الفصل الرابع: أصل الإنسان وجوهره وغايته
إن خبر خلق السماوات والأرض، في الفصل الأول من سفر التكوين، ينصب على خلق الإنسان. فخلق سائر الخلائق، من سماوات وأرض، وشمس وقمر ونجوم، ونبات وحيوان، يُروي خبره بكلمات قليلة، ولا يؤتى أبداً على ذكر خلق الملائكة. ولكن حين يصل الكتاب إلى خلق الإنسان يتناوله بالتفصيل، فلا يقتصر فقط على ذكر حقيقة الخلق بل يتعدى ذلك إلى وصف كيفيته، ثم يعود إلى الموضوع في الفصل الثاني فيعالجه بإفاضة.
وإيلاء هذا الاهتمام الخاص لأصل الإنسان هو الدليل على كون الإنسان هو الغاية والغرض والرأس والتاج في عمل الخلق كُله. ثم إن لدينا تفاصيل حسية شتى من شأنها أيضاً أن تلقي الضوء على مرتبة الإنسان العليا وقيمته بين الخلائق كلِّها.
فأمامنا، في المقام الأول، مشورة الله الخاصة التي تسبق خلق الإنسان. فعند دعوة باقي الخلائق إلى الوجود، نقرأ فقط أن الله تكلم وبكلمته برزت الأشياء إلى الوجود. ولكن عندما يوشك الله أن يخلق الإنسان يشاور نفسه أولاً ويدعو ذاته لأن يعمل الإنسان على صورته ومثاله. وفي هذا ما يؤول إلى التوكيد أن خلق الإنسان على وجه الخصوص يقوم على أساس القصد الإلهي، على حكمة الله وصلاحه وقدرته على كل شيء. طبعاً لم يبرز شيءٌ إلى الوجود بالصدفة. ولكن مشورة الله وتصميمه ظاهران بصورة جلية جداً في خلق الإنسان أكثر مما هما ظاهران في خلق سائر المخلوقات.
أضف إلى هذا أن التشديد الخاص - في مشورة الله هذه بالذات - ينصب على حقيقة كون الإنسان مخلوقاً على صورة الله ومثاله. ولذلك فهو يدخل في علاقة بالله مختلفة كلياً عن حال سائر المخلوقات. فلا يُقال عن أية خلائق أخرى، حتى ولا الملائكة، إنها قد خُلقت على صورة الله أو إنها تعرض هذه الصورة. قد يكون فيها إلماعات ودلائل على واحدةٍ أو أكثر من صفات الله، ولكن عن الإنسان وحده يقال بتوكيد إنه مخلوق على صورة الله وكشبهه.
ثم إن الكتاب المقدس يشدد أيضاً على حقيقة أن الله خلق على مثاله لا إنساناً واحداً بل الإنسان عموماً. ففي ختام الآية 27 من تكوين1، يُشار إلى الإنسان بصفته ذكراً وأنثى. فليس الرجل وحده، ولا المرأة بالتحديد، بل الاثنان معاً في علاقتهما المتبادلة، هما حاملا صورة الله. وبحسب البركة المنطوق بها عليهما في الآية 28، نجد أنهما حاملان لهذه الصورة هكذا ليس في أنفسهما ولا لأنفسهما وحدهما. فهما هكذا أيضاً في نسلهما ومع نسلهما. إذ إن الجنس البشري، بكليته كما بكل جزءٍ منه، مخلوقٌ عضوياً على صورة الله وكشبهه.
أخيراً، يذكر الكتاب المقدس صراحةً أن خلق الإنسان على صورة الله يجب أن يتم التعبير عنه على وجه الخصوص في تسلطه على جميع الكائنات الحية وفي إخضاع الأرض كلها لله. فلأن الإنسان هو ذرية الله، لذلك هو ملك الأرض. وكون الناس أولاداً لله وورثة للعالم أمران مرتبطان بعضهما ببعض ارتباطاً وثيقاً لا تنفصم عراه، وذلك في الخلْق.
إن خبر خلق الإنسان المذكور في الفصل الأول من سفر التكوين تناوله الفصل الثاني بتوسع وتفصيل (تك 2: 4 ب - 25). أحياناً يُسمى هذا الفصل الثاني من سفر التكوين خطأً رواية الخلق الثانية. لكن هذا خطأ لأن خلق السماوات والأرض هو أمرٌ مفروغ منه، ومشار إليه في الآية (4ب) كتوطئة للكلام عن الطريقة التي بها كوَّن الله الإنسان من تراب الأرض. فالتشديد كلُّه في هذا الفصل الثاني يقع على خلق الإنسان وعلى الطريقة التي تم بها ذلك. والفارق الكبير بين الفصلين الأول والثاني من سفر التكوين يتبين في هذه التفاصيل التي يرويها لنا الثاني فيما يتعلق بتكوين الإنسان.
يروي الفصل الأول خبر خلق السماوات والأرض ويجعل منه مدخلاً إلى خلق الإنسان. فالإنسان في هذا الفصل هو آخر مخلوق يُدعى إلى الوجود بقدرة الله الكلية. وهو يقوم في نهاية سلسلة الخلائق سيداً للطبيعة وملكاً للأرض. ولكنَّ الفصل الثاني، ابتداءً من الآية (4ب)، يبدأ بالإنسان وينطلق منه كنقطة بداءة، ويضعه كمركزٍ للأشياء كلَّها. ثم يروي ما حدث عند خلق الإنسان، وكيف تم ذلك بالنسبة للرجل ثم المرأة، وأي مكانٍ للسكن عُيِّن له، وأية مُهمة وضعت في عهدته، وأي غايةٍ ومصير كانا له. فالفصل الأول يتكلم عن الإنسان بوصفه غاية الخليقة أو هدفها. أما الثاني فيتناول الإنسان بوصفه بداءة التاريخ، بحيث إن مضمون الفصل الأول يمكن تلخيصه تحت عنوان "الخلق" والثاني تحت عنوان "الجنة".
ثمة ثلاثة بنود يُطلعنا عليها هذا الفصل الثاني فيما يتعلق بأصل الإنسان، وهي عبارة عن توسيع لما يتضمنه الفصل الأول.
ففي المقام الأول، نجد وصفاً مفصلاً جداً للمكان الأول الذي سكن فيه الإنسان. فالفصل الأول إنما يُفيد بعباراتٍ عامة أن الإنسان خُلِق على صورة الله وعُيّن سيداً على الأرض كلها، إلا أنه لا يتضمن أي تلميح إلى أي مكان على وجه الكرة الأرضية رأى فيه الإنسان أول مرة نور الحياة ولا أين عاش أولاً. بيد أن الفصل الثاني يُطلعنا على الأمر كله. فعندما عمل الله السماوات والأرض، واستدعى الشمس والقمر والنجوم، والنبات والطير، وحيوان البر والبحر، لم يكن عندئذٍ قد أفرز مكاناً خاصاً ليكون مسكناً للإنسان. من هنا استراح الله قبل خلْقه الإنسان وأعد له جنة أو فردوساً في أرض عدن شرقي فلسطين. وقد رتب الله الجنة بطريقة مخصوصة، فأنبت كلَّ نوعٍ من الشجر في تربتها - كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل. اثنتان من هذه الأشجار مذكورتان بالاسم: شجرة الحياة المغروسة في وسط الجنة، وكذلك شجرة معرفة الخير والشر. وكانت الجنة مرتبة بحيث إن نهراً كان ينبع من مرتفعات عدن اخترقها وتشعب إلى أربعة رؤوس، هي فيشون وجيحون وحدّاقل والفرات.
وقد بُذل عبر العصور مقدارٌ كبير من الجهد والعناء في سبيل تحديد الموضع الذي كانت فيه جنة عدن. وقُدِّمت تصورات شتى حول ذلك النهر الذي اخترق الجنة آتياً من عدن، والأنهر الأربعة التي تفرعت منه، واسم منطقة عدن، والفردوس الذي غُرِس هناك. إلا أن جميع هذه التصورات لم تتعد حيز الحزر والتخمين، ولم يتأيد أيٌّ منها بالبرهان القاطع. ولكنَّ تفسيرين يبدوان أقرب إلى المعقول: الأول يذهب إلى أن عدن كانت في أنحاء أرمينيا شمالاً، والآخر يرى أنها كانت أبعد إلى الجنوب، وبالتحديد في بابل. ومن الصعب أن تقرر أي الرأيين أصوب. فالتفاصيل الواردة في الكتاب المقدس لم تعد تنفع لتحديد مكان الجنة.ولكن عندما نذكر أن الناس الذين تحدروا من آدم وحواء، مع أنهما طُردا من عدن، لبثوا أولاً في تلك المنطقة عموماً (تكوين 4: 16)، وأن فُلك نوحٍ بعد الطوفان استقر على جبل أراراط (تك 8: 4)، وأن البشرية الجديدة بعد الطوفان انتشرت من بابل إلى أنحاء الأرض كلِّها (تك 11: 8 و 9)، عندئذٍ لا نكاد نشك أن مهد البشرية كان في تلك المنطقة التي تحدها أرمينيا في الشمال وشنعار في الجنوب. وفي الزمن الحديث توصل العلماء إلى تأييد ما يعلِّم به الكتاب المقدس في هذا الموضوع، صحيح أن البحث التاريخي فيما مضى قد قام بكل أصناف التخمينات حول موطن البشرية الأصلي، باحثاً عنه في جميع أنحاء الأرض مكاناً بعد مكان، إلا أنه يعود أدراجه شيئاً فشيئاً. فعلم الأعراق البشرية وتاريخ الحضارة وفقه اللغة المقارن، تشير كلُّها إلى آسيا باعتبارها مقراً لمهد البشرية.
والبند الثاني الذي يلفت انتباهنا في (تكوين 2) هو الوصية الاختبارية التي أعطيت للإنسان. وهذا الإنسان الأول يُدعى في النص الأصلي الإنسان (ها آدم) لأنه كان لوحده فترةً ولم يكن معه أحد غيره مثله. ولا يرد اسم آدم أصلاً دون أداة التعريف قبل (تكوين 4: 25)، حيث يصير الاسم شخصياً أول مرة. وهذا يبين بوضوح أن الإنسان الأول الذي كان فترةً هو الكائن البشري الوحيد، كان بداءة الجنس البشري وأصله ورأسه. وبهذه الصفة تلقى مهمة مزدوجة عليه إنجازها: أولاً، أن يتعهد جنة عدن ويحافظ عليها. وثانياً، أن يأكل بحرية من جميع شجر الجنة ما عدا شجرة معرفة الخير والشر.
أما الشق الأول من المهمة فيحدد علاقة الإنسان بالأرض؛ وأما الثاني فعلاقتَه بالسماء. فقد كان على آدم أن يُخضع الأرض ويتسلط عليها، على أن يقوم بذلك بمعنى مزدوج: إذ عليه أن يحرثها ويشقها، وبذلك يستخرج منها كل الكنوز التي خزنها فيها الله لمنفعة الإنسان؛ كما عليه أيضاً أن يسهر عليها ويصونها ويحميها من كل شر قد يهددها - وباختصار، عليه أن يحرسها من عبودية الفساد التي تئن تحت نيرها الخليقةُ كلُّها الآن.
ولكن لا يستطيع الإنسان تلبية دعوته المتعلقة بالأرض إلا إذا لم يكسر حلقة الاتصال التي تربطه بالسماء، وإلا إذا ظلَّ مؤمناً بكلام الله وطائعاً لوصيته. فالمهمة المزدوجة هي في جوهرها مهمةٌ واحدةٌ إذاً. إذ على آدم أن يسيطر على الأرض، لا بالكسل والخمول، بل بعمل عقله وقلبه ويده.
إنما لكي يُحكم، عليه أن يخدم: عليه أن يخدم الله الذي هو خالقه والمشترع له. فالعمل والراحة، والحُكم والخدمة، والدعوة الأرضية والسماوية، والمدنية والدين، والحضارة والتديُّن، هذه الثنائيات تسير معاً منذ البداية. فكلُّ ثنائي ينتمي أحده للآخر، وكلاهما يحدِّدان في دعوة واحدة غاية الإنسان العظيمة والمقدسة والمجيدة. وكلُّ تحضير، أي كل عملٍ يتولاه الإنسان كي يُخضع الأرض، سواءٌ أكان الزراعة وتربية المواشي، أم التجارة والصناعة أم العلم وما شابه، إنما هو تلبيةٌ لدعوةٍ إلهية واحدة. ولكن إذا أراد الإنسان أن يكون هكذا ويبقى كذلك، فعليه أن يستمر في الاعتماد على كلمة الله والطاعة لها. إذ ينبغي أن يكون الدين هو المبدأ الذي يُحيي الحياة بكاملها ويقدسها بجعلها خدمةً لله.
بندٌ ثالث يطالعنا به الفصل الثاني من سفر التكوين هو إعطاء المرأة للرجل وتأسيس الزواج. فقد نال آدم الكثير، إذ مع كونه صُور من تراب الأرض، كان رغم ذلك حاملاً لصورة الله. وقد وُضع في جنةٍ مفعمة بالجمال والبهجة ومجهزة كلياً بكل ما هو شهيٌّ للنظر وجيد للأكل. وتلقي آدم المهمة المفرحة القاضية بالاعتناء بالجنة وإخضاع الأرض. وكان عليه في ذلك أن يسير وفقاً لوصية الله بأن يأكل ما شاء من كل شجر الجنة ما عدا شجرة معرفة الخير والشر. ولكن مهما كانت الخطورة الممتازة التي نالها ذلك الإنسان الأول بحيث كان طبيعياً أن يشكر الله على كل ما أنعم به عليه، فإنه لم يكن راضياً ولا مكتملاً. وسببُ ذلك مُبين له من قبل الله نفسه. إنه يكمن في الوحدة. فليس جيداً للإنسان أن يكون وحده. فليس في تكوينه أن يبقى وحيداً، إذ لم يُخلق هكذا، وطبيعته ميالةٌ إلى الاجتماع - إنه يحتاج إلى رفيق. فيجب أن يُتاح له التعبير عن دخيلة نفسه، والكشف عن طويته، وإعطاء ذاته للغير. يجب أن يُتاح له سَكب قلبه في صُوَرٍ تعبر عن وجدانه. يجب أن يشارك في وعيه كائناً يقدر أن يفهمه ويشعر معه ويحيا بمعيّته. فماذا في الوحدة غير البؤس والهجران والذبول والاضمحلال؟ ويا لها من وحشةٍ رهيبة أن يكون الإنسان وحده!
والله الذي خلق الإنسان هكذا وبه هذه الحاجة إلى التعبير والتواصل، يستطيع وحده تعالى أن يسد هذه الحاجة بما في قدرته من عظمة ونعمة. فوحده يستطيع أن يخلق له معيناً نظيره يسير معه جنباً إلى جنب، ويكون مرتبطاً به، ويناسبه تماماً كقسيمٍ يكمله. ويفيدنا الكتاب في (تكوين 2: 19 - 21) إن الله صنع كل حيوانات البرية وكل طيور السماء وأحضرها إلى آدم ليرى أنْ ليس بين كل تلك المخلوقات كائنٌ واحد يستطيع أن يكون رفيقاً له ومعيناً. وليس غرض هذه الآيات أن تُشير إلى التعاقب الزمني الذي فيه خُلق الحيوان والإنسان، بل بالأحرى أن تشير إلى التراتب المادي، أي إلى رتبةِ كلٍّ، إلى الدرجتين المتفاوتتين اللتين يقف عليهما كلُّ واحدٍ من نوعي الخلائق هذين في علاقته بالآخر. هذه العلاقة ذات الاختلاف في الرتبة، مبينة أولاً في حقيقة كون آدم هو الذي سمى الحيوانات.
إذاً، فهم آدم حقيقة المخلوقات كلها ونفذ إلى صلب طبيعتها، بحيث استطاع أن يصنفها ويقسمها ويعين لكلٍّ بين مُجمل الأشياء المكانة التي من حقه. وعليه، فإذا كان لم يجد بين هذه المخلوقات كلِّها مخلوقاً واحداً له علاقةٌ به، فلم يكن هذا نتيجة الجهل ولا الإعتداد الفارغ بالذات أو الكبرياء. بل إن هذا نشأ بالأحرى من حقيقة وجود فرقٍ في النوع بينه وبين سائر المخلوقات الأخرى، فرق لا في الدرجة وحسب بل في الجوهر. حقاً أن بين الحيوان والإنسان كثير من أوجه التشابه: فكلاهما كائن عضوي، ولكليهما حاجاتٌ شتى وشهوة للطعام والشراب، وكلاهما يتناسل؛ ولكليهما الحواس الخمس، من شمٍّ وذوق ولمس ونظر وسمع؛ وكلاهما يشتركان في النشاطات الدنيا المتعلقة بالتمييز والوعي والإدراك. غير أن الإنسان، مع هذا كله، مختلفٌ عن الحيوان. فله عقلٌ وفهم وإرادة، وتالياً لهذه عنده دين وأخلاق ولغة وقانون وعلم وفن. وبينما هو أيضاً كُوِّن من تراب الأرض فعلاً، إلا أنه تلقى نسمة الحياة من العلا. فهو كائن عضوي، لكنه أيضاً كائنٌ روحي وعقلاني وأدبي. لهذا السبب لم يجد آدم لنفسه معيناً نظيره. وقد سمى الحيوانات كلها، لكن أحداً منها لم يستحق الاسم الملوكي الرفيع، أي الإنسان.
وعندما لم يجد الإنسان ضالته المنشودة، عندئذٍ أعطى الله الإنسان ما لم يكن الأخير قادراً على توفيره، وذلك بمعزلٍ عن ذكاء الإنسان وإرادته كلياً، ودون أي جهد ساهم الإنسان به. وأحسن الأشياء تأتينا عطايا، فتقع في أحضاننا دون عناءٍ منا ولا ثمن. ونحن لا نكسبها ولا نُحرزها، بل ننالها هباتٍ مجانيةً. وأثمن هدية وأغلاها يُمكن أن ينالها الرجل على الأرض إنما هي المرأة. وقد أُعطى هذه الهدية في سُبات عميق، إذ كان غير واعٍ، ودون أي جهد من إرادته أو أي تعبٍ من يده. صحيح أنه قد سبق هذه العطية البحثُ والتفتيش والفحص والشعور بالحاجة، شأنُها في ذلك شأن الصلاة، حيث يمن الله بعد سؤالنا بالهبة في سلطانه المطلق، وحدَه دون مساعدةٍ منا. وقد كان ذلك كما لو أن الله أهدى بيده المرأة للرجل.
ومن ثم كان أول شعور سيطر على آدم، لما أفاق فرأى المرأة أمامه، هو الدهشة والعرفان بالجميل. فهو لم يشعر أنه غريب عنها، بل عرف فيها حالاً شريكة له في الطبيعة عينها. وقد كانت معرفته لها إدراكاً من قِبله أنه وَجَدَ ما افتقده واحتاج إليه ولكنْ لم يكن قادراً على توفيره شخصياً. وعبر آدم عن دهشته بأول نشيد زفاف تردد صداه في الأرض: "هذه الآن عظمٌ من عظامي، ولحم من لحمي: هذه تدعى امرأةً لأنها من امرئٍ أُخذت!" وهكذا يبقى آدم أصل الجنس البشري ورأسه. فالمرأة لم تُخلق فقط إلى جانبه بل منه (1 كورنثوس 11: 8).فمثلما أخذت المادة التي صُنع منها جسد آدم من الأرض، كذلك كان جنب آدم أساس الحياة لحواء. ولكن مثلما صار الإنسان الأول المأخوذ من تراب الأرض كائناً حياً بنسمة الحياة التي جاءته من علٍ، كذلك صارت المرأة الأولى المأخوذة من جنب آدم كائناً حياً بقدرة الله الكلية الخلاقة. فهي من آدم، إلا أنها مع ذلك إنسانٌ آخر غير آدم. إنها مرتبطة به، غير أنها مع ذلك مختلفة عنه. فهي تنتمي إلى الجنس نفسه، لكنها مع ذلك تشغل داخل الجنس مكانها الخاص الفريد. وجودها تابع لوجوده، ومع ذلك فهي حرة. وهي بعد آدم ومن آدم، إلا أنها تدين بوجودها لله وحده. وهكذا تؤدي المرأة دور المعين للرجل كي يتمكن من القيام بدعوته المختصة بإخضاع الأرض. وهي معين له، لا كسيدة رفيعة ولا كعبدة وضيعة، بل بوصفها كائناً فرداً مستقلاً وحراً تلقت وجودها لا من الإنسان بل من الله، وهي مسؤولة أمام الله، وقد وهِبت للإنسان كعطية مجانية غير مكتسبة.
وهكذا يطلعنا الكتاب المقدس على أصل الإنسان، ذكراً وأنثى. وهذا هو فكر الكتاب بخصوص تأسيس الزواج ونشأة الجنس البشري. ولكن تفسيراً آخر مختلفاً جداً يُضفي اليوم على هذه الأمور، وذلك باسم العلم وبسلطة العلم المزعومة. ولما كان هذا التفسير الجديد يزداد انتشاراً حتى بين العامة، وبما أنه بالغ الأهمية بالنسبة إلى كونه نظرةً في الحياة والعالم، فمن الواجب أن نركز اهتمامنا ناحيته بعض الوقت ونحاول تقويم الأساس الذي بُني عليه.
إذا رفض المرء ما هو واردٌ في الكتاب المقدس عن أصل الجنس البشري، بات من الضروري طبعاً أن يُقدِّم رواية أخرى للموضوع. فالإنسان موجود ولا أحد يستطيع الفرار من طرح السؤال الذي يستفسر عن مصدر الإنسان. وإذا كان الإنسان غير مدين بوجوده لقدرة الله الكلية الخلاقة، يكون مديناً له لشيءٍ آخر. وإذ ذاك لا يبقى من حلٍّ سوى القول بأن الإنسان طور نفسه تدريجاً من الكائنات الدنيا السابقة له حتى أوصل نفسه إلى ما هو عليه الآن من مركزٍ سامٍ في سلَّم الكائنات. وعليه، فالكلمة السحرية التي ينبغي أن تحل المشكلات المتعلقة بأصل المخلوقات وجوهرها حلاً ما، إنما هي التطور. ولما كان التعليم بالخلق مرفوضاً، فعلى القائل بالتطور أن يقبل بطبيعة الحال أن شيئاً ما أو غيره قد تواجد في البدء، ما دام لا شيءٌ يُمكن أن يخرج من اللاشيء. على أن التطوري، نظراً لهذه الحقيقة، ينطلق من الافتراض الكيفي والمستحيل كلياً والقائل بأن المادة والطاقة والحركة موجودةٌ أزلاً. وإلى هذا يُضيف أنه قبل بروز نظامنا الشمسي إلى الوجود كان العالم مؤلفاً فقط من كتلة غازية شواشية. تلك كانت نقطة الانطلاق للتطور الذي نتج منه تدريجياً عالمنُا الحالي وكلُّ خلائقه. فبالتطور تواجد النظام الشمسي والأرضي. وبالتطور تواجدت طبقات الأرض وما فيها من خامات وبالتطور برز الحيُّ إلى الوجود من عديم الحياة عبر سلسلة من السنين لا متناهية. وبالتطور وُجد النبات والحيوان والإنسان. وبالتطور أيضاً، في دائرة البشر، برز إلى الوجود التمايُز الجنسي والزواج، والعائلة والمجتمع والدولة، واللغة والدين والأخلاق، والقانون والعلم والفن، وسائر قِيَم الحضارة، وذلك وفقاً لنظامٍ تدريجي. ولو استطاع المرء أن ينطلق من هذا الافتراض الواحد القائل بأن المادة والطاقة والحركة موجودةٌ أزلاً، لكان في وسعه، على ما يُفترض، ألا يحتاج فيما بعد إلى التسليم بوجود الله. وعندئذٍ يفسِّر العالم نفسه بنفسه. ومن ثم يُعتقد أن العلم يجعل وجود الله أمراً لا ضرورة له.
وتمضي نظرية التطور لتؤلِّف فكرتها عن أصل الإنسان على الوجه التالي: لما بردت الأرض فصارت ملائمة لولادة المخلوقات الحية، نشأت الحياة في الظروف المتواجدة آنذاك، على الأرجح بطريقةٍ تكونت بها أولاً مركبات زلالية عديمة الحياة، وإذ أثّرت في هذه المركبات عوامل شتى واكتسبت عدة خصائص، تطورت منها- بطريقة التخالط والتمازُج بعضها مع بعض - جرثومةُ الحياة الأولى المعرفة بالبروتوبلازما. ومن ثم ابتدأ التطور المفضي إلى نشوء الأحياء. وهذه العملية قد تكون استغرقت مئات الملايين من السنين.
هذه البروتوبلازما شكلت النواة الزلالية في الخلية التي تُعتبر الآن الوحدة الأساسية في تكوين الأحياء، من نبات وحيوان وإنسان. وهكذا كانت الحيوانات الوحيدة الخلية (البرزويات) هي أول الكائنات الحية. وهذه البرزويات، تبعاً لكونها جامدة أو متحركة، تطورت مع الزمن إلى نباتاتٍ أو حيوانات. وفي عالم الحيوان تأتي النُقاعيات (الحُيَيْوينات المعروفة باسم Infusoria) في أدنى السلَّم، ولكن من هذه النُقاعيات نشأ بالتدريج - عن طريق مراحل شتى توسُّطية وانتقالية - أنواع الحيوان العُليا المعروفة بالفقاريات واللافقاريات والرخويات والشعاعيات. وعلى ذلك تشعبت الحيوانات الفقارية إلى أربع فئات: الأسماك والبرمائيات والطيور والثدييات. وهذه المجموعة بدورها انقسمت إلى ثلاث طوائف: ذوات منقار البطة (البلاتبوس)، الجرابيات (كالكنغر)، المشيميات. وهذه الأخيرة تنقسم أيضاً إلى القوارض وذوات الحافر والحيوانات المفترسة والرئيسيات. أما الرئيسيات فتُصنف أيضاً ما بين نصف قرود وقرود وأشباه الإنسان.
وعند القائلين بالتطور أننا حينما نقارن التركيب العضوي الطبيعي في الإنسان وفي هذه الحيوانات كُلَّها، يتبين لنا أن الإنسان أقربُ في النوع، وبحسب نظامِ مماثلةٍ متزايد، إلى الفقاريات والحيوانات اللبونة (أو الثدييات)، والمشيميات، وأنه يماثل أكثر الكل أشباه الإنسان التي يمثلها الأورانج والجِبُّون في آسيا، والغوريلا والشمبانزي في أفريقيا. ولذلك يذهب التطوريون إلى أن هذه الطبقة الأخيرة يجب أن تُعتبر أدنى أقرباء الإنسان. حقاً أنها تختلف عن الإنسان من حيث الحجم والشكل وما إليهما، إلا أنها كلَّها مماثلة له في التركيب العضوي الأساسي. ورغم ذلك فإن الإنسان لم يتحدر من أي واحدٍ من هذه القرَدة الموجودة الآن، بل من قردٍ شبيه بالإنسان انقرض منذ أمدٍ بعيد. وبحسب نظرية التطور هذه فإن القرَدة والبشر أقرباءُ دمٍ ينتمون جميعاً إلى السلالة عينها، وإن كان ينبغي أن يُعدُّوا أبناءَ إخوةٍ وبناتٍ أكثر منهم إخوةً وأخوات.
تلك هي فكرة نظرية التطور. وهكذا، بحسبها، سارت الأمور في مجراها. ولكن القائلين بها شعروا أنهم مدعوون ليقولوا شيئاً عن الطريقة التي حدث بها كلُّ ما حدث. فكان في غاية السهولة أن يقولوا إن النباتات والحيوانات والبشر كونت جميعاً سلسلة من الكائنات متوالية وغير منقطعة الحلقات. ولكنهم شعروا أن عليهم أن يفعلوا شيئاً من أجل البرهنة على أن مثل هذا التطور كان ممكناً بالفعل، وأن قرداً قد يتطور مثلاً بالتدريج ليصير إنساناً. وقد حاول شارلز داروين تقديم مثل هذا البرهان في سنة 1895. فقد لاحظ أن بعض النباتات والحيوانات - كالورود والحمائم مثلا - يُمكن أن تُحمل على إظهار بعض التبدلات الهامة، وذلك بواسطة الانتخاب الطبيعي المُعان اصطناعياً. وهكذا عثر على الفكرة القائلة بأن انتخاباً طبيعياً كهذا ربما كان قد نشط أيضاً في الطبيعة لكنه لم يكن اصطفاءً أو انتخاباً يسيطر عليه تدخُّل الإنسان بل كان لا واعياً واعتباطياً وطبيعياً. وبهذه الفكرة هبط عليه نور، فإذ قبل فرضية الاصطفاء الطبيعي هذه، اعتبر نفسه في موقعٍ يسمح له بأن يفسر كيف تجتاز النباتات والحيوانات عدة تغييرات بالتدريج، وكيف يتأتى لها أن تتغلَّب على النقائض التنظيمية فيها وتُحرِز الحسنات، وذلك بطريقة تمكنها دائماً من تجهيز نفسها على نحو أفضل لتفوز في منافستها لغيرها في صراعها لأجل البقاء. فإن داروين رأى أن الحياة، في كل زمان ومكان، وفي الخليقة كلِّها إنما هي مجرد صراعٍ لأجل البقاء. وبينما قد يتبين لنا من المراقبة السطحية أن في الطبيعة سلاماً، فما ذلك إلا مظهرٌ خادع. إذ إن الطبيعة تشهد بالأحرى ذلك الصراع الدائم في سبيل الحياة وضرورياتها، ما دامت الأرض أصغر وأحقر من أن تمد جميع الكائنات المولودة فيها بما يكفيها من طعام. ومن هنا تهلك ملايين الكائنات العضوية الحية بسبب الحاجة ولا يقوى على البقاء إلا الأقوى. وهذه الكائنات الأقوى، والمتفوقة على سواها بفضل صفةٍ ما اكتسبتها، تنقل بالتدريج خصائصها الحسنة المكتسبة إلى ذريتها.
لذا تشهد الطبيعة تقدُّماً وتطوراً متراقياً. وبحسب ما ذهب إليه داروين، فإن الانتخاب (الاصطفاء) الطبيعي، والصراع لأجل البقاء، وانتقال الخصائص القديمة والمكتسبة حديثاً، تفسِّر كلُّها ظهور فصائل جديدة كما تفسِّر الانتقال من وضع الحيوان إلى وضع الإنسان.
عند تقييم نظرية التطور هذه، من الضروري قبل كل شيء أن نميز بكل وضوح بين الوقائع التي لها مساس بها والنظرة الفلسفية التي تنظر بها إلى تلك الوقائع. وخلاصة الوقائع أن الإنسان يشارك سائر المخلوقات الحية أنواعاً شتى من الخصائص ولاسيما الحيوانات العُليا، ومنها على الخصوص القردة. وبالطبع، كانت هذه الوقائع معروفةً في معظمها قبل داروين أيضاً، لأن التماثل في التركيب العضوي، وفي سائر أعضاء الجسم ونشاطاتها، وفي الحواس الخمس، وفي الوعي والإدراك، وما شابه ذلك، هو شيء واضحٌ لكل ذي عينين بصيرتين، وليس بعرضةٍ لأي إنكار. على أن علوم التشريح والأحياء ووظائف الأعضاء والنفس، قد بحثت مؤخراً في هذه الخصائص المشتركة على نحو أوفى من ذي قبل إلى أبعد حد. وتبعاً لذلك، زادت خصائص التماثل هذه عدداً وأهمية. وقد ساهمت علومٌ أخرى أيضاً بقسطها في إثبات هذه التماثُلات ما بين الإنسان والحيوان. فعلم الأجنة مثلاً أشار إلى أن الكائن البشري في بداءاته داخل الرحم يُشبه السمك والبرمائيات والثدييات الدنيا. كما كشف علم الإحاثة (البليونتولوجيا)، وهو يبحث في أشكال الحياة وظروفها في العصور القديمة كما تمثلها المستحاثات الحيوانية والنباتية، عن بقايا كائنات بشرية - من هياكل عظمية وعظام وجماجم وأدوات وحلي وما شابه وقد دلت هذه الكشوفات على أن قوماً من البشر عاشوا منذ عدة قرون مضت في بعض أجزاء الأرض بطريقة بسيطة جداً. ثم إن علم الأعراق البشرية (الانثولوجيا) قد علّم أن قبائل وشعوباً عاشوا منفصلين كثيراً عن الأمم المتمدينة سواءٌ روحياً أم جسدياً.
إن أُعلنت هذه الوقائع المجموعة من عدة جهات، حتى انشغلت الفلسفة بمزجها في نظرية افتراضية، هي فرضية تطور جميع الأشياء - ولاسيما الإنسان - على نحو تدريجي. ولم تطلع هذه الفرضية بعد اكتشاف الوقائع ولا بسببها، بل كانت موجودة قبل ذلك بزمن بعيد ولها بين الفلاسفة عدة مناصرين، لكنها طُبقت آنذاك على الوقائع التي اكتُشفت بعضُها حديثاً. وساد الاعتقاد أن النظرية أو الفرضية القديمة قد استقرت الآن على الوقائع المرسَّخة. وانطلق ما يُشبه هتافَ النصر بسبب كون ألغاز العالم كُلها قد حُلَّت، وجميع الأسرار قد كشفت، ما عدا ما يتعلق منها بالمادة والطاقة الأزليتين. ولكن ما كاد هذا الصرح الشاهق، صرح فلسفة التطور، يرتفع حتى انهالت عليه الهجمات فأخذ يتقوَّض. وقد قال أحد الفلاسفة الثقات إن الداروينية ظهرت في العقد السابع من القرن التاسع عشر، وبلغت ذروتها في العقد الثامن منه، ومن ثم تعرضت للفحص من قبل القليلين في العقد العاشر، حتى إذا غرب القرن التاسع عشر وأطل العشرون كان الكثيرون يشنون عليها أعنف الحملات.
وقد تركزت أول الهجمات وأعنفها على الكيفية التي فسر بها دارون بروز مختلف الفصائل إلى الوجود. فلم يكن في دعوى الصراع لأجل البقاء والاصطفاء الطبيعي ما يفي بالتفسير. صحيحٌ أن في عالمَي النبات والحيوان صراعاً شرساً في الغالب، ولهذا الصراع تأثيره البالغ في الطبيعة والوجود. ولكن لم يُقدَّم أي برهان يثبت أن هذا الصراع يستطيع إحداث فصائل جديدة. وقد يُسهم الصراع لأجل البقاء في تقوية النزعات والقدرات، والأعضاء والإمكانات، عن طريق التمرُّن والجهد. فهو قادر على تطوير ما هو موجود من قبل، لكنه لا يقدر أن يوجِد ما كان غير موجود. أضف أنه من قبيل المغالاة، كما يعرف أيُّ إنسان من جراء اختباره الشخصي، القول بأنه لا يوجد دائماً وفي كل مكان إلا الصراع.
ففي العالم ما يتعدى البغضاء والعداء. إذ فيه أيضاً محبة وتعاون ومؤازرة. والاعتقاد أن ليس في أي مكان إلا الحرب ويشنُّها كُلٌّ على كلٍّ، إنما هو متحيز شأنه شأن الرأي الرومنطي الذي شاع في القرن الثامن عشر والقائل بأن الراحة والسلام يعمّان جميع أنحاء الطبيعة. فعلى مائدة الطبيعة الفسيحة أمكنةٌ تتسع للكثيرين، والأرض التي يجعلها الله مكاناً لسُكنى الإنسان غنيةٌ غنىً لا يُستنفد. وبالتالي، ففي الطبيعة وقائع وظواهر لا علاقة لها بأي صراعٍ لأجل البقاء فلا أحد مثلاً يستطيع أن يبين علاقة الصراع لأجل البقاء بألوان جلد الحية وأشكاله، وباللون الأسود في أسفل بطون كثير من الفقاريات، وابيضاض الشعر مع التقدم في السن، واصفرار الأوراق في الخريف. وليس صحيحاً أيضاً أنه في معركة البقاء هذه تفوز الأنواع الأقوى دائماً دون غيرها، وتنهزم الأضعف كل حين. فربَّ صُدفةٍ كما تسمى، سواءٌ أكانت ظرفاً سعيداً أم سيئاً، تهزأ غالباً بكل هذه الحسابات. إذ يؤخذ شخصٌ قويٌّ أحياناً في عز شبابه، ويعمّر طويلاً في بعض الأحيان رجلٌ ضعيف جسدياً، أو إمرأةٌ، حتى يبلغ من العمر عتياً.
مثل هذه الاعتبارات دفعت عالماً هولندياً إلى استبدال نظرية أخرى بالانتخاب الطبيعي الذي ذهب إليه داروين، إذ قال ذلك العالم بالتغيار الأحيائي أو الطفرات. وبحسب هذه النظرية، لا يحدث تغير الفصائل بانتظام وتدريج، بل بصورة فجائية أحياناً، وبطفرات أو قفزات. ولكن في هذه الفكرة أيضاً ما يُثير السؤال: هل هذه التغيرات تمثل فعلاً فصائل جديدة، أو هي مجرد تعديلات في الفصيلة التي سبق وجودها. وهنا أيضاً يتعلق الجواب عن هذا السؤال بما يعنيه بالضبط مفهوم الفصائل أو الأنواع الرئيسية.
وفي القرن الحالي لم تتزعزع فقط مكانة الصراع لأجل البقاء والانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح، بل تزعزعت أيضاً فكرة انتقال الخصائص المكتسبة. فإن انتقال الصفات الطبيعية الموروثة من الآباء إلى الأبناء هو حجةٌ ضد الداروينية وليس لمصلحتها، ما دامت تعني ضمناً بقاء النوع ضمن الفصيلة. فها قد مضت قرون والبشر يلدون بشراً وليس شيئاً آخر. أما بخصوص انتقال الخصائص المكتسبة، مستقلَّة عن تلك المتوارثة، فثمة – الآن - اختلاف كبير في الآراء حتى لا يُمكن أن يُقال في هذا الشأن أي قول قاطع. ولكن الثابت فقط أن الخصائص المكتسبة غالباً جداً ما لا تنتقل من الآباء إلى الأبناء. فالختان مثلاً مارسته شعوبٌ عديدة على مدى قرون طويلة، ولكن ذلك لم يخلِّف أي أثر في المواليد بعد تلك الفترة الطويلة. ولا يتمُّ الانتقال بالوراثة إلا ضمن حدودٍ معينة، وهو لا يُحدِث أي تغيير في النوع أو الفصيلة. فإذا كان التعديل يحدث اصطناعياً، فيجب الحفاظ عليه اصطناعياً أيضاً، وإلا فُقد من جديد. وباختصار، لا تستطيع الداروينية أن تفسِّر لا الوراثة ولا التغيير. فهاتان حقيقتان لا يُمكن إنكارهما، ولكن ارتباطهما وعلاقتهما مازالا خارج نطاق معرفتنا.
وهكذا أخذ رجال العلم يتخلَّون لأكثر فأكثر عن الداروينية بمعناها الأضيق، أي محاولة تفسير ما يلحق الأنواع من تغيُّر بالاستناد إلى الصراع لأجل البقاء، والاصطفاء الطبيعي، وتوارث الخصائص المكتسبة. وبذا تحققت نبوءة واحدٍ من أول خصوم الداروينية وأبرزهم، إذ قال إن هذه النظرية في تفسير أسرار الحياة لن تدوم حتى إلى أواخر القرن التاسع عشر. ولكن ما هو أهم من هذا أن النقد لم يوجَّه ضد نظرية داروين وحدها بل ضد نظرية التطور بذاتها أيضاً. وبطبيعة الحال، تبقى الوقائع وقائع ولا يمكن تجاهُلها. أما النظرية فشيءٌ آخر، شيءٌ ينشئه الفكر على أساس الوقائع. وما قد أصبح واضحاً أكثر فأكثر هو أن نظرية التطور لم توائم الوقائع بل بالأحرى دخلت في صراعٍ صريحٍ معها.
فقد أظهرت الجيولوجيا مثلاً أن الأصناف العليا من الحيوان وتلك الدنيا منه لا تعقب بعضُها بعضاً بالترتيب، بل إنها في الواقع تواجدت بعضها إلى جنب بعض منذ قرونٍ عديدة. كما أن الباليونتولوجيا لم تطلع بدليلٍ واحدٍ حاسم على وجود أنواعٍ انتقالية بين الفصائل العديدة من الكائنات العضوية. والحال أن مثل هذه الأنواع كان يجب أن تتوافر بكمية كافية، وذلك بحسب نظرية داروين حول التطور التدريجي إلى أبعد حد عن طريق التغيرات الطفيفة إلى آخر حد. حتى ذلك النوع المرغوب المطلوب بكل جدٍّ واجتهاد لكونه حلقة الوصل بين الإنسان والقرد، لم يتم اكتشافه قط. وبينما يشير علم الأجنة فعلاً إلى تشابه ظاهري معين بين مختلف المراحل التي يمر بها تطور الجنين البشري وجنين حيوانات أخرى، يتبين أن هذا التشابه لا يعدو كونه ظاهرياً فقط، لسببٍ بسيط هو أنه لا يولد من جنين حيوان أي كائن بشري البتة، كما لا يولد من جنين البشر حيوان. وبكلامٍ آخر، يسير كلٌّ من الإنسان والحيوان في اتجاهين مختلفين منذ الحبَل فما بعد، ولو كانت الفروقات الداخلية لا يمكن إدراكُها حينئذٍ. ثم إن علم الأحياء لم يقدّم إلا النزر اليسير من الدعم للفرضية القائلة بأن الحياة تولَّدت تلقائياً، بحيث إن كثيرين الآن يقرون باستحالة ذلك ويعودون إلى الفكرة القائلة بوجود قوة حياة خاصة أو طاقة حياة معينة. كما أن الفيزياء والكيمياء، نسبةً إلى المدى البعيد الذي بلغته أبحاثهما، قد وجدا عدداً متزايداً من الأسرار والعجائب في عالم اللامتناهيات الصِّغر، مما حدا بالكثيرين إلى العودة إلى فكرة أن المقوِّمات الأساسية للأشياء ليست كينوناتٍ مادية بل قوىً. وإذ نكتفي بهذا القدر من البينّات، نقول إن جميع المجهودات التي قدمت لتفسير الوعي وحرية الإرادة، والعقل والضمير، واللغة والدين والأخلاق، وما إلى ذلك من الظواهر، باعتبار هذه حصيلة مجردة للتطور، لم تُكلَّل بالنجاح. فإن أُصول هذه الظواهر، شأنها شأن أُصول كل ما سبق ذكره، تبقى مغلفة بالظلمة أمام العلم.
فمن المهم أن نُلاحظ أخيراً أنه لما ظهر الإنسان في التاريخ كان إنساناً بكل معنى الكلمة بالنسبة للروح والنفس، وكان ممتلكاً أيضاً - في كل مكانٍ وزمان - جميع تلك الخصائص والنشاطات البشرية التي يُحاول العلم أن يكتشف أُصولها. فلا يُمكن أن يوجد في أي مكان كائناتٌ بشرية بلا عقلٍ ولا إرادة، ولا تفكيرٍ ولا ضمير، ولا فكرٍ ولا لغة، ولا دينٍ ولا أخلاق، وبلا معرفة لمؤسستي الزواج والأسرة، وما شابه هذا. والآن، إذا كانت جميع هذه الخصائص والظواهر قد تطورت تدريجياً، فلا بد أن يكون مثل هذا التطور قد حدث في أزمنة ما قبل التاريخ، أي في أزمنة لا نعرف عنها شيئاً بصورة مباشرة، بل نقوم في ما يخصُّها بالحزر والحدس على أساس وقائع قليلة لوحظت في أزمنة لاحقة. ولذلك، فإن أي علمٍ يريد أن ينفذ إلى زمان ما قبل التاريخ ليكتشف أصول الأشياء هناك، ينبغي له بطبيعة الحال أن يلجأ إلى الحدس والتخمين والافتراضات. فلا احتمال هنا لوجود بينّات أو براهين بالمعنى الصحيح للكلمتين. فعقيدة التطور عموماً، واعتقاد تحدُّر الإنسان من الحيوان خصوصاً، لا تدعمهما - ولو بأقل قدر - وقائع مستمدة من أزمنة التاريخ. وفي نهاية المطاف، لا يبقى من جميع العناصر التي تُبنى عليها نظريات كهذه إلا نظرةٌ فلسفية إلى العالم تبتغي تفسير كل الأشياء وكل الظواهر بالاستناد إلى الأشياء ذاتها والظواهر عينها، في حين تُبقي الله خارج حسبانها. وقد اعترف أحد مؤيدي النظرة التطورية بهذا الواقع بكل قحة، فقال: إنما الخيار هو بين التحدر التطوري والمعجزة، بما أن المعجزة أمرٌ مستحيلٌ على الإطلاق، فنحن مضطرون إلى وقوف الموقف الأول. وإن اعترافاً كهذا يبين أن نظرية تحدُّر الإنسان من أشكال حيوانية دُنيا لا تستقر على البحث العلمي الدقيق، بل هي بالأحرى فكرةٌ افتراضية من قِبَل فلسفةٍ قوامها الاعتقاد بالمادية أو بوحدة الوجود.
إن فكرة أصل الإنسان ترتبط بفكرة جوهر الإنسان ارتباطاً وثيقاً. لكنَّ كثيرين اليوم يتكلمون غير هذا الكلام إذ يقولون إن الإنسان والعالم، بصرف النظر عما كان أصلهما وتطورهما في الماضي، هما ما هُما الآن وسيظلان على ما هما عليه.
وهذا الموقف الصحيح كلياً بطبيعة الحال: فالحقيقة تبقى هي الحقيقة، بصرف النظر عن حيازتنا لفكرة صحيحة عنها أو لفكرة خاطئة. ولكن المقولة نفسها تصحُّ طبعاً في ما يتعلق بأصل الأشياء. فلو تصوَّرنا أن العالم والبشرية برزا إلى الوجود بصورةٍ من الصور، فإن ما نقترحه لا يغير بالطبع أصلهما الفعلي - وإن كنا نتصور مثلاً أن ذلك تم بالتدريج عبر قرونٍ طوال عن طريق التولُّد الذاتي بكل أنواع التغيرات اليسيرة المتناهية الدقة. فقد برز العالم إلى الوجود بالطريقة التي برز فعلاً، وليس بالطريقة التي نرغبها أو نفترضها. على أن الفكرة التي لنا عن أصل الأشياء ترتبط على نحو لا تنفصم عراه بالفكرة التي لنا عن جوهر الأشياء. فلو أن فكرتنا عن أصل الأشياء خاطئة، فلا يمكن أن تكون فكرتنا عن جوهر الأشياء صحيحة.
فإذا اعتقدنا أن الأرض وجميع ميادين الطبيعة، وكلَّ المخلوقات بما فيها الإنسان على وجه الخصوص، قد برزت إلى الوجود بمعزل عن الله وبمجرد تطور طاقات كامنة في العالم، فإن مثل هذا الاعتقاد ينبغي بالضرورة أن يكون له أهم تأثيرٍ في مفهومنا لجوهر العالم والإنسان.
حقاً إن العالم والإنسان يبقيان هما إياهما بصرف النظر عن تفسيرنا لهما، إلا أنهما يصيران مختلفين بالنسبة إلينا، فتزداد قيمتهما أو تقل، كذلك شأنهما وأهميتهما، تبعاً لما نعتقده في أصلهما وطريقة وجودهما.
هذه حقيقةٌ واضحة جداً بحيث لا تحتاج إلى مزيدٍ من الإيضاح أو الإثبات. ولكن لأن المفهوم القائل بأننا لا نستطيع أن نعتقد ما نشاء في أصل الأشياء ما دام ما نعتقده بخصوص جوهرها لا يؤثر فيه، هو مفهوم يعود إلى الظهور مراراً وتكراراً - مثلاً في ما يخصُّ التعليم المتعلق بالكتاب المقدس، وديانة إسرائيل، وشخص المسيح، والدين والأخلاق، وما شابه - لذلك قد يكون نافعاً الآن، ونحن ننظر في جوهر الإنسان، أن نبيّن مرة أخرى زيف هذا المفهوم. وليس هذا بالأمر الصعب. إذ لو كان الإنسان قد طوَّر نفسه تدريجاً، إن جاز التعبير، بمعزلٍ عن الله وبمجرد فعل قوى طبيعية ناشطة على نحوٍ اعتباطي، لأفضى بنا ذلك على نحو طبيعي بما فيه الكفاية إلى النتيجة التي مفادها أن الإنسان لا يمكن أن يختلف جوهرياً عن الحيوان، وأنه - حتى في تطوره الأعلى أيضاً - يبقى حيواناً. وعندئذٍ لا يبقى أيُّ مجالٍ البتة لنفسٍ مميزة عن الجسد، ولا للحرية الأدبية أو الخلود الشخصي؛ كما أن الدين والحق والأخلاق والجمال تفقد عندئذٍ طابعها المميز الصحيح (المُطلق).
هذه العواقب ليست شيئاً نفرضه نحن على أنصار نظرية التطور، بل هي بالأحرى شيءٌ يستنتجونها هم أنفسهم منها. فدارون نفسه يقول مثلاً إن نساءنا غير المتزوجات، إذا تمت تنشئتهن في ظل الأحوال التي تخضع لها النحلات الشغالات (العسالات)، قد يعتبرنها فريضة مقدسة أن يقتلن إخوتهن كما تفعل النحلات العاملات، فيما تسعى الأمهات إلى قتل بناتهن المخصبات دون أن يتصدى لهنَّ أحد. فبحسبما يذهب إليه داروين إذاً، أن القانون الخُلقي بمجمله هو حصيلة الظروف، وبالتالي يتغير تبعاً لتغيُّر الظروف. وعليه، فإن الخير والشر، شأنهما أيضاً شأن الحق والباطل، هما لفظتان نسبيتان، ومعناهما وقيمتهما كالأزياء عرضةٌ لتغيُّر الأزمنة والمكنة.
وهكذا أيضاً – بحسب ما يذهب إليه آخرون - لم يكن الدين إلا مساعداً مؤقتاً، إذ هو شيءُ أفاد منه الإنسان في أثناء قصوره عن الصراع ضد الطبيعة. ويمكن الآن أيضاً أن ينفع كأفيون للشعوب، إلا أنه في نهاية المطاف سيذوي بصورة طبيعية ويضمحل متى بلغ الإنسان حريته الكاملة. أما الخطيَّة والتعدّي، والجناية والقتل، فلا تجعل الإنسان مذنباً، بل هي آثار مترتبة على حالة اللاتمدن التي عاش فيها الإنسان سابقاً، وهي آخذة في التناقص نسبةً إلى المدى الذي فيه يتطور الإنسان ويتحسن المجتمع. تبعاً لذلك أن يُعتبر المجرمون أولاداً، أو حيوانات، أو نماذج غير عاقلة، وينبغي أن يُعاملوا على هذا الأساس. فيجب أن تحل الإصلاحيات محلَّ السجون. وبوجيز العبارة، إذا لم يكن الإنسان ذا مصدرٍ إلهي بل حيواني، وكان قد طور نفسه تدريجياً، فهو مدين لنفسه بكل شيء، وهو المشترع لذاته وسيد نفسه وربُّها. جميع هذه الاستدلالات من نظرية التطور (المادية أو الوحديوجودية) معبَّرٌ عنها بغاية الوضوح في العلوم المعاصرة، كما في أدب عصرنا وفنه ونظام حُكمه العملي.
على أن الحقيقة تعلِّم شيئاً آخر مختلفاً تماماً. في وسع الإنسان، إذا شاء، أن يجعل نفسه يعتقد أنه فعل كل شيءٍ بنفسه، وأنه حرٌّ من كل قيد. غير أنه يبقى من كل ناحية مخلوقاً غير مستقل. فهو لا يستطيع أن يفعل ما يسره. ففي وجوده المادي يبقى خاضعاً للنواميس المفروضة عليه فيما يتعلق بالتنفس ودورة الدم والهضم والتناسُل. وإن هو خالف هذه القوانين ولم يعبأ بها يؤذي صحته ويُتلف حياته. وينطبق نفس الأمر على نفسه وروحه. فليس في وسع الإنسان أن يفكر كما يحلو له، بل هو مقيد بقوانين لم يستنبطها هو بتفكيره ولا وضعها هو، بل إنها متضمنة في فِعل التفكير ذاته وتُعبر عن ذاتها به. وإذا كان لا يُراعي قوانين الفكر هذه، يوقع نفسه في حبائل الضلال والبُطل. وليس في وسع الإنسان أيضاً أن يريد ويتصرف كما يشاء. فإن إرادته خاضعة لضبط العقل والضمير. وإن هو لم يراعِ هذا النظام وهبط بإرادته وتصرفه إلى مستوى الاعتباط والنزوات، فمن المؤكد عندئذٍ أن يعتريه توبيخ الذات واتهامُها والأسف والندم، وتأنيبُ الضمير ووخزه.
فحياة النفس إذاً، لا أقل من حياة الجسد، مبنية على شيء آخر غير الهوى أو الصدفة. فهي ليست في حالة لا ناموسٍ وفوضى، بل هي من كل جهة وبكل نشاطاتها محددة بالقوانين. إنها خاضعة لقوانين الحق والخير والجمال، وبذلك تُبرهن أنها لم تولد نفسها بنفسها. وبعبارة وجيزة، كانت للإنسان منذ البدء طبيعتُه الخاصة وجوهره الخاص، وهو لا يستطيع أن ينتهكهما ويُفلت من العواقب. ثم إن الطبيعة - في هذه المسائل - أقوى كثيراً جداً من النظرية، حتى إن أتباع عقيدة التطور أنفسَهم ما برحوا يتحدثون عن طبيعة بشرية، وعن صفات بشرية غير منقولة، وعن قوانين في الفكر والأخلاق موصوفة للإنسان، وعن إحساسٍ ديني غريزي. وهكذا نجد أن فكرة جوهر الإنسان تدخل في صراع مع فكرة أصله.
على أننا نجد في الكتاب المقدس توافقاً تاماً بين هاتين الفكرتين، حيث يتوازى أصل الإنسان وجوهره. فلأن الإنسان، وإن كان قد كُوِّن من تراب الأرض حسب الجسد، تلقّى نسمة الحياة من علٍ، وقد خلقه الله نفسُه، فلذلك هو كائنٌ فريد طبيعته الخاصة. وهذا هو جوهر كيانه: إنه يعرض صورة الله وشبهه.
إن صورة الله هذه تميز الإنسان عن الحيوانات وعن الملائكة معاً. فمع أنه يشترك مع كليهما في بعض النواحي، فهو يختلف عن كليهما في كونه ذا طبيعة فريدة خاصة.
وبالطبع فإن الحيوانات أيضاً خلقها الله. فهي لم تبرز إلى الوجود من تلقاء ذاتها، بل استُدعيت إلى الوجود بكلمةٍ خاصة من قدرة الله. أضف أن الحيوانات خُلقت مباشرة على أنواع شتى، شأنها في ذلك شأن النباتات أيضاً. ولكن الناس جميعاً تحدروا من أبوين زوجين واحدَين، وبذلك يؤلفون سُلالةً واحدة أو جنساً واحداً. إنما هذا لا يصحُّ في الحيوانات، فهي لها - إن صح التعبير - عدة أجداد. من هنا كان غنياً عن البيان أن علم الحيوان حتى الآن لم ينجح في إرجاع جميع الحيوانات إلى نوعٍ واحد. فهذا العلم ينطلق تواً من تحديد ما بين سبعٍ وأربعٍ من المجموعات الحيوانية الرئيسية أو الأنواع الأساسية.
ولذلك فمن المُسَلَّم بصحته أن أغلبية أنواع الحيوان غير موزعة في أنحاء الأرض كلها، بل تعيش في مناطق معينة. الأسماك تعيش في الماء، والطيور في الهواء، وحيوانات البر في أغلبها محدودة الوجود ضمن مناطق محددة: فالدب القطبي مثلاً لا يوجد إلا في أقصى الشمال، والبلاتيبوس المعروف بمنقار البط لا يعيش إلا في أُستراليا. وهكذا ينص سفر التكوين (1: 1) بالتحديد أن الله خلق النباتات، وكذلك الحيوانات، كُلاً كجنسه، أي بحسب نوعه. طبعاً، لا يعني هذا القول أن الأنواع التي خلقها الله هي بالضبط تلك التي يصنفها إليها العلم الآن، على حد ما يفعله لينايُس مثلاً. فأولاً، إن تصنيفاتنا هي دائماً عرضة للخطأ لأن علم الحيوان لدينا لم يكتمل، وهو يميل أحياناً إلى اعتبار المتنوِّعات أنواعاً، والعكس بالعكس. فالمفهوم العلمي المصطنع لنوعٍ من الحيوان أمرٌ صعب التحقيق، وهو دائماً يختلف عن المفهوم الطبيعي للنوع، والذي مازلنا ننشُده. أضف، ثانياً، أن عدداً كبيراً من أصناف الحيوانات، على مجرى القرون، قد انقرض أو أُبيد. ويتضح لنا من البقايا التي لدينا من بعضها، كاملةً كانت أو منقوصة، أن أصنافاً شتى من الحيوان، كالماموث مثلاً، مما لم يعد له وجود، كانت ذات مرة وفيرة العدد. ثم إن علينا، ثالثاً، أن نذكر أنه نتيجةً لتأثيراتٍ شتى، حدثت تعديلات وتبديلات كبيرة في عالم الحيوان، الأمر الذي يصعب علينا إرجاع الحيوانات إلى نوعٍ أصلي، بل يجعل ذلك مستحيلاً أيضاً.
زد على هذا بعد أنه مما يلفت النظر في خلق الحيوانات، كما هي الحال في خلق النبات، أن هذه المخلوقات استُدعيت إلى الوجود حقاً بفعل خاص من قبل القدرة الإلهية، ولكن الطبيعة أيضاً أدت خدمة وساطية في هذا الفعل. إذ نقرأ في (تكوين 1: 11) - لتُنبِت الأرض عشباً، وبقلاً يبزر بزراً، وشجراً ذا ثمراً يعمل ثمراً كجنسه، بزره فيه على الأرض؛ وكان كذلك (راجع الآية 12). وعلى الشاكلة نفسها يرد خبرٌ آخر في (1: 20) "لتفض المياه زحافات ذات نفس حية، وليطر طيرٌ فوق الأرض". وهكذا كان (الآية 21). وكذلك أيضاً في (الآية 24) لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها، بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها؛ وكان ذلك. وهكذا نرى في كل حالة أن الله استخدم الطبيعة كوسيلة. فالأرض، وإن كانت مكيفة ومجهزة لذلك بفضل الله، هي التي تُخرج هذه الخلائق كلها في تمايُزها النوعي الوافر.
ومن شأن هذا الأصل المخصوص الذي كان للحيوانات أن يلقي ضوءاً على طبيعتها أيضاً. فهذا الأصل يُبين أن الحيوانات مرتبطة بالأرض والطبيعة أكثر جداً من ارتباط الإنسان بهما. صحيحٌ أن الحيوانات كائناتٌ حية، وبذلك هي متميزة عن المخلوقات غير العضوية عديمة الحياة. ولذا أيضاً غالباً ما تُدعى الحيوانات ذوات أنفسٍ حية (تكوين 1: 20 و 21و 24). فحتى الحيوانات لها نفسٌ بالمعنى العام الذي يُفيد مبدأ الحياة.[43]غير أن هذا المبدأ الحي، أي النفس، في الحيوان ما يزال مقيداً تقيداً وثيقاً بالطبيعة وبأيض المادة (نشاط الخلايا العضوية) بحيث لا يستطيع بلوغ أي استقلال أو حرية، ولا يستطيع أن يوجَد عندما ينفصل عن الأيض أو عن دوران المادة. لذلك تموت نفس الحيوان إذا مات. وينتج من هذا أن الحيوانات، العليا منها على الأقل، لها أعضاء حسٍّ مثل التي للإنسان، وتستطيع أن تُحسَّ الأشياء (بالسمع والرؤية والشم والذوق واللمس). وفي وسع الحيوانات أن تكوِّن الصور وتربط هذه الصور بعضها ببعضها. ولكن ليس لديها عقل، ولذا لا تستطيع فصل الصورة عن الشيء الفرد المحسوس والمخصوص. ولا هي تقوى على تحويل الصور أو ترفعيها إلى مفاهيم، ولا على ربط المفاهيم وبالتالي تكوين الأحكام، ولا على الاستدلال بالأحكام لبلوغ القرارات، ولا على تنفيذ القرارات بفعلٍ من الإرادة. فالحيوانات لها إحساسات، وصور، ومجموعات صور مختلطة: لها غرائز ورغبات وميول. إلا أنها تفتقر إلى الأشكال العُليا من الرغبة والمعرفة الخاصة بالإنسان وحده، وليس لها عقل ولا إرادة. وهذا كلُّه تعبر عنه حقيقةُ كونها لا تملك لغةً وديناً وأخلاقاً وإحساساً بالجمال، وليس لديها أفكار عن الله والأمور غير المنظورة، وعما هو حقٌ وخيِّر وجميل.
وبذا يرتفع الإنسان عالياً فوق عالم الحيوان. فليس بين الاثنين انتقالٌ تدريجي بل هوة سحيقة. وغريبٌ عن الحيوان كلُّ ما يكوّن طبيعة الإنسان بالذات، أي جوهّره الخاص. وبالتحديد: عقله وإرادته، فكره ولغته، دينُه وخُلُقيَّته، وما شابه ذلك. لذلك لا يستطيع الحيوان أن يفهم الإنسان مع أن الإنسان يفهم الحيوان. واليوم يحاول علم النفس أن يفسِّر نفس الإنسان بالاستناد إلى نفس الحيوان؛ غير أن هذا عكسٌ للترتيب الصحيح. فنفس الإنسان هي المفتاح الذي يُتيح فهم نفس الحيوان. والحيوان يفتقر ما يملكه الإنسان، إلا أن الإنسان يملك كل ما هو خاص بالحيوان.
ولا نعني بهذا أن الإنسان الآن يفهم طبيعة الحيوان فهماً مطلقاً كلياً. فالعالم بكامله عند الإنسان مشكلةٌ يسعى إلى حلِّها، وفي طوقه أن يسعى، وهكذا أيضاً يكون كل حيوان لغزاً حياً. أما أهمية الحيوان فلا تقتصر إطلاقاً على كونه نافعاً للإنسان، إذ يوفر له المأكل والمأوى والملبس والزينة. ذلك أن ما يتضمنه إخضاعُ الأرض والتسلُّط عليها هو أكثر جداً من أنه ينبغي للإنسان، في جشعه وأنانيته، أن يحوّل كل شيء بوفرة لمنفعته الخاصة. فإن لعالَم الحيوان أيضاً أهميته بالنسبة إلى علمنا وفننا، وديننا وأخلاقنا، فلدى الله كثيرٌ يقوله لنا بواسطة الحيوان. فأفكار الله وكلامه، تتحدث إلينا انطلاقاً من العالم بكامله، وأيضاً من عالم النبات والحيوان. وإذ يتتبع علما النبات والحيوان آثار هذه الأفكار، فهذان العلمان - شأنهما فعلاً شأن العلوم الطبيعية عموماً - هما علمان جليلان لا يجوز أن يحتقرهما أيُّ إنسان ولاسيما المسيحي المؤمن. فضلاً عن هذا، فكم هو غنيٌّ عالمُ الحيوان بما يعني الكثير للإنسان أدبياً وأخلاقياً! فالحيوان يدلُّ على الحد السُفلي الذي ينبغي للإنسان أن يرفع نفسه فوقه. ويُشير إلى المستوى الذي يجب ألا يهبط الإنسان دونه البتة. فقد يصير الإنسان حيواناً، وأقل من حيوان، إن هو طمس نور العقل ونقض علاقته الوثيقة بالسماء وراح يسعى لإشباع جميع رغباته في الأرض، وحسناً اعتُبرت الحيوانات رموزاً إلى فضائلنا ورذائلنا: فالكلب يبين لنا صورة الوفاء، ومن العنكبوت تعلمنا الاجتهاد، والأسد الشجاعة، والحملُ الوداعة، والحمامةُ البساطة، والإيلُ عطشَ النفس إلى الله. وكذلك أيضاً نجد في الثعلب صورة الاحتيال، كما تصوِّر لنا الدودةُ الحقارةَ، والنمرُ القساوة، والخنزيرُ الدناءة، والحيةُ مكرَ الشيطان؛ أما القرد، وهو أشبه ما يكون بشكل الإنسان، فيُبدي لنا ما يبلغه التنظيم العضوي المدهش خلواً من الروح، الروح التي هي من علُ. ففي القرد يرى الإنسان صورته الكاريكاتورية.
وكما أن الإنسان بصورة الله يختلف عن الحيوانات التي دونه، فكذلك أيضاً تُميزه هذه الصورة عن الملائكة التي فوقه. أما وجود كائنات كالملائكة فأمرٌ لا يمكن إثباتُه بالجدل العلمي وبمعزلٍ عن كلمة الله المقدسة. فالعلم لا يعرف عن الملائكة شيئاً، ولا يستطيع البرهنة على وجودها، كما لا يستطيع البرهنة على عدم وجودها. على أنه أمرٌ تجدر ملاحظتُه أن اعتقاد وجود كائناتٍ أسمى من الإنسان يصادفنا بين جميع الشعوب وفي كل الديانات، كما أن البشر رغم رفضهم شهادة كلمة الله بوجود الملائكة يعودون إلى اعتقادٍ ما بوجود كائنات عُلْوية، يشوب ذلك ضروبٌ شتى من الخُرافة. وجيلنا الحاضر يقدم الدليل الوفير على ما نقوله هنا. فعلى العموم، لم يعد سائداً اعتقاد وجود الملائكة والشياطين. إلا انه بدلاً من ذلك نشأ في دوائر عديدة اعتقادٌ بقوى خفية، قوى طبيعية غامضة، وأشباح وأرواح وظهورات موتى، ونجوم حية وكواكب مأهولة، ورجال مريخ وذرات حية، وما شابه هذا. وما يلفت النظر في ما يتعلق بهذه الظواهر، القديمة والحديثة، هو المركز الذي يشغله الروح القدس في مقابلها. فسواءٌ أكان الباطل أم الحق في أساس الممارسات الأرواحية، فإن الكتاب المقدس يَنهى عن كل كشف للطالع[44] وتعزيم [45] وتنجيم [46] واستحضار أرواح [47] وعرافة أو استشارة للوسطاء[48] وكل تبصير وسحر،[49] وما شابه ذلك. وبذا يضع الكتاب حداً لكل خرافة كما لكل عدم إيمان حقيقي. فالمسيحية والخُرافة قوتان مناهضتنان إحداهما للأخرى. وما من علمٍ أو تنوير أو حضارة يمكن أن تحرس الإنسان من الخرافات، بل بكلمة الله وحدها تحمينا منها. فهذه الكلمة تجعل الإنسان متكلاً كلياً على الله، إلا أنها بذلك تُعتقه من أية علاقة بأي مخلوق. فهي تضع الإنسان في علاقة سوية بالطبيعة، وبذلك تمكنه من إحراز علمٍ طبيعي صحيح.
غير أن الكتاب المقدس يعلّم بالفعل أن الملائكة موجودة. وليست هي المبتكرات الأسطورية التي طلع بها خيال البشر، ولا تجسيدات القوى الغامضة، ولا الموتى الذين ارتقوا أمكنةً عُليا. بل إنها كائنات روحية خلقها الله، وهي خاضعة لإرادته ومدعوة إلى خدمته. فالملائكة إذاً كائنات نستطيع، في ضوء كلمة الله المقدسة، أن نكوِّن عنها فكرةً محددة بوضوح تنأى بها عن تلك الأشكال الأسطورية المتوافرة في الديانات الوثنية. فالملائكة، وإن كانوا يفوقون الناس كثيراً في المعرفة [50] والقوة، [51] قد صنَعهم مع ذلك الله نفسه وكلمة الله نفسه (يوحنا 1: 3، كولوسي 1: 16)، وعقلهم وطبيعتهم الأدبية يبقيان هما إياهما، بحيث يقال مثلاً عن الملائكة الأبرار إنهم يطيعون صوت الله ويعملون مرضاته (مزمور 103: 20 و 21)، وعن الملائكة الأشرار إنهم لم يثبتوا في الحق (يوحنا 8: 44) ويكيدون المكايد (أفسس 6: 11) ويخطئون (2 بطرس 2: 4).
ولكن على الرغم من هذا التشابه بين الملائكة والبشر، يوجد بينهما فرق كبير، وقوام هذا الفرق، أولاً، حقيقة كون الملائكة بلا نفسٍ ولا جسد، إذ هم أرواحٌ وحسب (عبرانيين 1: 14). صحيح أنهم كانوا يظهرون بهيئات جسمية، إلا أن تعدد الهيئات التي ظهروا بها[52] يشير إلى حقيقة كون هذه الهيئات المتخذة للظهور مؤقتة وقد تغيرت بتغيُّر طبيعة المهمة المؤداة. والملائكة لا يُدعَون مرة واحدة أنفساً، أو ذوات أنفس حية، كما يُدعى الإنسان والحيوان. فإن النفس والروح تختلفان إحداهما عن الأخرى في هذا المجال بحيث أن النفس أيضاً هي في طبيعتها روحية وغير مادية ولا مرئية، وحتى في الإنسان هي كيانٌ مستقلٌّ روحياً، وإن كانت دائماً قوة روحية أو كياناً روحياً متكيفاً مع الجسد ومناسباً له، ويبقى دون الجسد غير كاملٍ ولا مكتمل. فالنفس هي روحٌ معدة لحياةٍ جسدية. ونفسٌ كهذه تناسب الحيوانات والإنسان على وجه الخصوص. فعندما يفقد الإنسان جسده بالموت، يستمر وجودُه، إنما في حالة تجرد وافتقار، بحيث تكون القيامة في اليوم الأخير استعادة لما هو مُفتقد. غير أن الملائكة ليست نفوساً. إذ لم يُعد الملائكة لحياةٍ في الجسد، ولم يعطوا الأرض مكاناً للسكن بل السماء. فهم أرواح خالصة. وهذا يمنحهم تفوقاً في أكثر من مجال على البشر، إذ هم على صعيد أعلى من المعرفة والقدرة، ولهم بالزمان والمكان علاقةٌ أكثر حرية مما للناس إلى أقصى الحدود، وهم يستطيعون التنقل بحرية أوفر، ولذلك فهم مهيأون جيداً على نحو استثنائي لتنفيذ أوامر الله على الأرض.
ولكن لهذه الامتيازات وجهاً معاكساً - وهذا هو الفارق الثاني بين البشر والملائكة. فلأن الملائكة أرواح خالصة، لذلك يقومون في علاقةٍ طليقةٍ نسبياً بعضهم بالنسبة إلى بعض. وقد خُلقوا في الأصل بعضُهم مع بعض جميعاً، ويستمرون في الوجود بعضهم إلى جنب بعض معاً. فهم لا يؤلفون كلاً عضوياً، أي جنباً واحداً أو جيلاً معيناً. صحيح أن بينهم تراتباً طبيعياً. وبحسب الكتاب المقدس فإن الملائكة ألوفُ ألوفٍ،[53] وأنهم منقسمون إلى ثلاث مراتب: الكروبيم (تكوين 3: 24)، والسرافيم (إشعياء 6)، والعروش والسيادات والرئاسات والقوات (أفسس 1: 21؛ كولوسي 1: 16؛ 2: 10). ثم إن بين الفئات بحد ذاتها تمايزاً في المرتبة: فميخائيل وجبرائيل لهما مكانةٌ خاصة بين الملائكة.[54] إلا أن الملائكة، مع ذلك، لا يؤلفون جنساً واحداً، وليس بينهم قرابة دم، ولا يتناسلون. ففيما لنا أن نتحدث عن البشرية، ليس ثمة ما يُمكن أن ندعوه "ملائكية". ولما اتخذ المسيح الطبيعة البشرية، صار في الحال قريباً لجميع البشر قرابة عصب، وصار أخاً للبشر حسب الجسد. بيد أن الملائكة يعيشون بعضهم قرب بعض، وكلٌّ منهم يحمل حمل نفسه ولا علاقة له بغيره، بحيث إن قسماً منهم سقط فيما ظل الباقون موالين لله.
والفارق الثالث بين الإنسان والملاك مرتبطٌ بالثاني. فلأن الملائكة أرواح وليست لها صلة بالأرض، ولأن ليس بين الملائكة قرابة دم، ولأن لا تمييز في صفوفهم بين آباء وأمهات، ووالدين وأولاد، وإخوة وأخوات، لذلك لا يعرف الملائكة بالاختبار شيئاً عن ذلك العالم القائم بذاته والمكون من علاقات وقرابات، وأفكار ومشاعر، ورغبات وواجبات. وقد يكون الملائكة أقوى من البشر، إلا أنهم ليسوا مثلهم في الخصب والتنوع. فهم يقومون في علاقات أقل، والإنسان يفوقهم في غنى الحياة الوجدانية وعمقها بما لا يكاد يُقاس. حقاً إن المسيح يقول في (متى 22: 30) إن التزاوج سينتهي بنهاية هذا الدهر، ولكن العلاقات التناسلية على الأرض، رغم ذلك، قد ضاعفت إلى مدىً بالغ الشأن ما في البشرية من كنوز روحية، وهذه الكنوز لن تُفقد في القيامة أيضاً، بل بالأحرى ستبقى مدى الأبدية.
وإذا ما أضفنا إلى هذا كلِّه الاعتبار بأن أغنى إعلان عن الله أعطانا تعالى إياه قد أُعلن لنا باسم الآب، وباسم الابن - الذي صار شبيهاً بنا وهو نبيُّنا وكاهننا وملكنا - وباسم الروح القدس الذي انسكب في الكنيسة، والذي يجعل الله نفسه يسكن فينا، فعندئذ يتأكد لنا أن الإنسان، لا الملاك، قد خُلِق على صورة الله. وفيما يختبر الملائكة قدرة الله وحكمته وصلاحه، يشترك بنو البشر في مراحمه الأبدية. فالله هو رب الملائكة، لكنه ليس أباهم؛ والمسيح رئيسهم، لكنه ليس مصالحهم ولا مخلصهم؛ والروح القدس هو مرسلهم وهاديهم، لكنه لا يشهد البتة مع أرواحهم أنهم أولاد الله وورثته ووارثون مع المسيح. من هنا كانت أعين الملائكة شاخصةً إلى الأرض، إذ فيها ظهرت نعمة الله الكلية الغنى، وهناك يُخاض الصراع بين السماء والأرض، وهناك كُوِّنت الكنيسة بوصفها جسد الابن، وهناك ستُضرب ذات يوم الضربة القاضية ويُحرَز نصر الله النهائي. ولذلك تشتهي الملائكة أن تطلع على سرائر الخلاص الذي أُعلِن على الأرض وتتعرف على حكمة الله المتنوعة (أفسس 3: 10؛ 1 بطرس 1: 12).
وعلى ذلك فالملائكة يرتبطون معنا في عدة علاقات، كما نحن في علاقة متعددة الجوانب بهم. واعتقاد وجود الملائكة ونشاطاتها ليست له القيمة ذاتها التي للإيمان الذي به نثق في الله ونحبه ونتّقيه ونُكرمه بكل القلب. فلا يجوز لنا أن نضع ثقتنا في أي مخلوق أو أي ملاك؛ ولا أن نعبد الملائكة أو نقدم لهم الإكرام الديني بأية صورة من الصور.[55] وفي الحقيقة أنه لا يوجد في الكتاب المقدس كلمةٌ واحدة عن ملاكٍ حارس يُعين لخدمة كل مخلوقٍ بشري على وجه الخصوص، ولا عن أية شفاعة من قبل الملائكة لمصلحتنا. ولكن هذا لا يعني أن الاعتقاد بالملائكة لا يُقدم ولا يؤخر أو أنه عديم القيمة. بل على العكس، إذ أن الملائكة قاموا بدورٍ هام عند وقت حدوث الإعلان. ففي حياة المسيح نجدهم يظهرون عند كل مفصلٍ في سيرته، ولسوف يُظهرون ذات يوم معه على سحب السماء. وهم في كل حين أرواحٌ خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص (عبرانيين 1: 14). وهم يفرحون بتوبة الخاطئ (لوقا 15: 10)، ويحرسون المؤمنين (مزمور 34: 7؛ 91: 11)، ويحمون الصغار (متى 18: 10)؛ ويرافقون الكنيسة في مسيرتها عبر التاريخ (أفسس 3: 10)؛ ويحملون أولاد الله إلى حضن إبراهيم (لوقا 16: 22).
لذلك ينبغي لنا أن نفكر فيهم بوقار ونتكلم عنهم بمهابة. وينبغي أن نُفرحهم بتوبتنا، ونقتدي يهم في خدمة الله وإطاعة كلمته. وعلينا أن نُظهر لهم في قلوبنا وحيواتنا، وفي مُجمل الكنيسة، حكمة الله المتنوعة. علينا أن نذكر رفقتهم لنا، ونشاركهم في إعلان أعمال الله العظيمة. وهكذا يبدو أن لا صراع بين الإنسان والملاك، مع أن بينهما فرقاً. فهما متمايزان لكنهما متحدان أيضاً؛ ومختلفان لكنهما شريكان. وعندما نصل إلى جبل صهيون، مدينة الله الحي، أورشليم السماوية، عندئذٍ نأتي أيضاً إلى ربوات ملائكة، ومن ثم نعيد وصل رباط الوحدة والمحبة الذي قطعته الخطية (عبرانيين 12: 22). فللجميع، لهم ولنا، مكانهم في خليقة الله الغنية، حيث يؤدي كلٌ وظيفته الخاصة. وإذا كان الملائكة أبناء الله وجبابرته وجنوده المقتدرين، فالبشر هم مخلوقون على صورة الله وهم ذريته أو أولاده.
وما دامت صورة الله هي السمة المميزة للإنسان، فمن واجبنا أن نحصل على فكرة واضحة عن مضمونها.
نقرأ في (تكوين 1: 26) أن الله خلق الإنسان على صورته وكشبهه ليتسلط على جميع المخلوقات، ولاسيما المخلوقات الحية كلها. وفي هذا الإطار ثلاثة أمور تستحق الاعتبار. فأولاً، يعبر عن التماثل بين الله والإنسان بكلمتين، هما الصورة والشبه. وهاتان الكلمتان ليستا، كما افترض كثيرون، مختلفين في جوهرهما أو مدلولهما، بل إنهما تفسران وتدعمان إحداهما الأخرى. وهما تؤديان معاً دور الإفصاح عن أن الإنسان ليس رسماً لله غير ناجح، ولا رسماً مشابهاً بعض الشيء، بل هو صورةٌ لله كاملة وموافقة كلياً. فمثلما هو الإنسان في صورةٍ مصغرة، كذلك هو مثال الله في حقيقته العظيمة، في التصميم الضخم على نحوٍ لا نهائي، لأن الإنسان هو مثل ما هو الله. فإن مقام الإنسان أدنى من الله إلى ما لا نهاية، إلا أنه مع ذلك مرتبط به تعالى. والإنسان، بوصفه مخلوقاً، معتمدٌ كلياً على الله، ومع ذلك فبوصفه إنساناً، هو كائنٌُ حرٌّ ومستقل .فالمحدودية والحرية، والاستقلال والاتكال، والبعد الذي لا يقاس عن الله والعلاقة الوثيقة به، هذه كلُّها متمازجة في الكائن البشري بطريقة لا يُسبر غورها. أما كيف يُعقل أن يكون مخلوق وضيع في الوقت نفسه صورة الله، فأمر ينأى جداً عن قدرتنا على الإدراك.
وثانياً، يحدثنا (تكوين 1: 26) أن الله خلق البشر (اللفظة في الأصل جمع) على صورته وكشبهه. فمنذ البدء كان قصد الله ألا يخلق إنساناً واحداً، بل البشر أجمعين، على صورته. ولذا خلق الإنسان حالاً ذكراً وأنثى، وليس أحدهما منفصلاً عن الآخر بل في علاقة بعضهما ببعض وفي شركة أحدهما مع الآخر (الآية 27). فصورة الله معبرٌ عنها لا في الرجل وحده، ولا في المرأة وحدها، بل في كليهما معاً، وفي كل منهما بطريقة خاصة.
على أن البعض أحياناً ما يؤكد العكس، على أساس أن بولس في (1 كورنثوس 11: 7) يقول إن الرجل هو صورة الله ومجده وإن المرأة هي مجد الرجل. وغالباً ما يساء استخدام هذه الآية في سبيل إنكار صورة الله على المرأة وإحدارها إلى أسفل الدرجات دون مستوى الرجل. غير أن بولس لا يتكلم في هذا الموضوع عن الرجل والمرأة باعتبار أحدهما منفصلاً عن الآخر، بل عن علاقتهما في الزواج. فعندئذ يقول إن الرجل، لا المرأة، هو الرأس. ويستخلص بولس ذلك من حقيقة كون الرجل ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل. فالرجل خُلِق أولاً، فصُنِع أولاً على صورة الله، وله أظهر الله مجده أولاً. وإذا كانت المرأة تشترك في هذا كله، فالأمر يحدث وساطياً، أي من الرجل وبه. فهي تلقت صورة الله، ولكن بعد الرجل وبالاعتماد عليه وبوساطته. من هنا كان الرجل صورة الله ومجده مباشرة واصلاً؛ أما المرأة فهي صورة الله ومجده بطريقة مكتسبة مادام مجد الله هو مجد الرجل. وما نقرأه بخصوص هذه المسألة في (تكوين 2) يجب أن يُضاف إلى ما نقرأه عنها في (تكوين 1). فالطريقة التي بها خُلقت المرأة في تكوين 2، هي الطريقة التي بها تتلقى مجد الله ومجد الرجل أيضاً (تكوين 1: 27). وهذا يشتمل على حقيقة أخرى بعد وهي أن صورة الله تستقر في أناس عديدين، مع فوارق الجنس والموهبة والقدرات، وبوجيز العبارة: في البشر أجمعين؛ وأن هذه الصورة أيضاً ستحقق ملء تجلِّيها في البشرية الجديدة التي هي كنيسة المسيح.
وثالثاً، تعلمنا الآية في (تكوين 1: 26) أنه كان لدى الله قصد في خلقه الإنسان على صورته، ألا وهو أن يتسلط الإنسان على جميع الخلائق الحية، وان يتكاثر وينتشر على وجه الأرض ويُخضعها. وإذا أحطنا الآن بقوة هذا الإخضاع تحت عنوان "الحضارة"، وهي تُستعمل الآن بهذا المعنى، نستطيع أن نقول إن الحضارة بمعناها الأوسع هي الغرض الذي لأجله خلق الإنسان على صورته. فالتنازع بين الدين والحضارة، والتدين والتمدين، والمسيحية والبشرية، قليل جداً بحيث يكون أصح أن نقول إن صورة الله قد أُسبغت على الإنسان كيما يُعلِن هذه الصورة بسيطرته على الأرض بكاملها. وهذه السيطرة على الأرض لا تتضمن فقط أقدم الأعمال التي احترفها الإنسان، كصيد الطير والسمك، والفلاحة وتربية المواشي، بل أيضاً التجارة والاشتغال بالمال، واستخراج كنوز المناجم والجبال، والعلم والفن. حضارة كهذه لا تنتهي إلى الإنسان وحسب، بل إلى الإنسان الذي هو صورة الله والذي يُخلِّف آثار روحه مطبوعة على كل ما يعمل؛ وهكذا تعود هذه الحضارة إلى الله الذي هو الأول والآخر.
إن مضمون صورة الله أو معناها يتكشف لنا أكثر في الإعلان الذي تم فيما بعد. فعلى سبيل المثال، يلفت انتباهنا أنه بعد السقوط أيضاً ظل الإنسان يُدعى صورة الله.
يُذكرنا (تكوين 5: 1 _ 3) مرة أخرى أن الله خلق الإنسان، الذكر والأنثى معاً، على شبهه، وأنه باركه، وأن آدم بالتالي ولد ولداً على شبهه، كصورته. وينهي (تكوين 9: 6) عن سفك دم الإنسان لأنه عُمِل على صورة الله. ويتغنى ناظم المزمور الثامن الجميل بمجد الرب وجلاله الذي يُبدي ذاته في السماوات والأرض، وعلى أبهى ما يكون في الإنسان العديم الشأن وتسلُّطه على أعمال يدي الله كلِّها. ثم لما تكلم بولس إلى الأثينيين في وسط أريوس باغوس، اقتبس مستحسناً قول أحد شعرائهم: لأننا أيضاً ذريته (أعمال 17: 28). وفي (يعقوب 3: 9)، حيث يعرض الرسول إلى إثبات شرِّ اللسان، يستخدم هذه المطابقة: به نبارك الله الآب، وبه نلعن الناس الذين قد تكونوا على شبه الله. ولا يقتصر الكتاب المقدس على تسمية الإنسان الساقط صورة الله، بل يمضي أيضاً، في سائر مواضعه معتبراً إياه هكذا ومُعامِلاً له على هذا الأساس. فهو ينظر دائماً إلى الإنسان باعتباره كائناً عاقلاً وأدبياً مسؤولاً أمام الله عن جميع أفكاره وأعماله وأقواله وملزماً أن يخدمه.
على أننا نجد، إلى جانب هذا البيان، أن الإنسان فقد صورة الله بالخطية. صحيح أن هذا لا يُقال لنا بصريح العبارة، لكنه شيء يمكن استنتاجه على نحو واضح من مجمل تعليم الكلمة المقدسة بخصوص الإنسان الخاطئ. فرغم كل شيء – كما سنعالج هذا بالتحديد فيما بعد - حرمت الخطية الإنسان البراءة والبر والقداسة، وأفسدت قلبه، وأظلمت فكره، وأمالت إرادته إلى الشر، وحوّلت ميوله عن الخير، ووضعت جسده وجميع أعضائه تحت عبودية الإثم. وتبعاً لذلك ينبغي للإنسان أن يتغيَّر، أن يولد من جديد، ويُبرر ويُطهر ويُقدس وهو لا يستطيع أن يشترك في جميع هذه الخيرات إلا عن طريق شركته مع المسيح الذي هو صورة الله (2 كورنثوس 4: 4؛ كولوسي 1: 15) والذي ينبغي لنا أن نكون مشابهين صورته (رومية 8: 29). وعلى ذلك، فالإنسان الجديد الذي يقوم في شركة مع المسيح بالإيمان، هو مخلوق بحسب إرادة الله في البر وقداسة الحق (أفسس 4: 24)، وهو يتجدد دائماً في المعرفة حسب صورة خالقه (كولوسي 3: 10). فالمعرفة والبر والقداسة التي يحصل عليها المؤمن عن طريق الشركة مع المسيح، لها جميعاً في الله أصلُها ومثالُها وغايتها النهائية، وهذه كلُّها تجعل الإنسان من جديد شريكاً للطبيعة الإلهية (2 بطرس 1: 4).
على أساس هذا التعليم من الكتاب المقدس يقوم التمييز الذي يؤكده علم اللاهوت المُصلح ما بين صورة الله بمعناها الأوسع وبينها بمعناها الضيق. فإذا كان الإنسان، يظلُّ بعد سقوطه ومعصيته يُدعى صورة الله وذريته من جهة، وقد فقد - من جهة أخرى - بسبب الخطية تلك الفضائل التي بها يماثل الله على وجه الخصوص والتي لا يُمكن استرجاعُها إلا بالشركة مع المسيح، فعندئذ يكون التوفيق بين هاتين المقولتين ممكناً فقط إذا كانت صورة الله تشتمل على ما يتعدى فضائل المعرفة والبر والقداسة. هذا الأمر أدركه اللاهوتيون المُصلحون وأكدوه في مواجهة اللاهوتيين اللوثريين والكاثوليك.
لا يميز اللوثريون بين صورة الله بمعناها الوسع وبينها بمعناها الأضيق. وإلا، فإذا ميزوا لا يعلقون أهمية كبيرة على الفارق ولا يحاولون فهم مغزاه. فليست صورة الله عندهم غير البرارة الأصلية لا أكثر ولا أقل، أي فضائل المعرفة والبر والقداسة. وبذا يعترفون بصورة الله بمعناها الأضيق فقط ولا يقدرون قيمة الحاجة إلى ربط هذه الصورة بكامل الطبيعة البشرية. وهكذا تُعتبر الحياة الدينية والخلقية عندهم وكأنها مجال خاص معزول. فهي ليست متعلقة، وليس لها من تأثير، بالعمل الذي يُدعى إليه الإنسان في الدولة والمجتمع، والعلم والفن. وما إن يُشارك المسيحي اللوثري في غفران الخطايا والشركة مع الله بالإيمان، حتى يكون له ما يكفيه. وهو يستقر في ذلك ويتمتع به، ولا يُعني بربط هذه الحياة الروحية، إلى الوراء. بمشورة الله واختياره، وإلى الأمام برسالة الإنسان الأرضية كلِّها.
وعلى هذا يترتب، في الاتجاه المعاكس، أنه عندما فقد الإنسان بره الأصلي بالخطية جُرِّد من صورة الله كلياً، فلم يبق فيه شيء منها، ولو بقايا صغيرة. وهكذا، فإن طبيعته العقلية والخُلقية التي يحتفظ بها إنما انتقص قدرها واعتراها الفساد.
أما الكاثوليك، على نقيض هذا، فيميزون فعلاً بين صورة الله بمعناها الأوسع وبينها بمعناها الأضيق، وإن كانوا لا يستعملون هذه الكلمات بالذات لتحديد ذلك. وهم أيضاً معنيُّون بتلمُّس علاقة بين الآخرين. غير أن هذه العلاقة عندهم خارجية لا داخلية، وهي مصطنعة لا حقيقية، وآلية لا عضوية. فهم يعرضون المسألة كما لو كان ممكناً تصور الإنسان من دون فضائل المعرفة والبر والقداسة (أي من دون صورة الله بالمعنى الأضيق) وكان ممكناً في الواقع أيضاً أن يوجد هكذا. وفي هذه الحال أيضاً تظل لدى الإنسان حياةٌ دينية وخلقية ما، ولكن فقط على النحو وإلى الدرجة اللذين يمكن أن يصدرا عن تديُّن طبيعي وخلقية طبيعية. هذا التديُّن وهذه الخُلُقية، إن صح التعبير، يظلان مقصورين على هذه الأرض، ولا يُمكن أن يمهدا سبيل الإنسان لبلوغ السعادة الأبدية ومعاينة الله. ومع أنه من الممكن، على نحو الإطلاق، أن يتمكن إنساناً كهذا دون أن تكون له صورة الله بالمعنى الأضيق من تتميم واجبات الدين والناموس الأدبي الطبيعي، فإن ذلك بالحقيقة صعبٌ جداً طالما الإنسان شخص مادي طبيعي حسي. ورغم كل شيء، فالشهوة هي دائماً صفة مميزة لهذه الطبيعة الإنسانية الحسية. هذه الشهوة أو الرغبة الغريزية، وإن لم تكن خطية في ذاتها هي فرصة إغواء لارتكابها. إذ أن من الطبيعية الحسية، في جوهرها، ولكونها مادية جسدية، هي ضد الروح وتشكل خطراً يتهددها دائماً. وهذا الخطر هو في أن تهزم قوة الجسد العقل والإرادة.
لهذين السببين، يرى الفكر الكاثوليكي أن الله في إنعامه المطلق أسبغ على الإنسان الطبيعي صورة الله بالمعنى الضيق. وكان في استطاعته تعالى أن يخلق الإنسان خلواً من هذه الصورة. ولكن لأنه سبق فرأى أن الإنسان عندئذٍ سيقع بسهولة فريسة في قبضة الشهوة الجسدية، وأيضاً لأنه أراد أن يرقّي الإنسان إلى حالة من السعادة أرفع مما هو مُتاح هنا على الأرض، أي إلى المجد السماوي، وإلى الحضرة الإلهية بالذات، لذلك أضفى الله براً أصلياً على الإنسان الطبيعي، فرقاه بذلك من حالته الطبيعية إلى ذروة فائقة للطبيعة وأسمى. وهكذا تحقق قصد مزدوج: فأولاً، صار في وسع الإنسان الآن، بفضل معونة هذه الإضافة الروحية، أن يسيطر بسهولة على الشهوة التي يتوارثها الجسد طبيعياً، وثانياً، صار بوسع الإنسان الآن أن يُحرز خلاصاً روحياً متناسباً وهذه الموهبة الإضافية، وذلك بإتمام الواجبات الروحية التي تُمليها البرارة الأصلية (المنوطة بصورة الله بالمعنى الأضيق). وهكذا يرى الكاثوليك أن هذه الإضافة الفائقة للطبيعة والمتمثلة في البر الأصلي تؤدي غرضين: إذ تقوم بدور قيدٍ ضابط للجسد، وتمهد السبيل لاستحقاق السماء.
أما لاهوتيو الكنائس المُصلحة فيقفون موقفاً وسطاً بين موقفي الكاثوليك واللوثريين. إذ يرون أن كلمة الله تعلن أن صورة الله أكبر من البرارة الأصلية وأكثر حسماً منها. فإنه وإن كانت هذه البرارة الأصلية قد فُقِدت من جراء الخطية، فما زال الإنسان يحمل اسم صورة الله وذريته، إذ بقيت فيه بقايا قليلة من صورة الله التي خلق عليها أصلاً. ولذلك لا يمكن أن تكون البرارة الأصلية هبة إضافية، منفصلة ومستقلة، ولا علاقة لهما بالطبيعة البشرية إجمالاً. فليس صحيحاً أن الإنسان وُجد أولاً، سواءٌ في الفكر أو في الواقع، ككائن طبيعي خالص ثم أُضيفت عليه بعد ذلك البرارة الأصلية من علُ. بل بالأحرى،في الفكر والخلق على السواء، وُجِد الإنسان وله هذه البرارة الأصلية. ففكرة الإنسان تتضمن براً كهذا. إذ لولاها لما كان ممكناً تصور الإنسان ولا وجوده. وصورة الله بالمعنى الأضيق مرتبطة بصورته بالمعنى الأوسع ارتباطاً متكاملاً. فليس دقيقاً القول إن الإنسان يحمل صورة الله وحسب، بل هو صورة الله. إن صورة الله مطابقة للإنسان، وحاسمةٌ شأنُها شأن إنسانية الإنسان. وبقدر ما بقي الإنسان إنساناً حتى في حالة الخطية، بذلك القدر بقيت لديه بقايا من صورة الله. وبمقدار ما فقد صورة الله، بذلك المقدار لم يعُد إنساناً - إنساناً حقيقياً وكاملاً.
ومهما يكن، فإن صورة الله بالمعنى الضيق ليست سوى سلامة الإنسان أو صحته الروحية. فإذا مرض الإنسان جسداً ونفساً، بل إذا فقد صواب عقله، يبقى مع ذلك الإنسان. إلا أنه حينذاك يكون قد فقد شيئاً يخص انسجام الإنسان، ونال عوضاً عن ذلك شيئاً يناقض هذا الانسجام. وهكذا أيضاً لما فقد الإنسان من جراء الخطية برارته الأصلية، ظل إنساناً، ولكنه فقد شيئاً لا يمكن فصله عن فكرة الإنسان، ونال بدلاً منه شيئاً يناقض تلك الفكرة. ومن هنا، فإن الإنسان، إذ فقد صورة الله، لم يصر شيئاً آخر غير الإنسان، بل ظلت لديه طبيعته العقلية والأدبية. وما فقده لم يكن شيئاً لا يخصُّ في الواقع طبيعته بالدرجة الأولى؛ كما كان ما تلقاه عوضاً عن ذلك شيئاً استولى على طبيعته بكاملها وأفسدها. ومثلما كان البر الأصلي هو سلامة الإنسان وصحته الروحية، كذلك أصبحت الخطية هي داءه الروحي. فالخطية هي فسادٌ أدبي وموت روحي، موتٌ بالخطايا والذنوب - على حد تعبير الكتاب.
ومن شأن مثل هذا المفهوم لصورة الله أن يضع كامل تعليم الكتاب المقدس في نصابه الصحيح. ذلك أنه مفهوم يصون في آن معاً العلاقة والتمييز بين الطبيعة والنعمة، والخلق والفداء. وهذا المفهوم يعترف اعترافاً واضحاً مقروناً بالشكران، بنعمة الله التي أتاحت للإنسان، بعد السقوط أيضاً أن يظل إنساناً، وظلَّت تعتبره وتعامله بصفته مخلوقاً عاقلاً وأدبياً ومسؤولاً. كما أن هذا المفهوم يعتبر في الوقت نفسه أن الإنسان، إذ سُلِب صورة الله، بات فاسداًَ كلياً ونزَّاعاً إلى الشر. وفي الحياة والتاريخ ما يمدنا بما يُثبت هذا. فإن الطبيعة البشرية، حتى في أدنى سقوطها وأعمقه، ظلَّت مع ذلك طبيعة بشرية. ومهما كان الأوج الذي يبلغه الإنسان في إنجازاته، يبقى ضعيفاً وصغيراً، ومذنباً ونجساً. ذلك أن صورة الله وحدها هي التي تجعل الإنسان إنساناً حقاً وكاملاً.
إذا حاولنا الآن أن نتفحص مضمون صورة الله، فإن أول ما يسترعي انتباهنا هي طبيعة الإنسان. فهو كائن جسدي، لكنه أيضاً كائن روحي؛ وله نفسٌ هي في جوهرها روح. وهذا واضح جلياً مما يعلم به الكتاب المقدس في ما خص أصل النفس البشرية وجوهرهما ومداها. أما من حيث أصلُها، فنقرأ عن آدم أنه - على خلاف الحيوانات - تلقى نسمة حياة من علُ (تكوين 2: 7)، وهذا ينطبق على جميع البشر بمعنىً ما. فالله هو الذي يُعطي كل إنسانٍ روحه (جامعة 12: 7)، والذي يكون روح الإنسان في داخله (زكريا 12: 1)، لذلك يُمكن أن يُدعى أبا الأرواح، بخلاف آباء الجسد (عبرانيين 12: 9). وهذا المصدر الخاص الذي جاءت منه نفس الإنسان، يحدد جوهرها أيضاً. صحيحٌ أن الكتاب المقدس في بضعة مواضيع، ينسب إلى الحيوانات نفساً (تكوين 2: 19، 9: 4 ومواضعٍ أخرى)، غير أن الإشارة في هذه الحالات هي إلى مبدأ الحياة بمعنى عام. فللإنسان نفسٌ مختلفة وأسمى، نفسٌ هي في ذات جوهرها روحية بنوعها. ويتضح ذلك عندما ينسب الكتاب إلى الإنسان روحاً خاصة لا ينسبها البتة إلى الحيوان. وبينما تمتلك الحيوانات روحاً، بمعنى أنها - كمخلوقات - قد خلقها الله ويعتني بها بروحه (مزمور 104: 30)، فإن كلاً منها ليست له روح مستقلة خاصة به. أما الإنسان فله.[56] وبسبب الطبيعة الروحية تكتسب نفس الإنسان الخلود، إذ لا تموت بموت الجسد كما في الحيوان، بل ترجع إلى الله معطي الروح (جا 12: 7). ولا يُمكن أن يقتل الناس النفس كما يقتلون الجسد (متى 10: 28). وبوصفها روحاً، فهي تستمر موجودة (عب 12: 9؛ 1 بط 3: 19).
والهوية الروحية للنفس ترفع الإنسان فوق مستوى الحيوان، وتؤتيه نقطة مشابهة للملائكة. حقاً أنه ينتمي إلى العالم المحسوس، لكونه أرضياً ومن الأرض، ولكنه بفضل روحه يسمو بعيداً فوق الأرض، ويسير بحرية ملوكية في عالم الأرواح. وبفضل طبيعة الإنسان الروحية، فهو ذو صلة بالله الذي هو روح (يوحنا 4: 24) والذي يسكن الأبد (إشعياء 57: 15).
وثاني أمرٍ يلفتنا في هذا المجال هو استعلان صورة الله في القدرات والطاقات التي وُهِبت لروح الإنسان. صحيحٌ أن الحيوانات العليا تستطيع بحسها أن تكوِّن صوراً وتربطها بعضها ببعض، إلا أنها لا تقوى على مجاوزة هذا. أما الإنسان، فعلى نقيض ذلك يرتقي فوق مستوى الصور ويلج عالم المفاهيم والأفكار المجردة. فبفضل الفكر، وهو لا يُمكن أن يُفهم على أساس أنه حركة من حركات العقل بل ينبغي أن يُعتبر نشاطاً روحياً يستنتج الإنسان العام من الخاص ويرتقي من صعيد المرئيات إلى صعيد اللامرئيات، ويكوّن فكراً عما هو حقٌ وخيِّر وجميل، ويتعلم أن يعرف قدرة الله السرمدية ولاهوته عن طريق خلائقه. وبفضل الإرادة، وهي ينبغي أيضاً أن تُميز عن الشهوة الرديئة، يعتق الإنسان من العالم المادي ويصل إلى الحقائق غير المنظورة والمجاوزة للحس. حتى إن عواطفه لا تتحرك، بأي حالٍ، فقط بواسطة ما في العالم المادي من أمور نافعة ومُسرة، بل تثيرها وتحرضها أيضاً الخيرات الروحية المثالية التي لا تخضع أبداً للقياسات الرياضية. هذه القدرات والنشاطات كلُّها لها نقطة انطلاقها ومركزها في الوعي الذاتي الذي به يُدرك الإنسان نفسه، وبواسطته يحمل الإنسان داخل نفسه إحساساً لا يُلاشى بوجوده وبخصوصية طبيعته العقلية والأدبية. ثم إن جميع هذه الملكات الخاصة تعبر عن ذاتها بصورة ظاهرة في اللغة والدين، والأخلاق والقانون، والعلوم والفنون. وكلُّها بالطبع، شأنها شان أمورٍ كثيرة غيرها، مختصة بالإنسان ولا يُمكن وجودها البتة في عالم الحيوان.
هذه القدرات والنشاطات كلُّها من خصائص صورة الله. لأن الله، بحسب إعلان الطبيعة والوحي، ليس قوة عمياء غير واعية، بل هو كائن ذو شخصية ووعي ذاتي ومعرفة وإرادة. حتى العواطف والمشاعر والانفعالات الوجدانية، كالغضب والغيرة والشفقة والرحمة والمحبة وما إليها، تُنسب في الكتاب المقدس إلى الله بغير ما تردُّد، لا من حيث هي مشاعر يجتازها تعالى على نحوٍ لا إرادي، بل بوصفها نشاطات قائمة في كيان قدرته وقداسته ومحبته. وما كانت الكلمة المقدسة لتتكلم عن الله بهذه الطريقة البشرية لو لم يكن الإنسان، بجميع نشاطاته وقدراته، مخلوقاً على صورة الله.
أما ثالثُ أمرٍ فيما نحن بصدده، فهو أن الكلام نفسه ينسحب على جسد الإنسان. فحتى الجسد ليس مُستثنى من صورة الله. حقاً إن الكتاب يقول بصريح العبارة إن الله روح (يوحنا 4: 24)، وهو لا ينسب إليه جسداً، ولو في موضع واجد؛ إلا أن الله رغم ذلك هو خالق الجسد أيضاً كما انه خالق العالم الحسي كله. فجميع الأشياء، بما فيها المادي، لها مصدرها ووجودها بفضل الكلمة الذي كان مع الله (يو 1: 3، كولوسي 1: 15)، ولذلك تستقر في الفكر وفي الروح. أضف إلى هذا أن الجسد، وإن لم يكن هو علة هذه النشاطات الروحية كلها، فهو أداتها. فليست الأذن هي التي تسمع، بل روح الإنسان من خلال الأذن.
من هنا كان ممكناً أن تُنسب إلى الله جميع النشاطات التي نقوم بها بواسطة الجسد، بل أيضاً الأعضاء الطبيعية التي بواسطتها نقوم بها. فالكتاب يتكلم عن يدي الله ورجليه، وعن عينيه وأذنيه، وعن كثير غير هذه، في سبيل أن يبيِّن أن كل ما يستطيع الإنسان أن ينجزه بواسطة الجسد إنما يعود لله، وذلك بطريقة أصلية وكاملة. الغارس الأذن ألا يسمع، الصانع العين ألا يُبصر؟ (مز 94: 9). إذاً، بمقدار ما يؤدي الجسد دور الأداة والآلة بالنسبة إلى الروح، فهو ينمُّ عن تشبيهٍ معين للطريقة التي بها ينشط الله في العالم، كما يُعطينا الجسد أيضاً مفهوماً ما لهذه الطريقة.
هذا كلُّه يختص بصورة الله بمعناها الأوسع. إلا أن مشابهة الإنسان لله تبرز للعيان بأكثر وضح في البر الأصلي الذي وُهِب للإنسان الأول، والذي يُدعى صورة الله بالمعنى الأضيق. وعندما يشدد الكتاب المقدس على هذا البر الأصلي، فهو يُعلن بذلك أن أهم ما في صورة الله ليس وجودها وحسب بل ماهيتها. فالأمر الأساسي ليس أننا نفكر ونبغض ونحب ونريد. بل إن مشابهة الإنسان لله تكتسب أهميتها مما نفكر فيه ونريده، ومما هو غرض بعضنا أو حبنا. فقوى العقل والإرادة والمحبة والنفور إنما وهبت للإنسان لهذا الغرض بالذات: كي يستخدمها الاستخدام الصحيح، أي بحسب مشيئة الله ولمجده. والأبالسة أيضاً احتفظوا بقوى الفكر و الإرادة، غير أنهم يوظفونها فقط في خدمة بغضائهم لله وعداوتهم له. حتى الإيمان بوجود الله، وهو بحد ذاته شيءٌ صالح، لا يُعطي الشياطين إلا الاقشعرار والخوف من دينونة الله (يعقوب 2: 19). وفيما خص اليهود الذي دعوا أنفسهم أبناء إبراهيم ودعوا الله أباً لهم، قال المسيح مرةً إنه لو كان الأمر كذلك لكانوا يعملون أعمال إبراهيم ويحبون الابن الذي أرسله الله. ولكن لأنهم كانوا يعملون عكس ذلك تماماً وقد طلبوا أن يقتلوا يسوع، كشفوا أنهم كانوا بالفعل من أبٍ هو إبليس وأنهم يريدون أن يعملوا شهوات أبيهم (يوحنا 8: 39 - 44). فالرغبات التي أذاها اليهود، والأعمال التي عملوها، جعلتهم أشباهاً للشيطان، على رغم كل ما كان لديهم من تمييز حاذق وطاقة بارعة. وهكذا أيضاً مشابهة الإنسان لله لا تبرز للعيان بصورة رئيسية في حقيقة امتلاك الإنسان للعقل والفهم والإرادة. إذ إنها تعبّر عن نفسها أساساً في المعرفة الخالصة والقداسة التامة والبر الكامل، وهذه كلُّها تشكل صورة الله بالمعنى الأضيق، والتي خُصَّ الإنسان بامتياز الحصول عليها وازدان بها عند خلقه.
لم يكن قوام المعرفة التي أُعطيت للإنسان الأول حقيقة كونه يعرف كل شيء ولم يكن أمامه شيءٌ يتعلمه بعدُ عن الله وعن العالم وعن ذاته. فحتى معرفةُ الملائكة والقديسين هي خاضعة للنمو. وهكذا كانت معرفة المسيح على الأرض حتى آخر حياته. فتلك المعرفة الأصلية لدى الإنسان الأول تتضمن بالأحرى أن آدم تلقى معرفة وافية بوضعه ودعوته، وأن هذه المعرفة كانت معرفة خالصة. وكان يحب الحق بكل نفسه. ولم تكن الكذبة إذ ذاك قد وجدت مكاناً في قلبه، بكل ما أعقبها من مصائب الضلال والشك وعدم الإيمان واللايقين. كان قائماً في الحق، وقد رأى كل شيء وقدّر قيمته كما كانت بالحقيقة.
وقد كان ثمر هذه المعرفة بالحق هو البر والقداسة. ومعنى القداسة أن الإنسان الأول خُلق بريئاً من كل أثر للخطية. فطبيعته لم تكن ملوثة بأي فساد: لا فكر شرير، ولا قصد سوء، ولا رغبة باطلة خرجت من قلبه. ولم يكن ساذجاً أو بسيطاً، بل إنه عرف الله، وعرف ناموس الله الذي كان مكتوباً في قلبه، وأحب ذلك الناموس بكل نفسه. ولأنه كان قائماً في الحق، فقد كان أيضاً قائماً في المحبة. ومعني البر أن الإنسان الذي على هذا النحو عرف الحق في ذهنه، والذي كان طاهراً في إرادته وفي جميع رغباته، تجاوب بذلك مع ناموس الله كلياً، ووفي إلى التمام مطاليب عدالته تعالى، ووقف أمام وجه الله بلا ذنبٍ البتة. ثم إن الحق والمحبة يأتيان بالسلام في اعقابهما - السلام مع الله، ومع أنفسنا ومع العالم كلِّه. فالإنسان الذي يقوم في المقام الصحيح، المقام الذي هو له، يقوم أيضاً في العلاقة الصحيحة بالنسبة إلى الله وغلى جميع الخلائق أيضاً.
عن هذا الحال أو الظرف الذي عليه خُلِق الإنسان الأول، لا نستطيع بعدُ أن نكوّن فكرة دقيقة: عقلٌ وقلب، وذهنٌ وإرادة، نقيةٌ كلُّها وبلا خطية – ذلك شيءٌ بعيدٌ جداً عن نطاق اختباراتنا كلِّها. وحينما نقف لنتأمل كيف اندسّت الخطية في كل تفكيرنا وكلامنا، وفي كل خياراتنا وأفعالنا، حينئذٍ قد يداخلُنا في قلوبنا حتى الشكُ في إمكانية مثل هذه الحالة للإنسان، أي حالة الحق والمحبة والسلام. على أن كلمة الله المقدسة تُحرز النصر وتدحر كل شيء. فهي تُرينا، أولاً، وليس في البداءة فقط بل في منتصف التاريخ أيضاً، هيئة إنسانٍ استطاع بكل حقٍّ أن يتحدى خصومه بالسؤال: من منكم يبكِّتني على خطية؟ (يوحنا 8: 46). فقد كان المسيح إنساناً حقاً، وإنساناً كاملاً أيضاً. إنه لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه غش (1 بطرس 2: 22). ثانياً، يعلِّم الكتاب المقدس أن الزوجين البشريين الأولين خُلِقا على صورة الله في البر والقداسة كثمرٍ للحق المعلن. وهكذا يؤكد الكتاب أن الخطية لا تنتمي إلى جوهر الطبيعة البشرية، وأنها لذلك يُمكن أن تُبعد عن الطبيعة البشرية وتُفصل عنها.
فإذا كانت الخطية ملتصقة بالإنسان منذ أصله الأول، وبسبب من الطبيعة التي له، فعندئذٍ لا يمكن الفداء من الخطية. وعندئذ يكون الفداء من الخطية معادلاً لمحق الطبيعة البشرية. ولكننا نرى الآن ليس فقط أن كائناً بشرياً يمكن أن يوجد بلا خطية فيا لمطلق، بل أن مثل هذا الكائن قد وُجِد فعلاً. ثم لما سقط، ليُحرر الإنسان الساقط من ذنوبه ويطهِّره من كل دنس. فخلق الإنسان على صورة الله مع إمكانية سقوطه. تتضمن إمكانية فدائه وإعادة خلقه. غير أن من يُنكر الأمر الأول لا يستطيع أن يُثبت الثاني: فإنكار السقوط له وجهٌ آخر، ألا وهو التبشير غير المعزّي بعدم إمكان افتداء البشر. فلكي يتمكن الإنسان من أن يسقط، لا بد أن يكون في الأول قائماً. وحتى يفقد صورة الله، لا بد أن يكون قد امتلكها أولاً.
وقد كان لخلق الإنسان على صورة الله - كما نقرأ في (تكوين 1: 26 و 28) - غرضه الأقرب في أن يملأ الإنسان الأرض ويُخضعها ويتسلط عليها. ومثل هذه السيطرة ليست عنصراً مكوِّناً من عناصر صورة الله. ولا هي - على حد ما ذهب بعضهم إليه - قوام تلك الصورة بالكامل. ثم إنها ليست على الإطلاق إضافة اعتباطية عارضة. وعلى نقيض هذا، فإن التشديد الموضوع على هذا التسلط وعلاقته الوثيقة بالخلق على صورة الله، يدل دلالة حاسمة على أن هذه الصورة يُعبَّر عنها بالتسلط، وبه يجب أن تفسر نفسها وتنكشف أكثر فأكثر. وإلى هذا. ففي وصف ذلك التسلُّط يُقال صراحةً إنه، إلى حدٍ ما، أُعطي في الحال للإنسان كهبةٍ بالفعل، لكنه لن يتحقق إلى أبعد حد إلا في المستقبل. ومع كلٍّ، فالله لا يقول فقط إنه سيصنع "الناس" على صورته وكشبهه (تكوين 1: 26)، ولكنه لما صنع أول زوجين بشريين، ذكراً وأنثى باركهما قائلاً: أثمروا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها (تك 1: 28)، ثم عاد فيما بعد فأعطى آدم المهمة المحددة بأن يعمل الجنة ويحفظها (تك 2: 15).
هذا كلُّه يعلمنا بوضوح بالغ أن الإنسان قد خُلِق ليكون لا خاملاً بل عاملاً. فما كان مسموحاً له أن يستريح على أمجاده، بل كان عليه أن ينطلق إلى العالم الفسيح كي يُخضعه لقوة كلمته وإرادته. فهو أُعطي على الأرض مهمة كبيرة وغنية ومتعددة الوجوه. أعطي وظيفةً تستغرق قروناً من الجهد كي تُنجز. ودُلَّ على السير في درب طويل لا يُستقصى. كان عليه أن يواصل الخطى فيه حتى يبلغ نهايته. وباختصار، إن بين الحالة التي عليها خُلِق الإنسان الأول والمقصد الذي دُعي إليه فرقاً كبيراً وبوناً شاسعاً.صحيح أن هذا المقصد مرتبط بطبيعته ارتباطاً وثيقاً، مثلما أن طبيعته مرتبطة على نحوٍ وثيق بأصله، إلا أن التمييز قائمٌ رغم ذلك. فإن طبيعة الإنسان، أي جوهر كيانه - صورة الله التي خُلق عليها - ينبغي أن تبلغ إماطة اللثام عن مضمونها بصورةٍ تتزايد دائماً في الغنى والكمال، وذلك عن طريق السير الحثيث نحو مقصدها. وبكلام مجازي، كان واجباً أن تُمد صورة الله إلى أقاصي الأرض وتنطبع على كل أعمال يدي الإنسان. فقد كان على الإنسان أن يتعهد الأرض بحيث تصير،أكثر فأكثر، إعلاناً لصفات الله السنيّة.
لذلك كانت السيطرة على الأرض هي الغاية القُربى التي دُعي الإنسان إليها، لكنها لم تكن الوحيدة. وطبيعة المهمة تدلُّ على هذا الواقع. فالعمل الذي هو عملٌ حقاً لا يُمكن أن تكون له غايته وغرضه النهائي في ذاته،
بل إن له غرضاً أبعد في إبراز شيء إلى الوجود. وما إن يتحقق ذلك الهدف حتى ينتهي العمل. فالعمل لمجرد العمل، دون خطة ولا قصد ولا غاية، إنما هو عملٌ بلا رجاء وليس خليقاً بالإنسان العاقل. والتطوير الذي يدوم إلى ما لا نهاية، لا يكون تطويراً حقاً. فالتطوير يتضمن قصداً وسبيل عمل وغايةً نهائية ومقصداً. فإذا دُعي الإنسان عند خلقه إلى العمل، كان ذلك يعني ضمناً أنه هو نفسه والناس العتيدين أن يطلعوا منه ينبغي أن يدخلوا راحةً بعد العمل.
ويأتي تأسيس الأسبوع ذي الأيام السبعة فيُثبت هذا الاقتناع ويعزّزه. ففي عمل الخلق استراح الله في اليوم السابع من جميع عمله. ولما كان الإنسان مصنوعاً على صورة الله، فعند وقت خلقه حصل حالاً على الحق والامتياز الكائنين في اتّباع المثال الإلهي في هذه الناحية أيضاً. وقد كان العمل المُلقى على عاتق الإنسان في ملء الأرض وإخضاعها محاكاة ضعيفة لنشاط الله في الخلق. وعمل الإنسان أيضاً هو عملٌ يُباشر بعد قصد، ويسير في سبيل فعلٍ معين، ويوجه صوب غرضٍ محدد. فليس الإنسان آلةً تتحرك بلا وعي؛ إذ إنه لا يُشغل بواسطة دواسة في حركة رتيبة لا تتغير. ففي العمل أيضاً، الإنسان هو إنسانٌ على صورة الله، كائنٌ مفكر ومُريد وفاعل، يسعى لأن يبتكر شيئاً، وينظر في النهاية إلى علم يديه باستحسان. فكما العمل بالنسبة لله، كذلك عمل الإنسان ينتهي بالراحة والمتعة والرضى. والأسبوع المؤلف من ستة أيام يتوجها يوم الراحة، أي السبت، يشرِّف عمل الإنسان ويرفع العامل فوق الحركة الرتيبة للطبيعة العديمة الروح، ويطبع ذلك العمل بطابع الدعوة الإلهية المصدر. وعليه، فإن الذي يدخل في يوم السبت راحة الله بمقتضى قصده تعالى، يستريح من أعماله على النحو البهيج عينه الذي به استراح الله من أعماله (عبرانيين 4: 10). وكما يصحُّ هذا بالنسبة للفرد، يصحُّ أيضاً بالنسبة للكنيسة، وكذلك بالنسبة للبشرية جمعاء. فالعالم أيضاً عنده عمله العالمي كي يُنجزه، وهذا العمل يعقبه ويختمه سبت راحة. والحال أن كل يوم سبت ما هو إلا عينة من تلك الراحة الباقية، مثلما هو إنباءٌ بها وعربونٌ لها (عب 4: 9).
لذلك السبب يقول "إقرار هايدلبرج للعقيدة" بسداد إن الله خلق الإنسان صالحاً وعلى حسب صورته تعالى لكي يتسنى له أن يعرف الله خالقه حق المعرفة ويحبه محبة قلبية، ويعيش معه في سعادة أبدية ليحمده ويمجده. فغاية الإنسان القصوى تكمن في السعادة الأبدية، وفي تمجيد الله في السماء وعلى الأرض. ولكن قبل أن يصل الإنسان إلى هذه الغاية كان عليه أولاً أن يُتمم مهمته على الأرض. وقبل أن يدخل راحة الله، كان عليه أولاً أن يُنجز عمل الله. فالطريق إلى السماء تجتاز الأرض وتجاوزها. وسبيل الدخول إلى سبت الراحة تُمهده ستة أيام من العمل. كذلك يبلغ المرء الحياة الأبدية بعد عناء العمل.
حتى الآن ركزنا أفكارنا فيما يتعلق بالتعليم المختص بغاية الإنسان، كلياً على ما يكشفه لنا (تكوين 1: 26 -2: 3). على أن الجزء الباقي من الفصل الثاني يحتوي على عنصر مكوِّن آخر ينبغي أن يُضاف إلى ما سبق. فإذ يضع الله الإنسان في الجنة، يخوِّله حق الكل ما شاء من جميع شجر الجنة، ما عدا واحدة فقط يُفرِدها تعالى كاستثناء، ألا وهي شجرة معرفة الخير والشر. وقد قيل للإنسان إنه لا يجوز له أن يأكل من تلك الشجرة، وإنه يوم يأكل منها موتاً يموت (تك 2: 16 و 17).
فالآن يُزاد على كل ما سبق الأمرُ به شيءٌ واحدٌ منهيٌ عنه . وكانت الوصايا المطلوبة من آدم معروفة عنده، في جزء منها، من التأمل في قلبه، وفي جزء آخر من كلمة الله المنطوقة. فآدم لم يخترع الوصايا، بل إن الله خلقها فيه وبلّغه إياها. فالإنسان ليس ذاتي المبادرة في مسائل الدين والأخلاق. إنه ليس هو المشترع لذاته، وليس له أن يفعل ما يحلو له، بل إن الله بالأحرى هو مشرعه (المشترع له) وقاضيه (إشعياء 33: 22). والآن تلخصت جميع الوصايا التي تلقاها آدم في مطلب واحد، ألا وهو أن الذي خُلق على صورة الله ينبغي له، في كل فكر وكل عمل، وفي جميع مناحي حياته وعمله، أن يظل على صورة الله. فقد كان واجباً أن يبقى الإنسان صورة الله لا في حياته الخاصة شخصياً وحسب، بل أيضاً في زواجه وأسرته، في عمله ستة أيام من الأسبوع وراحته في اليوم السابع، في إعماره الأرض وتكاثره على وجهها، في إخضاعه للأرض والتسلط عليها، في تعهُّده الجنة وحفظها. فما كان لآدم أن يسلك سبيله الذاتي، بل بالأولى أن يسلك السبيل الذي رسمه له الله.
إلا أن هذه الوصايا كلها، وقد أتاحت لآدم - إن صح التعبير- حرية الحركة وجعلت الأرض كلها مسرح عمليات له، زيدت نهياً واحداً أو بالأحرى قُيِّدت به. وهذا النهي عن الأكل من شجرة معرفة الخير والشر، لا ينتمي إلى صورة الله، أي ليس عنصراً مكوناً من عناصرها. بل إنه - على عكس ذلك تماماً - يرسم لها حدودها. فإن تعدى آدم هذا النهي، يفقد صورة الله، ويضع نفسه خارج دائرة الشركة مع الله، وموتاً يموت. إذاً بهذه الوصية تُمتحَن طاعة الإنسان. فهذه الوصية تُثبت هل سيسير الإنسان في طريق الله أو في طريقه الذاتية، هل يلتزم جادة الصواب أو يضل عنها، هل يبقى ابناً لله في بيت الآب أو يريد أن يأخذ القسم الذي يُصيبه من الخيرات ويذهب إلى كورة بعيدة. من هُنا أيضاً تُضفي على هذا النهي عادةً تسمية الوصية الاختبارية. ومن هنا أيضاً كان لها - بمعنىً من المعاني - مضمون اختياري. فلم يكن يسع آدم وحواء أن يجدا أي سبب لمنعهما هذه الشجرة بالذات. بكلام آخر، كان عليهما أن يعملا بالوصية لا لأنهما سبرا أغوار مضمونها المعقول وفهماها، بل فقط لأن الله أوصى بها، وذلك على أساس سلطانه المطلق، يدفعهما إلى ذلك دافع الطاعة الخالصة انطلاقاً من احترام حقٍّ لواجبهما. ولهذا أيضاً سُميت الشجرة المنهي عن الأكل من ثمرها شجرة معرفة الخير والشر. فقد كانت هي الشجرة التي ستبين هل سيريد الإنسان - اختياراً وبقناعة ذاتية أن يحدد ما هو خير وما هو شر، أو أنه في هذه المسألة سيسمح لنفسه بأن ينقاد كلياً بالوصية التي أعطاه الله إياها بخصوصها ويحفظها كما يجب.
إذاً، أُعطي الإنسان الأول بالفعل شيئاً كثيراً ليعمله، كما أنه أُعطي شيئاً ما - وإن يكن قليلاً - كي لا يعمله. والمطلب الثاني على العموم أصعب الاثنين. فكم من الناس يرغبون أن يفعلوا، في سبيل صحتهم مثلاً، أموراً كثيرة على نحوٍ لا يكاد يُصدَّق، إلا أنهم لا يرغبون في التخلي عن شيء في سبيل ذلك، أو قل لا يتخلَّون إلا عن القليل. إذ يعتبرون أدنى إنكارٍ للذات عملاً لا يُطاق. فالمحظور يهيئ نوعاً من الإغواء غريباً، إذ يُثير أسئلة تدور حول ماذا ولماذا وكيف. إنه يُثير الشك ويهيج المخيلة. هذه التجربة، التي أثارتها الوصية الاختبارية، كان على الإنسان الأول أن يقاومها. وذلك كان جهاد الإيمان الذي أُعطي له كي يُجاهده. إلا أنه تلقي أيضاً. في صورة الله التي خُلق عليها، القوة التي كان يمكن بها أن يظل قائماً وينتصر.
على أنه يتضح أن مصير الإنسان، أو غايته، هو أن يكون متميزاً عن الخليقة. يتجلى ذلك في الوصية الاختبارية بأكثر وضوح مما يظهر في تأسيس الأسبوع ذي الأيام السبعة. فآدم لم يكن في البداءة ما كان ممكناً له أن يكون وما كان له أن يصير إليه في النهاية. فهو سكن في الفردوس، وليس في السماء. إذاً كان أمامه طريق طويل يسلكه قبل أن يصل إلى مقصده النهائي. فكان عليه أن يصل إلى الحياة الأبدية بعد إطاعة ما أُوصي به وتجنُّب ما نُهي عنه. وباختصار، ثمة فرق شاسع بين حالة البراءة التي خُلق فيها الإنسان الأول وحالة المجد التي قُدرت له. أما طبيعة هذا الفرق فيُلقي عليها الضوء باقي ما جاء في الإعلان الإلهي.
كان آدم خاضعاً لتبدل الليل والنهار والنوم واليقظة، غير أننا نقرأ عن أورشليم السماوية أنه لن يكون فيها ليل (رؤيا 21: 25، 22: 5)، وأن المفديين بدم الحمل يقفون أمام عرش الله ويخدمونه ليلاً ونهاراً في هيكله (رؤ 7: 15). وكان الإنسان الأول خاضعاً لتقسيم الأسبوع إلى ستة أيام عمل ويوم راحة واحد؛ غير أنه تبقى فيما بعد راحةٌ لشعب الله أبديةٌ لا تنقطع (عب 4: 9، رؤ 14: 13). وفي حالة البراءة كان الإنسان يحتاج إلى الطعام والشراب كلَّ يوم؛ غير أنه في المستقبل سيُبيد الله الجوف والأطعمة معاً (1 كو 6: 13). وقد كان أول زوجين بشريين ذكراً وأنثى بورِكا وطُلب منهما أن يُثمرا ويتكاثرا.
أما في القيامة فالناس لا يزوِّجون ولا يتزوَّجون بل يكونون كملائكة الله في السماء (متى 22: 30). وكان الإنسان الأول، آدم، من الأرض تُرابياً، وله جسدٌ طبيعي، وهكذا كان نفساً حية؛ غير أن المؤمنين في القيامة يُمنحون جسداً روحانياً ويكونون عندئذٍ على صورة الإنسان السماوي، صورة المسيح الرب من السماء (1 كو 15: 45 - 49). ثم إن آدم خلِق على حالةٍ يمكن فيها أن يضل ويُخطئ، أن يسقط ويموت؛ غير أن المؤمنين يُرقون فوق هذا الاحتمال حتى وهم على الأرض. إذ يمكنهم أن يكفوا عن ارتكاب الخطية، لأن كلَّ من هو مولود من الله لا يفعل خطية، لأن زرعه يثبت فيه: ولا يستطيع أن يُخطئ لأنه مولود من الله (1 يوحنا 3: 9). إنهم لا يُمكن أن يسقطوا سقوطاً لا قيام بعده، لأنهم بالإيمان محروسون لخلاصٍ مستعدٍّ أن يُعلن في الزمان الأخير (1 بطرس 1: 5). ولا يُمكن أن يموتوا، لأن الذين يؤمنون بالمسيح لهم منذ الآن، وهم على الأرض، حياة أبدية عديمة الفساد؛ ولن يموتوا مدى الأبدية كلِّها. وإن هم ماتوا الآن فلسوف يحيون فيما بعد (يوحنا 11: 25، 26).
إذاً، علينا عند النظر في موضوع الإنسان الأول،أن نحترس من الوقوع في أحد نقيضين. فمن ناحية، علينا أن نؤكد، استناداً إلى كلمة الله المكتوبة، أن الإنسان خُلق في الحال على صورة الله، في حق المعرفة والبر والقداسة. فلم يكن في بداية الأمر طفلاً بريئاً يتعين عليه أن ينمو إلى طور البلوغ؛ كما لم يكن مخلوقاً كامل الجسد، لكنه روحياً فارغ من أي مضمون، وله موقف حياديٌّ بين الحق والباطل أو الخير والشر. وأدنى من ذلك بعد: لم يكن في الأصل مخلوقاً حيوانياً تطور بالتدريج من وجود حيواني ما، ومن ثم صار إنساناً الآن في نهاية المطاف بفضل الجهاد والجهد.فمثل هذا الطرْح هو في تنازع كلي مع الطرح الذي يقدمه الكتاب المقدس، ومع المنطق السليم، بحيث لا يمكن التوفيق بين الطرحين على الإطلاق.
ولكن علينا، من ناحية أخرى، ألا نمجد الإنسان الأول تمجيداً مُغالى فيه على حدِّ ما هو حاصل غالباً في تعليم المسيحيين ووعظهم. فبصرف النظر عن المستوى الرفيع الذي يسمو على مستوى الحيوان والذي عليه وضع الإنسان، لم يكن الإنسان قد بلغ بعد مستواه الأرفع الممكن. كان قادراً ألا يُخطئ، إلا أنه لم يكن بعد غير قادر أن يخطئ. ولم يكن حاصلاً إذ ذاك على حياة أبدية لا يمكن أن تُفسد ولا أن تموت، بل قد تلقى عوض ذلك بقاءً أولياً يتوقف وجودُه ومدته على الوفاء بشرط موضوع. وقد خُلق رأساً على صورة الله، إلا أنه كان ممكناً أيضاً أن يفقد هذه الصورة ومجدها. وهو سكن في الفردوس بالحقيقة، إلا أن هذا الفردوس لم يكن هو السماء، وكان يمكن أن يُغرَّم بفقده له مع كلِّ بهائه. وكان شيء واحد ناقصاً من كل الغنى الذي نعم به آدم روحياً ومادياً، ألا وهو اليقين المطلق. وما دُمنا لا نمتلك هذا اليقين، لا تكتمل راحتنا ومسرتنا. وفي الواقع فإن العالم المعاصر، بكل ما يُبذَل فيه من جهد لضمان كل ما يمتلكه الإنسان هو بيّنة وافية على ما نقوله . أما المؤمنون فهم مضمونون، في هذه الحياة وفي الحياة الآتية، وذلك لأن المسيح هو ضامنهم وما كان ليسمح بأن يُخطف أيُّ واحدٍ منهم من يده فيهلك (يوحنا 10: 28). والمحبة الكاملة تطرح منهم الخوف إلى خارج (1 يوحنا 4: 18) وتُقنعهم بأن لا شيء سوف يفصلهم عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربِّهم (رومية 8: 38 و 39). بيد أن هذا اليقين المطلق كان يُعوز الإنسان في الفردوس: فهو لم يؤتَ مع خلقه على صورة الله تمكيناً دائماً أن يفقده كلَّه، سواءٌ بالنسبة إليه شخصياً أو بالنسبة إلى ذريته. فلقد كان مصدره إلهياً، وطبيعته مرتبطة بالطبيعة الإلهية، ومصيره المرسوم هو السعادة الأبدية في حضرة الله بالذات. غير أن وصوله إلى المقصد المنصوب جُعِل متوقفاً على اختياره الخاص وإرادته الشخصية.
(43) تك 2: 19؛ 9: 4، 10، 12، 16؛ لا 11: 10؛ 17: 11؛ وغيرها.
(44) لا 19: 31؛ 20: 27؛ تث 18: 10 – 14.
(45) تث 18: 10؛ إر 27: 10؛ رؤ 21: 8.
(46) لا 19: 26؛ إش 47: 13؛ مي 5: 11.
(47) تث 18: 11.
(48) لا 19: 26؛ تث 18: 10.
(49) تث 18: 11؛ إش 47: 9.
(50) مت 18: 10؛ 24: 36.
(51) مز 103: 20؛ كو 1: 16.
(52) تك 18: 2؛ قض 18: 3؛ رؤ 19: 14.
(53) تث 33: 2؛ دا 7: 10؛ رؤ 5: 11.
(54) دا 8: 16؛ 9: 21؛ 10: 13، 21؛ لو 1: 19، 26.
(55) تث 6: 13؛ مت 4: 10؛ رؤ 22: 9.
(56) تث 2: 30؛ قض 15: 19؛ حز 3: 14؛ لو 23: 46؛ أع 7: 59؛ 1 كو 2:11؛ 5: 3، 4.
- عدد الزيارات: 517