ما يتضمنه من مزايا. فالمواعيد تدبير إلهي مجاني، وكأنها - إن جاز لنا القول - متضمّنة في صك وقعَه الله لإبراهيم ولنسله، ولذلك ينبغي أن توضع بتوجيه الله بين يدي هذا النسل. ولا تحسب الشعوب التي جاءت من إبراهيم حسب الجسد ضمن نسله المميز. فنسله من هاجر وقطورة (تك 17: 20، 25: 2) ليس من ضمن هؤلاء. لأن الكتاب لا يتحدث عن الأنسال، أي عن أجيال أو شعوب كثيرة، بل إنما عن نسل، عن جيل، وهو الذي يأتي من يعقوب. هذا هو النسل، الجيل، الشعب الذي يولد من ابن الموعد، من اسحق والذي ينتهي في المسيح بوصفه النسل الذي يفوق الأنسال كافة.
وعندما "ورَث" الله خاصياته الخلاصية لإبراهيم ونسله في وعده عن طريق العهد، فإن ذلك إنما كان يعني ضمناً أن هذه الخاصيات ستؤول يوماً للمسيح فتكون ملكه وتخصه وهو يعطيها للكنيسة التي جمعها من العالم كله. ويترتب على ذلك، أن هذا الوعد الذي أُعطِي لإبراهيم عن طريق عهد، أي لا تعتمد على أي شرط بشري، وإنما على التدبير الإلهي الذي يسود على الجميع، لا يمكن أن ينقضه ناموس إضافي متأخر. فلو حدث هذا، لكان الله قد ألغى وعده، ما صنعه بنفسه، عهده هو وقسمه.
وهنالك على أي حال إمكانيتان: فإما أن نقبل الفوائد المتضمنة في الوعد عن طريق الوعد نفسه وإما نقبلها عن طريق الناموس - بالنعمة أو بالاستحقاق، بالإيمان أو بالأعمال. ومن المؤكد أن إبراهيم نال بر الإيمان عن طريق الوعد حتى قبل أن يُرسَم الختان، وأن بني إسرائيل في أيام الآباء وفي مصر نالوا لمئات السنين الفوائد نفسها على أساس الوعد فقط، لأن الناموس لم يكن قد أعطي بعد، وأن الله أعطى الوعد لإبراهيم ولنسله حتى المسيح وشاملاً للمسيح الذي فيه أصبح الوعد لكل البشرية، ولذلك أعطى الله هذا الوعد كعهد أبدي تثبت بقسم ثمين (غلا 3: 17، عب 6: 13 والآيات التالية). فإن صح هذا كله، يكون من المستحيل أن الناموس الذي أعطاه الله لإسرائيل في وقت متأخر كان يمكن أن يبطل وعد الله.
ما دام الأمر كذلك، يصبح من الأهمية بمكان أن نتساءل: فلماذا إذاً أعطى الله الناموس لإسرائيل؟ أو بصيغة أخرى: أيَ معنى وأهمية لتدبير عهد النعمة الذي ابتدأ بالناموس، وما طبيعة ديانة إسرائيل وجوهرها؟ كان هذا السؤال سؤالاً هاماً في أيام بولس الرسول، وهو لا يقل أهمية اليوم.
كان بعضهم في أيام الرسل يبحثون عن جوهر ديانة إسرائيل في الناموس، ولذلك اشترطوا أن الأمم يُقبلون إلى المسيحية عن طريق الانضمام إلى إسرائيل أي عن طريق الختان وحفظ الناموس.
وكان هنالك أيضاً من احتقروا الناموس ونسبوه إلى إله أدنى، واعتبروه يمثل وضعاً دينيّاً منخفضاً. فالتمسك بالناموس والرفض المتشدد له كانا موجودين في ذلك الوقت وهما يمثلان طرفي نقيض.
وما زالت نفس المواقف قائمة اليوم، وإن كانت الأسماء والصور مختلفة. فبرى بعضهم جوهر ديانة إسرائيل في مبادئ أخلاقية مؤسسة على وجود حقيقة واحدة من وراء الكون، أي في الاعتراف بأن الله إله قدوس ولا يطلب منا سوى أن نحفظ وصاياه. وهؤلاء يجدون جوهر المسيحية في الشيء نفسه، وبذلك يضيع الفارق بين الاثنين، فاليهودي المستنير والمسيحي المستنير في نظرهم يقرّان بذات الديانة تماماً. إلا أن هنالك من الناحية الأخرى من يتطلعون من قمم الحرية الروحية إلى أسفل فيرون هذه أفكاراً وضيعة فكرها ضيق ويهوديتها متزمتة متمسكة بالناموس، فلا يفكرون في مبادئ أسمى من تحرير البشرية من أيدي اليهود، إذ يعتبرون اليهودية أساس كل شر، ويبحثون عن الخير كله في الجنس الهندي الأوروبي. وبذلك يظهر لنا أن الروح السامية وروح عداء السامية تقاوم إحداهما الأخرى، إلا أنهما وإن كانتا على طرفي نقيض، فإنهما كثيراً ما وقعتا في الخطأ الواحد بعينه.
وكانت مشكلة معنى الناموس وهدفه بالنسبة إلى بولس الرسول على جانب كبير من الأهمية لدرجة أنه عاود معالجتها مراراً وتكراراً. وكان حلّه للمشكلة بالصورة التالية:
أولاً– أن الناموس شيء مضاف إلى الوعد، شيء جاء به في وقت لاحق ولم يكن مرتبطاً به في الأصل، إذ لم يعلن الناموس إلا بعد مضي سنوات طويلة على الوعد. وعندما جاء الناموس، كانت له طبيعة مؤقتة وعابرة. ومع أن الوعد - أو عهد النعمة - أبدي، فالناموس لم يدم إلاّ إلى الوقت الذي فيه يظهر نسل إبراهيم الحقيقي أي المسيح، الذي يتحقق فيه الوعد فعلاً فيتسلم مضمونه ويوزّع خيراته (رو 5: 20، غلا 3: 17 - 19).
ثانياً– أن أصل الناموس يعبُّر عن البداية عن طبيعته المؤقتة العابرة. فإن كان الله هو مصدر الناموس، إلا أن الله لم يعطه بطريقه مباشرة فوراً إلى الشعب، ولكل فرد في ذلك الشعب. فلقد كانت هنالك وسائل وساطة كثيرة ومتعددة. فمن جانب الله، أعطى الناموس عن طريق ملائكة في وسط رعود وبروق، وفي سحابة مظلمة وبصوت بوق شديد (خر 19: 16 - 18، عب 12: 18، أع 7: 38، 53، غلا 3: 19). ومن جانب الشعب الذي امتلأ خوفاً والذي كان عليه أن يظل واقفاً عند أسفل الجبل، دعا الله موسى ليصعد ويقوم بدور الوسيط، ليتكلم مع الله ويتلقى الناموس. (خر 19: 12 والآيات التالية، 20: 19، تث 5: 22 - 27، 11: 16، عب 12: 19، غلا 3: 19 و 20). وليس الأمر كذلك مع الوعد. فلم يُعطَ الوعد عن طريق ملائكة، بل إنما أعطانا إياه ابن الله نفسه. أما من جانبنا نحن، فإننا لا نخصص أحداً ليكون وسيطنا ليقبل الوعد بالنيابة عنا. إذ أن المؤمنين جميعاً يأتون شخصياً في المسيح ليشتركوا في هذا الوعد (يو 1: 17، غلا 3: 22، 26).
ثالثاً– بما أن الناموس يأتي من الله فإنه مقدس وصالح وروحي. فهو ليس سبب الخطية ولا هو الذي يتيح لها الفرصة، وإن كانت الخطية تتخذ منه فرصة لها. وفي الواقع أن الناموس في أنه ليس خلواً من الطاقة أو القوة، فهو للحياة. إنه بلا طاقة ولا قوة في الإنسان فقط، بسبب جسده الخاطئ. إلا أن هذا كلّه يدفعنا لأن ننكر أن الناموس يختلف عن الوعد لا في الدرجة فقط بل من حيث النوع أيضاً. أنه لا يتعارض مع الوعد، ولا يدخل في صراع معه، لكنه ليس من الوعد ولا من الإيمان. ولذلك لا يمكن أن يكون الناموس قد أعطى ليُلغي الوعد. والناموس يختلف عن الوعد في طبيعته كما يختلف عنه أيضاً في غرضه (رو 7: 7 - 14، 8: 3، غلا 3: 17، 21).
رابعاً– هذا الغرض الخاص الذي يتميز به الناموس، والذي لأجله أعطى الله الناموس، له صفة مزدوجة. فهو أولاً قد أضيف إلى الوعد بسبب التعديات (غلا 3: 18) أي لإظهار التعدي شديداً. لقد كانت الخطية موجودة قبل إعطاء الناموس (رو 5: 12، 13) إلا أن الخطية كانت شيئاً مختلفاً، فلم تكن تعدياً بالمعنى الذي يتحدث عنه بولس الرسول مميزاً إياه عن الخطية عامة. فكما أعطى الله آدم وصية يتوقف على حفظها أمر الحياة أو الموت (رو 5: 12 -14)، كان لإسرائيل أن يرث الحياة أو الموت عن طريق الطاعة أو العصيان، إلا أننا نجد أن الخطية لها صفة مختلفة في كل من الحالين.
فهذه الخطية، باعتبارها خطية ضد ناموس، يتوقف عليها أمر الحياة أو الموت أصبحت "تعدّياً". لقد أخذت صورة عهد قد نُقِض. إن معنى ذلك أن يضع المرء نفسه خارج - أو ضد - تلك العلاقة الخاصة التي أسسها الله في عهد الأعمال الذي قطعه الله مع آدم وفي عهد جبل سيناء مع إسرائيل. وحيثما لم يوجد ناموس، فالخطية تظل خطية، إلا أنه لا يوجد "تعد" بالمفهوم الدقيق للكلمة (رو 4: 15). لا شك أن خطايا الأمم خطايا، ولكنها ليست نقض عهد كما هو الحال مع إسرائيل، وإذ ليس للأمم ناموس مثل الذي أعطاه الله لإسرائيل، فإنهم يقعون تحت طائلة الدينونة بغير الناموس (رو 2: 12).
كما يمكن للخطايا أن تصبح أيضاً تعديات بالنسبة لإسرائيل وذلك بصفة خاصة لأن إسرائيل تسلم الناموس من الله متضمِّناً وعد الحياة ووعيد الموت. ويمكن القول إن الناموس هو الذي جعل هذا ممكناً. وإلى هذا الحد بالتالي يمكن للرسول بولس أن يقول إن ناموس سيناء مع أنه مقدس وليس سبب الخطية على الإطلاق، إلا أنه أضيف إلى الوعد لتزداد "التعدّيات". وأنه هو قوة الخطية، وموقظ الشهوة، وأن الخطية تتخذ فرصة بالوصية لتصبح تعدّياً، وأنه دون مثل هذا الناموس تكون الخطية نائمة ميتة، وأن الناموس يجعل الإثم يتزايد - والإثم هنا ليس بمعنى الخطية عامة ولكن بمعنى تلك الخطايا الخاصة التي هي زلة في طبيعتها، إنها نقض العهد (غلا 3: 19، رو 5: 13، 20، 7: 8، 1 كو 15: 56). ولكن بما أن الناموس يحمل هذا كله في أعقابه، فإنه بالضرورة يثير الغضب، أي أنه يتوعد العقاب الإلهي، ويدين جميع البشر وكل أفعالهم، فهو لا يبرر أحداً، بل يضع الجميع تحت اللعنة، ويُخضِع الجميع لغضب الله (رو 3: 19، 20، 4: 15، غلا 3: 10 -12) ولذلك فإن كان هنالك في العهد القديم من نالوا غفران الخطايا والحياة الأبدية، فإنهم مدينون بهذا لا للناموس ولكن للوعد.
إلا أنه في ما يتعلق بهذا الغرض السلبي، أي زيادة التعدي وإثارة الدينونة، فإن الناموس يتخذ أيضاً غرضاً إيجابياً. فإذ يضفي الناموس على الخطية طبيعة التعدي، ونقض العهد، وعدم الأمانة، وإذ يجعل الجميع يخطئون، ويجعل رغبات القلب السرية تظهر أنها خطية، أي تتعارض مع ناموس الله ولذلك تستحق غضبه ولعنة الموت (رو 3: 20، 7: 7، 1 كو 15: 56). إذ يفعل الناموس، على وجه التحديد، هذا كله، فإنّه يجعل الحاجة إلى الوعد تبدو واضحة، ويثبت أنه إن أمكن تبرير الخاطئ، فإنه يجب تدبير بر آخر غير ذلك المؤسس على الناموس وأعمال الناموس (غلا 3: 11). فالناموس بعيد البعد كله من أن يكون معارضاً للوعد. ولذلك فالناموس يصبح، على وجه أدق، أداة في يد الله ليجعل الوعد دائماً قريب التحقيق. فالناموس يضع إسرائيل تحت قيود مثل السجين الذي يكبل بالأغلال ويحرم حرية الحركة. وكمعلم ("مؤدب" غلا 3: 24)، أخذ الناموس بيد إسرائيل وسار به دائماً وفي كل مكان ولم يتركه لحظة بعيداً عن بصره. وكوصي وعاضد، راقب الناموس إسرائيل رقابة صارمة حتى يتعلم أن يعرف الوعد وأن يحبه في ضرورته وفي مجده. فبغير الناموس، إن جاز القول، يصير الوعد وإتمامه إلى لا شيء. وعندئذ كان إسرائيل سيرتد سريعاً إلى عبادة الأوثان، وكان سيفقد الإعلان الإلهي بوعده، كما يفقد ديانته ومركزه بين الأمم. إلا أن الناموس قد وضع حدوداً لإسرائيل، وميزه، وحفظه في عزلة، وحرسه من الاضمحلال، وهكذا وفر نطاقاً وحدد جواً فيهما يستطيع الله أن يحفظ وعده نقيّاً، وأن يتيح له مجالاً أوسع، وأن ينميه، ويزيده، ويقترب به دائماً من التحقيق. فالناموس كان في خدمة تحقيق الوعد. إذ وضع الجميع تحت غضب الله وتحت حكم الموت وشمل الجميع في دائرة الخطية، حتى إن الوعد الذي أعطى لإبراهيم وتحقق في المسيح يمكن أن يعطى لكل المؤمنين، حتى يبلغ هؤلاء أجمعون الميراث كأبناء (غلا 3: 21، 4: 7).
عندما نضع أنفسنا في موقع بولس الرسول المتميّز نرى بكيفية مستنيرة ممتعة إعلان الله في العهد القديم، وديانة إسرائيل، ومغزى الناموس والتاريخ والنبوءة والمزامير وأسفار الحكمة.
بمجيء موسى تبدأ حقاً فترة جديدة في إعلان الله وتاريخ إسرائيل. ولكننا نلاحظ أنه كما أن الإعلان الذي أعطى لإبراهيم لا يقطع الصلة مع إعلانات الله السابقة بل إنما يحتويها ويتابعها، فهكذا تدبير نعمة الله تحت الناموس، فيه استمرار لتدبير نعمة الله قبل الناموس. فالناموس الذي أضيف إلى الوعد لم يُلغِ فاعلية الوعد أو يبطله، بل بالأحرى ضم العهد إلى نفسه ليعمل على نموه وتحقيقه. فالوعد هو الشيء الأساسي، والناموس يحتل مكاناً ثانوياً. الأول هو الغاية، والثاني هو الوسيلة. فلب إعلان الله وقلب ديانة إسرائيل يكمنان في الوعد لا في الناموس. ولأن الوعد هو وعد الله فهو ليس صوتاً أجوف ولكنه كلمة مليئة بالقوة إنما هي تعبير عن إرادة تصر على فعل كل ما يسر قلب الله (مز 33: 9، غش 55: 11). ولذلك فإن هذا الوعد هو القوة الدافعة لتاريخ إسرائيل إلى أن يبلغ هدفه في المسيح.
وكما أننا نرى من (إش 29: 22) أن الله افتدى إبراهيم من أرض الكلدانيين بأن دعاه، وبعد ذلك نال وعد العهد بتدبير من الله مجاني، كذلك قاد الرب شعب إسرائيل أولاً إلى أرض مصر، ثم وضعهم تحت نير عبودية الفراعنة، حتى يفتديهم فيما بعد من هذا البؤس ثم يضمهم كشعب في عهده عند جبل سيناء. هذه الأحداث الثلاثة: العبودية في مصر، والتحرر من هذه العبودية بيد الله القوية وذراعه الممدودة، وإتمام العهد في سيناء، هي أساس تاريخ شعب إسرائيل والأعمدة التي تقوم عليها حياته الدينية والأخلاقية. إنها أحداث تحيا في الذاكرة من جيل إلى جيل، ويشار إليها باستمرار في الكتب التاريخية والمزامير والأنبياء، ولا يمكن لأكثر النقاد تطرفاً أن ينكر حقيقتها التاريخية.
وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الحوادث ذات الدلالة تقدِّم البرهان على أن الناموس لم يعط، وما كان يمكن أن يعطى ليبطل العهد. فعلى نقيض ذلك، عندما يظهر الله لموسى في العلَيقة الملتهبة، ويدعوه إلى وظيفته، فإنه لا يظهر له كإله غريب غير معروف، بل باعتباره إله إبراهيم، وإله اسحق، وإله يعقوب، إلهاً رأى ذل شعبه، وسمع صراخهم، الإله الذي لكونه يهوه أي الأمين الوفي، ينزل الآن لينفذ وعده فينقذ شعبه من بؤس العبودية (خر 3: 6 والآيات التالية). وبذلك فإن إسرائيل لم يصبح شعب الله أول مرة عند حوريب كما أنه لم يُقبَل كشعب الرب على أساس الناموس. إن إسرائيل هو شعب الرب من قبل ذلك وعلى أساس الوعد، ويتم فداء شعب إسرائيل آنذاك من بؤسه على أساس هذا الوعد نفسه. فالشقاء والفداء يسبقان إعطاء الشريعة في سيناء. وكما أن إبراهيم وقد افتُدي بدعوة الله له، وقبل وعد الله بإيمان كإيمان الأطفال، ملتزم أن يسلك سلوكاً مقدساً أمام وجه الله على أساس هذا الوعد، فكذلك إسرائيل أيضاً وقد تحرر من عبودية مصر بقدرة ذراع الله، يناشده الله ويقوده لطاعة جديدة في سيناء. إن الناموس الذي جاء الشعب عن طريق موسى كان ناموس اعتراف بالجميل. إذ جاء في أعقاب الفداء، وهو يفترض الوعد ويقوم عليه. وقد اقتاد الله بقوته شعبه إلى مسكن مجده الجميل (خر 15: 13) وحمل شعبه على أجنحة النسور وأتى بهم إلى نفسه (خر 19: 4، تث 32: 11، 12) لذلك يقدم الله الناموس بالكلمات الافتتاحية: أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من بيت العبودية (خر 20: 2، تث 5: 6).
إلا أن علاقة العهد هذه تتطلب نظاماً للطاعة أكثر تحديداً، ففي حقبة الآباء عندما شاركت عائلات قليلة في بركات عهد الرب لإبراهيم، لم تكن هنالك حاجة إلى نظام أكثر تحديداً. وفي مصر عندما كان الشعب يئن في العبودية لم تكن هنالك فرصة لذلك. أما الآن فقد افتدى الله إسرائيل، وأصبح شعباً حراً مستقلاً يعيش في بلاده الخاصة. فإن كان لإسرائيل أن يظل أمة وشعباً لله في ظل هذه الظروف الجديدة، فإن عهد النعمة يجب أن يتخذ صورة عهد قومي، ولكي يستمر العهد ويطور نفسه، كان يجب أن يعتمد على معاونة الناموس.
وكان هذا أكثر ضرورة لأن إسرائيل - كما يصفه بولس الرسول - كان قاصراً. لقد مر بمرحلة دراسية صعبة بمصر، وإذ اجتاز اختبار العبودية، أصبح عند إحساس عميق بالاعتماد على الآخرين، ووعي عميق بالحاجة للمعونة والمساندة. إلا أن إسرائيل لم يكن مستعداً للاستقلال فوراً. وتطلب الأمر كل حكمة ووداعة من موسى (عدد 12: 3) لتوفير القيادة الضرورية لمثل هذا الشعب في الخروج من مصر وفي البرية. ومرة تلو الأخرى يقال عن هذا الشعب إنه صلب الرقبة لأنه لا ينحني لوصايا الله (خر 32: 9، 33: 3، 34: 9، تث 9: 6 وما أشبه). ففي البرية وفي كنعان في ما بعد، يظهر إسرائيل باستمرار طبيعة الطفولة فلم يكن هذا الشعب شعباً على جانب من الإدراك والتعقل، بل كان ينقصه إدراك الذات والروح الفاحصة والفكر الفلسفي وقوة الفكر المجرَد. ودفعه كل هذا بالتالي لأن يكون شعب مشاعر وعواطف.
وترتب على ذلك أن أصبح لدى إسرائيل، من الجانب الواحد، الاستعداد الكبير لقبول أنواع المؤثرات كافة، كما أصبح معرضاً لعالم المشاعر، وبذلك كان مؤهلاً جداً للتأثر بالقوى الأرضية والسماوية. ومن هذا المنطلق كان الله نفسه قد شكلهم ليستقبلوا ويحملوا إعلانه. ونقابل هذا الجانب من الشخصية الإسرائيلية في الكتاب المقدس من خلال كل أناس الله الذين إذ يكرمهم الرب بدعوته لهم، لم تكن لهم سوى إجابة واحدة متواضعة كالأطفال: ها أنا! تكلم يا رب لأن عبدك سامع، أو أمتك تسمع، ليكن لي كقولك! إنهم يقبلون كلمة الرب ويحفظونها ويكنزونها في قلوبهم. إلا أن إسرائيل من الجانب الثاني، كما نقرأ عنه في (خر 32: 8)، كان عنده الاستعداد لأن ينحرف سريعاً عن الطريق كان ميالاً إلى الضلال، ينقصه الثبات، يخضع للنزوات والمزاج، متمرداً، ينحرف بسهولة وراء شخص أو حادث، جياش المشاعر، كراهيته شديدة ملتهبة، وحبه عميق رقيق أكثر من حب الأمهات، يحزن حتى الموت إلا أنه يقفز إلى العلاء فرحاً في اللحظة التالية. لا يملك الهدوء الغربي أبداً، ولكنه يتأجج دائماً بمشاعر الشرق، مولع بالتوابل في الأطعمة فيحب الثوم والبصل (عد 11: 5) والعدس (تك 25: 34) واللحوم اللذيذة المذاق والرائحة (تك 27: 14 والآيات التالية) وتفتنه الألوان الزاهية، والملابس الجميلة والعطور والأحجار الكريمة، (يش 7: 21، إش 3: 18 والآيات التالية) وكل ما يتلألأ ويسطع في ضوء الشمس. وكبار تجار الأحجار الكريمة اليوم من بني إسرائيل!
كان من الضروري أن يوضع مثل هذا الشعب تحت وصاية الناموس وتأديبه إن كان له أن يتمم دعوته عن طريق الوعد ليكون بركة لكل أجيال الأرض. وطبيعة الناموس تتناسب مع مثل هذه الحاجة.
فنرى في المقام الأول أن الناموس لا ينبع من الوعد أو من الإيمان، ولكنه أضيف إلى الوعد، ويؤدي لا إلى نقض الوعد بل إلى تمهيد الطريق لإتمامه. وفي العصر الحديث يحاول كثيرون أن يعكسوا الأدوار بين الناموس والوعد: فيتحدثون لا عن الناموس والأنبياء، بل عن الأنبياء والناموس، وينادون بأن الناموس في كتب موسى لم يأت إلا بعد موسى بعدة قرون، بل إلى حد كبير بعد السبي أيضاً. وبحسب هذه النظرة فلعله من الطرافة أن نقول أن الناموس لم يكن في الواقع هو الشيء الرئيسي في إعلان الله وفي ديانة إسرائيل، فالوعد سبقه واحتل أسى مقام وكان الناموس وسيلته. كما يقولون أيضاً بأنه من الممكن جداً أن يكون بعض الأشخاص من جيل ثانٍ أو ثالث قد قاموا بمراجعة ناموس موسى وإعادة صياغته، وبهذه الكيفية أثَروا الناموس باستيفاء بعض النقاط بإضافات مختلفة اقتضتها ظروف العصر. لأن الناموس في مجموعه ذو صفة مؤقتة زائلة. بل إنهم يعتبرون أن موسى عدَل بعض النقاط في سفر التثنية. إلا أننا نلاحظ رغم ذلك أن وجهة النظر القائلة بأن النبوة تسبق الناموس تسير في اتجاه مضاد للحقائق، ولطبيعة الناموس، ولطبيعة عمل النبوة، كما أنها أيضاً ضد التفكير السليم. ويقيناً أنه لا مجال للجدل بشأن حقيقة أن إسرائيل كان له هيكله، وكهنته، وذبائحه وما أشبهن قبل القرن الثامن قبل الميلاد. فلهذا، ولأسباب اجتماعية وسياسية، كانت الشرائع والقواعد التنظيمية لازمة. ولا يمكننا أن نتصور ديانة في أي مكان، وبصفة خاصة في العصور القديمة وفي إسرائيل، تخلو من مظاهر العبادة ومن الطقوس والتنظيمات. كما أن الاعتراض القائل بأنْ لا مجال هنالك للحديث عن ناموس مكتوب له هذا المضمون الغني كما نجده مدوناً في سفر الخروج وحتى سفر التثنية في عصر موسى، يفقد كل قوته بعد اكتشاف شرائع حمورابي الذي عاش قبل المسيح بـ 2250 سنة وكان حاكماً لبابل مدةِ خمس وخمسين سنة.
ونرى في المقام الثاني أن مضمون الناموس يتفق مع الغرض الذي لأجله أعطاه الله. ولكي نحدد قيمته ينبغي ألا نقارنه بالشرائع السائدة في البلاد المسيحية اليوم. فعلى الرغم من أن الشرائع الموسوية، وبصفة خاصة في مبادئها، تستمر بأهميتها حتى اليوم، فإننا نعلم أن الله نفسه أراد لها أن تكون شريعة مؤقتة، وأنه في ملء الزمان، عندما تحقق الغاية منها تُترَك جانباً لسبب ضعفها وعدم نفعها.
وعلى هذا النمط عينه، فإن مقارنة ناموس إسرائيل بنواميس الشعوب القديمة مثل بابل مثلاً لا يصلح معياراً للحكم على ناموس موسى. إن مثل هذه المقارنة لها استخداماتها فهي بالطبع تجذب التفاتنا إلى كل نقاط التشابه والاختلاف، وبذلك تعاوننا على تفهُّمِ الشريعة الموسوية تفهُّماً أفضل في بعض الحالات. إلا أن شعب إسرائيل كان شعباً متميزاً أفرزه الله، وكان له مصيره الخاص ليحققه، أي ليحمل الوعد، ولذلك كان على إسرائيل أن يعيش نوعه الخاص من الحياة بما يتمشى أيضاً مع هذا الغرض.
وإذ ننظر إلى شريعة الرب المعطاة لموسى من هذه الزاوية، نتبين المميزات الآتية:
أولاً– إن هذا الناموس ديني تماماً. ولا يتعلق هذا ببعض الأجزاء مثل تلك التي تنظّم العبادة الجمهورية مثلاً، ولكنه ديني بكامله سواء في النواحي الأخلاقية أو المدنية أو الاجتماعية أو تعاليمه السياسية. وفي أعلى الناموس بكامله نجد الكلمات: أنا الرب إلهك الذي أخرجك من بيت العبودية. ولا يتأسس الناموس على إيمان مجرد بوحدانية الله. ولكن على علاقة تاريخية بين الله وشعبه، علاقة صنعها الله نفسه. إنه ناموس يرتبط بعهد وهو ينظِّم حياة إسرائيل كما ينبغي أن يحياها، في مطابقة لمتطلبات الوعد. فالله هو معطي الناموس في كل الوصايا، ولأجله هو يجب أن تحفظ جميعاً. والفكرة التي تتخلل الناموس كله هي هذه: يهوه أحبك أولاً، أنه بحث عنك، وافتداك، وضمك لعهده، ولذلك يجب أن تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك (تث 6: 5، 10: 12) هذه هي الوصية الأولى والعظمى (مت 22: 37، 38).
ثانياً– إنه ناموس أخلاقي تماماً: هنالك ثلاثة أشياء متميزة نكتشفها فيه: الشرائع الأخلاقية، والمدنية، والطقسية. وهذا تصنيف جيد، ولكننا إذ نميز بين هذه يجب ألا ننسى أن الناموس كله مستوحى من مبادئ أخلاقية وأن هذه المبادئ تؤازره. وكثيراً ما يختلف تطبيق هذه المبادئ الأخلاقية على حالات خاصة عن تطبيقاتنا اليوم. وقد قال المسيح نفسه إن موسى سمح بإعطاء كتاب طلاق لامرأة متزوجة بسبب قساوة قلوبهم (مت 19: 8) والروح الذي يتخلل الناموس الموسوي هو روح المحبة. تحب قريبك كنفسك (لا 19: 18) هذه هي الوصية الثانية وهي كالأولى (مت 22: 39) وفي هذا يكمل الناموس كله (رو 13: 8، غلا 5: 14، 1 تي 1: 5). ويظهر أن هذه المحبة هي إبداء الرحمة للضعيف والمظلوم، للفقير ، والغريب، والأرامل، والأيتام، والعبيد، والإماء، للصم، للعمي، للعجائز وما أشبه، الرحمة التي لم تعرفها أية شريعة من الشرائع القديمة. وقد قيل، والقول صواب، إن قوانين إسرائيل الأخلاقية قد كُتبت من وجهة نظر المظلومين. ولم ينسَ إسرائيل أبداً أنه كان غريباً وكان عبداً في أرض مصر.
ثالثاً- إنه ناموس مقدس: وهذه الصفة المميزة ليست بحال محدودة بذلك الجزء الذي يحمل بصفة خاصة اسم شريعة القداسة (لا 17 - 26). ومرة أخرى، لا توجد شريعة أخرى محفورة في الذاكرة من العصور المبكرة، تنظر إلى الخطية بعمق شديد على أنها خطية. إذ يصف الناموس الخطية بأسماء مختلفة، فيقول عنها أنها: إساءة، جرم، ارتداد، عصيان، وينظر إليها دائماً أنها في نهاية المطاف تُقترف ضد الله، ضد إله العهد. ولذلك فللخطية دائماً صفة "التعدي" أي نقض العهد. إلا أن هناك غفراناً لكل هذه الخطايا، وإن كان هذا لا يعني أن إسرائيل يحقق غفران خطاياه بأعماله الصالحة أو بتقدماته. لأن الغفران يأتي عن طريق الوعد، فهو هبة، لا من الناموس ولكن من الإنجيل، إن المرء لا يكتسبه بالتقدمات، ولكن يقبله بالإيمان باتضاع الأطفال (خر 33: 19، 34: 6، 7، 9، عد 14: 18 - 20).
إلا أنه مما يلفت النظر أن هذه الفصول الكتابية التي تعلن بقوة كبيرة نعمة الله المجانية، تتحدث فوراً عن الدينونة التي بمقتضاها لا يعتبر الله المذنب بريئاً، وانه سيفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع. وهذا لا يتعارض مع ذاك. فلأن يهوه يغفر خطايا شعبه على أساس النعمة عن طريق الوعد، فإنه يرغب أن يسلك شعبه سبيل العهد. وقد نال هذا الامتياز العظيم بالنعمة. أما إن سبيل العهد. وقد نال هذا الامتياز العظيم بالنعمة. أما إن لم يفعل ذلك، فإن الله، بحسب طبيعة الخطية التي اقترفها الإنسان، يسلك سبيلاً من ثلاثة. ففي بعض الحالات يفتح الناموس الطريق ثانية للمصالحة عن طريق التقدمات. والذنب في مثل هذا الحال لا تترتب عليه تبعات مدنية. وفي حالات أخرى يحدد الناموس إحدى العقوبات المدنية، وقد يبلغ هذا أحياناً -وإن لم يكن نادراً بالمقارنة بالعقوبات الأخرى - عقوبة الموت. وفي حالات أخرى كثيرة يحتفظ الله لنفسه بتنفيذ العقاب، ثم يوقع دينونته على الشعب سواء في صورة وبأ أو سبي أو ما أشبه. هذه العقوبات الثلاث التي يطبقها الله على شعبه في حال التعدي، لا تبطل الوعد كما لا تحققَه، ولكنها مجرد الوسائل التي ينجز الله بها وعده لشعبه ويسبغ عليهم أمانته حتى في وقت الارتداد عنه والإساءة إليه.
فقد عرف الرب إسرائيل وحده من بين شعوب الأرض، ولذلك فهو يعاقبه على كل آثامه.
رابعاً– إن الناموس الموسوي، أخيراً، هو أيضاً ناموس حرية. إنه يفترض وكذلك يمنح قدراً كبيراً من الحرية. ويظهر هذا فوراً وبوضوح من الحقيقة اللافتة للنظر وهي أن الشعب يذعن من جانبه بمحض اختياره لعهد الله ويلتزم طواعية العمل بناموس الله. إنَ الله لا يفرض نفسه ولا شريعته على شعبه، بل إنه يدعوهم إلى الإذعان طوعاً واختياراً (خر 19: 8، 24: 3، 7، تث 5: 27، يش 24: 15 - 25). وبالإضافة إلى ذلك فإن الناموس لا يتدخل في الحقوق والعلاقات القائمة، ولكنه يفترض وجودها ويعترف بها. فعلى أي حال، لا بد أن إسرائيل نظم نفسه بصورة أو بأخرى قبل إعطاء الشريعة في سيناء. فقد كان إسرائيل، على سبيل المثال، موزعاً بحسب الأنساب على عائلات وبيوت (مجموعة عائلات) وعشائر وأسباط، وبذلك كان منظَماً على أساس الآباء القدامى (آباء العهد القديم الأوّلين). وكل واحد من أقسام الشعب الفرعية الأربعة كان له رأسه أو ممثله. ويشكل كل ممثلي الشعب الذين يسمونهم مشايخ أو أمراء مجمع إسرائيل (يش 7: 14) ولقد انعقدت بعض مجامع الشيوخ في مصر (خر 4: 29، 3: 16 والآيات التالية)، وكثيراً ما اجتمعوا بعد الخروج لسماع كلمات الرب (خر 19: 7)، وليبلغوا الشعب التعاليم التي قدمها موسى (تث 22، 23)، أو ليعرضوا هم أنفسهم بعض الأفكار على موسى (تث 1: 22، 23). وبالإضافة إلى مجمع الشيوخ كانت هنالك وظيفتان أخريان: الأولى وظيفة المدبِّرين أو العرفاء الذين نظموا الأمور المتعلقة بالشؤون المدنية، وكان لهم نشاطهم في مصر (خر 5: 6، 10، 14، 19، عد 11: 16، تث 1: 15، 16: 18، يش 23: 2)، والوظيفة الثانية وظيفة القضاة التي أدخلها موسى ليعاونه هؤلاء في الأمور المتعلقة بالناموس (خر 18: 21، 23، تث 1: 13 والآيات التالية). وقد أصبح القضاة في ما بعد، شأنهم شأن العرفاء محدَّدين ومعروفين في جميع المدن ويختارهم الشيوخ.
وفي تنظيم الشعب بهذه الصورة كان "البيت" يمثل نقطة الانطلاق والأساس. ومازال البيت يحتل مكاناً مكرماً جداً بين اليهود اليوم. ولأن البيت احتل مثل هذا المكان الهام في إسرائيل، فإن الزوجة أيضاً نالت نصيباً من الإكرام يفوق نصيبها عند الشعوب القديمة كافة. والسؤال الذي يضع النقط على الحروف في هذا الشأن - كما أُبديَت هذه الملاحظة في محلها - هو هل كان الرجل في المجتمع الإسرائيلي يعتبر عضواً في الأسرة قبل أي اعتبار آخر سواء كزوج أو ابن أو أخ، أو كان يُنظَر إليه كمواطن ومحارب. كانت الفكرة الثانية هي السائدة في اليونان وروما، وترتب على ذلك أن ردوا المرأة إلى الوراء واعتبروها أقل شأناً من الرجل. أما في إسرائيل فقد اعتٌبر الرجل أولاً عضواً في العائلة، وكان واجبه الأول هو أن يعتني بالأسرة. ومن هذا المنطلق لم يكن موقفه ضد الزوجة أو أعلى منها بل إلى جوارها. فمن حقها معه أن يقدم لهما الأبناء الاحترام والمحبة (خر 20: 2) وكانت، باعتبارها الشخصي تستحق مدح زوجها (أم 12: 4، 31: 10 والآيات التالية).
كانت صيغة الحكم وإدارة الشؤون التي يغلب عليها هذا الطابع، بما له من مركزية للآباء، وأرستقراطية، هي القائمة في إسرائيل حتى قبل أن يقرها الناموس ويؤكدها. وجزء كبير من الشرائع يشير إلى الزواج ويعمل على حفظ قدسية الحياة الزوجية ويحمي البيت. وبعض التشريعات الأخرى تحمي أسلوب الحكم الآبائي من النظام الكهنوتي ومن الملكية. فهنالك تمييز بين الشيوخ والعرفاء والقضاة وبين الكهنة واللاويين. ولم يكن للكهنة أيضاً مكان إلا في أعلى درجة من درجات المحاكم (تث 17: 8 - 13، 19: 17 و 18) حيث التفسير الصحيح للشريعة كان على جانب كبير من الأهمية في القرارات الهامة التي تتخذ على هذا المستوى، وكان الكهنة مكلّفين بمثل هذا الأمر (لا 10: 8 - 11، خر 7: 26، 44: 23، إر 18: 18).
وقد كان إسرائيل بنظامه السياسي كلّه نقيض الدولة الملكية. كما أنه لم يكن هنالك مجال للاستبداد بعد إعطاء الناموس. وعندما طلب إسرائيل في ما بعد ملكاً من الله. فكان له ذلك (1 صم 8: 7) لم يكن هذا الملك ليصبح ملكاً كملوك سائر الشعوب. لقد كان مقيّداً بناموس الله وعليه أن ينفذ إرادة الله (تث 17: 14 - 20) فالله، في نهاية المطاف، هو الملك، كما أنه معطي الشريعة وقاضي إسرائيل (خر 15: 18، 19: 16، عد 23: 21، تث 33: 5، قض 8: 22 والآيات التالية، 1 صم 8: 7، إش 33: 22، مز 44: 5، 68: 25)، ويبدو هذا واضحاً في أن الله، كقاعدة عامة، هو الذي ينطق بالحكم عن طريق القضاة الذين يجب عليهم أن يكونوا في غاية الحيدة في أحكامهم، وألا يقيموا اعتباراً للأشخاص. كما كان عليهم أن يُصدروا أحكامهم لا لأي اعتبار سوى أن تكون مطابقة لقواعد الناموس. كما يبدوا هذا واضحاً أيضاً في أنه في حالات خاصة، أعلن الله إرادته عن طريق القرعة، والأوريم، والتميم والأنبياء. كما عبر عن ذلك بأقوى صورة، حيث احتفظ الله لنفسه في حالة التعديات الكثيرة بتطبيق العقوبة. وعدد كبير من القواعد التي وضعها الناموس لم ينصرف لتحديد عقوبة خاصة في حالة مخالفة كل شريعة، ولكنه كان ببساطة نصائح مشددة وتحذيرات موجهة إلى الضمير، ولذلك تركت لإسرائيل مجالاً كبيراً للحرية. وكانت أنواع العقوبات أيضاً محدودة، تتكون أساسا من ضربات (جلدات)،. وفي حالات التجاوزات الصارخة مثل التجديف، وعبادة الأوثان، والسحر والشعوذة، ولعن الوالدين، والقتل، والزنى، كان الحكم بالموت رجماً. لا توجد هنالك أية إشارة لمحاكم لتفتيش أو أدوات التعذيب أو الاعتقال، أو النفي، أو مصادرة الممتلكات، أو الموت حرقاً، أو الموت شنقاً، أو ما أشبه. فإن سلك إسرائيل في طريق العهد، فإنه ينال بركات كثيرة من الرب، أما إن لم يطع صوت الرب، فسوف يفتقدهم الرب بلعنته، وتصيبهم كل أنواع الكوارث (تث 28: 29).
ومن هذه السمات المميزة للناموس، يصبح الغرض الذي من أجله أعطاه الله لإسرائيل واضحاً. ويحدد الرب نفسه هذا الغرض أعطاه الله لإسرائيل واضحاً. ويحدد الرب نفسه هذا الغرض إذ يأمر موسى بأن يقول لشعب إسرائيل، بعد انتهاء العهد في سيناء، إنهم إن كانوا يسمعون صوته ويحفظون عهده سيكونون خاصته من بين كل الشعوب، مملكة كهنة وأمة مقدسة (خر 19: 5، 6). وليكون شعب إسرائيل الأمة التي اختارها الله من بين كل شعوب الأرض، فإن هذا الشعب يجب أن يوطد نفسه في طريق العهد، لأن الله لم يختر إسرائيل لأجل ما تميز به أو لأجل ما يستحقه، بل بمقتضى محبة الله المطلقة وقسمه للآباء (تث 7: 6 - 8). ولم ينل إسرائيل هذا الامتياز الكريم لكي يزدري بالأمم ويرفِّع نفسه عالياً فوقهم، بل ليكون مملكة كهنة ولهم وظيفة كهنوتية يقومون بها تجاه الأمم، ليأتوا بهم إلى معرفة عبادة الله، وبهذه الوسيلة فقط تكون لهم السيادة على الأمم. ولا يمكن لإسرائيل أن يتولى هذه الدعوة الإلهية ويتممها إلا بأن يكون أمة مقدسة، وبأن يكرس نفسه تماماً كشعب للرب، فيسمع صوته، ويسلك في عهده.
وهذه القداسة التي دعا الله إليها إسرائيل، لا تبلغ بعدُ معناها الكامل والعميق الذي لها في العهد الجديد. فهي لا تتضمن الناحية الأخلاقية فقط، بل كما يتضح من قانون القداسة في (لا 17: 26) تشمل أيضاً القداسة الطقسية. إلا أننا يجب أن نلاحظ أن الجزأين الأخلاقي والطقسي في الناموس لا يتعارضان، لكونهما جانبين لموضوع واحد بعينه. فإسرائيل شعب مقدس عندما يعيش داخليّاً وخارجيّاً في الإيمان والسلوك بمقتضى جميع الشرائع الأخلاقية والاجتماعية والطقسية المعطاة للشعب في سيناء. وإن كان هذا الشعب- كما عرف الرب - يفشل في أن يكون أميناً لدعوته، وإن كان في تاريخه يذنب بالعصيان والارتداد، فإن الله لا بد أن يفتقده بعقوبات أشد من العقوبات التي يوقعها على شعوب العالم الأخرى. ولا يعود الرب لشعبه ويتحنن عليهم، إلا بعد أن ينتهي افتقاده لهم، فيختن قلوبهم وقلوب أبنائهم حتى يحبوا الرب إلههم بكل قلوبهم وكل نفوسهم (تث 4: 19 - 21). وهو لا يترك شعبه لطرقهم، لأنه يحب أن يهتم باسمه وجلاله إزاء أعدائه (تث 32: 26 والآيات التالية)، رغم عدم أمانة إسرائيل، بل في أثنائها أيضاً فإن الرب يجب أن يثبت أمانته، وصدق كلمته وعدم تغيُّر مشورته وثبات عهده. فيجب أن يظهر أنه الله وانه لا يوجد إله آخر معه (تث 32: 39). وهكذا ينتهي الناموس بالوعد، كما ابتدأ، فيعود إلى نقطة انطلاقه.
إذاً من هذه النقطة المتميزة من العهد يبدأ الكتاب المقدس نظرته إلى كل تاريخ إسرائيل. وليس هدف الكتاب المقدس في كتب العهد القديم التاريخية هو أن يقدم سجلاً كاملاً موحداً لكل ما أصاب شعب إسرائيل، ولا أن يتابع سلسلة الأسباب التي تربط الأحداث بعضها بعض. فبدلاً من ذلك، يصف الكتاب المقدس تقدُّم ملكوت الله. وكل ما له صلة ضئيلة بهذا أو لا صلة له به على الإطلاق يذكر باختصار أو يُغفَل تماماً.
وفي المقابل، يطول الحديث بشأن ما له أهمية بالنسبة لهذا الملكوت. ويريد الكتاب المقدس من وراء تدوين تاريخ إسرائيل أن يعلمنا مَن هو الله وما هو بالنسبة لشعبه. ولذلك فلعله من المناسب أن قيل إن كتابات الكتاب المقدس التاريخية هي "يوميات يهوه" وكأن الرب يدون يومياً اختباراته واهتماماته بإسرائيل.
وفي الفترة المبكرة، عندما كان الشعب ما زال يعيش تحت تأثير أعمال الله العظيمة، ظلوا أمناء للشريعة. فلقد برهن يهوه بوضوح تام بهذه الأعمال العظيمة أنه الإله الواحد الحقيقي (خر 6: 6، 18: 18) فلم يفكر الشعب في آلهة أخرى. ولما سمعوا كلمة الرب على فم موسى، استجابوا جميعاً كما بصوت واحد: "كل ما تكلم به الرب نفعل" (خر 19: 8، 24: 3، 7، تث 5: 27). وفي ما بعد ذلك أيضاً، عندما أخذ إسرائيل كنعان ميراثاً لهم، وواجههم يشوع بوقار شيبته بأن يختاروا من يعبدون، فإن إسرائيل أجاب وكأنما بشيء من الكبرياء: حاشا لنا أن نترك الرب لنعبد آلهة أخرى (يش 24: 16، قض 2: 7).
إلا أنه عندما مات يشوع وكبار السن من الشعب الذين شاهدوا أعمال الله العظيمة، وجاء جيل آخر لم يعرف الرب ولا ما عمله لأجل إسرائيل، ارتد الشعب عن الرب إله آبائهم الذين أخرجهم من مصر، وتبعوا آلهة أخرى، آلهة الأمم المجاورة (قض 2: 6 - 13). ولم يكن إسرائيل مجدِّداً في عبادة الأوثان، فلم يبتكر ديانته الباطلة الخاصة، ولكنه بدلاً من ذلك اتخذ آلهة الوثنيين كآلهة له، أو قام بعبادة الرب في شكل صور كما فعل الوثنيون. ففي مصر وفي البرية سقط الشعب في العبادة المصرية للأوثان (خر 16: 28، يش 24: 14، حز 20: 7، 13)، وبعد ذلك، في فلسطين، أذنبوا بعبادة آلهة كنعان والفينيقيين، بعل، السواري، عشتاروت، وآلهة أشور: النار والنجوم (قض 10: 6، 2 مل 21: 3، 5، 7، 23: 5 - 15، إر 7: 24 - 31، حز 20: 2، 22: 3). فكسر إسرائيل بصفة مستمرة الوصية الأولى والثانية وبذلك نقضوا أساسات العهد.
ومنذ ذلك الوقت المبكر، منذ أيام القضاة أبطال شعب الناموس، كان تاريخ إسرائيل عبارة عن ارتداد عن الرب، وعقاب، يترتب عليه خوف. هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى فنجد الإنقاذ والبركة (قض 2: 11 - 23). وكانت تلك فترة ارتباك، فقد خلالها مختلف الأسباط رؤية القضية القومية، وانغمس كل سبط في شؤونه السياسية الخاصة. وفعل كل واحد ما حسن في عينيه (قض 17: 6، 21: 25) وإن كان صموئيل وقيام الملكية قد وضعا حداً لهذا الحال، فإن الوحدة القومية انفصمت تماماً بعد سليمان، وانفصل عشرة أسباط عن بيت داود الملكي. وجعل يربعام من هذا القرار السياسي قراراً دينياً، بأن أقام معبداً خاصّاً في دان، وادخل عبادة التماثيل، وقضى على الكهنوت الشرعي. . وبذلك أصبح يربعام الملك "الذي جعل إسرائيل يخطئ". وأصبح تاريخ مملكة أفرايم خلال القرنين التاليين ونصف القرن تاريخ التردي في الارتداد عن يهوه. وعبثاًَ رفعت النبوة صوتها، وبلغت الأمور ذروتها بسبي الأسباط العشرة. ومع أن مملكة يهوذا امتازت عن مملكة إسرائيل بأن استمر بيت داود الملكي يحكمها، وبذلك استمرت تمتلك مكان العبادة الرسمي والكهنوت الشرعي، ففي هذه المملكة أيضاً، ورغم جميع الإصلاحات التي قام بها ملوك أتقياء، وصل الارتداد والشر في النهاية درجة كبيرة، فكان لا بد من الدينونة. وبعد حوالي 140 سنة من بعد نهاية مملكة إسرائيل، فقدت يهوذا أيضاً وجودها المستقل.
إلا أن هذا الارتداد المستمر لشعب إسرائيل يجب أن لا يُخفي عن عيوننا حقيقة أن الله خلال القرون المختلفة، حفظ منهم بقية بحسب اختيار نعمته، إذ طالما كانت هنالك جماعة صغيرة من إسرائيل ظلَّت أمينة لعهد يهوه. حتى في أيام إيليا الحالكة، كان هنالك سبعة آلاف لم يحنوا ركبة لبعل. كان هؤلاء هم الأتقياء، الأبرار، الأمناء، المعدمين، الفقراء، أو كيفما وصفوا في المزامير، واستمر هؤلاء يضعون ثقتهم في إله يعقوب، ولم يتعاملوا بزيف مع عهده. لقد اشتاقوا إلى الله كما يشتاق الأيل إلى جداول المياه، وفضلوا هيكله على أي مسكن آخر، وتأملوا شريعته وتمسكوا بمواعيده. ولم يكن الناموس بالنسبة إليهم عبئاً بل لذة وسروراً، وابتهجوا فيه كل النهار. وكرروا كلمات موسى، وقالوا إن حفظ هذا الناموس هو الحكمة والفطنة أمام أعين الشعوب. لأنه عندما يسمع الناس فرائض الناموس، كان سيقولون: حقاً إن هذا الشعب العظيم. إنما هو شعب حكيم وفطن. لأنه أي شعب هو عظيم له فرائض وأحكام عادلة مثل كل هذه الشريعة التي أنا واضع أمامكم اليوم (تث 4: 6 - 8).
وازدادت هذه البقية تمسُّكاً بالموعد كلما زادت الأيام ثقلاً. ولم يتخلَّ الرب عن عمل يده. فلأجل اسمه ولأجل معرفة اسمه لا يتخلى عن العهد الذي قطعه مع آبائهم في سيادة نعمته. وأقام الله من بينهم أنبياء، ومرنِّمين وحكماء أعلنوا كلمة الله، وشرحوا معنى الوعد في سرد يتزايد وضوحاً. وفي قلب الكوارث التي ألمت بهم، رفعوا رؤوسهم عالياً. واستطاعوا أن ينفذوا إلى المستقبل بنور روح الرب، وتنبأوا عن اليوم الجديد، يوم ابن داود وربه، وعن أصل يسى، وعن عمانوئيل، غصن البر، خادم الرب، ملاك العهد، وعن العهد الجديد، وعن انسكاب الروح القدس. ويبدأ العهد القديم بعد السقوط بالوعد بنسل المرأة (تك 3: 15)، وينتهي بإعلان مجيء ملاك العهد (ملا 3: 1).
وبعد السبي، استمرت أيضاً مثل هذه البقية الأمينة في إسرائيل (ملا 3: 16). فلقد عمل السبي في الواقع على تطهير الشعب كشعب، فتحولوا بصفة قاطعة عن الأوثان وعبادة الصور، وخضعوا لتأديب الشريعة الصارم على يدي عزرا ونحميا. إلا أن هذه الحالة أتت بأخطار في أعقابها. فلقد ظهرت الدراسات "المدرسية" للكتب المقدسة، تلك الدراسات التي أمعنت وفحصت فحصاً أعمى كلمات الناموس، ولكنها لم تبصر بتاتاً جوهر العهد القديم وروحه. وظهرت جماعات مختلفة مثل الفريسيين والصدوقيين وجماعة الأسينيين. وبمعالجة عشوائية للإعلان الإلهي بدلوا بإسرائيل الروحي إسرائيل جسدياً. ورغم ذلك استمرت قيادة الرب لشعبه مدّةَ أربع مئة عام، في الفترة مابين ملاخي ويوحنا المعمدان. ولم يستمتع إسرائيل قطُّ باستقلال سياسي كامل مرةً ثانية، فانتقل من يد قوة عظمى إلى يد أخرى، وخضع على التوالي لفارس ومادي، ولمقدونيا ومصر، ولسوريا وروما. فكانوا عبيداً في أرضهم نفسها (نح 9: 36، 37).
إلا أن هذا الاستعباد السياسي كانت له بعض النتائج الطيبة. فابتدأ إسرائيل يتأمل شيئاً فشيئاً شخصيتَه ودعوته، وابتدأ يفاخر مرة أخرى بما يمتلكه روحياً من إعلان إلهي، ونظر لهذا الإعلان باعتباره امتيازه الخاص، وأعطى كل ما يمكنه من عناية عظيمة لجمع هذا الإعلان وحفظه. وبالإضافة إلى ذلك فإن إدراكه لامتيازاته الروحية أصبح حقيقة قوية بالنسبة إليه، لدرجة أن هذا لم يؤثر فقط في تكوين شخصيته، بل ساعده أيضاً على المحافظة على استقلاله القومي رغم الاضطهادات الشديدة. ولقد قاسى إسرائيل الألم والاضطهاد أكثر من أي شعب آخر في العالم.
واستمر إسرائيل هو إياه سواء في فلسطين أو خارجها. ووجد في العهد القديم كنزاً أثمن من كل حكمة الأمم. وكوَن إسرائيل مجتمعاً في مختلف بلاد العالم عاصمته أورشليم. وقدم الشعب في مجامعه للأمم الوثنية صورة لديانة بلا صور ولا مذبح، بلا ذبائح ولا كهنوت. وحدثوا الناس في كل مكان عن وحدة إله إسرائيل وكماله، وحملوا في صدورهم الرجاء الذي لا ينتزع بمستقبل مجيد، سيكون أيضاً بركة للأمم. وهكذا مهد إسرائيل الطريق للمسيحية بين الشعوب الوثنية. وفي داخل إسرائيل حفظت نعمة الله كثيرين من الأمناء الذين مثل سمعان الشيخ ومثل حنة انتظروا فداء إسرائيل في ترقُّب هادئ. وأمجد مثال لهؤلاء القديسين هو مريم أم الرب. ففيها يبلغ إسرائيل هدفه: أي أن يقبل أسمى إعلان إلهي بإيمان كإيمان الأطفال ويحفظه: هوذا أنا أمة الرب، ليكن لي كقولك! (لو 1: 38).
وهكذا يجتمع مُجمَل إعلان العهد القديم حول المسيح، لا حول ناموس جديد، ولا عقيدة ولا مؤسسة، بل إنما حول شخص المسيح. فإعلان الله المكتمل هو شخص. إنه ابن الإنسان الذي هو ابن الله الوحيد. والعلاقة ليست بين العهد القديم والعهد الجديد مثل العلاقة بين الناموس والإنجيل. ولكنها علاقة وعد وتحقيق الوعد (أع 13: 12، رو 1: 2)، جسم وظله (كو 2: 17)، صورة وحقيقة (عب 10: 1)، شيء متزعزع وشيء ثابت (عب 12: 27)، عبودية وحرية (رو 8: 15، غلا 4). وحيث إن المسيح كان هو المضمون الحقيقي لإعلان العهد القديم (يو 5: 39، 1 بط 1: 11، رؤ 19: 10) فهو في تدبير العهد الجديد حجر زاويته وتاجه: هو تكميل الناموس، وتكميل كل بر (مت 3: 15، 5: 17) وتكميل جميع المواعيد التي تجد فيه كلُّها النعم والأمين (2 كو 1: 20)، وفيه تكميل العهد الجديد الذي تأسس بدمه (مت 26: 28). حتى إن شعب إسرائيل نفسه، بكل تاريخه ووظائفه ومؤسساته، وهيكله ومذبحه، وذبائحه وطقوسه، ونبواته، ومزاميره، وتعاليم الحكمة الخاصة به، إنما يبلغ هدفه وغرضه في المسيح. فالمسيح هو إتمام كل هذا، أولاً في شخصه وظهوره، ثم في كلامه وأعماله، في ميلاده وحياته، في موته وقيامته، في صعوده وجلوسه على يمين الله.
فما دام قد ظهر فعلاً، وأنجز عمله، فإن إعلان الله لا يمكن أن يضاف إليه أو يزاد عليه. وكل ما يمكن عمله هو إيضاحه عن طريق شهادة الرسل، وأن يُكرَز به لكل الأمم. وحيث إن الإعلان قد اكتمل، فقد جاء الوقت الذي يصبح فيه مضمونه ملكاً للبشرية كلها. فبينما قاد كل شيء في العهد القديم إلى المسيح، فكل شيء في العهد الجديد يُستمدَ منه. إن المسيح هو نقطة تحولُّ الأزمنة. وإذا بالوعد الذي كان لإبراهيم يصبح لكل الأمم. وأورشليم الأرضية، تفسح في المجال لأورشليم التي هي من فوق والتي هي أُمَنا جميعاً (غلا 4: 26)، وتحل الكنيسة، من كل لسان وشعب، محل إسرائيل. هذا هو تدبير ملء الأزمنة الذي فيه نقض حائط السياج المتوسط، إذ يصير اليهودي والأممي معاً إنساناً جديداً، وفيه يتجمع الكل معاً تحت رأس واحد هو المسيح (أف 1: 10، 2: 14، 15).
ويستمر هذا التدبير حتى يدخل كل الأمم، ويخلص إسرائيل. وبعد أن يجمع المسيح كنيسته ويهيئ عروسه، ويتمم ملكوته، سيعطيه للآب ليكون الله الكل في الكل (1 كو 15: 28). أكون إلهكم وتكونون شعبي: كان هذا هو مضمون الوعد. ويبلغ هذا الوعد تحقيقه الكامل في أورشليم الجديدة في المسيح، عن طريق ذاك الذي كان والكائن والذي يأتي (رو 21: 3).
- عدد الزيارات: 504