Skip to main content

الفصل الثالث: الخلق والعناية

إن المغزى العملي الذي تنطوي عليه عقيدة التثليث بالنسبة إلى حياة المسيحي لهو دليل كاف على أن الروح القدس لا يريد إعطاءنا مفهوماً تجريدياً عن اللاهوت، بل يريد بالأحرى أن يجعل لكل منا علاقة شخصية بالإله الحي الحقيقي. فالكلمة المقدسة تقوّض نظرياتنا ومفاهيمنا وتعود بنا إلى الله نفسه. لذا لا يجادل الكتاب المقدس بخصوص الله، بل يقدمه إلينا ويظهره لنا في جميع أعمال يديه. فكأن الكتاب يقول: ارفع عينيك وانظر من صنع هذه الأشياء كلها. فمنذ البداءة وما لا يرى من أمور الله، أي قدرته السرمدية ولاهوته، ظاهر للعيان، إذ تدركه العقول من خلال المصنوعات، أي الأشياء التي خلقها تعالى. ونحن لا نتعلم أن نعرف الله ونمجده بمعزل عن أعماله، بل بالأحرى من خلال أعماله في الطبيعة وفي النعمة.

ولهذا السبب تدلنا الكلمة المقدسة دائماً على أعمال الله المقتدرة. والكتاب المقدس، وصف لهذه الأعمال وأنشودة حمد تشيد بها. فلأنه يريد تعريفنا بالإله الحي الحقيقي، يكاد يتحدث في كل صفحة من صفحاته عن أعمال قدرته العظيمة. وباعتباره الله الحي، فهو في الوقت نفسه الله الفعال. فهو لا يمكن إلا أن يعمل، وهو يعمل دائماً (يوحنا 5: 17). فالواقع أن كل حياة، ولاسيما حياة الله السرمدية المباركة كلياً، هي قوة وطاقة ونشاط. ومثلما يكون الصانع كذلك يكون عمله أيضاً. فلأن الله هو صانع كل الأشياء أو خالقها، فأعماله عظيمة وعجيبة (مزمور 92: 5، 139: 14). وكلها أمانة وحق (مز 33: 4، 111: 7)، وهي بارة ورحيمة (مز 145: 17، دانيال 9: 14). ومن المؤكد أن هذه الأعمال تشتمل على خلق كل الأشياء والحفاظ عليها، وعلى السماوات والأرض، والبشر وجماهير الأمم، والعجائب المصنوعة في اسرائيل ولأجلها، والأعمال التي ينجزها على يد فتاه[29] وجميع هذه الأعمال تسبح الله (مزمور 145: 10). إنه هو الصخر الكامل صنيعه (تثنية 32: 4).

ثم أن جميع أعمال الله تلك لا تبرز إلى الوجود بلا مبالاة ولا بإكراه، بل عمداً واختياراً. وكثيراً ما يتضح لنا حتى من حقيقة كونه، هو الذي يصنع ويدعم ويدير كل شيء بكلمته. فبالكلمة، أي بالأمر، يستدعي الأشياء من العدم إلى الوجود (مزمور 33: 9). وبغير الكلمة الذي كان في البدء عند الله، وكان هو الله، لم يكون أي شيء من كل ما تكون (يوحنا 1: 3). وفي (أيوب 28: 20 وما يلي)، و أمثال (8: 22 وما يلي)، يقدم الحق بصورة تبين كأن الله، عند خلق العالم، استشار الحكمة أولاً متأملاً فيها ومنعماً النظر، وصانعاً كل شيء بها (مز 104: 24، إرميا 10: 12). كذلك أيضاً يعبر الكتاب المقدس عن هذا الأمر بطريقة مختلفة، فيقول إن الله يوجد كل شيء بحسب مشيئته أو مشورته. بعبارة أخرى، إن جميع أعمال الله، سواء تلك المتعلقة بالخلق أو تلك المختصة بالفداء، ليست مجرد حصيلة فكره بل أيضاً حصيلة مشيئته. وإذا تكلمنا بصورة بشرية، فإننا نستطيع أن نقول إن كل عمل من أعمال الله سبقه قصد الفكر وقرار الإرادة. والكلمة المستخدمة في بعض آيات الكتاب هي مشورة (أو رأي أو مؤامرة).[30] وفي بعضها قضاء أو مقرر (بمعنى "مرسوم")،[31] وفي بعضها قصد،[32] وفي بعضها تعيين.[33] وفي بعضها مسرّة الله (أو رضوانه أو قبوله، الخ.......).[34] ويتكلم الرسول بولس عن مسرة الله ورأي مشيئته (أفسس 1: 5، 11).

وعن مشورة الله تلك (أو رأيه) يبين الكتاب المقدس أيضاً أنها عظيمة وعجيبة (إشعياء 28: 29، إرميا 32: 19)، ومستقلة (متى 11: 26)، وغير متغيرة (عبرانيين 6: 17)، وغير منقوضة (إشعياء 46: 10)، وأن الله يهيمن على كل شيء، بما في ذلك أيضاً التعدي والإثم الذي ارتكب في تسليم المسيح إلى الصليب والموت (أعمال 2: 23، 4، 28). وحقيقة كون الأشياء والأحداث، بما فيها أفكار الناس الخاطئة وأعمالهم الشريرة، معروفة منذ الأزل وثابتة في مشورة الله تلك، هذه الحقيقة لا تنزع عن الأشياء والأحداث صفتها الخاصة، بل بالأحرى تثبتها عليها وتوكدها، كل بحسب نوعه وطبيعته وفي سياقه وظروفه. وضمن مشورة الله تلك، الخطية والقصاص، ولكن أيضاً الحرية والمسؤولية، والشعور بالواجب والضمير، والشريعة والعدالة. وكل ما يحدث أمامنا هو في سياق تلك المشورة الإلهية. فالأحوال فيها محددة تماماً كالعواقب، والوسائل كالغايات، والطرق كالنتائج، والصلوات كاستجابات الصلاة، والإيمان كالتبرير والتقديس والتمجيد. وبمقتضى بنود تلك المشورة بذل الله ابنه الوحيد لكي تكون الحياة الأبدية لكل من يؤمن به.

وهكذا يصير لنا في الاعتراف بمشورة الله الكلية الحكمة دائماً مصدر تعزية وافرة. إذا ما فهمنا هذه المشورة على هذا النحو، بحسبما تعنيه الكلمة المقدسة وبموجب الروح القدس. بذلك يتأكد لنا أن ما يتحكم في البشر والعالم ليس مجرد صدفة عمياء، ولا مصيراً مظلماً، ولا مشيئة غير عاقلة أو خبيثة، ولا أية قوة طبيعية قاهرة لا ترد، بل بالأحرى أن زمام السيطرة على كل شيء هو في يد إله وأب رحيم. وبالتأكيد فإن الإيمان لازم لفهم هذا، غذ غالباً ما نخفق في إدراكه ويسير الناس في سبلهم على غير هدى. لكنما الإيمان هو ما يبقينا ثابتين في كفاح الحياة، وبفضله نتقدم إلى المستقبل برجاء وثقة، إذ إن مشورة الله الحكيمة تقوم وتبقى فعالة إلى الأبد.

وقد كان خلق العالم نقطة البدء في تنفيذ مشورة الرب هذه. وكما أن معرفة مشورة الله لا تأتينا إلا من خلال الكتاب المقدس وحده، فهذا الكتاب وحده يبين لنا أيضاً أصل كل شيء، إذ يطلعنا على قدرة الله الكلية الخلاقة. والمسألة المتعلقة بأصل كل شيء، الإنسان والحيوان والنبات، والعالم كله، هي مسألة قديمة، إلا أنها تبقى دائماً هامة. فالعلم لا يستطيع أن يعطينا جواباً عنها، إذ إن العلم في حد ذاته مخلوق، ونتاج زمن، وهو يتخذ مكانته على أساس الأشياء كما هي مصنوعة، مفترضاً وجود الأمور التي يبحثها. فبطبيعة الحال إذاً، لا يستطيع العلم أن يرجع إلى الزمن الذي فيه كانت الأشياء غير موجودة. إنه لا يقوى على اختراق اللحظة التي فيها جعلت الموجودات حقيقة واقعة.

وعليه، فإن الاختبار، أو البحث التجريبي، لا يستطيع أن يفيدنا شيئاً في ما يتعلق بأصل الأشياء. ولكن تفكير الفلسفة أيضاً كان على مدى العصور منصباً على السعي عبثاً، إلى تفسير لنشوء العالم. ولما كان الفكر يعيي الفلاسفة فغالباً ما نجدهم قد استراحوا بعد طول عناء على الزعم بأن العالم ليس له أصل وانه موجود أزلاً وسيظل موجوداً. استنتاج توصل إليه فلاسفة مختلفون بطرائق شتى. قليلون منهم نسبياً ذهبوا إلى أن هذا العالم كما نعرفه هو أزلي أو أنه سيبقى على حاله أبداً. وقليلون اعتقدوا هذا فعلاً، إلا أن تفسيراتهم تواجه صعوبات عديدة جداً، بحيث إنها مرفوضة اليوم على العموم. وبدلاً من هذا، حصلت فكرة النشوء أو التطور دعماً واسعاً. وبموجب هذا الفكرة، لا شيء كائن بل كل شيء صائر. فما ينم عنه الكون كله إذاً هو مشهد شيء ما لم تكن له بداية ولن تكون له نهاية، وبالتالي فهو عملية مستمرة دائماً.

ولا شك أن التطور شيء عجيب، ولكنه يجب أن يفترض دائما ًوجود شيء يتطور حاملاً في ذاته جرثومة التطور. وبطبيعة الحال، ليس التطور قوة خلاقة، ولا يمكن أن يكون قوة بهذه الصفة تسبب وجود الأشياء وتوجدها، بل إنه– على أفضل ما يكون– تعبير عن العملية التي تمر بها الأشياء بعد أن توجد مرة. وعليه، فإن نظرية التطور تفتقر إلى إمكان تفسير أصل الموجودات. فهي تنطلق بصمت من الفكرة القائلة بأن الموجودات موجودة أزلاً في حالتها غير المكتملة التطور. وهكذا تبدأ نظرية التطور بافتراض لا يمكن البرهنة عليه، وبالتالي فهي تحتاج إلى إيمان تؤسس عليه. وفي هذا تتساوى نظرية التطور مع اعتقاد خلق كل شيء بيد الله.

على أن الانطلاق من هذا الافتراض لا يزكي نظرية التطور. وفي وسع النظرية أن تؤكد أن الأشياء تواجدت دائماً في حالة عدم اكتمال، إلا أنها مع ذلك يجب أن توفر لذاتها رواية ما عن الحالة الأصلية التي عليها وجدت الأشياء والتي منها كون العالم الحاضر نفسه. وهناك حلان لهذه المسألة، يتوقفان مع ما يفضله المرء من نمطي تفكير اثنين. فنحن نلاحظ في العالم عموماً نوعين من الظواهر أو الاستعلانات، وغالباً ما ندعوهما الروح والمادة، أو النفس والجسد، أو الأمور غير المنظورة والأمور المنظورة، أو الظواهر الفائقة للطبيعة والظواهر الطبيعية. غير أن مثل هذه الثنائية لا تكفي. فاليوم يريد الناس أن يكونوا واحديين، ويحاولون أن يجعلوا كل شيء منطلقاً من مبدأ واحد. وعليه، فإن منظّري التطور يستطيعون أن يسيروا في واحد من اتجاهين عند النظر في حالة الأشياء الأصلية.

ففي المقام الأول، يستطيعون أن يقولوا إن المادة كانت أصلية أو أزلية، ودائماً ما تكون الطاقة كامنة فيها كمحرك. ذلك هو اتجاه المادية، وهو يرى أن المادة أزلية باعتبارها العنصر الأصلي المتغير المكون للعالم، ويسعى الآن إلى تفسير الطاقة بلغة المادة، والنفس بلغة الجسد، وما هو فائق للطبيعة بلغة الطبيعة.

ولكن في وسع المرء أيضاً، وفي المقام الثاني، أن يقف الموقف المعاكس، فيقول إن الطاقة كانت الشيء الأولي، وإنها كانت وما تزال أساس جميع الأشياء الموجودة، وإن المادة هي تعبير أو مظهر لهذه الطاقة، وإن الجسد لا يخلق الروح بل الروح يخلق الجسد. هذا هو اتجاه وحدة الوجود (وتعدد الآلهة). فعند من يعتقدون ذلك تكون الطاقة هي المبدأ الأساسي الأزلي لكل شيء، وهم يحاولون أن يؤكدوا صدور العالم الحاضر عن الطاقة الأولية. ويضفي من يعتقدون بوحدة الوجود على هذه الطاقة الأصلية، التي يظنون أنها منتشرة في جميع أنحاء العالم، الوجود على هذه، يضيفون جميع أصناف الأسماء الجميلة والمتألقة، سواء سمّوها الروح أو العقل أو النفس أو غير ذلك. غير أن أتباع وحدة الوجود يستخدمون هذه الأسماء وهم يعنون بها غير ما تدل عليه عادة. فهم لا يفكرون في إله شخصي ذي عقل وحكمة وفهم إرادة، بل بالأحرى في قوة غير واعية ولا عاقلة ولا مريدة، قوة تتحول إلى وعي وعقل وإرادة في الإنسان إبان اجتيازها مراحل عملية التطور. فليست الطاقة الأزلية في حد ذاتها هي الروح، بل إنها تدعى الروح لأنها يمكن أن تصير روحاً في أثناء تطورها.

وفي كلتا هاتين الفكرتين المحتملتين، أي المختصين بالمادية ووحدة الوجود، يفترض وجود مبدأ عند بدء تطور العالم، مبدأ تعتبره إحدى الفكرتين مادة في الأساس فيما تعتبره الأخرى روحاً في الأساس، ولكن لا يمكن تكوين فكرة واضحة بشأنه. وهو شيء إلى السلبية أقرب منه إلى المادية، إذ إنه في الواقع ليس شيئاً محدداً، بل إن فيه وحسب إمكان الصيرورة إلى أي شيء. فهو كمونية مطلقة (احتمالية لا محدودة) على صورة تجريد تأليهي للفكر. وهو في أساسه تصور شيء يضع فيه الإنسان العلمي – بمعزل عن الله الواحد الحقيقي – ثقته لتفسير العالم، لكنه لا يستحق مثل هذه الثقة أكثر مما تستحقها آلهة الأمم.

على أن الكتاب المقدس يقف موقفاً مغايراً لهذا كلّه. فما يفيدنا به عن أصل الأشياء لا يُقدَّم لنا كنتيجةٍ للبحث العلمي ولا على شاكلة تفسيرٍ فلسفي لنشوء العالم، بل هو معروضٌ أمامنا بصورةٍ تهدف إلى الوصول بنا، بواسطته، إلى حيث نتعرّف على الإله الواحد الحق ونضع فيه وحده كامل ثقتنا. إنه تفسير لا يصدر عن البشر بل عن الله. وهو يرى أن الله - لا العالم - هو الأزلي. فمن قبل أن تولد الجبال أو تُبدَأ الأرض والمسكونة، منذ الأزل وإلى الأبد هو الله (مزمور 90: 2). إنه يهوه، الذي كان ويكون وسيكون، والذي يقصر عنه كلُّ كلام لكونه ملءَ الكينونة العديمة التغُّير. هو الكائن، أما العالم، على نقيضه، فهو متحول ودائم التحول والتغير. والشيء الذي يحرص الكتاب المقدس عليه كل الحرص هو ضرورةُ عدم الخلط بين الله وخليقته. فكما تستأصل كلمة الله المقدسة كل عدم إيمان، فهي تستأصل أيضاً كل إيمان زائف وخُرافة. فإنَّ الله والعالم متميِّزان أحدهما عن الآخر جوهرياً. وأصل التمايز أن الله خالق والعالم مخلوق.

ولما كان العالم كلُّه مخلوقاً، فإن مصدره هو الله. فليس ثمة ما يُمكن أن يسمى مادة أزلية أو روحاً أزلياً متواجداً إلى جنب الله. فهو تعالى دعا إلى الوجود السماءَ والأرض وكلَّ شيء. تلك هي قوة الكلمة "خلق" في الكتاب المقدس. ففيما يستعمل الكتاب هذه الكلمة، بمعنى عام جداً، للدلالة على أعمال الإصلاح أو التسوية (مزمور 104: 30، إشعياء 45: 7)، فهو يستعملها بالمعنى الحصري ليدلَّ بها على أن الله أوجد كلَّ شيء من لا شيء. وبالحقيقة فإن التعبير الذي يُفيد أن الله قد صنع كل شيء من لا شيء هو تعبير لا يوجد بحرفيته في الكتاب المقدس. (أول ظهورٍ لمثل هذا التعبير نجده في سفر المكابيين الثاني 7: 28). ثم إن التعبير "من لا شيء" قد يُفضي إلى سوء فهم. فما هو لا شيء إنما هو أمرٌ غير موجود، ولذلك لا يُمكن أن يكون المبدأ أو المصدر الذي منه تبرز الأشياء. ومهما يكن، فلا شيء يمكن أن يخرج من لا شيء. فإن الكتاب، على نقيض هذا، يقول إن العالم دعي إلى الوجود بإرادة الله (رؤيا 4: 11) وإن الأشياء المنظورة لم تتكون مما هو ظاهر (عبرانيين 11: 3). ومع ذلك، فإن التعبير "من لا شيء" يُمكن أن يؤخذ بمعنىً ويؤدي خدمةً عظمى في مواجهة البِدَع بمختلف أنواعها. ذلك أن في هذا التعبير إنكاراً لما يذهب إليه قومٌ من أن العالم قد صُنع من خامة أو مادةٍ ما تواجدت مع الله منذ الأزل. وبحسب الكلمة المقدسة إن الله ليس فقط مكوِّن العالم بل هو خالقه أيضاً. فإذا تكلَّمنا بمنطق البشر، نقول إن الله كان موجوداً وحده أولاً، بعد ذلك أُبرِز العالم كلُّه إلى الوجود، بمشورة الله ومشيئته. فبالنسبة إلى العالم، فإن اللاوجود المُطلقُ سبق الوجودَ، وإلى هذا الحد يمكننا أن نقول بحقٍّ إن الله صنع العالم من لا شيء.

هذا هو، بكل يقين، تعليمُ الكلمة المقدسة الصريح: إن الله موجودٌ منذ الأزل (مزمور 90: 2) ولكن العالم له بداءة (تكوين 1: 1). ومراراً عديدة نقرأ عن الله أنه فعل أمراً أو آخر- كالاختيار مثلاً أو المحبة - قبل تأسيس العالم (يوحنا 17: 24، أفسس 1: 4). إنه تعالى كليُّ القدرة بحيث يكفي أن يفوه بكلمة فتتكَون الأشياء (مز 33: 9) وأن يدعو الأشياء غير الموجودة حتى تصير موجودة (رومية 4: 17). وهو يُعطي العالم وجوده وديمومته بإرادته تعالى فقط. هو صنع كل شيء، السماوات والأرض وكل ما فيها (خروج 20: 11، نحميا 9: 6). ومنه وبه وله كلُّ الأشياء (رومية 11: 36). ومن هنا هو أيضاً مالكُ السماوات والأرض الكليُّ القدرة (تكوين 14: 19، 22)، والذي يفعل كل ما يسره، وليس لقدرته حدٌّ معين، وعليه - بمعنى مطلق - اعتمادُ الخلائق كلها (مزمور 115: 3، دانيال 4: 35). فالكتاب المقدس بريء من أي زعم بوجود مادة أزلية غير مكوَّنة إلى جانب الله. والله تعالى هو العلة المطلقة والوحيدة لكلِّ ما هو كائن ولكلِّ ما يحدث. فالأشياء التي تُرى لم تتكون من أمور ظاهرة، بل إن العالم بكامله قد أُتقِن بكلمة الله (عبرانيين 11: 3).

********************************

وإذا كان الله، الكائنُ الأزلي المبارك كُليَّاً، قد خلق العالم بإرادته، فمن الطبيعي أن يبرز السؤال: لأي سبب ولأية غاية فعل الله ذلك؟ وفي سبيل الاهتداء إلى جوابٍ لهذا السؤال. طالما حاول العلم والفلسفة دائماً أن يجعلا العالم ضرورةً واجبة، وبذلك يستخلصون وجوده من كينونة الله. وهنا أيضاً يبرز احتمالان. فبعضهم عرضوا المسألة كما لو أن الله كان ممتلئاً وغنياً جداً بحيث لم يستطع ضبط الوضع، وأنه كان يفتقر إلى السيطرة على كيانه الخاص، وبالتالي فاض العالم عنه كما يفيض الجدول من منبعه أو كما يفيض الماء إلى خارج وعاءٍ فائض. وآخرون وقفوا الموقف المعاكس تماماً إذ رأوا أن الله كان في ذاته ضعيفاً وفارغاً تستبد به إرادة جائعة جامحة، وأنه، تبعاً لذلك، أوجد العالم لكي يملأ ذاته ويوفِّر ما يلبي حاجته. وبحسب كلتا وجهتي النظر هاتين، كان العالم ضرورةً بالنسبة إلى الله، سواء كان لإراحته من فيضه أو لتلبية حاجته.

وكلا هذين الفرضين لا تقرهما الكلمة المقدسة. فالكتاب المقدس يقف موقفاً مختلفاً على خطٍّ مستقيم. إذ أن مركز الجاذبية في كلا الموقفين يتحول من الله إلى العالم حيث يصير الله موجوداً لأجل العالم. فالله هو الكائن الأدنى هنا، والعالم هو الأعلى لأنه يفتدي الله وينقذه من تعاسته لسبب الفيض أو عدم الاكتفاء. ومع أنه مازال لهذه الفكرة مؤيدوها بين المفكرين المشهورين في أيامنا، فهي رغم ذلك تعتبر فكرة تجديفية. ذلك أن الكتاب المقدس، وهو كلمة الله التي تقف إلى جانبه تعالى من بدايتها إلى نهايتها، تُعلن جهراً، بقوةٍ وصراحة. أن الله ليس موجوداً لأجل العالم بل أن العالم كله بجميع خلائقه موجودٌ لأجل الله، لأجل اسمه ولأجل مجده.

يقيناً، إن الله هو في ذاته الكلي الكفاية، والكلي الهناءة. فهو لا يحتاج إلى العالم ولا إلى أي مخلوق، بأية طريقة كانت، كي يكتمل. أفي وسع إنسانٍ ما أن ينفع الله؟ وهل من مسرة للقدير إذا تبررت، أو من فائدة إذا قوّمت طرقك؟ (أيوب 22: 2 و 3). فليس في بر الإنسان نفعٌ لله، ولا في إثم الإنسان إفقارٌ له تعالى. وهو لا يُخدَم بأيادي الناس كأنه محتاج إلى شيء، إذ هو يُعطي الجميع حياةً ونفسَاً وكل شيء (أعمال 17: 25). من هنا تشدد الكلمة المقدسة بكل قوة على حقيقة كون الله قد أوجد كل شيء بفعل إرادته. فلم يكن في كينونة الله أية قوة قاهرة أو ضرورة واجبة دفعته إلى إيجاد العالم. فإنما الخلْق بمجمله فعلُ إرادة حرة من قبل الله. ولا يُمكن تفسير الخلق باعتباره الحصيلة الحتمية لبر الله، مع أن برَّ الله أيضاً ظاهرٌ فيه، إذ كيف يُعقَّل أن يكون الله مَديناً بأي شيء؟ كما لا يُمكن أيضاً أن تكون الخليقة حصيلةً تلقائية لصلاح الله أو محبته، مع إن كِلا هذين أيضاً ظاهرٌ في العالم، إذ إن حياة المحبة في الله المثلث الأقانيم لم تكن بحاجةٍ إلى أي غرضٍ خارجَ ذات الله تتجه إليه المحبة. فبالحقيقة إن علة الخلق الواحدة الوحيدة هي قدرة الله الحرة ومسرته الأزلية الصالحة وسيادته المطلقة (رؤ 4: 11).

لسنا نعني بهذا طبعاً أن خلق العالم كان عملاً غير عقلاني أو أمراً تم فعله كيفما اتفق. ففي هذا المر، كما في كثيرٍ سواه، ينبغي لنا أن نستريح في رحاب سيادة الله المطلقة ومسرته الصالحة كَحسمٍ لكل تناقض، وبهذا نحن معتصمون بثقةٍ وادعة وطاعةٍ طفولية. إلا أن الله، مع ذلك، كانت لديه أسبابه الحكيمةُ والمقدسة الداعيةُ إلى فِعل الخلق.

هذه الحقيقة تبرهنها لنا الكلمة المقدسة، في المقام الأول، بعرضها للخلق بوصفه عملاً قام به الله المثلث الأقانيم. فعند خَلْق الله للإنسان، يُجري أولاً مشاورة ذاتية فيقول: نعمل الإنسان على صورتنا، كشبهنا(تكوين 1: 26). وهكذا أعمال الله كلُّها تستقرُّ على قصدٍ إلهي فقبل الخلق شاور الحكمة(أيوب 28: 20 وما يلي؛أمثال 8:22 وما يلي). وفي الوقت المناسب خلق كل شيء بالكلمة الذي كان مع الله منذ الأزل والذي كان هو الله(يوحنا 1: 1-3)،[35] وقد خلق الأشياء كلَّها بالروح الذي يفحص أعماق الله ويُحيي خلائقه، وينشر السماوات.[36] لذا يهتف ناظم المزمور: ما أعظم أعمالك يا رب! كلَّها بحكمة صنعت: ملآنةٌ الأرض من غناك (مز 104: 24). أضف إلى هذا أن الكلمة المقدسة تعلِّمنا أن الله قد خلق كل شيء وأنه يعتني بخليقته كلِّها ويدبر أمورها لأجل مجده تعالى. فالغرض الذي لأجله تم الخلق لا يمكن في الخليقة ذاتها، ما دام إرساء الغرض يسبق اتخاذ الوسائل. لذا يعلِّم الكتاب المقدس عموماً أنه مثلما كلُّ شيء هو من الله فكلُّ شيء أيضاً هو به وله (رومية 11: 36). وتُفيض الكلمة الإلهية في هذه الناحية خصوصاً حين تُفيدنا أن السماوات تحدِّث بمجد الله (مزمور 19: 1)، وأن الله تمجَّد بسبب فرعون (خروج 14: 7) وفي الرجل المولود أعمى (يوحنا 9: 3)، وأنه يهب جميع بركات نعمته لأجل اسمه (إشعياء 43: 25، أفسس 1: 6)، وأن المسيح قد جاء ليمجِّد الآب (يوحنا 17: 4)، وأنه ذات يومٍ ستنحني كل ركبة ويعترف كل لسان بمجد الله (فيلبي 2: 10). فمسرة الله الصالحة هي أن يُظهر في خلائقه سجايا كينونته الثالوثية الفاضلة، وبذلك يُعدُّ تمجيداً وإكراماً لذاته في تلك الخلائق، وفي سبيل هذا التمجيد أيضاً، لا يحتاج الله إلى العالم؛ إذ ليس المخلوق هو من يُمجدِّ الله على نحو مستقلٍّ وذاتي الكفاءة، بل بالأحرى إن الله نفسه هو مَن يمجد اسمه ويبتهج بذاته بواسطة المخلوق أو دونه. ولذلك لا يَنشد الله المخلوق البتة كي يجد فيه شيئاً هو تعالى بحاجةٍ إليه. كلا، فإن العالم كلَّه بطوله وعرضه ليس بالنسبة إلى الله إلا عبارة عن مرآة يرى فيها عرضاً لسجاياه الفائقة. فهو يبقى دائماً مستقراً في ذاته بوصفه الخير الأسمى، ويبقى إلى الأبد مباركاً بصفة المبُارَكيَّة الخاصة الكائنة فيه.

******************************

لا يقتصر الكتاب المقدس على إفادتنا أن الله خلق العالم من العدم، بل يفيدنا أيضاً بعض الشيء عن الطريقة التي بها تمَّ الخلق.

يبدأ ذلك بإطلاعنا على أنه في البدء خلق الله السماوات والأرض (تكوين 1: 1). وهذا البدء يشير إلى النقطة التي فيها ابتدأ وجود الأشياء التي صُنعت. أما الله نفسه فلا بداءة له ولا يمكن أن تكون له بداءة، ولا للكلمة الذي كان مع الله وكان هو الله، لأنه هو أيضاً كائن منذ الأزل. إنما يدلُّنا هذا البدء على اللحظة التي فيها برزت الأشياء المخلوقة إلى الوجود. حتى الزمان والمكان أيضاً كان لهما بدؤهما حينذاك. صحيح أنهما ليسا مخلوقَين مستقلَّين دعاهما الله إلى الوجود بفعل خلْقٍ مخصوص منه تعالى. فلا نقرأ شيئاً من هذا القبيل في خبر الخلْق. إلا أن الزمان والمكان شكلان من الوجود لا غنى عنهما للأشياء المخلوقة. إنما الله وحده سرمدي وكلي الحضور. أما الخلائق، لأنها مخلوقة، فخاضعة للزمان والمكان، وإن كان على تفاوت. فالزمان يُمكِّن الشيء من أن يستمر موجوداً في لحظات متعاقبة، كما يُمكِّن الشيء الواحد من أن يكون بعد الآخر. أما المكان فيمكن الشيء من أن ينتشر في جميع الأنحاء، كما يمكن الشيء الواحد من أن يوجد تالياً للآخر. إذاً ابتدأ وجود الزمان والمكان في الوقت عينه الذي فيه ابتدأ وجود الخلائق، وكإطارين للوجود لا بدَّ منهما. وهما لم يوجدا مقدَّماً كشكلين فارغين في انتظار أن تملأهما المخلوقات، لأنه حيث لا يوجد شيء لا يكون أيضاً زمان ولا مكان. إنهما لم يُصنعا مستقلين، جنباً إلى جنب مع الخلائق، كمتممين لها - إذا جاز التعبير - زِيْدا عليها من الخارج. بل بالأحرى خُلِقا ضمن الخليقة ومعها كإطارين يجب بالضرورة أن توجد فيهما المخلوقات لكونها محدودةً ومتناهية. وقد كان أغسطينوس على حقٍّ لما قال إن الله لم يصنع العالم في الزمان، كما لو كان قد خُلق داخِلَ شكلٍ أو ظرف سابق الوجود، بل إنه تعالى صنع العالم مع الزمان والزمان مع العالم.

ثم إن الآية الأولى من سفر التكوين تفيدنا بأن الله في البدء خلق السماوات والأرض. وتقصد كلمة الله هنا بـ "السماوات والأرض" ما تقصده في سائر المواضع الأخرى (تكوين 2: 1، 4؛ خروج 20: 11، الخ..)، وبالتحديد: العالم كله، أو الكون بكامله، وقد قُسم منذ البدء - بمشيئة الله - إلى قسمين. هذان القسمان هما: الأرض بكل ما عليها وما فيها؛ والسماوات، وهي تشمل كل ما هو خارج الأرض وفوقها. بهذا المعنى المستخدم في الكتاب المقدس، ينتمي إلى السماوات الجلَدُ والهواء والسحاب (تكوين 1: 8، 20)، والكواكب التي تؤلف جند السماء (تثنية 4: 19؛ مزمور 8: 3)، وأيضاً السماء الثالثة، أو سماء السماوات التي هي مقام سكنى الله وملائكته.[37] وإذ تقول الآية الأولى من التكوين إن الله خلق السماوات والأرض في البدء، فعلينا - من جهة - ألا نفهم هذا القول وكأنه مجرد عنوان أو خلاصة لما يتبع، كما أن علينا أيضاً من جهة أخرى - ألا نفهمه وكأنه يعني أن عمل الله الموصوف في (تكوين 1: 1) استدعى إلى الوجود السماوات والأرض دُفعةً واحدة في حالتهن الكاملة.

أما التفسير الأول فتدحضه حقيقة ابتداء الآية الثانية بحرف العطف "و" : "وكانت الأرض خربة وخالية". وهذا يُفيد أن حقيقة ثانية أُضيفت في سلسلة متعاقبة إلى الحقيقة المنصوص عليها في الآية الأولى. وأما التفسير الثاني فلا يمكن قبوله لأن السماء من حيث هي جلَد لا تبرز إلى الوجود قبل (تكوين 1: 8)، ولأن السماوات والأرض لم يُذكَر أنها "أكملت" قبل (تكوين 2: 1).

وفيما لا نستطيع أن نجزم في ما نقوله حول هذه النقطة بيقينية مطلقة، لنا أن نعتبره مرجحاً أن سماء السماوات، مقام سكنى الله، برزت إلى الوجود بعمل الله الخَلْقي الأول المشار إليه في تكوين 1: 1، وأن الملائكة أيضاً خُلقوا عندئذٍ. ففي (أيوب 38: 4 _ 7) يجيب الربُّ أيوبَ من العاصفة قائلاً إنه لم يكن أحدٌ منَ البشر حاضراً حين أسس تعالى الأرض ووضع حجر زاويتها بل إنه هو أنجز هذا العمل مصحوباً بترنُّم كواكب الصبح معاً وهُتاف جميع بني الله فرحاً. وبنو الله هؤلاء هم الملائكة. فالملائكة إذاً كانوا حاضرين عند إكمال الأرض وخلْق الإنسان.

وفيما سوى ذلك، قليل جداً ما يقال لنا عن خلْق سماء السماوات وملائكتها. فبعد أن يذكر سفر التكوين خبر ذلك بإيجاز في الآية الأولى منه، ينتقل في الآية الثانية إلى تفصيل الخبر في إكمال الأرض. وهذا الإكمال أو التسوية كان ضرورياً، لأنه وإن كانت الأرض قد سبق أن صُنعت، فقد ظلت رغم ذلك موجودةً فترةً في حالة خرابٍ وخَواء تغشِّيها الظلمة، إننا لا نقرأ هنا أن الأرض صارت خربة، أي عديمة الشكل، وقد اعتقد بعضُهم ذلك، وإذ وقفوا هذا الموقف فكروا في حدوث دينونة في أعقاب سقوط الملائكة إلى الأرض المخلوقة كاملةً. غير أن (تكوين 1: 1) لا يعرفنا إلا أن الأرض كانت عديمة الشكل، أي أنها وُجِدت في حالة انعدام الشكل أو الصورة، لا فصل فيها بين نورٍ وظلمة، ولا بين مياهٍ ومياه أو يابسةٍ وبحار. وما وضع حداً لانعدام شكل الأرض ذاك إنما كان أعمال الله الموصوفة في (تكوين 1: 3 - 10). وهكذا أيضاً يُفاد أن الأرض الأصلية كانت خالية؛ إذ كان يعوزها أن تزدان بالنبات والشجر وتعمر بالأحياء. وقد وضعت أعمال الله الموجزة في (تكوين 1: 11). وما يلي، حداً لخلاء الأرض هذا، لأن الله لم يخلق الأرض لتكون خاوية، بل ليسكن فيها البشر (إش 45: 18). فواضحٌ إذاً أن أعمال الله في تسوية الأرض الخربة والخالية وإكمالِها تقسم إلى مجموعتين. أما المجموعة الأولى من الأعمال أو الأفعال فمستهلَّةٌ بخلْق النور، وهنا يبرز الفصل والتمييز في ما يتعلق بالشكل والهيئة واللون ودرجاته. وأما المجموعة الثانية فمستهلة بتكوين النيران، الشمس والقمر والنجوم، ويستكملها إعمارُ الأرض بالأحياء من طير وسمك وحيوانٍ وإنسان.

وبحسب شهادة الكلمة المقدسة المتكررة،[38] تم عمل الخلْق كلُّه في ستة أيام. إلا أن قدراً كبيراً من الاختلاف في الرأي والاسترسال في الحزر والتخمين قام حول هذه الأيام الستة. فلا أحد غير أغسطينوس رأى أن الله خلق كل شيء كاملاً وتاماً في لحظة واحدة وان الأيام الستة لم تكن ست فترات زمنية متعاقبة، بل هي ست نقاط أفضلية منها يمكن النظر إلى رتبة الخلائق ونظامها. هذا من ناحية؛ ومن الناحية الأخرى يرى كثيرون أن أيام الخلْق يجب أن تُعتبر فترات زمنية أطول كثيراً من وحداتٍ ذات أربع وعشرين ساعة.

يتحدث الكتاب المقدس بالتحديد عن الأيام التي تُحسب بمعيار المساء والصباح، والتي على أساسها تم توزيع أيام الأسبوع في إسرائيل وحُدِّد تقويم أعيادها. بيد أن الكتاب ذاته يتضمن معطياتٍ تُلزمنا أن نعتبر أيام التكوين مختلفةً عن وحداتنا العادية الحاصلة من دوران الأرض.

فأولاً: لا نستطيع أن نتيقن من أن ما نقرأه في (تكوين 1: 1- 2) يسبق اليوم الأول أو أنه متضمن فيه. ومما يؤيد الفرض الأول أن اليوم الأول، بحسب الآية الخامسة، يبدأ بخلق النور، وانه بعد المساء والليل ينتهي في الصباح التالي. ولكن حتى لو حسب المرء الأحداث المذكورة في (تكوين 1: 1 و 2) متضمنة في اليوم الأول، فإن ما يحصل عليه من هذا الافتراض هو يوم غير اعتيادي، كان قوامه الظلام حيناً. أما مدة الظلام الذي سبق خلق النور فلا يُشار إليها في أي موضع.

وثانياً، يُرجح أن الأيام الثلاثة الأولى (تكوين 1: 3- 13) كانت بالضرورة غير شبيهة بأيامنا. فإن أيامنا ذات الأربع والعشرين ساعة تنتج عن دوران الأرض حول محورها وما يصاحب هذا الدوران من اختلاف نسبة التعرض للشمس. ولكن هذه الأيام الثلاثة الأولى لا يمكن أن تكون قد سارت بالطريقة نفسها. صحيح أن التمييز بينها قد تم بظهور النور واختفائه؛ غير أن سفر التكوين ذاته يفيدنا بأن الشمس والقمر والنجوم إنما تكونت في اليوم الرابع.

وثالثاً، من الممكن يقيناً أن السلسلة الثانية من الأيام الثلاثة حصلت بالطريقة المعتادة. ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه قد حدث في الكون تغييرات متعددة من جراء سقوط الملائكة والإنسان ومن جراء الطوفان أيضاً، وإذا لاحظنا - فضلاً عن هذا - أن فترة التحول، في كل دائرة، تختلف اختلافاً بيّناً عن فترة النمو الطبيعي، فحينئذ يبدو محتملاً أن تكون السلسلة الثانية من الأيام الثلاثة قد اختلفت أيضاً عن أيامنا المعتادة من عدة نواحٍ.

وأخيراً، يجدر بنا أن نأخذ في الاعتبار أن كل ما حدث في اليوم السادس، بحسب (تكوين 1 و 2)، لا يكاد يمكن أن يُحصَر ضمن يوم ذي أربع وعشرين ساعة كأيامنا. فكلمة الله تفيدنا بأنه في ذلك اليوم خلقت الحيوانات (تك 1: 24 و 25)، وخُلق آدم (تك 1: 26؛ 2: 27)، وغُرِست الجنة (تك 2: 8 - 14)، وتم إصدار الوصية الاختبارية (تك 2: 16 و 17)، والإتيان بالحيوانات إلى آدم وتسميته إياها (تك 2: 18 - 20)، وسباتُ آدم وخلقُ حواء (تك 2: 21 - 23).

ومهما كان الأمر، تبقى الأيام الستة هي أسبوع الخلْق الذي خلاله صُنعت السماوات والأرض وكلُّ جُندِهن. وهذه الأيام تدلُّ على الترتيب الزمني الذي به ظهرت الخلائق إلى الوجود بعضُها في أعقاب بعض، ولكن هذه الأيام تتضمن في الوقت عينه إلماعاً إلى علاقة التراتب التي تقوم فيها الخلائق بعضها تجاه بعض. ولا قِبَل لأي بحث علمي بأن يدحض هذه العلاقة. فمن حيث المرتبة والدرجة ما هو بلا شك أدنى مما له شكل، وما هو غير عضوي أدنى مما هو عضوي، والنبات أدنى من الحيوان، والحيوان أدنى من الإنسان. والإنسان كاف ويبقى تاجَ الخليقة: فصُنع الأرض وإعدادها يؤول إليه وينصب عليه. من هنا أيضاً لا يُطلعنا الكتاب المقدس إلا على القليل فيما يختص بخلق السماوات والملائكة، حاصراً الكلام في الأرض أساساً. فبالنسبة إلى علم الفلك، قد تُعَدُّ الأرض صغيرة وعديمة الشأن. ومن حيث كتلتها ووزنها، قد تفوقُها آلاف الكواكب والشموس والنجوم. ولكنها نسبةً إلى الدين والخلاق تبقى مركز الكون. فالأرض وحدها دون غيرها قد اختيرت لتكون مسكناً للإنسان؛ اختيرت لتكون ميدان جهاد فيه يجب أن تدور المعركة العظيمة ضد كل قوة شريرة؛ كما اختيرت لتؤدي دور المسرح الذي عليه يُقام ملكوت السماوات.

إن كل ما قد خُلق يُصنَّف في الكتاب المقدس تحت عنوان هو "السماوات والأرض وكل جندها" (تكوين 2: 1) أو تحت اسمٍ واحدٍ هو العالم أو الأرض، سواءٌ كان المقصود كرة الأرض الطبيعية (1 صموئيل 2: 8، أمثال 8: 31)، أو الأرض باعتبارها مسكناً للإنسان حيث تكون مأهولة، وتدعى مسكونة (متى 24: 14، لوقا 2: 1). وأحياناً تشير الكلمات المستعملة أصلاً إلى العالم من حيث طبيعته المؤقتة المتغيرة الزائلة،[39] وعندئذٍ أيضاً تنحو تلك الكلمات منحى التشديد على العالم بوصفه توحيداً وإجمالاً للخلائق كلِّها منظوراً إليها بمجموعها (يوحنا 1: 10، أعمال 17: 24). ولهذين المعنيين الأخيرين على الخصوص مضمونٌ غني بعبارةٍ أخرى، يستطيع الإنسان دائماً - إذا جاز التعبير - أن ينظر إلى العالم من وجهتي نظر: من حيث عرضه، ومن حيث طوله.

فمن الجهة الأولى يتبين أن العالم وحدةٌ متكاملة وكلٌّ متماسك إلا أنه رغم وحدته ينم عن تمايز غني لا يعتريه لبسٌ ولا غموض. حتى إن العالم، منذ البداية التي فيها خُلِق وكُوِّن، كان يشتمل على السماء والأرض، والأمور المنظورة وغير المنظورة، والملائكة والبشر، والنباتات والحيوانات، والمخلوقات الحية وغير الحية، ذات الروح وعديمة الروح. ثم إن جميع هذه الخلائق أيضاً متمايزة إلى ما لا نهاية. فبين الملائكة عروش وقوات، وسلاطين ورئاسات وبين البشر رجال ونساء، وآباء وأبناء، وحكام ومحكومون، وشعوب وأمم، وألسنة ولغات. كذلك أيضاً نجد أن النبات والحيوان، والمعادن بمعنى من المعاني، مقسمة بالطريقة عينها إلى فئاتٍ ومجموعات، وعشائر وفصائل، وأنواع وأصناف. وجميع هذه الخلائق، ضمن حدود معينة، لها طبيعتها الخاصة التي تحتفظ بها والتي أعطاها إياها الله عند الخلق (تكوين 1: 11، 21 وما يلي)، ولذلك فهي خاضعة لنواميسها الخاصة. وهي موجودة مخلوقاً بعد الآخر، ليس فقط بمعنى كونها خُلقت واحداً بعد الآخر، وهي الآن تستمر موجودةً في رتبتها العُليا أو الدُنيا، بل هي أيضاً موجودةٌ تالياً بعضُها لبعض، وبذلك تبقى هي إياها حتى يومنا الحاضر. ذلك أن الخليقة ليست بطبيعتها واحدة الشكل بل متنوعة الأشكال، وهي بمجملها وبأجزائها معاً تنطوي على أغنى التنوعات وأجملها.

وفي الوقت ذاته يستمرُّ العالم - من الجهة الثانية - ممتداً في عمق الزمن. وحقيقة كون كل ما عمله الله حسناً جداً (تكوين 1: 31) لا تعني أن كل شيء بلغ في الحال مبلغ التمام. فكما أن الإنسان، وإن كان مخلوقاً على صورة الله، تلقى مع ذلك دعوة وقصداً عليه أن يلبيهما بالأعمال، فكذلك العالم لما خُلِق وُضِع في بدايته لا في نهايته. وقد كان أمامه تاريخٌ طويل يُحسَب بالقرون، وفيه يستطيع بصورة تتزايد غنىً ووضوحاً أن يُعلِن صفات الله السنيَّة. وعليه، فإن الخلْق والتطور لا يلغي أحدهما الآخر. بل بالأحرى فإن الخلق هو نقطة الإنطلاق لكل تطور. فلأن الله قد خلق عالماً لا ينفد غِنى تمايُزِه وتنوعه، حيث لكل نوعٍ من الخلائق طبيعتُه الخاصة به، وفي تلك الطبيعة حصل كلٌّ على فكره ومَزيَّته وناموسه، فلذلك - ولذلك فقط - صار التطور ممكناً. ولكل تطورٍ كهذا نقطة انطلاقة، وفي الوقت نفسه اتجاهُه ومقصده، في هذا الخلْق، حتى لو كانت الخطية قد أدخلت الاضطراب والفوضى على هذا التطور أو النمو، فإن الله رغم ذلك يتم مشورته فيعتني بالعالم ويوجهه إلى غايته.

وحينما يتكلم الكتاب المقدس عن العالم على هذا النحو، ينطلق ضمناً من افتراض وجود عالم واحد فقط. ففي مطارحات الفلاسفة غالباً ما تُقدَّم هذه المسألة بصورة مغايرة جداً. إذ إن كثيرين منهم، قديماً وحديثاً، رأوا أن عوالم شتى تتواجد أحدهما مع الآخر جنباً إلى جنب وأن كواكب أخرى غير الأرض كانت آهلةً بمخلوقاتٍ حية وعاقلة، ولم يقتصروا على هذا بل تعدوه إلى الاعتقاد بأن عوالم شتى تلا أحدها الآخر في الزمان. ولذلك ذهبوا إلى أن العالم الحالي لم يكن العالم الوحيد، بل سبقته عوالم لا حصر لها وستعقبه عوالم أخرى بعد. حتى إن بعضهم زادوا على ذلك الفكرة القائلة بأن كل ما هو موجود الآن كانت له كينونتُه الكاملة في عالمٍ أسبق ولسوف ينعم أيضاً بهذا الوجود المثالي في عالمٍ آتٍ وبالاختصار، فكلُّ ما هو كائن إنما هو موجود في عملية مستمرة؛ وكلُّ شيءٍ خاضعٌ للناموس الأزلي الذي يحدد الظهور والخفاء، والقيام والسقوط.

غير أن كلمة الله المقدسة تضرب صفحاً عن كل هذه التخيلات. إذ تقول لنا إنه في البدء خلق الله السماوات والأرض، أي هذا العالم؛ وإن هذا العالم يجري عبر تاريخ مداه قرون؛ وبعد هذه العملية التاريخية سيحلُّ السبت الأبدي، أي الراحة التي بقيت لشعب الله. ولا أثر في الكلمة المقدسة لمأهولية كواكب أُخرى، وأن هنالك ملائكة فضلاً عن البشر، وأن ثمة سماءً فضلاً عن الأرض. أما في ما سوى ذلك، فهي تلتزم الموقف الذي يؤكد أن الإنسان وحده هو الذي خُلِق على صورة الله، وأن ابن الله لم يتخذ طبيعة الملائكة بل طبيعة البشر، وان ملكوت السماوات آخذ في الانتشار وهو متحقق على هذه الأرض.

وهكذا أيضاً تفيدنا الكلمة الإلهية أن العالم محدود. وأول ما تشتمل عليه هذه الفكرة أن العالم كانت له بداءة وأنه خُلِق مع الزمان. أما مسألة طول قِدَم العالم فلا تضيف على هذا شيئاً ولا تنقص منه شيئاً. حتى لو كان العالم موجوداً قبل آلاف السنين أو ملايينها من وجوده الصحيح، لما جعله ذلك أزلياً بالمعنى الذي نقول فيه إن الله أزلي. فعندئذٍ أيضاً يكون العالم وقتياً ومحدوداً ومتواجداً مع الزمن. ومن الأهمية بمكانٍ أن نلاحظ هذا، لأن الكتاب المقدس الذي يعلمنا أن للعالم بداءةً، يعلمنا أيضاً مع ذلك أنْ ليس له نهاية. طبعاً، ستكون له نهاية بصورته الحالية، لأن هيئة هذا العالم تزول، ولكن هذا لا ينطبق على مادته وجوهره. ولكن مع أن العالم والناس والملائكة يظلون موجودين إلى الأبد في المستقبل، فهم يبقون مخلوقاتٍ ولا يشتركون البتة في صفة الأبدية التي لله. فالعالم يوجد في الزمان ويستمرُّ موجوداً فيه، وإن كان سيُطبَّق عليه في تدبيرٍ آخر معيارُ قياسٍ مختلف كلياً عما هو مستعمَل الآن على هذه الأرض. ثم إن العالم محدودٌ في المكان مثلما هو محدود في الزمان. صحيحٌ أن العِلم الحديث وسع مدى رؤيتنا إلى أبعد الحدود؛ وأن العالم قد أصبح من حيث المكان أوسع جداً مما كان في أيام أجدادنا. وأنه يعترينا الدوار عند سماعنا بعدد النجوم الهائل وضخامتها، حيث كلُّ واحدٍ منها عالمٌ قائمٌ بذاته والمسافة التي تفصلها عن عالمنا تفوق الإدراك. إلا أننا رغم ذلك كله لا نستطيع أن نعتبر العالم سرمدياً بالمعنى الذي نقول فيه إن الله سرمدي. ومعلومٌ أن الفرق بين الأزلي والأبدي إنما هو فرق في النوع لا في الدرجة. فليس في وسعنا أن نفكر في زمانٍ ومكانٍ خارج هذا العالم. ولا قِبَل لنا بأن نتصور أننا عند حدٍّ ما سنلمس حدود الكون ونتمكن عند ذلك الحد من التحديق إلى خلاءٍ خاوٍ. فالزمان والمكان ينتشران بانتشار العالم، ويبلغ مداهما مدي العالم، وما داما موجودَين فإن الأشياء المخلوقة تملأهما. غير أن هذه كلها - أي الزمان والمكان والعالم - محدودة. وذلك لأن مجموع الأجزاء المتناهية، مهما كانت هذه الجزاء عظيمة المقدار على نحوٍ لا يكاد يُحصر، لا يبلغ بتةً اللانهاية. فالله وحده سرمديٌ وكليُّ الحضور ولا متناهٍ.

أخيراً، تعلمنا كلمة الله أن العالم صالح، وأننا بحاجة إلى مقدارٍ من الشجاعة كبير لنقول هذا في أيامنا الحاضرة. بالحقيقة إن لهجة القرن الثامن عشر كانت كثيرة التفاؤل؛ ففي ذلك العصر نظر الناس إلى كل شيءٍ من الجهة المشرقة، وقد عُلِّموا أن الله خلق أفضل عالمٍ ممكن. إلا أن للقرن التاسع عشر، ولقرننا العشرين هذا، نظرةً مختلفةً جداً إلى الحياة والعالم والمجتمع. فهوذا الشعراء والفلاسفة والفنانون في زمننا يعلموننا أن كل ما في العالم شقاء بشقاء، وأن العالم نفسه هو على أردئ ما يُمكن أن يكون، وأنه لو كان أسوأ بدرجة واحدة مما هو عليه لما كان يُعقَل أن يوجد. وبحسب تفكير الكثيرين أن كل ما هو موجود لا يستحقُّ إلا السحق والمحق. ومع أن قوماً لا يزالون راغبين في التمتع من العالم بالقدرْ الذي يسعه أن يقدمه من اللذة (لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت)، فإن آخرين يستسلمون لليأس والإعياء من جهة العالم، أو يرجون في أحلام يقظتهم مستقبلاً أفضل، أو مدينة اشتراكية فاضلة، أو حالة هناءةٍ في ما وراء القبر، أو نِرفانا، أو على الأقل شيئاً ما لا يوفره الحاضر.

غير أن الكلمة المقدسة تقف موقفاً مغايراً في النظر إلى هذا الأمر، فهي تقول لنا أولاً إن العالم كان صالحاً، بل حسناً جداً، في الصورة التي خرج عليها من بين يدي الله (تكوين 1: 31). وثانياً تضيف كلمة الله إلى هذا أنه بسبب الخطية التي دخلت المشهد قد صارت الأرض ملعونة، والإنسان عرضة للفساد والموت، والخليقة خاضعة للبُطل. فليس في مكان آخر سوى الكتاب المقدس نتعلم على نحوٍ مؤثرٍ وواضح عن هشاشة الحياة وزوالها، وانعدام شأن جميع الموجودات وضآلتها، وعمق الألم والمعاناة ومداهما الشديد. غير أن الكتاب لا يقف عند هذا الحد. فالكتاب المقدس، ثالثاً، يمضي ليؤكد أن مسرة الله الصالحة آخِذةٌ في التحقق، رغم كل شيء، في هذا العالم الساقط والآثم والباطل. إذ يعلمنا أنه بسبب الغاية التي يجري توجيه هذا العالم إليها يُمكن أن يُدعى العالم الحاضر صالحاً بعد؛ كما يعلِّمنا أن العالم، على الرغم من الخطية، كان وسيصير ويبقى واسطةً بها يتمجد الله. وأخيراً، يتوج الكتاب المقدس تعليمه هذا عن العالم إذ يورد الوعد المجيد بأن هذا العالم، بكل ما فيه من ألم وظُلم، يصير صالحاً لنا من جديد عندما نُخضِع إرادتنا لمجد ذاك الإله ونحيا في العالم لمجده تعالى. فإن كلَّ الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله (رومية 8: 28). وهؤلاء يتعلمون أن يفتخروا حتى في الضيقات (رو 5: 3). وإيمانهم هو الغلبة التي بها يغلبون العالم (1 يوحنا 5: 4).

***********************************

هذه الاعتبارات كلُّها تأخذنا على نحوٍ طبيعي ومباشر من الخلق إلى العناية. فمنذ اللحظة التي فيها دُعي العالم بمجمله، وبكل مخلوقاته، إلى الوجود بفعل الخلق الإلهي، وُضِعت الخلائق كلُّها - رغم كل شيء - في ظل عناية الله وتحت سيطرتها. ولا يوجد هنا أي انتقال تدريجي ولا أيُّ انقطاع أو ثغرة. فكما أن الخلائق، لأنها مخلوقة، لا تستطيع أن تتواجد من تلقاء ذاتها، فكذلك تماماً لا تستطيع لحظةً واحدة أن تقوم بذاتها. فالخلق والعناية يسيران يداً بيد ويتمِّم أحدهما الآخر.

لذا تنشأ بين الخلق والعناية علاقة وثيقة وارتباط متين. ومن الأهمية القصوى بمكان أو نؤكد، في وجه أي تهديدٍ من آراء التأليه الطبيعي، هذا الارتباط الذي لا تنفصم عراه بينهما - ونعني هنا بالتأليه تلك النزعة الفكرية التي تقبل القول بخلْقٍ أصلي لكنها تعتقد فيما عدا هذا أن الله نفض يده من العالم وتركه يمضي في سبله. وفي مثل هذه الحال لا يؤدي مفهوم الخلق إلا عملَ إعطاءِ العالم وجودَه المستقل، وعلى هذا النحو فهو فكرة يمكن أن يقبلها حتى كانط وداروين. إنما تذهب هذه الفكرة إلى أن خلق الله للعالم أسبغ عليه الاستقلال الكلي وجهزه بقدرٍ كافٍ من القُدرات والطاقات بحيث يتسنى له، في ذاته وبذاته، أن يكون حسناً إلى التمام ويتأتى له أيضاً أن يُنقذ ذاته في جميع الأحوال. وبحسب التشبيه المعهود، اعتُبر العالم كأنه ساعة، ما إن تُملأ حتى تمضي تدقُّ من تلقاء ذاتها دون أن يعتني بها أحد. وقد أفضت هذه الفكرة، بطبيعة الحال، إلى الفكرة الأخرى القائلة بأن العالم لا يحتاج إلى أي إعلان بل يستطيع أن يعثر على الحق الضروري بقوته الخاصة وانطلاقاً من موارده الكامنة فيه. وهكذا جلبت فكرة التأليه الطبيعي في أعقابها العقلانية - أي تلك الحركة التي تذهب إلى أن العقل يستطيع بلوغ الحق كلَّه في موارده الذاتية وبواسطتها. وكذلك أيضاً عملت فكرة التأليه الطبيعي على قيام البيلاجيوسية - أي ذلك التعليم القائل بأن إرادة الإنسان الحرة تستطيع إحراز الخلاص له. وذلك لأن التأليه الطبيعي يؤمن بأن إرادة الإنسان، شأنها شأن عقله تماماً، قد خُلقت لتكون مستقلة وجُهِّزت من القُدرات والطاقات الدائمة بما يجعل عمل أي وسيط للخلاص أمراً غير ضروري.

فضروريٌّ إذاً، بالنظر إلى هذا البديل القائم في التأليه الطبيعي، أن نتمسك بالعلاقة بين الخلْق والعناية، الأمر الذي يؤكده الكتاب المقدس. فالكتاب يدعو عمل العناية الإلهي نشاط إحياء وحفظ (أيوب 33: 4؛ نحميا 9: 6) وتجديد (مز 104: 30) وأمر وإرادة (رؤيا 4: 11) وعمل (يوحنا 5: 17) وحَمْلٍ لكل الأشياء بكلمة قدرته (عبرانيين 1: 3) واعتناء (1 بطرس 5: 7) بل خلقٍ أيضاً (مزمور 104: 30؛ إشعياء 45: 7). وما تتضمنه هذه التعبيرات هو أن الله بعد خلقه للعالم لم يتركه وشأنه، ناظراً إليه من بعيد. فالله الحي لا يُعقل أن يُزاح جانباً بعد خروج الخليقة من بين يده. فالكلمة "عناية" تعني أن الله يوفر للعالم كل ما يحتاج إليه.[40] وليس هذا عملاً يقوم به عقل الله وحسب، بل هو فعل إرادةٍ منه وتنفيذ لمشورته. إنه عملٌ به يصون وجود العالم لحظةً فلحظةً.

وعليه، فإن الصيانة، التي تُعتبر عادةً أول نشاطٍ في العناية، ليست مناظرة سلبية. وليس بيت القصيد أنه يدع العالم يوجَد بل أنه يجعله يوجَد. هذه هي الصيانة بالمعنى الصحيح للكلمة. وما أحسن ما تفعله خُلاصة العقيدة المعروفة بخلاصة هايدلْبرج إذ تصف هذه العناية بأنها قدرة الله القادرة على كل شيء والموجودة في كل مكان والتي بها، كما بيده، ما زال يحمل السماء والأرض والخلائق كلها. فالقوة الإلهية الكليةُ القدرة إنما تنطلق من الله لتُبقي العالم موجوداً بالتمام مثلما أوجدته في البدء. وبغير الحصول على هذه القوة لا يمكن لأي مخلوقٍ أن يوجد للحظةٍ واحدة. فما إن يسحب الله يده ويحجب قوته حتى يغور المخلوق مرة أخرى في العدم. إذ لا شيء يبلغ الكينونة ويبقى فيها ما لم يُرسل الله باستمرار كلمته وروحه (مز 104: 30، 107: 25)، وما لم يتكلم الله بذلك ويأمر به ويريده.

وقوة الله هذه لا تأتي من بعيد بل من قريب، لكونها قوة كلية الحضور. فالله حاضرٌ بكل سجاياه الفائقة وبكامل كينونته في العالم كله وفي كلِّ خلائقه. إذ به نحيا ونتحرك ونوجد (أعمال 17: 28)، وهو ليس ببعيد عن كل واحد منا (أع 17: 27). إنه قريب إلينا وليس متنائياً عنا. ولا أحد يستطيع أن يختبئ في أماكن مستترة كي لا يراه الرب. فهو يملأ السماوات والأرض (إرميا 23: 23 و 24). ومن يستطيع أن يهرب من روحه تعالى أو من يفر من حضرته؟ فهو في السماء، وفي أقاصي البحر وفي أعماق الظلمة (مز 139: 7 وما يلي). وقدرته على العناية والصيانة تمتد إلى جميع خلائقه: إلى زنابق الحقل (متى 6: 28)، وطيور السماء (مت 6: 26)، بل إلى شعر الرأس (مت 10: 30). فكل مخلوق يوجد وفقاً لطبيعته - كما يوجَد وما دام يوجَد - بقدرة الله. وكما أن ذلك منه، فهو أيضاً به (رومية 11: 36). والابن الذي به عمل الله العالمين يستمرُّ منذئذٍ حاملاً كل الأشياء بكلمة قدرته (عبرانيين 1: 2 و 3). فكل شيء يقوم فيه هو الكائن قبلَ كل شيء (كو 1: 17)، وهي مخلوقةٌ ومتجددة بروحه (مزمور 104: 30).

*******************************

وبسببٍ من هذه العلاقة الوثيقة بين الخلق والعناية، تُدعى الأخيرة أحياناً خلقاً دائماً أو تدريجياً. هذه التسمية يمكن أن تؤخذ بمعنىً جيد، ولكن ينبغي مع ذلك أن يُجلى عنها أيُّ سوء فهم قد يعتريها. ذلك أن الجدية التي بها نُصِر على تعزيز العلاقة بين الخلق والعناية ينبغي أن تولي أيضاً لتعزيز التمييز بينهما. فإذا كان تجاهُل الأمر الأول يورطنا في التأليه الطبيعي (اعتقاد وجود الله دون الإفادة من الإعلان الإلهي)، فإن تجاهل الثاني - أي التمييز بينهما - من شأنه أن يورطنا في وحدة الوجود. وبهذه الأخيرة نعني ذلك المذهب الذي بموجبه يُزال الفارق النوعي بين الله والعالم ويُعتبر الاثنان واحداً، أ، في أفضل الحالات وجهين للكائن الواحد نفسه. إذ ذاك يُعتبر أن الله هو جوهر العالم، والعالم تجلٍّ لله. فإذا العلاقة بينهما كالعلاقة بين البحر وأمواجه، أو الحقيقة وأشكالها، أو الجانب المرئي من الكون الواحد والجانب غير المرئي منه.

إن كلمة الله المقدسة تتحامي هذه الضلالة بكل حرص تحاميها لضلالة التأليه الطبيعي. وذلك واضح من حقيقة كون الله يُقدم ليس فقط مُبدئاً عمل الخلق بل منجزاً له ومستريحاً منه (تكوين 2: 2؛ خروج 20: 11؛ 31: 17). فعند الخلق أُنجز شيءٌ وكُمِّل. وصحيحٌ أن استراحة الله - كما سبقت الإشارة - ليست انقطاعاً عن كل عمل، لأن العناية أيضاً عمل (يوحنا 5: 17)، ولكنها انقطاعٌ عن العمل المحدَّد الذي تم عند الخلْق. فإذا فكرنا في الخلق والعناية باعتبارهما الواحد إلى جنب الآخر من حيث العلاقة بالعمل والاستراحة، فعندئذٍ لا يوجد مجالٌ للشك في أنهما متميزان أحدهما عن الآخر، مهما كان الارتباط بينهما وثيقاً. فالخلق يتضمن إيجاد شيء من العدم، والعناية هي جعْل ذلك الشيء يقوم في وجوده المُعطي له. لذا لا يجعل الخلقُ العالمَ مستقلاً، لأن وجود مخلوق مستقل هو أمرٌ متناقضٌ حتى لفظياً، بل يُضفي على العالم جوهراً يجب أن يُميَّز عن جوهر الله. فليس فقط في الاسم والصورة ينبغي التمييز بين الله والعالم، بل أيضاً في الجوهر أو الكينونة. وهما يختلفان اختلاف الزمن عن الأبد، والمتناهي عن اللامتناهي، والخالق عن المخلوق.

وإنه لأمرٌ مهمٌّ جداً في حد ذاته أن نؤكد هذا الفرق في الجوهر بين الله والعالم. فكلُّ من يُنكر هذا الفرق أو يقلل من شأنه يزيف الدين ويهبط بالله إلى مستوى المخلوق، ويصير من حيث المبدأ مُذنباً بالذنب الذي ينسبه بولس إلى الوثنيين حيث يقول إنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه ولا شكروه (رومية 1: 21). غير أن هنالك بعد اعتباراً آخر يجعل التمسك بهذا التمييز ضرورياً.

فلو كان الله والعالم شيئاً واحداً، ولو كان لا يُميَّز عن البشرية بطريقة جوهرية، لكان كلُّ فكرٍ وكلُّ فعل من البشر ينبغي أن يُنسب مباشرةً إلى مسؤولية الله عنه. حتى إن الخطية أيضاً تكون من مسؤوليته، وبالاختصار، لا يعود ثمة ما يسمى خطية. فالآن صحيحٌ، من جهة، أن كلمة الله المقدسة تنص بكل قوة على أن الإنسان بأفكاره وأفعاله، وأيضاً بخطاياه، خاضع لحكم الله. فما كان الإنسان يوماً مستقلاً عن الله. والرب ينظر من السماء ويرى جميع بني البشر (مزمور 33: 13)، وهو المصوِّر قلوب البشر جميعاً والمنتبه إلى كل أعمالهم (مز 33: 15). وهو يحدد أماكن سكنهم (تثنية 32: 8، أعمال 17: 26)، ويَزِن جميع سُبل الناس (أمثال 5: 21، إرميا 10: 23). هو يفعل ما يشاء في جند السماء وبين ساكني الأرض (دانيال 4: 35)، ونحن بين يديه كطين الخزاف وكالمنشار بيد مستعمله.[41] وإذ يصير الإنسان خاطئاً، فهو لا يتخلص بذلك من الله كلياً؛ بل كل ما في الأمر أن اعتماده على الله يتخذ إذ ذاك صفةً خاصةً أخرى، إذ يفقد هذا الاعتماد طبيعته العاقلة والأدبية ويغدو خضوعَ المخلوق للخالق فحسب. فالإنسان الذي يصير عبداً للخطية ينحطُّ بنفسه ويصير مجرد آلة في يده تعالى. ولذلك كان ممكناً أن تقول كلمة الله إن الله يُقسِّي قلب الإنسان،[42] ويضع روح كذبٍ في أفواه الأنبياء، (1 ملوك 22: 23)، وبواسطة الشيطان يدفع داود إلى إحصاء الشعب (2 صموئيل 24: 1؛ 1 أخبار الأيام 21: 1)، ويقول لشمعي بن جيرا أن يسب داود (2 صم 16: 10)، ويُسلم الناس إلى نجاسة خطاياهم (رو 1: 24)، ويرسل إلى الناس عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب (2 تسالونيكي 2: 11)، ويضع المسيح لسقوط كثيرين (لوقا 2: 34).

إلا أن الكتاب المقدس أيضاً، بصرف النظر عن حقيقة كون العناية الإلهية مشرفةً حتى على الخطية، يؤكد من جهة أخرى بكل تشديد وثبات أن سبب الخطية ليس في الله بل في البشر، وبالتالي يجب أن تُقيد لا في حساب الله بل في حساب الإنسان. فالرب بارٌ وقدوس ولا جورَ فيه البتة (تثنية 32: 4، أيوب 34: 10). وهو نورٌ ولا ظلمةَ فيه البتة (1 يوحنا 1: 5)، ولا يجرب أحداً (يعقوب 1: 13)، وهو النبع الفياض لكل ما هو صالح ونقي (مزمور 36: 10، يعقوب 1: 17). إنه ينهي عن الخطية في ناموسه (خروج 20) وفي ضمير كل إنسان (رومية 2: 14 و 15)، ولا يُسَرُّ بالإثم (مزمور 5: 5)، بل يبغضه ويعلن عليه غضبه الشديد (رومية 1: 18)، ويتهدده بالعقاب الزمني والدينونة الأبدية (رو 2: 8).

هذان المبدآن الظاهران في الكتاب المقدس، واللذان بموجبهما تقع الخطية من الأول إلى الآخر تحت سيطرة الله ومع ذلك تُقيَّد في حساب الإنسان، لا يمكن التوفيق بينهما إلا إذا كان الله والعالم غير مستقلٍّ أحدهما عن الآخر من جهة، ومتميزاً أحدهما عن الآخر جوهرياً من جهة ثانية. ويتولى علم اللاهوت ذلك الأمر عينَه عندما تتحدث بخصوص العناية عن التعاون كما تتحدث عن الصيانة. ويقصد علم اللاهوت بلفظة التعاون أن ينصف حقيقة كون الله هو العلة الأولى لكل ما يحدث، ولكن للخلائق أيضاً - تحت هيمنته ومن خلاله - دورهم باعتبارهم عللاً ثانوية تتعاون مع العلة الأولى. ولنا أن نتكلم عن مثل هذه العِلَل الثانوية فيما خص حتى المخلوقات العديمة الحياة. فمع أنه صحيح أن الله يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين (متى 5: 45)، فإنه يستخدم فعلاً الشمس والسحاب في هذه الأحوال. غير أن التمييز المشار إليه هنا هو ذو قوة أكبر جداً بالنسبة إلى المخلوقات العاقلة. فهؤلاء نالوا من يد الله عقلاً وإرادة، وعليهم أن يستخدموهما لإرشاد نفوسهم والسيطرة عليها. حقاً إن كل موهبة وكل قدرة عند هذه المخلوقات العاقلة، فضلاً عن كل حياةٍ ووجود، إنما هي كلُّها مستمدة من لدن الله، وأن الموهبة والقوة تبقيان خاضعتين لعناية الله، بغض النظر عن كيفية استخدامهما. إلا أنه من الواجب مع ذلك أن يتم التمييز بين العلة الأولى والعلل الثانوية، أي بين الله والبشر. فكما أن الله، فيما خصَّ فعل الخير هو الذي بحسب مسرته الصالحة يعمل فينا كي نريد نحن ونعمل، غير أن الإنسان نفسه أيضاً يُريد ويعمل، فكذلك هي الحال أيضاً - بل إلى درجةٍ أكبر - فيما خص فعل الشر. ذلك أن الله يمنح الحياة والطاقة هنا أيضاً، إلا أن الإنسان رغم ذلك، ولا أحد سواه، هو مَن يفعل الخطأ ويُذنب به. وبينما لا نستطيع أن نحل بيُسرٍ الألغاز التي تثيرها لنا مسألة عناية الله في الحياة، فإنه في الاعتراف بأن الله والعالم لا يمكن فصلهما كلياً البتة ولكن يجب التمييز بينهما في الوقت نفسه، وما يرشدنا إلى الاتجاه الذي يجب أن نسير فيه سعياً وراء الحل، وما يحمينا من الانحراف يمنة أو يسرةً في سعينا.

*******************************

إذا فهمنا التعليم المختص بالخلق والعناية مثل هذا الفهم، نجده مفعماً بالتعزية والتشجيع. ففي الحياة كثيرٌ مما هو ثقيل الوطأة ويسلبنا القوة للحياة والتصرف. وهنالك المعوقات والمحبطات التي نصادفها على درب الحياة. وهناك أيضاً الكوارث الرهيبة التي تُزهق من جرائها مئات الأرواح وألوفها في معاناةٍ لا توصف. ثم أن الحياة في مجراها الطبيعي أيضاً قد تُثير في بعض الأحيان شكوكاً في الذهن من جهة عناية الله. أفليس الإلفاز نصيب البشر أجمعين؟ فها دودة اللااستقرار والخوف تنخر كل وجود أو ليس صحيحاً أن لله مخاصمةً من خلائقه وأننا نهلك في غضبه ونرتاع بسخطه؟ لا، ليس غير المؤمنين والعابثون وحدهم، بل أولاد الله أيضاً - وهؤلاء على أعمق ما يكون - هم الذين تستبد بهم قبضة الحقيقة بجديتها الرهيبة. حتى إنه في بعض الأحيان يشق السؤال التالي طريقه عنوةً من القلب إلى الشفتين: أيُعقل أن الله خلق الإنسان على الأرض للاشيء؟

غير أن المسيحي المكتئب ما يلبث أن يرفع رأسه عالياً موقناً بحكمة الله في خلقه وعنايته. فليس أحد الأبالسة، بل الله القدير، أبا ربنا يسوع المسيح، هو مَن خلق العالم. والعالم بمجمله وأجزائه هو من صُنع يديه فقط ليس غير. وبعدما خلقه لم يتخل عنه، بل هو يعتني به بقوته القادرة على كل شيء والكلية الحضور. فهو يهيمن على كل شيء ويتحكم في كل الأشياء بطريقةٍ تجعلها تتعاون وتنصبُّ على تحقيق القصد الذي رسمه تعالى.

كذلك تتضمن عناية الله، فضلاً عن الصيانة والتعاون، ناحيةً ثالثة أيضاً هي الحكم. فهو ملك الملوك ورب الأرباب (1 تيموثاوس 6: 15، رؤيا 19: 6)، ومُلكه يدوم إلى الأبد (1 تي 1: 17). فلا الصدفة ولا الضرورة ولا الاعتباط وال القوة الغاشمة، ولا الهوى الجامح ولا القدر القاسي، هو ما يسيطر على العالم وتاريخه ويتحكم في الحياة وفي مصائر البشر. إذ وراء جميع العِلل الثانوية، تكمن وتعمل مشيئةٌ مقتدرة تعود لإلهٍ قدير وأبٍ أمين.

وإنه لأمرُ ذاتيُّ الوضوح أن أحداً لا يستطيع حقاً أن يؤمن بهذا في قلبه ويعترف به بفمه غير الإنسان الذي يعرف أنه ولدٌ من أولاد الله. ذلك أن الإيمان بالعناية يرتبط ارتباطاً أوثق بالإيمان بالفداء.

وبالحقيقة أن عناية الله تنتمي إلى تلك الحقائق التي يمكن التحقق منها، إلى حد ما، من الإعلان العام في الطبيعة والتاريخ. وغالباً ما عبّر عنها بعض الوثنيين ووصفوها على نحوٍ جميل. فقد قال أحدهم إن الآلهة تسمع وترى كل شيء وإنها كلية الحضور وتعتني بكل الأشياء. وقال واحدٌ آخر منهم إن نظام الكون وترتيبه يتولى أمرهما الله إكراماً لذاته. ولكن أحداً منهم لم يعرف اعتراف المسيحي المؤمن بأن هذا الإله الذي يتولى أمر كل شيء ويهيمن عليه هو إلهه وأبوه لأجل خاطر ابنه يسوع المسيح. وبالتالي، تزعزع الإيمان بعناية الله، في العالم الوثني، بفعل الشك، وغالباً ما ثبت أنه غير كافٍ ولا وافٍ في مواجهة صروف الحياة. وقد كان القرن الثامن عشر قرن إفراط في التفاؤل، حيث ساد الاعتقاد أن الله خلق أفضل العوالم. ولكن لما دمر زلزالٌ رهيب معظم مدينة لشبونة سنة 1755، أخذ كثيرون يجدفون على عناية الله وينكرون وجودها. غير أن المسيحي الذي اختبر محبة الله في غفران خطاياه وفداء نفسه، له من الثقة ما يجعله يفتخر مع الرسول بولس بأنه لا شدة ولا ضيق ولا اضطهاد ولا جوع، ولا عري ولا خطر ولا سيف، تفصله عن تلك المحبة (رومية 8: 35). فإن كان الله معنا، فمن علينا؟ (رو 8: 31). فمع أنه لا يُزهر التين، ولا يكون حمْل في الكروم، يكذب عمل الزيتونة، والحقول لا تصنع طعاناً، ينقطع الغنم من الحظيرة، ولا بقر من المذاود، فإني أبتهج بالرب وافرح بإله خلاصي (حبقوق 3: 17، 18).

بمثل هذا الفرح القلبي يدعو المسيحي حتى الأرض إلى حمد الله: الرب قد ملك، فلتبتهج الأرض ولتفرح الجُزُر الكثيرة (مزمور 97: 1).

(29) تك 2: 2، 3، خر 34: 10، أي 34: 19، إش 19: 25، يو 9: 4 وغيرها.

(30) مز 33: 11، أم 19: 21، إش 46: 10، أع 2: 23.

(31) تك 41: 32، مز 2: 7، إش 10: 23، 14: 27.

(32) إر 51: 12، رو 8: 28، 9: 11، أف 1: 11، 3: 11، 2 تي 1: 9.

(33) أع 10: 42، 13: 48، 17: 31، رو 8: 29، 30، أف 1: 5، 11.

(34) إش 49: 8، 53: 10، 60: 10 ، 61: 2، مت 11: 26، أف 1: 5، 9.

(35) راجع أيضاً أف 3: 9؛ كو 1: 16؛ عب 1: 2.

(36) أي 26: 13؛ 33: 4؛ 1 كو 2: 10.

(37) 1 مل 8: 27؛ مز 2: 4؛ 115: 16؛ مت 6: 9 وغيرها.

(38) تك 1: 2؛ خر 20: 11؛ 31: 17.

(39) مز 49: 1 "الدنيا"؛ لو 1: 70؛ أف 1: 21.

(40) تك 22: 8؛ 1 صم 16: 1؛ حز 20: 6؛ عب 11: 40.

(41) إش 29: 16؛ 45: 9؛ إر 18: 4؛ رو 9: 20 – 21.

(42) خر 4: 21 وما يلي؛ تث 2: 30؛ يش 11: 20؛ رو 9: 18.

  • عدد الزيارات: 496