الفصل الثاني: الدعوة المسيحية
لكي يشملنا المسيح إلى شركة شخصه وبركاته، فإنه يجعلنا شركاء ليس فقط في الروح القدس الذي سكبه على الكنيسة وأسكنه فيها، بل أيضاً في الكلمة التي أعطاها إياها لتعليمها وإرشادها. وقد أقام المسيح بين الاثنين ارتباطاً من شأنه أن يجعلهما كليهما معاً نافعين في مجال ممارسته لوظائفه النبوية والكهنوتية والملكية. ولكن الحصول على فكرة صحيحة عن هذه العلاقة، أو تعريفها بوضوحٍ، ليست مهمةً سهلة. ولقد كانت على الدوام آراء مختلفة حول العلاقة بين الكلمة والروح، ولا تزال حتى الزمان الحاضر مزاعم مختلفة تسير جنباً إلى جنب.
فهناك، من جهة، أولئك الذين يعتبرون الكرازة بالكلمة كافيةً في حدِّ ذاتها ولا يُنصفون عمل الروح القدس. أولئك هم أتباع بيلاجيوس الذين تمسكوا بهذه البدعة قديماً وحديثاً. إنهم ينظرون إلى المسيحية باعتبارها مجرد عقيدة، ولا يرون في المسيح إلا مثلاً أعلى، ويتخذون الإنجيل كأنه ناموس جديدٌ ليس إلا. ويعتقدون أن الخطية قد أضعفت الإنسان فعلاً، إلا أنه ليس بميتٍ روحياً. فعندهم أنه ما يزال محتفظاً بحرية الإرادة، وأن الكرازة بالإنجيل وافية بالغرض، في حدّ ذاتها، ما دام الإنسان راغباً فيها، لتأتي به إلى حيث يقتدي بمثال المسيح في العمل والسلوك. ولا يشعرون بأنه من الضروري أن يكون للروح القدس أيُّ تأثيرٍ لإحياء الإنسان. ومن ثم ينكرون شخصية الروح القدس ولاهوته ويهاجمونهما. وهم يرون أن الروح القدس، في أفضل الحالات، هو قوةٌ تنطلق من الله، أو بأكثر تحديدٍ من شخص المسيح، وتُنشئ نوعاً من النـزعة الأخلاقية والقصد المثالي في الكنيسة.
وهنالك، من جهة أخرى، من يتبنون فكراً آخر مختلفاً جداً. وهم يُدعَون غيورون ولا مناقضون ومتعصبون، وهم يتحدثون كثيراً عن الروح، ويقلِّلون من أهمية دور الكلمة في التجديد. هؤلاء يرون أن كلمة الله المقدسة أو الكرازة بالإنجيل ليست هي الحقيقة الروحية في ذاتها، بل مجرد رمزٍ لها أو إشارة دالة عليها. فالكلمة في حدّ ذاتها ليست إلا حرفاً ميتاً لا يستطيع اختراق قلب الإنسان وغرس مبدأ الحياة الجديدة فيه. ولا يمكن، في أفضل الحالات، أن يكون للكلمة إلا تأثير فتح الذهن. لكنها لا تُعطي قوة أو قدرة تستطيع أن تغير القلب وتجدِّده. فذلك لا يمكن أن يحدث، وهو لا يحدث فعلاً، إلا بالروح القدس الذي يتغلغل مباشرةً ورأساً من الله إلى الكيان الداخلي للإنسان ويجعله يتمتع بالحقيقة التي ليست الكلمة إلا مجرد رمز لها. وعليه، فالإنسان الروحي يولد من الله مباشرةً ويتعلم منه رأساً. هذا وحده يفهم المكتوب، وينفذ من وراء الحرف إلى لبّ الكلمة وجوهرها. وبينما يستفيد هذا الإنسان الروحي من الكلمة حيناً كشعارٍ ومبدأٍ هادٍ، لا تكون هي مصدر معرفته الدينية، لأنه يتعلم ذاتياً من روح الله وينمو تدريجياً فيتجاوز المكتوب. وإذ يُعتِق الروح قلب الإنسان أكثر فأكثر من سلطان الكلمة، يتقدم قلب الإنسان كذلك ليصير أكثر استقلالاً عن شخص المسيح وعن المسيحية التاريخية بمجملها. ففي الطور الأكثر تقدماً إذاً، تتحول الصوفية فتصير عقلانية. ذلك أنه عندما ينفصل عمل الروح الداخلي عن الكلمة المقدسة، عندئذٍ يفقد صفته الخاصة ولا يعود يمكن تمييزه عن عمل روح الله عموماً في عقل الإنسان وضميره. والله، بالطبيعة، يسكن بروحه في كل إنسانٍ، وفقاً لهذا المذهب، كما أن الإنسان منذ ولادته له الكلمة الداخلية مكتوبة على قلبه. ولم يُدخل المسيح على هذا الواقع إلا تعديلاً طفيفاً. فإن شيئاً ما هو حقٌ لا لأنه مكتوب في الكتاب المقدس بل لأنه حقٌّ في ذاته. والمسيحية هي الدين الطبيعي الأصلي. إنها قديمةٌ قِدَم العالم، وهي تكمن بجوهرها في أساس جميع الديانات التاريخية. وهكذا تتحول الصوفية، دائماً ومرةً بعد مرة، إلى عقلانية، ثم ترتدُّ العقلانية فتعود صوفيةً دورياً.
وقد حاولت الكنيسة المسيحية دائماً أن تتجنب مثل هذه البدع، محافظةً على العلاقة المتبادلة بين كلمة الله وروحه. لكن الكنيسة في عملها هذا اتّبعت، مع ذلك، في إقرارات الإيمان المتعددة لديها، سبلاً شتى. فالكنيسة الكاثوليكية مثلاً لا ترى في الكلمة المقدسة وفي التقليد الكنسي واسطة نعمة فاعلة بل مجرد مصدر للحق. والإدراك العقلي لهذا الحق يُدعى إيماناً. ولكن لأن هذا الإيمان لا يعدو كونه تصديقاً، فهو غير كافٍ للخلاص، وليس له بالتالي إلا دورٌ تمهيدي لبلوغ هذه الغاية. أما النعمة المخلِّصة الحقيقية فهي تُمنح أول مرة في القربان المقدس، وهكذا تعترف الكنيسة في روما بعمل الروح القدس، قبل كل شيء، في تأسيس الكنيسة واستمرارها، بوظائفها المتعلقة بالتعليم والرعاية وخدمة المذبح؛ ثم تُمنح هذه النعمة تالياً في ما يناله المؤمنون، بواسطة الأسرار المقدسة، من نِعمٍ وفضائل وهبات.
في مواجهة هذه المحاولة لفصل عمل الروح الخلاصي عن كلمة الله ووصله بالقربان المقدس فقط، وقف الإصلاح بكل ثبات وعناد. فلم يكتف بأن ردّ الاعتبار للكلمة المقدس بوصفها مصدر الحق الوحيد والواضح والوافي، ومحك التقليد، بل قدرتها أيضاً باعتبارها واسطة نعمة وأعاد إليها مرتبتها المتفوقة على الأسرار المقدسة. ووفقاً لذلك رأى الإصلاح أنه مضطرٌّ إلى إنعام النظر في العلاقة بين الكلمة والروح. وقد اضطُر إلى ذلك بالأحرى لأن البِدع القديمة انتعشت ووجدت لها أنصاراً يدافعون عنها بقوة. فبينما انكفأ السوسيانيون إلى تعاليم آريوس وبيلاجيوس، فاعتبروا الإنجيل ناموساً جديداً واستبعدوا أية حاجةٍ إلى عملٍ خاصٍّ من الروح القدس، سلك الأنابابتيون (معيدو العِماد) من جديد سبيل الصوفية، فعظَّموا شأن الكلمة الباطنة وتحدثوا عن الكتاب المقدس باعتباره حرفاً ميتاً ورمزاً خاوياً.
وقد اقتضى الأمر بذل جهد وفير للعودة إلى سواء السبيل. وسلكت الكنيستان اللوثرية والمصلحة سبلاً مختلفة. فقد وحّد اللوثريون بين الكلمة والروح معاً إلى حد المجازفة بجعلهما واحداً وفقدان التمييز بينهما. بل إنهم بلغوا حدّ حصر نعمة الروح المخلِّصة في الكلمة والسماح بأنه يدخل الإنسان من خلال الكلمة. ولما كانت الكلمة المقدسة قد برزت إلى الوجود بفعل الروح القدس، فإن ذلك الروح قد جعل قوته المجدِّدة مستقرةً في الكلمة، وداعاً إياها هناك - إذا صح التعبير - كما في إناء. وكما أن للخبز قوةً غذائيةً طبيعية داخلية، فكهذا الكلمة المقدسة استلمت من الروح الذي أوجدها قوةً روحية لخلاص الإنسان كامنةً فيه. فينبغي إذاً أن نسلِّم بأن الكلمة المقدسة ليس لها فقط قدرةٌ على تنوير الذهن والتأثير أدبياً في الإرادة، بل إن لها أيضاً بفضل فاعلية الروح القدس الكامنة فيها، قدرةً داخلية مخلِّصة ومجددة للقلب. حتى إن الروح القدس لا يعمل البتة بأية طريقة سوى عمله من خلال الكلمة.
أما الكنائس المُصلحة فلم تتقبل هذا الرأي على علاّته، لأن مبدأها في هذه المسألة أيضاً كان يقضي بأن المحدود لا يمكن أن يستوعب اللامحدود ويدركه. وبالتالي، فإن الكلمة والروح لهما أن يكونا على علاقةٍ وثيقة جداً، لكنهما أيضاً يظلاّن متمايزين. فالروح يستطيع أن يعمل بدون الكلمة، وهو يعمل أحياناً. وعندما يقترن الروح بالكلمة، فإنه يفعل ذلك بسبب اختياره الحرّ. فبحسب مسرته الصالحة فعلاً يعمل في العادة بارتباط مع الكلمة، وحيث تكون الكلمة حاضرة ويُكرز بها، أي في فَلََك عهد النعمة، في شركة الكنيسة. إلا أنه، حتى في هذه الحالة، لا يكون - كما ارتأى اللوثريون - مقيماً في الكلمة المقدسة أو الكلمة المكروز بها، بل في الكنيسة باعتبارها جسد المسيح الحي. ولا يعمل الروح أيضاً من خلال الكلمة كما لو كانت مركبة قوته. لكنه إذ يقرن عمله بعمل الكلمة، يتغلغل هو شخصياً إلى داخل قلب الإنسان ويجدِّده للحياة الأبدية.
إذا شئنا أن نفهم العلاقة بين الكلمة والروح فهماً صحيحاً، فعلينا الانطلاق من هذه الحقيقة: أن الله يستخدم الكلمة كواسطة، ليس فقط في تقديم المسيح وخيراته لنا، بل أيضاً في جميع أعمال الله في العالم. فالكلمة، في الكتاب المقدس، ليست صوتاً فارغاً ولا رمزاً بلا معنى، بل هي دائماً ذاتُ قوةٍ وحياة. إذ لها في ذاتها بعضٌ من شخصية المتكلم ونفسه، ولذلك فهي لا ترجع فارغةً البتة، بل تُحدث أثرها دائماً.
قال الله فكان، وهو أمر صار (مز 33: 9). وكلمته لا ترجع إليه فارغة بل تنجح في ما أُرسلت له (إش 55: 11). وبكلمته أوجد في البدء كل شيء من العدم (تك 1: 3 وما يلي؛ قارن مز 33: 6)، وبكلمة قدرته يحمل كل شيء معاً (عب 1: 3). ولهذه الكلمة قدرة خلاّقة وضابطة لأن الله يتكلم في الابن (يو 1: 3؛ كو 1: 15؛ عب 1: 2) وبالروح القدس (مز 33: 6؛ 104: 30)، وهو تعالى في هذين معاً - إن صحّ التعبير - يُعطي ذاته لخلائقه. ففي جميع الخلائق صوتٌ من الله؛ وهي جميعاً تستقر على أقوال قد نطق الله بها. وكُلَّها مدينة لكلمة الله فهم يقرون بفضلها في وجودهم وبقائهم.
غير أن هذه الآراء التي ضمّنها الله في العالم، لا تفهمها جميع خلائقه، بل قاصرة على الخلائق العاقلة، أي الإنسان فقط. وذلك لأن الإنسان مخلوق على صورة الله، فهو نفسه يستطيع أن يفكر ويتكلم، وأن يستوعب بإدراكه أفكار الله المودعة في خليقته، وأن يجعلها مِلكَه روحياً، وأن يعبّر عنها من ثم بكلامه هو. ولما خرج الإنسان أولاً كاملاً من بين يدي خالقه، كان يقدر أن يفهم كلام الله الذي أتاه داخلياً في الناموس الأدبي المكتوب على لوح قلبه، والذي أتاه خارجياً في النهي الذي أُضيف إلى الناموس الأدبي. آنذاك وصل الله مع الإنسان إلى حيث لم يصل مع أي مخلوقٍ آخر. فقد دخل في عهدٍ معه، وأدخله في شركةٍ معه، وطلب منه أن يسلك في طرقه بوعيٍ واختيار. وقد كان الناموس الأدبي هو المضمون والإعلان، القاعدة والمبدأ، لعلاقة العهد الأصلية التي أسسها الله مع الإنسان المخلوق حديثاً.
ولكن الإنسان، بعصيانه بمحض إرادته كسر ذلك العهد، ففقد القوة الروحية لحفظ قانون الله وإحراز الحياة الأبدية بالتالي. غير أن الله، من جانبه، لم يترك الخليقة ولا تخلّى عن البشرية كلياً. ومع أنه يُمكن القول عن الأمم، أي الوثنيين، إن الله قد أسلمهم - بالمقارنة مع شعب العهد القديم - إلى طرقهم الخاصة، فإنه يستمر في إظهار ذاته لهم بقدرته ولاهوته، ولا يترك نفسه بدون شاهدٍ بينهم، ويحتم بالأوقات المعينة وبحدود مسكنهم، لكي يطلبوا الرب لعلَّهم يتلمّسونه فيجدوه.
فهناك إذاً كلامٌ من الله ما يزال ينطلق إلى كلِّ إنسان. وقد أقرّ أصحاب العقيدة المُصلحة بهذا الواقع، إذ تحدثوا عن "دعوة مادية" يمكن العثور عليها أيضاً خارج نطاق العالم المسيحي، وهي من امتياز جميع البشر والأمم. فالأمم لا يشاركون في الدعوة من خلال كلمة الإنجيل، إلا أن هذا لا يعني أنهم لا يتلقَّون أية دعوة على الإطلاق. ذلك أن الله يكلِّمهم أيضاً، في الطبيعة (رو 1: 20) والتاريخ (أع 17: 26) والعقل (يو 1: 9) وبالضمير (رو 2: 14، 15). حقاً أن هذه الدعوة غير كافية للخلاص، إذ لا عِلمَ فيها بالمسيح، وهو الطريق الوحيد إلى الآب والاسم الوحيد المُعطى تحت السماء للخلاص (يو 14: 6؛ أع 4: 12)، غير أنها مع ذلك ذات قيمة عظيمة ولا يمكن التقليل من شأنها.
ربما لا تكون هذه الدعوة التي يُصدرها الله لجميع البشر في نعمته الشاملة، رغم كل شيء إذاعةً للإنجيل، غير أنها بالتوكيد إعلانٌ للناموس. ومع أن الإنسان، بسبب كونه مظلم الفكر، يُخطئ غالباً في تصورها وتأويلها وتطبيقها، فإنها رغم ذلك تتضمن - مادياً وجوهرياً - الناموس الأدبي عينَه الذي أعطاه الله للإنسان أصلاً وكتبه على قلبه. وعليه، فإن تلك الدعوة، بصرف النظر عن مدى ما أصابها من فساد ومسخٍ، ما تزل مع كل هذا تُرسي المطلب القاضي بأن يحب الإنسان الله فوق كل شيء وأن يحب قريبه كنفسه. صحيحٌ أن الأمم (غير المؤمنين) لا يملكون الناموس بذلك الشكل الكامل الذي به أعطاه الله لبني إسرائيل فيما بعد، غير أنهم يعملون بأمور الناموس رغم ذلك. فإنهم، في جميع أفكارهم وأعمالهم، ينقادون بقوانين أخلاقية، وبذلك يبرهنون أن أمور الناموس هذه مكتوبة في قلوبهم وأنهم يشعرون بأنهم ملزَمون بها في ضمائرهم (رو 2: 14، 15).
وعليه، فإن الارتباط بين الله والإنسان لم ينقطع أبداً رغم الخطية. فالله لا يترك الإنسان لنفسه، والإنسان لا يمكنه أن يتخلى عن الله. بل إنه، عوضَ ذلك، يظلُّ داخل مجال إعلان الله وتحت قيود ناموسه تعالى. سيظل الله يتكلم إلى الإنسان، في الطبيعة والتاريخ، في العقل والضمير، في البركات والأحكام، في إرشادات الحياة واختبارات النفس. بوساطة هذا الكلام الغني والقوي، يُبقي الله في الإنسان وعيه بمسؤوليته. إنه يدعه يجاهد ليحيا حياةً دينية وخُلُقية، ويجعله يشعر باتهامه والحكم عليه من قِبَل ضميره بعد تعديه. وما يربط الإنسان بالله وإعلانه ليس إكراهاً من الخارج بل التزامٌ أدبيٌ من الداخل. إنه شهادةٌ من روح الله في الإنسان الساقط ما تزال تُسمع ذاتها بحثِّه على الصلاح. فإن في الإنسان أيضاً عملاً لروح الله، بمقدار ما فيه صوتٌ من الله عامٌّ وإنارةٌ بالكلمة (اللوغوس) عامةٌ. بذلك الروح يُقيم الله في كل مخلوق، وبه نحيا ونتحرك ونوجد (أع 17: 28). فالدعوة "المادية" العامة ليست فقط خارجية وموضوعية، بكونها في الطبيعة والتاريخ كما في العقل والضمير تُبصِّر الإنسان بإعلان الله وناموسه على الخصوص؛ بل إن لها أيضاً جانباً داخلياً وذاتياً، بكونها تُلزِم أدبياً كل شخصٍ بمفرده بذلك الإعلان، تجعله ملتزماً - في اقتناعه الخاص - أن يقوم بواجب العمل بناموس الله.
من الواضح طبعاً أن الله لا يُجدِّد الإنسان ويخلِّصه بإعلان الناموس هذا، لأن الناموس يعجز عن هذا في كونه ضعيفاً بالجسد (رو 8: 3). ولكن الله بهذه الواسطة يكبح جماح الخطية ويقمع الأهواء، ويقيِّد فيضان الإثم. فبها يصبح ممكناً وجود مجتمع بشري وعدالة مدنية، وهذان بدورهما يشقان الطريق إلى تمدّنٍ أسمى وحضارة أغنى وازدهارٍ للفنون والعلوم. فبالحقيقة إن الأرض ما تزال ملآنة من خيرات الله. إن الرب صالحٌ نحو الجميع، ومراحمه هي على كل أعماله. فهو يُشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويُمطر على الأبرار والظالمين. وهو لا يترك نفسه بلا شاهد، بل يصنع خيراً ويرزقنا من السماء أمطاراً وأزمنة مثمرة، مالئاً قلوبنا طعاماً وسروراً.[26]
وينبغي لنا التمييز بين شهادة الله هذه العامة أو مخاطبته التي تأتينا عير الطبيعة والضمير، وبين تلك الدعوة الخاصة التي تحتوي عليها كلمة الإنجيل والتي هي موجهة إلى جميع الذين يعيشون ضمن حدود الدائرة المسيحية. على أن الدعوة العامة لا تهملها هذه الدعوة الخاصة ولا تلغيها، بل بالأحرى تحتويها وتقويها. وهذا تبرهنه حقيقة كون الكتاب المقدس الذي هو كلمة الإعلان الخاص يعترف بالإعلان العام في الطبيعة والتاريخ، ويؤيده، وينقيه من جميع ما يشوبه. فإن كون السماوات تحدّث بمجد الله والفلك يُخبر بعمل يديه (مز 19: 1)، وكون أمور الله غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركةً بالمصنوعات (رو 1: 20)، وكون عمل الناموس مكتوباً في قلوب البشر (رو 2: 15)، ذلك كلُّه إنما هو شيءٌ يفهمه المسيحي المتعلم من المكتوب أكثر مما يفهمه الإنسان الذي يحيا فقط بنور العقل.
حتى إن ثمة بيّنةً أقوى على استمرار دور الإعلان العام قائمة في حقيقة كون الناموس الأدبي، الذي لم يكن الأمم يعرفونه إلا بصورة غير كاملة وغير واضحة، قد أُعلن بكل وضوحٍ من قِبَل الله على جبل سيناء وقُدِّم إلى شعبه باعتباره قانون الحياة. ولما جاء المسيح إلى العالم، لم ينقض هذا الناموس بل كمّله (مت 5: 17)، أولاً في شخصه وحياته، ومن ثم أيضاً في حياة جميع الذين يسيرون على خُطاه ويسلكون في الروح.[27] وبمقتضى هذا المثال، جعلت الكنيسة المسيحية، في اعترافها وكرازتها وتعليمها، مكاناً للناموس كما للإنجيل أيضاً.
إن الناموس والإنجيل هما الجزءان المكوِّنان لكلمة الله. ومع أن كل منهما يتميز عن الآخر، فهما لا ينفصلان البتة، بل يصحب أحدهما الآخر على مدى الكتاب المقدس كلِّه، من بداية الإعلان إلى نهايته. فالتمييز بين الناموس والإنجيل إذاً هو تمييز يختلف تماماً عن ذاك الذي بين كل من العهد القديم والعهد الجديد. هذا التمييز يختلط حتى لا يكاد يظهر عند جميع الذين يرون في الناموس إنجيلاً غير كامل، وفي الإنجيل ناموساً مكمَّلاً. ولكن كِلا التمييزين يختلف أحدهما عن الآخر بالتبادل، ومن الواجب بالتالي أن نبقي على اختلافهما واضحاً. ذلك أن العهدين القديم والجديد هما تسميتان لمجموعتي الأسفار المقدسة الموافقتين لهذين التدبيرين. غير أن التمييز بين الناموس والنعمة يضعنا على صعيد مختلف تماماً، فهاتان التسميتان لا تدلان على تدبيرين لعهد النعمة الواحد بعينه، بل على عهدين متخالفين كلياً. إذ إن الناموس ينتمي في الواقع إلى ما يُسمى "عهد الأعمال" الذي حصل مع الإنسان الأول ووعده بالحياة الأبدية عن طريق الطاعة الكاملة. أما الإنجيل فهو إعلان "عهد النعمة" الذي عُرف لأول مرة بعد سقوط الإنسان والذي يعطيه الحياة الأبدية بالنعمة عن طريق الإيمان بالمسيح.
على أن عهد النعمة ليس نبذاً ولا نقضاً لعهد الأعمال، بل بالأحرى إتمامٌ له.فالفارق بين الاثنين قائم أساساً في كون المسيح يُتِمُّ عوضاً عنا تلك المطالب التي يحمّلنا الله مسؤوليتها بموجب عهد الأعمال. ومن هنا فإن عهد النعمة، وإن كان في حدّ ذاته نعمةً صرفاً، يستطيع من أول الطريق أن يضع تحت خدمته ناموس عهد الأعمال، وأن يتّحد بذلك الناموس ويصل به - بواسطة روح المسيح - إلى الاكتمال في المؤمنين. فالناموس يحتفظ بمكانه في عهد النعمة، لا لكي نحاول أن نكسب الحياة الأبدية عن طريق حفظه، لأن الناموس لا يستطيع أن يفعل هذا بسبب ضعف الجسد، بل لأجل غرضين: الأول، لكي ندرك بواسطته معرفة خطيتنا وذنبنا، وشقائنا وعجزنا، ولكي نلجأ إلى نعمة الله في المسيح بعد الإحساس بالذنب ويعترينا الخزي (رو 7: 7؛ غل 3: 24). أما الغرض الثاني، فباعتبار أننا متنا مع المسيح وقمنا معه، نسلك في جدّة الحياة، وهكذا نكمل بِرَّ الناموس (رو 6: 4؛ 8: 4).
إذاً، لا مكان في المسيحية للتناقض، أو احتقار الناموس وخرقه. وينبغي أن يتماشى الناموس والإنجيل، كما في الكتاب المقدس كذلك أيضاً في الكرازة والتعليم، وفي العقيدة والحياة. فهما عنصران، لا يُستغنى عنهما وحقيقيان، يكوّنان كلمة الله الواحدة الكاملة. ورغم ذلك، فإن الخلط بين الاثنين أمرٌ رديءٌ كالفصل بينهما كلياً. والناموسية الجديدة، التي تجعل من الإنجيل ناموساً جديداً، لا تقلّ ضلالاً عن إهمال الناموس. فالناموس والنعمة يختلف أحدهما عن الآخر لا في الدرجة بل في النوع. إنهما يختلفان كما يختلف الطلب عن العطية، والوصية عن الوعد، والسؤال عن العرض. صحيحٌ أن الناموس، شأنه شأن الإنجيل، يشتمل على مشيئة الله، وأنه مقدس وعادل وصالح وروحي،[28] إلا أنه صار عاجزاً بسبب الخطية، وهو لا يبرِّر الخطية بل يضاعفها، ويُثير الغضب، ويجلب القضاء والموت.[29] وفي المقابل هذا يقوم الإنجيل الذي مضمونه المسيح (رو 1: 3؛ أف 3: 6)، والذي لا يأتي إلا بالنعمة والمصالحة والغفران والبرّ والسلام والحياة الأبدية.[30] فإن ما يطلبه الناموس منا نناله في الإنجيل مجاناً.
وما دام الناموس والإنجيل متمايزين على هذا النحو، يترتّب على ذلك أن الدعوة العامة التي تأتي جميع البشر في الطبيعة والضمير، والدعوة الخاصة التي تبلغ كلَّ من يعيش في العالم المسيحي، هما أيضاً، يتخالفان لا في الدرجة بل في الجوهر والنوع. فليس الفرق كامناً في حقيقة كون المسيحية تقدم لنا ناموساً أفضل وأكمل من ذاك المعروف عند الأمم، بل بالأحرى في كونها تُعلِن شيئاً جديداً، إذ تأتينا بالإنجيل، وفي ذلك الإنجيل تعرّفنا بشخص المسيح. فليس في الناموس وحده، بل في إنجيل نعمة الله على الخصوص، يمكن التمايز بين الوثنية والمسيحية؛ بين الإعلان العام والإعلان الخاص؛ بين الدعوة التي تأتي كلَّ إنسان وتلك التي يتشارك في المسيحيون وحدهم. والدعوة العامة الموجهة إلى جميع البشر غير مُعبَّرٍ عنها بكلمةٍ من الله حرفية وواضحة لا لبس فيها ولا غموض، بل هي متضمنةٌ بصورةٍ مكنونةٍ في الإعلان الذي يُعطيه الله أيضاً للأمم في أعمال يديه، وفي عقلهم وضميرهم بالذات، وهي شيءٌ يجب أن يُستخلص من هذه الأمور بالبحث والتفكير. ولكن لحظة حاول الوثنيون أن يتقصّوا ويفكروا، وقعوا في الضلال سواءٌ من حيث الدين أو من حيث الأخلاق. فخارج نطاق الإعلان الخاص، مع أن الناس عرفوا الله، لم يمجدوه ولا شكروه، بل حمقوا في تصوراتهم، وأظلم قلبُهم، وتردّوا في مهاوي الوثنية والفساد الأخلاقي بكل صنوفهما (رو 1: 21 وما يلي).
وقد تبيّن أن الإعلان في الطبيعة، والدعوة في العقل والضمير بالتالي، ليسا وافيين. ولذلك، ففي الإعلان الخاص لا يتكلم الله بعد من خلال طبيعة المخلوقات، بل يستخدم الكلمة الحرفية الفريدة التي يستعملها الإنسان بوصفها التعبير الأسمى والأفضل عن أفكاره. وقد كان استخدام الكلمة هذا في الإعلان الخاص ضرورياً أيضاً لسبب آخر. فالطبيعة، خارج الإنسان كما داخله، تبقى هي إياها دائماً. فما زالت السماوات الآن تحدّث بمجد الله على النحو عينه الذي كانت تفعل هذا به منذ ألف سنة أو عدة آلاف من السنين. وما زال الإنسان، رغم كلِّ تطوره وتمدُّنه، هو إياه في جوهره وطبيعته، في قلبه وضميره، كما كان تماماً أقدمُ أسلافه.
ولكن الإعلان الخاص غير متضمن في نظام الطبيعة. فقد برز إلى الوجود على مدى الطريق التاريخي، في تاريخ استمر قروناً، ومركز الدائرة فيه شخصية المسيح التاريخية. فلا تقدر الطبيعة أن تخلِّصنا؛ بل يقدر على ذلك فقط شخصٌ عاقل. ولكننا، بحسب خطة الله، لا نستطيع البتة أن نتوصل إلى معرفة أي شيءٍ يتعلق بأحداث التاريخ وأشخاصه - وهذه كما نعلم ليست معنا دائماً كما هي أمور الطبيعة بل تأتي وتمضي وتظهر وتختفي - إلا بواسطة الكلمة، سواءٌ كانت الكلمة المنطوقة أو المكتوبة، وسواء دوِّنت في أحرف أو في إشارات أخرى. ويترتب على طبيعة الإعلان التاريخي الخاص أن يتخذ الكلمة وسيلة للتعبير كي يُعرف من جيلٍ إلى جيل ومن مكان إلى آخر. فالدعوة العامة تأتي عن طريق الطبيعة، والدعوة الخاصة عن طريق الكلمة. والأولى لها الناموس على الخصوص مضموناً، أما مضمون الثانية فهو الإنجيل على الخصوص.
بدأ الإنجيل أول طريقه في الفردوس. فهنالك أعلنه الله أول مرة، ثم كان للآباء والأنبياء أن يذيعوه، ودبّر له الله أن يُمثَّل في الذبائح وسائر طقوس الناموس، ثم تممه أخيراً في ابنه الوحيد. وليس هذا هو كلَّ شيء. فقد أمر الله بتدوين كلمة الإنجيل كتابياً في أسفار العهد القديم والعهد الجديد، ثم عهد به من بَعدُ إلى الكنيسة لحفظه وإذاعته وشرحه وحمايته وزرعه في كلِّ مكان ، لكي يصير معلوماً عند جميع الخلائق.
ويوم تلقّت الكنيسة هذه المهمة وبدأت بتنفيذها، يومذاك بالذات حصل انسكاب الروح القدس. وبطريقة معكوسة، فساعة جعل الروح القدس الكنيسة مسكنه الخاص، ساعتئذٍ بالذات كانت للكنيسة بداءتُها باعتبارها جماعةً مستقلة تضم جميع المؤمنين، وحاملةً لكلمة الإنجيل، وعمود الحق وقاعدتها. ومع أن كلمة الله وروحه كانا متحدين قبل ذلك الحين بطريقة تمهيدية، فإنهما في يوم الخمسين اتحدا كلياً على نحوٍ حاسم. وهما يعملان معاً في خدمة المسيح الذي هو ملك الكنيسة ورب الروح، من ما تصوِّره لنا الكلمة ومن ما نناله نعطاه نصيباً لنا بواسطة الروح. فالحق والنعمة يسيران معاً لأن المسيح مملوء منهما كليهما (يو 1: 14).
والدعوة التي تأتينا بواسطة الكلمة أسمى جداً من تلك التي تأتي عبر الطبيعة. فبينما تُتيح الأخيرة للإنسان أن يسمع فقط صوت الناموس، وترفع أمامه المطلب القائل: "افعل هذا فتحيا"، تنطلق الأولى - أي الدعوة بالكلمة - من المسيح، ولها نعمة الله مضموناً، وتقدّم للإنسان مجاناً أشهى الخيرات، ألا وهي غفران الخطايا والحياة الأبدية عن طريق الإيمان والتوبة. وإذا تأمل المرء مضمون هذه الدعوة، يراوده حيناً الأمل بأن جميع الناس حالما يسمعونها سيقبلونها بفرح وابتهاج يغمران القلب. فأيُّ شيءٍ يُعقل أن يعترض به مخلوق بشري خاطئ وسائر نحو الفساد على بشارة تطمئنه إلى نعمة الله وتبتغي إعطاءه خلاصاً كاملاً دون أي جهد من قِبَله، ما خلا قبول هذه البُشرى بإيمانٍ طفولي؟
غير أن الحقيقة تُطلعنا على ما يختلف عن هذا كثيراً. فعلى مدى العصور يوجد فاصل بين الذين يعبدون الله ويخدمونه وأولئك الذي لا يعبدونه ولا يخدمونه. ففي عائلة آدم، سار قايين وهابيل كلٌّ في طريقه. والجنس البشري قبل الطوفان انقسم إلى نسل شيث ونسل قايين. واستمر هذا الانقسام بعد الطوفان في ذرية سام وذرية أخويه. وقد شهدت عائلات الآباء هذا الانقسام ظاهراً في اسحق وإسماعيل، وفي يعقوب وعيسو، ولاحقاً في بني إسرائيل وباقي الشعوب. حتى إن شعب العهد لم يكن هو جميع إسرائيل المنحدرين جسدياً من إبراهيم، بل أولاد الموعد حُسبوا نسلاً (رو 9: 6 - 8). وفي أيام العهد الجديد تطالعنا الحقيقة عينُها. فكثيرون يُدعَون ولكن قليلين يُختارون (مت 22: 14). وليس ثمة تباين حاد بين الكنيسة والعالم فقط، بل إن في الكنيسة نفسها آلافاً هم بالحقيقة سامعون للكلمة لكنهم غير عاملين بها (يع 1: 22). حتى لو رفض المرء المسيحية بجملتها، فهو لا يستطيع التخلص من هذا التباين. إذ كان في كل مكانٍ - ويبقى - الصالحون والأشرار، والأبرار والظالمون. فهنالك تباين في الطبقة والوضع، في الموهبة والقوة، في الغنى والكرامة، إلا أن بين البشر فارقاً أعمق بعد، فارقاً ذا طبيعة دينية وأدبية.
هذا التباين في الواقع واضح للعيان وله طبيعة خطيرة بحيث ينبغي أن يتنبه له كلُّ إنسان. ولكن كثيرين في كل زمان حاولوا أن يفسروا هذه اللامساواة الأدبية، تماماً كما حاولوا تفسير فوارق أخرى بين البشر، على أساس الإرادة الحرة التي أُعطيت لهم. فهم يذهبون إلى أن إرادة الإنسان، رغم الخطية، ظلت حرة، وأنها بقيت قادرة على فعل الصلاح. وإلا، فإنهم يعتقدون أن إرادة الإنسان، وإن أضعفتها لحد ما، اكتسبت مع ذلك قوةً كافية تجعلها قادرة على قبول دعوة الإنجيل، وذلك من خلال استنارتها العامة بالكلمة (اللوغوس، يو 1: 9)، أو بنعمة الروح القدس الممنوحة قبل المعمودية أو عِندها.
هذا الشرح غير مقبول، حتى في ذاته وبمعزلٍ عن تعليم الكلمة المقدسة. فبحسب هذا التعليل، ليس الله هو الذي يجعل فرقاً بين الناس، بل البشر أنفسهم. ولكن ما دام الله هو هو، فإن مشورته تهيمن على كل شيء، وهو خالق السماوات والأرض، وبعنايته يعتني بجميع خلائقه ويسودهم. فمن غير المعقول أن نفترض أن يسود الطبيعة كلَّها ويتحكم في دقائق كلِّ شيء، ومع ذلك يستثني من مشورته مسألة التباين الروحي أو اللامساواة بين البشر، تاركاً لهذه الحادثة العظيمة الكلّية الشمول أن تدبر نفسها بنفسها، متحكمة في المصائر الأبدية، متخلياً عنها للاختيار البشري. فأيُّ من يعتقد هذا الفكر يقوِّض، من حيث المبدأ، فكرة مشورة الله وسيادة عنايته، ويسحب كامل التاريخ البشري إلى خارج متناول يد الله، ويجعل مستقبل هذا التاريخ شيئاً لا يمكن التنبؤ به بسلبه نهايته وغايته، وينسب إلى الله موقفاً خاملاً يتسم بالانتظار ويتضارب مع كينونته وأعماله.
وعلى كون هذا التمايز الروحي بين البشر هو الأهم، فهو ليس التباين الوحيد بينهم. فبين الخلائق أنواعٌ شتى من التفاوت والتباين، ولاسيما بين الذين خصّهم الله بعطية العقل. إذ يختلف البشر في الطبقة والوضع، وفي الجنس والعمر، وفي قدرات العقل وقوى الجسد. كما يختلفون أيضاً في كونهم قد ولدوا داخل نطاق النصرانية أو خارجه، فيستطيعون أن يسمعوا دعوة الإنجيل أولاً. وجميع هذه الفروق لا يمكن تفسيرها أو تبريرها بقرارات البشر أو مواقفهم، لأن الفروق تسبق هذه القرارات والمواقف وتؤثر فيها بقوةٍ إلى حدٍّ بعيد. ولكن إذا كان المرء لا يرغب في أن يقنع بكون مسرة الله الصالحة هي المحدِّدة لذلك، وإذا ظلّ يبحث عن الحل في اختلاف مواقف البشر، فلابد له من اللجوء إلى افتراضاتٍ يتعذّر الدفاع عنها. فاللوثريون مثلاً لم يشاؤوا الإقرار بتقدير الله المهيمن في كون إنسانٍ ما يولد تحت ضوء الإنجيل، وإنسانٍ آخر يولد بعيداً عنه، ورأوا أن دعوة الكلمة أُبلغت إلى جميع البشر في زمن آدم ونوح والرسل (استندوا أساساً على رومية 10: 18 وكولوسي 1: 23)، ولكن البشر عادوا ففقدوها بسبب غلطتهم هم فقط. وعلى هذا المنوال عينه نُسجت الفكرة التي ترد عند أوريجينوس والتي يتشارك فيها أيضاً كثيرون في الأزمنة الحديثة، ومفادها أن النفوس البشرية خُلِقت في الأصل متساوية وفي وقت واحد، ولكنها بحسب تباين سلوكها في وجودها السابق كان نصيبها على الأرض أجسادٌ متخالفة.
وجميع الافتراضات المماثلة لما سبق تزيد صعوبات المسألة ولا تُسهم بشيءٍ في حلها. ففي هذا المجال أيضاً، لا راحة للإنسان ما لم يسترح في قلب الله الأبوي ويُقرّ بالأساس الأعمق للتباين بين الخلائق في كونه عائداً إلى مشورة الله المطلقة والتي لا يُسبر غورها. فأنصبة البشر المتباينة فيما يتعلق بالدعوتين العامة والخاصة لا يستقر أساسُها في تفوق شعبٍ على آخر، أو في الاستفادة من نور الطبيعة على نحو أفضل، بل في مسرة الله الصالحة المطلقة السيادة وفي محبته التي لا نستحقُها (قوانين دورت، ج 3، ف 4، ص 7). والأمر نفسه ينطبق على اللا مساواة الروحية التي تحصل بين الذين يسمعون صوت الإنجيل بقلبٍ مؤمن والذين يحتقرونه ويختارون المضيّ في طريقهم الخاص فليس الإنسان، بل الله، هو من يجعل الفرق هنا. والدعوة التي يوصلها الله إلى إنسانٍ، تختلف عن تلك التي يوصلها إلى آخر. وفي ما يخصُّ الدعوة بالكلمة، يميز الكتاب أيضاً بين دعوةٍ خارجية وأخرى داخلية.
ولكن قبل أن نبين الأسس الوافية التي يرتكز عليها هذا التمييز، علينا أن نشدد على واقع كونه غير مقصود به البتة، بطريقة أو بأخرى، أن يجرد الدعوة الخارجية، كما يُقال، من قوتها وقيمتها.
ففي المقام الأول، ينبغي التصريح بأن هذه الدعوة من جانب الله تبقى جدية وحسنة النية. إذ إن جميع المدعوين بالبشارة، مدعوون دعوةً فعالة، لأن الله يقول في كلمته، بجدية وإخلاص، ما الذي يسرُّه - أي أن يُقبل المدعوون إليه. وهو تعالى، بكل تأكيد، يعد جميع الذي يُقبلون إليه براحةٍ لنفوسهم وبالحياة الأبدية (قوانين دورت، ج 3، ف 4، ص 8). والذين يُقرّون بالتمييز بين الدعوة الخارجية والدعوة الداخلية ما يزالون يَعزون إلى الأولى القوة والأهمية اللتين يرى رافضو هذا التمييز أنهما تابعتان للدعوة بكاملها. والمقرّون بالتمييز لا يضعون البشر في وضعٍ أقلَّ إرضاءً من ذاك الذي يرى الرافضون أن البشر فيه فعلاً. فإن كلمة الإنجيل التي بها تُبلَّغ الدعوة الخارجية ليست حرفاً ميتاً، بل هي قوة الله للخلاص لكل من يؤمن (رو 1: 8)، وهي حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدّين (عب 4: 12)، وهي واسطة الولادة الثانية (1بط 1: 23). إنها بعينها الكلمة التي يستخدمها الله في الدعوة الداخلية، وهي ليست في ذاتها معزولة عن التأثير الكلي للروح القدس. فهذا الروح ليس فقط يشهد في قلوب المؤمنين بأنهم أولاد الله (رو 8: 16)، بل إنه أيضاً ينفذ إلى ضمائر الذين يبكّتهم على خطية وبرّ ودينونة. إذاً لم يكن كالفن مخطئاً لما تحدّث عن مستوى أدنى لعمل الروح القدس يصحب الدعوة الخارجية.
وتبعاً لذلك، فإن رفض الدعوة الخارجية لا يتم البتة دون تحمّل عواقبه. فالذين يحتقرون الإنجيل لا يمكنهم أن يتذرّعوا بعجزهم، لأنهم لا يرفضونه لأنهم عاجزون. فلو كان ذلك، لاستطاعوا اللجوء إلى نعمة الله التي تمنحهم الخلاص. لكنهم بالأحرى يرفضون الإنجيل لأنهم يشعرون شعوراً قوياً بأنهم قادورن على تخليص نفوسهم، ولأنهم يبتغون أن يخلصوا بغير نعمة الله. فكون الكثيرين ممن يُدعون بواسطة الإنجيل لا يُقبلون ولا يتوبون، ليس هو خطأ الإنجيل ولا المسيح المقدَّم لهم فيه، ولا الله الذي يدعوهم به والذي يمنح المدعوين أيضاً بركاتٍ عديدة. بل إن الخطأ يكمن بالأحرى في أولئك المدعوين الذين لا يقبل بعضُهم كلمة الحياة لكونهم غير مبالين. وآخرون يقبلون الكلمة دون أن يُدخلوها في قرارة قلوبهم، وبالتالي يرتدّون بعد فرحهم الوجيز المقترن بالإيمان الوقتي. كما أن آخرين يخنقون الكلمة بأشواك هموم الحياة ومباهج العالم فلا يُثمرون. ذلك هو تعليم المخلِّص في مثل الزارع والبذار (قوانين دورت، ج 3، ف 4، ص 9).
وفي المقام الثالث، ليست هذه الدعوة الخارجية بلا نتائج. إذ يمكن القول عموماً إن الله يتمم مقصده بواسطتها. فعن كلمة هذه الدعوة الخارجية أيضاً يمكن القول إنها لا ترجع خائبة بل تعمل ما يسرّه وتنجح في ما يرسلها لأجله (إش 55: 11). بها يؤكد الله حقه على خلائقه ويصون كرامة اسمه. ثم إن المسألة ليست على الإطلاق، لا هنا ولا هناك، كيف يستجيب الناس لهذه الدعوة الخارجية. فبين الوثنيين تفاوتٌ كبير في ردود الفعل تجاه دعوة الطبيعة. حتى إن سقراط وأفلاطون، مثلاً، ينبغي ألا يوضعا في مصفٍّ واحدٍ مع كاليفولا ونيرون. وهكذا، ليس هو شيئاً واحداً على الإطلاق أن يلقى الإنجيل هزءاً وتجديفاً من جهة، أو قبولاً بإيمانٍ تاريخي أو وقتي من جهة أخرى. صحيح أن بين هذين النوعين من الإيمان والإيمان القلبي المخلِّص فرقاً جوهرياً. ولكن ذلك لا يعني مساواتهما بعدم الإيمان الكلي. بل إنهما، على النقيض، من ثمار نعمة الله العامة، ويحملان معهما عدة بركات وقتية. فهما يضعان الناس تحت التزامٍ تجاه الحق، ويصدانهم عن ارتكاب كثير من الخطايا الرهيبة، ويجعلانهم يحيون حياة احتشام واحترام، ويسهمان بغنىً في تكوين المجتمع المسيحي، وهو بالغ الأهمية بالنسبة إلى حياة البشرية وتأثير الكنيسة.
أضف إلى هذا أنه يجدر بنا أن نلاحظ أن دعوة الله هذه الخارجية غالباً ما يستخدمها الله وسيلة لتهيئة عمل النعمة في قلوب خاصته. فليس هنالك بالحقيقة نعمة تحضيرية، بمعنى أن الدعوة الخارجية تتدرّج فتصير هي الدعوة الداخلية دون حدوث تغيير، أو أن الإنسان الطبيعي ينمو تدريجياً فيصير ابناً لله. وكما أنه ليس في الطبيعة نفسها فليس في النعمة أيضاً انتقالٌ تدريجيٌّ من الموت إلى الحياة أو من الظلمة إلى النور. ولكن هنالك شيئاً من قبيل النعمة التحضيرية أو الإعدادية إذا كان المقصود أن الله، مجري كل نعمة، هو أيضاً خالق الطبيعة، وهو يُرسي بين النعمة والطبيعة رباط اتصالٍ يحافظ عليه دائماً من بَعد. وفي تنفيذه لمشورة الفداء يسير على الخط الذي كان قد رسمه في عمل الخلق والعناية. فكما أنشأ لدى زكا رغبةً في أن يرى يسوع (لو 19: 3)، وكما أحدث تجاوباً لدى الجمهور الذي سمع بطرس (أع 2: 37)، كذلك تماماً يعتني بخاصته ويوجّههم بطريقة تُعِدُّهم للساعة التي فيها يُمجِّد نعمته فيهم، وهو نفسُه يقتادهم بيده القديرة لبلوغ ذلك الوقت.
على أنه بصرف النظر عن قوة هذه الدعوة الخارجية وقيمتها، فهي ليست في ذاتها كافيةً لتغيير قلب الإنسان وحِمْله فعلاً على قبول الإنجيل للخلاص. إنما ينبغي أن نفهم عدم كفاية الدعوة الخارجية على هذا النحو فهماً صحيحاً. فالإنجيل الذي تذيعه لا ينقصه شيء من حيث كونه بشارة، لأنه يشتمل على كامل مشورة الفداء ، ويعرض أمام أنظارنا المسيح بكل بركاته، ولا يحتاج إلى بسط مضمونه. وليس هذا الإنجيل بحرفٍ جامد يجب أن يُحييه الروح، ولا بكلامٍ مجرد أو رمزٍ بلا قيمة تعوزه العلاقة الواقعية بالحقيقة التي يُشير إليها. فمع أن بولس يقول عن الخادم إنه ليس شيئاً (1كو 3: 7)، لأنه يمكن أن يخلفه، أو قد يُغفَل كلياً، فهو لا يقول هذا عن الإنجيل. بل على النقيض، فالإنجيل هو قوة الله للخلاص (رو 1: 16؛ 1كو 15: 2)، وهو ليس كلمة بشر بل كلمة الله، الحية والفعالة،[31] وبمعنىً ما يقوم بعمله دائماً، إذ إنه إن لم يكن رائحةً تؤدي إلى الحياة يكون رائحةً تؤدي إلى الموت (2كو 2: 16). والمسيح الذي هو مضمون الإنجيل لا يدع أحداً في حالة حياد: فهو قد أتى إلى العالم بأزمة، أو دينونة، أو فاصل (يو 3: 19؛ 9: 39)، وبكلمته التي تصل إلى لبّ كيان الإنسان يُظهر أفكار القلب ونياته (لو 2: 35؛ عب 4: 12). قد صار المسيح صخرة عثرة للذين يرفضونه كصخرة ملجأ، وجهالةً للذين يرفضونه باعتباره الحكمة، وهو يُعلن سقوط الذين لا يؤمنون به قيامةً لهم.[32]
ولكن هذا التأثير المزدوج لكلمة الإنجيل يبرهن بدقة على أن اختلاف النتيجة لدى الذين يقبلون الكلمة ولدى الذين يرفضونها لا يمكن تفسيره بلغة تلك الكلمة وحدها، ولا بلغة الدعوة الخارجية أيضاً. صحيحٌ أن كلمة الإنجيل، بصرف النظر عمّن يحملها وإلى من، هي دائماً كلمةٌ من الله، حيةٌ وفعالة. ولكن التعبير "كلمة الله" لا يتضمن المعنى نفسه دائماً في الكتاب المقدس بأي حال من الأحوال. فحيناً يعني قوة الله التي يخلق بها العالم ويعتني به.[33] وحيناً يعني الإعلان الخاص الذي به يُعلن الله للأنبياء شيئاً ما (إر 1: 2، 4؛ 2: 1؛ ومواضع أخرى). وهو يُستعمَل عدة مرات للدلالة على مضمون الإعلان أو فحواه، بصرف النظر عن كونه يتعلق بالناموس أو بالإنجيل (خر 20: 1، لو 5: 1؛ ومواضع أخرى). وفي الحالة الأخيرة تبقى الكلمة هي كلمة الله بالحقيقة من حيث معناها، ولكنها ليست منطوقة من قبل الله مباشرة ورأساً كما هو شأن الكلمة الحاصلة في الخلق والعناية. بل إنها بالأحرى تأخذ شكل الكلمة البشرية، إذ يُمكن للكائنات البشرية أن يتكلموا بها ويكتبوها، وهكذا يصير لها - إن صح التعبير - وجودٌ مستقل. وبهذا المعنى أيضاً تبقى بالطبع من حيث مضمونها كلمةً حية وفعالة، غير أنها تشترك أيضاً في خصائص الكلمات البشرية، وبذلك لا تُحدث إلا تأثيراً أدبياً. إنما لا ينبغي التقليل من شأن التأثير الأدبي. فهو أقوى بكثير من مجرد الإرشاد العقلاني، إذ إن كلمة الإنجيل ليست فقط مصدر لمعرفتنا بالله والشؤون الإلهية بل هي أيضاً واسطة نعمة.
ولكن مثل هذا النشاط الذي يؤديه الإنجيل على المستوى العقلاني والديني الأدبي ليس كافياً. كان يكفي لو أن الإنسان لم يسقط، أو لو أنه لم يفقد بسقوطه حريته الأدبية. ولكن الكتاب يشهد، والحياة تؤكد كلَّ يوم، أن ذهن الإنسان مظلم (أف 4: 18؛ 5: 8)، وإنه مقيَّد في إرادته كعبد للخطية (يو 8: 34؛ رو 6: 20)، وأنه ميت بالذنوب والخطايا (أف 2: 1، 2). ولذلك فهو لا يقدر أن يرى ملكوت الله (يو 3: 3)، ولا يستطيع أن يقبل أو يفهم ما يتعلق بروح الله (1كو 2: 14)، ولا يقدر أن يخضع لناموس الله (رو 8: 7)، كما لا يستطيع في نفسه ومن تلقاء ذاته أن يتصور الخير أو يعمله (يو 15: 5؛ 2كو 3: 5). فالإنجيل موجَّه يقيناً إلى الإنسان، ولكنه ليس مفصَّلاً على قياسه، أي ليس حسب رغباته وأفكاره (غل 1: 11). لهذا السبب يرفض الإنسان الإنجيل ويقاومه إذا تُرك يسلك سبُلَه الخاصة.
ولكن غنى نعمة الله يكمن في كونه تعالى، رغم هذا كلِّه، يُضفي عمل الروح على الدعوة بالكلمة لجميع الذين اختارهم للحياة الأبدية. وقد كان الروح القدس في العهد القديم هو مُنشئ الحياة الروحية ومرشدها (مز 51: 12؛ 143: 10). غير أنه موعودٌ به هناك بصورة خاصة باعتباره من سيتولى في أيام العهد الجديد تعليم جميع الناس، ومن سيُعطى قلباً جديداً ويكتب عليه شريعة الرب.[34] لهذه الغاية أيضاً سكب الروح يوم الخمسين. ومع الرسل وبهم كان سيشهد للمسيح ويسكن في الكنيسة أيضاً لكي يجدِّدها (يو 3: 5)، ويقودها إلى الاعتراف بالمسيح رباً (1كو 12: 3)، ويعزيها ويرشدها، ويمكث معها إلى الأبد.[35]وبالعمل خارج الكنيسة، يخترق الروح العالم ويبكّته على خطية وبرّ ودينونة (يو 16: 8 - 11).
إن عمل الفداء هو عمل الله، عمله وحده - لا موضوعياً وحسب بل ذاتياً أيضاً. فليس لمن يشاء ولا لمن يسعى، بل لله الذي يرحم (رو 9: 16). هنالك دعوة خارجية تصل إلى الكثيرين (مت 22: 14)، ولكن توجد أيضاً دعوةٌ داخلية فعلية هي نتيجةٌ للاختيار (رو 8: 28 - 30). فالله لا يُعطي الإنجيل فقط، بل أيضاً يُجري الكرازة به في قوة وبالروح القدس (1كو 2: 4؛ 1تس 1: 5، 6)، وهو نفسُه من يُنمي (1كو 3: 6 - 9). هو يفتح القلب (أع 16: 14) ويُنير الذهن (أف 1: 18؛ كو 1: 9 - 11) ويطوّع الإرادة (أع 9: 6)، ويُنشئ الإرادة والعمل معاً في سبيل مسرّته (في 2: 13).
ولا ينبغي أن تُعزى حقيقة كون المدعوين على هذا النحو يُقبلون إلى المسيح ويتجددون، إلى الاستحقاق البشري، وكأن الإنسان بإرادته الحرة قادر على تمييز ذاته عن الآخرين. بل يجب أن تُعزى هذه الحقيقة إلى الله الذي كما اختار خاصته في المسيح قبل الزمان في الأزل يدعوهم أيضاً في الزمن بقوة وفعالية، ويمنحهم إيماناً وتوبة، وإذ يُنقذهم من سلطان الظلمة ينقلهم إلى ملكوت ابنه الحبيب، لكي يُخبروا بفضائله هو الذي دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب ولكيلا يفتخروا بأنفسهم بل بالرب، على حدِّ ما تشهد به الكتابات الرسولية باستمرار (قوانين دورت، ج 3، ف 4، ص 10).
أما طبيعة هذه الدعوة الداخلية فهي تظهر في الكلمة المقدسة بطرقٍ شتى. صحيح أن هذا التعبير بالذات غير وارد في الكلمة، ولكن الحقيقة التي يعبّر عنها يُشار إليها مراراً وتكراراً. حتى الطبيعة تقدم لنا إيضاحاً لما يحدث في دائرة النعمة. إذ إن الخلق يسلّط ضوءاً على الفداء، مثلما يسلِّط الفداء بدوره ضوءاً على الخلق. وقد أوضح المسيح طبيعة ملكوت السماوات وخصائصه وقوانينه بأمثال مستمدة من الطبيعة والحياة اليومية. وفي مثَل الزارع خصوصاً أظهر المسيح التأثيرات المتباينة لكلمة الإنجيل في قلوب الناس.
يسري في دائرة الطبيعة قانونٌ مؤداه أنه لكي يحوز الإنسان علماً أو معرفةً بأمرٍ معين ينبغي أن تكون له علاقة معينة بذلك الأمر الذي يريد أن يراه أو يعرفه. فإذا ابتغى المرء رؤية شيءٍ ما فلابد من وجود غرضٍ بالطبع، ولكن من الضروري أن توجد أيضاً عين منفتحة، فضلاً عن وجود ضوء يخدم هذا وذاك. وإذا شاء المرء أن يسمع، فلابد من توافر شيءٍ آخر غير الموجات الهوائية والأصوات - لابد من وجود أذن مفتوحة لاستقبال الصوت. وإذا شاء الإنسان أن يفهم الأغراض التي يدركها بحواسه، فهو يحتاج أيضاً إلى لبٍّ واعٍ. إذاً، يجب أن نكون على علاقة بالشيء الذي نراه حتى نستوعبه ونحوزه كملك روحي لنا. فلا الأعمى يُبصر ولا الأصم يسمع، ولكن اللامبالي أيضاً لا يستطيع أن يفهم. فالشخص الذي تعوزه الأذن الموسيقية لا يستوعب الأنغام، والذي يعوزه الذوق الفني لا يتمتع بقصيدة أو, لوحة. إذاً، لابد من قيام علاقة ما، رابطة تناغم، بين الإنسان والعالم الخارجي، كي يصل إلى العلم أو المعرفة.
وفي دائرة الطبيعة، تظل تلك العلاقة كامنة بالقوة على العموم. حقاً إن الخطية أيضاً قد خلّفت آثارها في هذا المجال، بحيث إن الأعمى والأصم والأبله، وسواهم من المنكوبين، ليس لهم شيء من تلك العلاقة، وجميع البشر قد ضعُفت لديهم نفس العلاقة أو تشوشت. ولكن يمكن القول بصورة عامة إن الله جعل تلك العلاقة تستمر في دائرة الطبيعة. فما زال في وسع الإنسان أن يرى ويسمع، ويشعر ويفكر، ويعرف ويتعلم.
ولكن في دائرة الروح انفصمت هذه العلاقة كلياً من جراء الخطية. فإن تصورات قلب الإنسان شريرة منذ حداثته (تك 8: 21). والثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه، أما إسرائيل فلا يعرف، وشعب الرب لا يفهم (إش 1: 3). وجيل البشر يشبه أولاداً جالسين في الأسواق، ينادون إلى أصحابهم، قائلين: زمَّرنا لكم فلم ترقصوا، نُحنا لكم فلم تلطموا (مت 11: 16، 17). وهذا الشعب ليس له أعين تُبصر، ولا آذن تسمع، ولا قلوب تفهم (إش 6: 9؛ مت 13: 14، 15). حتى إن البشر، لما أعلن الله لهم ذاته في الطبيعة، لم يعرفوه ولا شكروه (رو 1: 21)؛ وعندما يعلن لهم ذاته في الإنجيل، لا يفهمون أمور روح الله، ويعثرون بجهالة الصليب، ويرفسون المناخس.[36] فالإنسان بالطبيعة ميتٌ بالنسبة إلى الله وإعلانه وجميع الأمور الروحية والسماوية. إنه لا يبالي بها ولا يهتم، ويفتكر فقط في الأرضيات، ولا يُسَرُّ بمعرفة طرق الرب. ذلك أن العلاقة بين الله والإنسان قد انفصمت. فليس بينهما بعد شركةٌ روحية ولا بينهما وحده فيها بعد.
ولذلك فإن الدعوة الداخلية عامةً تقوم على حقيقة كونها تسترد رباط العلاقة، وتوصل ثانية ما بين الإنسان والله روحياً حتى يُصغي الإنسان إلى كلمة الله ويفهمها. وعمل الروح القدس هذا في ما يتعلق بالدعوة الداخلية يطلق عليها الكتاب المقدس "الإعلان". فلما اعترف بطرس في نواحي قيصرية فيلبس بيسوع أنه المسيح ابن الله الحي، قال له المخلِّص: طوبى لك يا سمعان بن يونا، لأن لحماً ودماً لم يُعلن لك، بل أبي الذي في السماء (مت 16: 17). وهكذا أيضاً يشهد الرسول بولس أنه عند تجديده سر الله أن يُعلن ابنه فيه (غل 1: 16). هذا الإعلان لا يُشير إلى ظهور المسيح موضوعياً. فإنه حينما اعترف بطرس بيسوع أنه المسيح، كان المخلص قد عاش على الأرض وعمل عدة سنين، وقد أعلن غير مرة أنه هو المسيح (مثلاً، مت 11: 5 وما يلي)، واعترف به آخرون بهذه الصفة (مت 8: 29؛ 14: 33). ولكن لم يكن قد تمّ من قبل الاعتراف بيسوع على هذا النحو الواضح والحاسم أنه المسيح ابن الله، ولذلك يقول ما يفيد أن إعلاناً ذاتياً في قلب بطرس وذهنه كان هو الأمر الوحيد الذي جعله يعترف هذا الاعتراف الجريء القاطع. ذلك أن الله نفسه أنار الرسول داخلياً حتى رأى آنذاك في المسيح ما لم يسبق له أن رآه فيه بمثل ذلك الوضوح.
بكلمة أخرى، يتكون الإعلان المشار إليه في هذه الآيات من استنارة داخلية. ففي عالم الطبيعة، وُهبت أعيننا نوراً من الشمس، وهي بدورها تُنير الجسد كُلَّه، كما يُنير المصباح البيت (مت 6: 23). والذهن والعقل يُنيرهما في الإنسان ذلك الكلمة الذي كان عند الله، والذي كوّن كل شيء، من كان نور الناس وما يزال يُنير كل إنسانٍ في هذا العالم (يو 1: 1 - 9). وبسبب إنارة الذهن هذه، يستطيع الإنسان أن يتنبّه إلى العالم ويتفحصه ويعرفه. وهكذا، فإن حكمة الإنسان تنوّر وجهه (أم 8: 1).
كذلك أيضاً توجد استنارة في عالم الروح. وقد سبق المرنَّم في أيام العهد القديم فصلّى طالباً إياها، إذ قال: اكشف عن عيني فأرى عجائب من شريعتك (مز 119: 18). وفي العهد الجديد، يتحدث بولس عن إعلان (غل 1: 16) وفي موضع آخر عن إنارة شارك فيها. فإن الله، خالق النور، قد أشرق أيضاً في قلب بولس، حتى يتمكن - بوصفه رسولاً وبواسطة الكرازة - من أن يجعل مجد الله يشعُّ على الآخرين، وأن يأتي بهم تالياً إلى معرفة هذا المجد (2كو 4: 6؛ قارن أف 3: 9).
وفي غير موضع يوصف عمل الروح القدس هذا على صعيد الدعوة الداخلية بأنه فتْحُ الرب يسوع للقلب (أع 16: 14) أو للذهن (لو 24: 45)، حتى تُفهم كلمة الله وتٌقبل على حقيقتها. ويُوصف هذا العمل أيضاً بصورة النمو الذي يعطيه الله للكلمة التي كرز بها الرسل (1كو 3: 5 - 9). لأن الرسل ليسوا إلا خداماً، عاملين مع الله، آلات بين يديه، بحيث إنهم ليسوا هم الذين يعملون بالحقيقة، بل نعمة الله التي معهم (1كو 15: 10). إنهم بالحقيقة لا شيء ولكن الله هو الكل، لأنه هو من يُعطي لبذرة الكلمة نموها، وعليه فالكنيسة كلُّها هي فلاحته وبناؤه. ويقيناً أن القدرة اللازمة لإحياء خاطئٍ ميت هي خارج طاقة أي مخلوق، ملاكاً كان أو رسولاً. فالقوة اللازمة لهذا ليست شيئاً أقل من القوة الإلهية القادرة على كل شيء، القوة نفسها التي أقامت المسيح من بين الأموات.
نعلم أن الرسول بولس يصلي لأجل مؤمني أفسس لكي يُعطيهم الله بعد روح الحكمة والإعلان، حتى يعرفوه ويُنير لهم عيون أذهانهم (أي بصائرهم). وهكذا يتسنى لهم أن يعرفوا، أولاً: أيُّ رجاءٍ عجيب وتوقّع مجيد يمنح الله للذين دعاهم؛ وثانياً: أيُّ ميراثٍ غنيٍّ بالمجد ينتظرهم في المستقبل؛ ثالثاً: أية عظمة فائقة لا تُقاس لقدرته التي يُبديها نحو المؤمنين من بداية دعوتهم، وطوال حياتهم، حتى المجد النهائي. ويستطيعون أن يكوّنوا فكرةً ما عن عظمة قدرة الله بأن يقيسوها بما عمله في المسيح إذ أقامه من بين الأموات وأجلسه عالياً جداً، فوق كل رياسة وسلطان، عن يمينه تعالى في السماء. ففي دعوة المؤمنين وتجديدهم وحفظهم وتمجيدهم، تظهر جلياً قدرة الله نفسُها التي ظهرت في قيامة المسيح وصعوده وتمجيده (أف 1: 15 وما يلي).
فبحسب ما جاء في الكتب المقدس إذاً، تعترف الكنيسة المُصلحة بأنه عندما يُجري الله مسرته في المختارين ويُنشئ فيهم التوبة الحقيقية، لا يدبر فقط أمر الكرازة لهم بالإنجيل خارجياً، كما أنه لا يُنير فقط بكل قوة أذهانهم بعمل الروح القدس، كي يفهموا ويميزوا بحق ما هو لروح الله، بل إنه أيضاً ينفذ إلى الإنسان الباطن بالعمل الفعال للروح المحيي نفسه هذا العمل، على حدّ تعبير الاعتراف عينه، هو عمل فائق الحد بجملته، عملٌ قوي جداً لكنه في الوقت نفسه عملٌ لطيف وعجيب وغامض ولا يُعبَّر عنه. إنه، بحسب شهادة كلمة الله المقدسة (المُعطاة، كما لا يفوتنا من قبل المصدر الإلهي عينه الذي يُتِمُّ هذا العمل أو التأثير)، لا يقلُّ قوة عن القدرة التي تجلَّت في الخلق أو في إقامة الأموات (قوانين دورت، ج 3، ف 4، ص 12).
والتغيير الذي يُحدثه عمل الروح القدس في الإنسان هذا يُعرف بالتجديد. وهذه الكلمة ليست من كلمات الكتاب المقدس أصلاً، ولم ترد فيه لفظاً، بل إنها استُخدمت منذ أقدم الأزمنة في ديانة الهنود للدلالة على التغيير الذي يعتقدون أن النفس تجتازه عند الموت. فيُذكر أن النفس، بحسب الديانة الهندية، لا تحيا بعد الموت في حال انفصالٍ، بل تدخل للحال جسداً آخر، سواء كان جسد إنسان أو حيوان أو نبات، تبعاً لتصرفها في أثناء تجسّدها السابق. وعندهم أن كل ولادة تنتهي إلى الموت، ولكن كلَّ موت يُفضي أيضاً إلى ولادة أخرى. وهكذا يكون كلُّ كائن بشري خاضعاً لسلسلة مستمرة من "الولادات الجديدة" على مدى القرون، حيث تتخذ النفس الواحدة تجسدات جديدة. وبحسب البوذية، لا يوجد عتق من هذا القانون الرهيب ومن كل معاناة للألم في العالم إلا حينما يعلم الإنسان في ذاته كيف يسكّن التوق إلى الوجود، وحينما يعمل على إبادة الذات، أو على الأقل على تحييد وعيه، وذلك بواسطة أعمال التقشف بجميع أنواعه. هذا الاعتقاد بوجود "ولادات جديدة" قديم جداً في الشرق، وما زال كثيرون حتى اليوم يرون فيه حكمة سامية.
غير أن الكتاب المقدس يتحدث عن تجديد البشر بمعنى آخر مختلف تماماً. وقد وردت اللفظة "تجديد" في العهد الجديد في موضعين أصلاً: مرة في (متى 19: 28)، حيث يشير المسيح إلى تجديد العالم الذي سيسبق إقامة الملكوت المجيد؛ وأخرى في (تيطس 3: 5)، حيث يقول بولس إن الله خلصنا لا بأعمال برّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس. ومن الصعب أن نجزم هنا هل يفكر بولس في المعمودية كعلامة أو ختم للولادة الثانية أو هو يُشبّه بركات الولادة الثانية وتجديد الروح القدس بعملية استحمام يشرع فيها المؤمنون. ومهما كانت حقيقة الأمر، فإن العبارة المعطوفة "تجديد الروح القدس" تثبت أن التجديد ينطوي على تغيير روحي أدبي يحصل في المؤمن عند اهتدائه. وقرينة الكلام تؤيد هذا الفكر، إذ تفيدنا أن المؤمنين كانوا قبلاً أغبياء، غير طائعين، ضالين، مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة، عائشين في الخبث والحسد، إلى ما هنالك (تي 3: 3)، غير أنهم قد خُلِّصوا إذ وُلدوا ثانية وتجددوا، وصاروا ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية (الآيات 4 - 7). وعلى ذلك يُحرَّضون على ممارسة الأعمال الحسنة (الآية 8)، ما داموا تحديداً قد حصلوا بالولادة الثانية والتجديد على القدرة والرغبة للقيام بمثل هذه الأعمال.
غير أنه، وإن كان اسم "التجديد" في الأصل لا يرد في العهد الجديد إلا مرتين، يُشار إلى هذه الحقيقة عينها بكلمات وصور مختلفة. حتى أن العهد القديم ينبّه بني إسرائيل إلى ضرورة عدم الافتخار بعلامة الختان الخارجية ويشير عليهم بوجوب أن يختنوا عُزلة قلوبهم ولا يعودوا يُصلِّبون رقابهم (تث 10: 16). ويَعد العهد القديم أيضاً بأن الرب إلههم سوف يختن قلوبهم وقلوب نسلهم لكي يُحبوا الرب إلههم من كل قلوبهم ومن كل نفوسهم (تث 30: 6). وقد تحقق هذا الوعد لقديسي العهد القديم جزئياً، لكنه سوف يلقى إتماماً أوفى في المستقبل، يوم يعمل عهداً جديداً مع شعبه، ويسكب روحه على الجميع، ويُعطيهم قلب لحمٍ بدل قلب الحجر، ويكتب نواميسه على قلوبهم.[37]
ولما حان ذلك المستقبل واقترب ملكوت السماء، ظهر يوحنا المعمدان يكرز بالتوبة شرطاً لدخول الملكوت. وكان شعب إسرائيل، رغم امتيازاته الخارجية، فاسداً كلياً. فعلى الرغم من ختانه، احتاج إلى المعمودية، معمودية التوبة لأجل مغفرة الخطايا، معمودية يُغطَّس فيها الإنسان كلُّه لكي يخرج إنساناً جديداً يحيا حياة جديدة (مت 3: 2 وما يلي). وقد تولى المسيح الكرازة عينها بالتوبة والإيمان، وقبل هو نفسه المعمودية وطلبها من جميع الذين أرادوا أن يكونوا تلاميذاً له (مر 1: 14، 15؛ يو 4: 1، 2). وكلُّ من أراد أن يدخل الملكوت عليه أن يقطع كل علاقة له بسيرة حياته السابقة، أن يخسر نفسه (مت 10: 39)، وأن يتخلى عن كل شيء (لو 14: 33)، وأن يحمل صليبه ويتبع الرب (مت 10: 38)، وأن يصير مثل ولدٍ (مت 18: 3)، وأن يرجع إلى الآب معترفاً بالخطية (لو 15: 18)، وأن يدخل إلى الحياة الأبدية من الباب الضيق والطريق الكرب (مت 7: 14). وكلُّ من يريد أن يفعل ذلك، يعطيه الله نفسُه قدرة على فعله، لأن البشر أشرار (مت 7: 11). ومن قلوبهم لا تخرج إلا الشرور (مت 15: 19). فإنهم لا يجتنون ثمراً جيداً من شجرة رديئة (مت 7 : 17). إذاً، إن شئنا الحصول على ثمرٍ جيد، فلابد أولاً من جعل الشجرة جيدة، ولا يقدر أن يعمل هذا إلا الله وحده (مت 19: 26). فالذين يغرسهم الآب السماوي غرساً هم أولاد الله ومواطنو ملكوت السماء (مت 15: 13) وهم الذين أعلنهم الابن للآب، والآب للابن (مت 11: 27؛ 16: 17). ومع أنهم كانوا من قبل أمواتاً بالروح، فلهم الآن نصيب في الحياة الحقيقية وهم ينتظرون الحياة الأبدية (مت 8: 22؛ لوقا 15: 24؛ 18: 30).
في جميع تعاليم المسيح هذه كما تعرضها لنا روايات الأناجيل الثلاثة الأول، لا ترد كلمة "التجديد"، غير أن الحقيقة ذاتها معلنة بوضوح. وعليه، فعندما يقول الرب يسوع في مقابلته لنيقوديموس إنه لا يقدر أحد أن يرى ويدخل ملكوت الله ما لم يولد ثانيةً (من فوق) من الماء والروح (يو 3: 3 - 8)، عندئذٍ لا تتعارض شهادته مع شهادة الأناجيل الأخرى. بل إنه بالأحرى في تعليمه هذا لنيقوديموس يلخّص بإيجاز ووضوح ما كان قد عرضه في مواضع أخرى علناً وبأكثر تفصيل. ونحن نعلم أن نيقوديموس كان شخصاً مرموقاً، معلِّماً عند بني إسرائيل، وعضواً في مجلس السنهدريم. وكان قد سمع بمعجزات المسيح، ولذلك حسبه معلِّماً مرسلاً من عند الله. لكنه لم يكن متيقناً في ذهنه فظلَّ في شكٍّ من أمره. وهكذا قصد إلى يسوع ليلاً - لئلا يُثير ريبة اليهود وعداءهم - لعله يتيقن بمقابلة سرية ما إذا كان يسوع هو المسيح فعلاً. وعليه، يستهلُّ نيقوديموس المحادثة بإظهار اقتناعه بأن يسوع هو معلمٌ جاء من لدن الله وأعطاه الله القدرة على القيام بأعماله العجيبة التي يعملها. ويبدو أنه أراد أن يُنيط بذلك سؤالاً عما ينبغي أن يعمله الإنسان ليدخل ملكوت السماء. ولكن المسيح لم يمهله حتى يطرح السؤال، بل أجابه في الحال: الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يولد (ثانيةً) من فوق، لا يقدر أن يرى ملكوت الله. وهكذا ينـزع المسيح، بإيماءةٍ واحدة، من نيقوديموس كلَّ اعتبارٍ للاستحقاق البشري ولحفظ الناموس على طريقة الفريسيين سبيلاً إلى دخول الملكوت.
من هنا لا يتكلم المسيح حرفياً عن ولادة "ثانية" من جديد، بل عن ولادة "من فوق". فالتشديد لا يقع على حقيقة كون الإنسان يحتاج إلى ولادة ثانية لدخول الملكوت، وإن كان التجديد يمكن أن يُحدَّد هكذا بصورة طبيعية للغاية. ولكن الرب يسوع يريد أن يؤكد لنيقوديموس على الحقيقة القائمة في أنه لا سبيل للإنسان إلى دخول الملكوت إلا إذا وُلد "من فوق" (ع 3)، من الماء والروح القدس (ع 5)، من الروح (ع 8). هذه الولادة هي على نقيض الولادة الجسدية، لأن المولود من الجسد هو جسد (ع 6). إنها ولادةٌ ليست من الدم، ولا من مشيئة الجسد، ولا من مشيئة الإنسان، بل من الله (يو 1: 13). من هنا كونُها أمراً لا يُدرك مصدرُه واتجاهه، إلا أنها ممكنة رغم ذلك لأنها ولادةٌ من الروح (ع 8). فبعد ما قال المسيح أولاً بوجه إجمالي إنها ولادةٌ من ماء وروح (وكلتاهما في الأصل غير معرَّفتين) (ع 5) يتحدث بالتحديد في الآيتين 7، 8 عن الروح (بالتعريف هذه المرة)، والغاية أن يُبيِّن أن هذا الروح، لكونه روح الله، يقدر أن يُحدِث عملية الميلاد الثاني العظيمة هذه. وإذ يذكر المسيح الماء (ع 5) لا يقصد المعمودية بالدرجة الأولى، بل إنه بالأحرى يُشير إلى طبيعة الولادة من فوق. فهي ولادةٌ لها صفةُ التجديد والتطهير - وصورة هذين حاصلةٌ في الماء (حز 36: 25). وهي ولادة تُوجِد حياة روحية جديدة، الأمر الذي تحققه الولادة من فوق لأنها ولادة من الروح القدس، أي من الله نفسه (ع 6 - 8).
هذا، وفي العهد الجديد فصولٌ أخرى تُلقي أضواءً كاشفة على هذا التعليم الأساسي من تعاليم المسيح. فالتجديد هو عملٌ يُجريه الله. إذ منه يُولد المؤمنون (يو 1: 13؛ 1يو 3: 9؛ 5: 18). وهو الذي يدعوهم فعلاً (رو 8: 30). وهو يُحييهم (أف 2: 1)، ويلدهم (يع 1: 18)، ويُجدِّدهم (1بط 1: 2). لكنه لا يمنح هذه البركة إلا بالاشتراك مع المسيح الذي أعطاه خاصته (يو 6: 37، 39)، ويجذبهم إليه (يو 6: 44)، ويدمجهم فيه (رو 6: 4؛ أف 2: 1؛ غل 2: 20). وهو يُجري ذلك بواسطة عطية الروح القدس الذي ينفذ إلى قلب الإنسان، والذي هو مُبدئ الحياة الجديدة.[38] والمؤمنون، بفضل ولادتهم من الله هم عملُه، مخلوقين في المسيح (أف 2: 10)، وفلاحته وبناءه (1كو 3: 9)، وخليقةٌ جديدة (2كو 5: 17). فالتجديد ليس عملاً من صنع القوة البشرية، ولا حصيلة تطور طويل وتدريجي للحياة الطبيعية، بل هو بالأحرى تغيير كلّي لنمط الوجود العتيق وخلقٌ أوليٌّ لحياةٍ روحية جديدة. إنه موت الإنسان العتيق وقيامة الجديد (رو 6: 3 وما يلي).
ومع هذا، فإن التجديد ليس في المقابل خَلْقاً ثانياً من العدم، كالخَلْق الأول، بل هو خلقٌ من جديد للإنسان الذي نال حياته الأولى بولادته من أبويه. ففي التجديد، يبقى الإنسان في جوهره هو الشخص نفسه والذات نفسها والشخصية نفسها. ويقول بولس عن نفسه أنه قد صُلِبَ مع المسيح وأنه ليس هو من يحيا فيما بعد بل إن المسيح يحيا فيه. لكنه يُردف فيقول: الحياة التي أحياها الآن في الجسد إنما أحياها بإيمان ابن الله (غل 2: 20). فإن ذاته قد ماتت ودُفنت مع المسيح، إلا أنها أيضاً أُقيمت في الحال مع المسيح. إنها لم تُمحق ولم تحلّ محلَّها ذاتٌ أخرى، بل قد وُلدت ثانية وجُدِّدت. وعلى هذا النحو أيضاً يقول بولس عن مؤمنين معينين في كورنثوس إنهم كانوا قبلاً زناةً وعبدة أوثان وفاسقين وما إلى ذلك لكنَّهم غُسلوا وقُدِّسوا وبُرِّروا باسم الرب يسوع وبروح إلهنا (1كو 6: 9 - 11). إذاً، لا يقضي التجديد على استمرارية الكائن البشري ووحدته وتماسكه، بل بالأحرى يُحدث في هذه تغييراً مهماً على نحوٍ هائل.
هذا التغيير روحيٌ في طبيعته. فما يُولد من الروح هو روح (يو 3: 6). إنه يحيا يفضل الروح ويسلك حسب الروح. فالتجديد يغرس في داخل الإنسان مبدأ حياةٍ جديدة، مبدأ يُنشئه الروح القدس بقدرةٍ خلاّقة على ارتباط بقيامة المسيح الذي منه يتلقَّى كل شيء (1بط 1: 3). فهو يزرع بذرةً في القلب (1بط 1: 23) ينبت منها شخصٌ جديدٌ كلياً. وعلى نحوٍ غامض وسرّي جداً ينطلق التجديد ويتركز في لبّ الشخصية الإنسانية، في ذاتية الإنسان إن صحّ التعبير (غل 2: 20)، لكنه من هناك ينتشر ليشمل جميع قدرات الشخص: ذهنه (رو 12: 2؛ 1كو 2: 12؛ أف 4: 23)، وقلبه (عب 8: 10؛ 10: 16؛ 1بط 3: 4)، وإرادته (رو 7: 15 - 21)، ورغباته وميوله (رو 7: 22)، وروحه ونفسه وجسده (1تس 5: 23؛ رو 6: 19). فإنه يُولد إنسانٌ كامل، وإن يكن غير بالغٍ بعد، وعليه أن يُصارع خطايا الجسد بكلِّ أنواعها (غل 5: 17)، إلا أنه يرغب في أن يسلك في جدّة الروح (رو 6: 4؛ 7: 6).
فبحسب الإنسان الجديد يُخلق المؤمنون من جديد على صورة المسيح في البرّ والقداسة الحقيقيَّين.[39] إنهم ليسوا بعد على صورة الإنسان العتيق، آدم الأول، بل تظهر فيهم صورة الإنسان الثاني، الرب من السماء (1كو 15: 48، 49). وقد صُلبوا للعالم، ولم يعودوا يحيون هم، بل يحيون في ذاك الذي مات لأجلهم وقام (2كو 5: 15؛ غل 2: 20؛ 6: 14). لقد نالوا مركزاً مختلفاً لكلِّ أفكارهم وأعمالهم، لأنهم يحيون ويتحركون ويُوجدون في المسيح، وقد لبسوه بالمعمودية كثوب، وتظهر فيهم هيئته، وهم في كل حين يتغيرون أكثر فأكثر إلى تلك الصورة عينها، من مجدٍ إلى مجد، كما من الرب الروح.[40] وبهذه الشركة مع المسيح هم أولاد الآب السماوي، يُحبون الله والأخوة، وسيكونون مثله يوماً لأنهم سيرونه كما هو (1يو 3: 2؛ 5: 2؛ وآيات أخر). على هذا النحو الغني والمجيد يتكلم الكتاب المقدس عن التجديد، وهو لا يفعل ذلك بالدرجة الأولى لكي نُدرك هذا التعليم على حقيقته خير إدراك، بل بالأحرى كي نشترك شخصياً في هذه البركة العظيمة من بركات نعمة الله ونتعلم كيف نسلك كأولادٍ لله في هذا العالم الشرير. فيا لها من قوةٍ تصدر عن الكنيسة إن هي لم تكتفِ بتدوين صورة المسيح في اعترافها بل تعرضها أيضاً في الحياة العملية التي يحياها كلُّ من فيها!
إنها لحقيقةٌ أكيدة أن الشجرة تُعرف من ثمارها. فالشجرة الجيدة تثمر ثمراً جيداً، والإنسان الصالح يُخرج أموراً صالحة من كنـز قلبه الصالح (مت 7: 17؛ 12: 33، 35). وما دام التجديد يغرس في القلب مبدأ حياة جديداً، فينبغي أن يظهر ذلك - ولا بد أن يظهر فعلاً - في الأعمال التي تنبثق من تلك الحياة الروحية. وفي طليعة هذه الأعمال اثنان: الإيمان، من جانب الذهن؛ والتوبة، من جانب الإرادة.
وعلى العموم، فإن الإيمان - كما هو متعارفٌ عليه أيضاً في أمور الحياة - هو قبول شهادة ما. فإننا نؤمن بشيءٍ ما، أو نصدقه، عندما لا نكون قد رأينا ذلك الشيء بأمّ العين أو قد أدركناه ولكننا نتيقن منه رغم ذلك لأن شخصاً آخر موضع ثقة قد أطلعنا عليه، إما شفاهاً وإما كتابةً، إما ماضياً وإما حاضراً. هذا المعنى الأساسي للكلمة يظلُّ قائماً أيضاً عندما ننقلها إلى الدائرة الدينية، ومن الواجب أن نحتفظ بهذا المعنى، لأننا لا نعرف شيئاً عن مضمون الإنجيل الكامل، وعن شخص المسيح وعمله، سوى ما تلقيناه بشهادة الرسل. فبكلامهم فقط يمكننا أن نؤمن بالمسيح (يو 17: 20). وعن طريق الشركة مع الرسل نصل إلى الشركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح (1يو 1: 3).
على أن كلمة "الإيمان" حين تُستعمل في الدائرة الدينية، وتُطلق في الكلمة المقدسة بالتحديد على الطريق المُفضي إلى ملكوت السماء، يتعدل معناها على نحوٍ ذي شأنٍ ومغزى بفضل هذا الاستعمال الخاص. قد يقبل المرء الإنجيل أيضاً قبولُّه لشهادةٍ تتعلق بشخصٍ أو حدثٍ تاريخي، ولكن ذلك ليس قبولاً للإنجيل باعتباره الإنجيل، وفي تلك الحال لا يكون الإيمان الذي به يقبل ذلك الشخص الإنجيل هو الإيمان الحقيقي. وطالما شهد اختبار جميع الأنبياء والوعّاظ والرسل وخدّام الكلمة في الكنيسة وفي العالم الوثني - نعم، واختبار المسيح نفسه - أن الكلمة لم تجد قبولاً لدى الكثيرين ولم يكن لها تأثيرٌ فيهم. من صدّق خبرنا، ولمن استُعلنت ذراع الرب؟ فالناس الذين يسمعون بشارة الإنجيل يقفون منها مواقف ذهنيةً متباينة جداً، ويتخذون إزاءها مواقع تختلف كثيراً.
وقد بيّن المسيح هذه المواقف والمواقع المتفاوتة في المثل الذي ضربه عن الزارع. فعند بعضهم، تقع بذار الإيمان على الممرات الواقعة على تخوم الحقل فتأتي الطيور وتلتهمها، وهؤلاء هم غير المكترثين، غير المتجاوبين، المتبلّدون، من يسمعون الكلمة لكنَّهم يصغون إليها كشأنٍ لا يعنيهم البتة. لا يهتمون بها شخصياًً أدنى اهتمام، ويفترضون أنها غير موجَّهة إليهم. فالكلمة لا تقع داخل حقل قلوبهم، بل على جوانبه، على الممرات القاسية المطروقة. بل إنهم بالحقيقة غالباً ما لا يُبقونها في الذاكرة. فكأنها تدخل من أذن لتخرج من الأخرى. ولا تكاد تمضي لحظات قلائل حتى تكون حالُهم كأنهم لم يسمعوها من قبل. وإذا الكلمة تُطرد خارج أذهانهن بفعل الطيور التي تمثّل كل نوعٍ من أفكار المناقضة والاستخفاف وعدم الإيمان والتجديف، تلك التي يستخدمها الشرير وسائل بيده. هؤلاء يسمعون الكلمة لكنَّهم لا يفهمون معناها (مت 13: 4، 19).
وعند آخرين، تقع بذار الكلمة على الأماكن المُحجِرة حيث لا يكون لها تربةٌ عميقة بما يكفي. فتنبت البذار حالاً، لأن ليس لها عمقُ أرض، ولكن عندما تُشرق الشمس، تذوي وتجف لأنها بلا جذور. هؤلاء هُم السطحيون، السريعو التأثر، المتقلّبون. إنهم لا يسمعون الكلمة فقط، بل يقبلونها حالاً بفرح. إذ تستهويهم البشارة لجمالها وسمِّوها أو بساطتها وعذوبتها، وتخلِّف لديهم أيضاً انطباعاً ما. يتأثرون بها وتتحرك مشاعرهم، ويرون فيها نوعاً من القوة، ونتيجةً لذلك يتخذون كل نوعٍ من العزائم الحسنة. غير أنهم لا يدعون الحق يؤثر فيهم تأثيراً عميقاً ويضرب جذوره في أعماق قلوبهم، بل يُحلّونه في مخيلتهم، في عقولهم وأفهامهم دون أن يفتحوا له أعماق كيانهم. فتكون على السطح طبقة رقيقة من التربة تقع فيها الكلمة، ولكنَّ كل شيء تحتها باردٌ وجامد وقاسٍ كالصخر. من هنا لا يقدر هؤلاء أن يتحملوا الضيق والتجارب التي تأتي عليهم، ولا الاضطهاد والمِحَن. فإذا حدث ذلك، عثروا وسقطوا. ويكون إيمانهم إلى حين (مت 13: 5، 6، 20، 21).
وآخرون تسقط الكلمة عندهم بين الشوك، فيطلع الشوك مع البذار (لو 8: 7) ويخنقها، فتصير بلا ثمر. هؤلاء هم سامعو الكلمة ذوو التفكير الدنيوي، فقلوبهم ملأى بالأشواك، غاصّة بهموم الحياة وتجارب الغنى، وقد ابتلعتهم هموم العالم أو تجاربه. إنهم يسمعون الكلمة، ويقبلونها أيضاً. فأحياناً تنفذ الكلمة من خلال هذه الهموم والمسرات العالمية وتصل قلوبهم. وتراودهم حيناً فكرة بأنه ربما يكون أفضل لهم لو قطعوا علاقتهم بالعالم وطلبوا ملكوت الله. وأحياناً يستبدُّ بهم الخوف من الدينونة. ولكن حالما توشك البذرة أن تُفرِخ، تطلع الأشواك، أي هموم العالم وشهواته، وتخنق ولادة الحياة الجديدة. فهؤلاء الأشخاص لا يبلغون البتة نقطة ترْك كلِّ شيء وحَمْل صليبهم وإتباع المسيح. إذ إن قوة العالم تغلبهم دائماً (مت 13: 7، 22).
وعلى هذا كلِّه، يوجد تصديقٌ أو قبولٌ لبشارة الإنجيل لكنه ليس، هو الإيمان الحقيقي. صحيحٌ أن هنالك اللا مبالين المتعالين الذين، شأنهم شأن بيلاطس الذين ينظرون إلى البشارة بابتسامة سخرية (يو 18: 38). وهنالك أيضاً أولئك الذين مثلُهم مثل الفريسيين المتكبرين واليونانيين الحكماء، الذين يجدون في الصليب عثرةً وجهالة، ويهاجمونه بعداء سافر ووحشية عنيفة.[41] ولكن هناك قوم مؤمنون لا يبلغون حد الاعتراف لأنهم يحبون تمجيد الناس لهم أكثر من مجد الله (يو 12: 42، 43). فطوال حياتهم، حتى ساعة مماتهم، يظلُّون سامعين للكلمة غير عاملين بها.[42] وكسمعان السامري، يقبلون الإنجيل للعجائب والمعجزات العظيمة التي تجري بواسطته (أع 8: 13 وما يلي). وكأغريباس، يتأثرون عند نقطة معينة في حياتهم ويقتنعون بضرورة أن يصيروا مسيحيين (أع 26: 27، 28). وكديماس، قد يخدمون الإنجيل سنين ثم يعودون لمحبة العالم الحاضر (2تي 4: 10). فالإيمان على أنواع شتى: إيمانٌ وقتي، وإيمان تاريخي، وإيمان "عجائبي" - أي إيمان تثيره الآيات والمعجزات، وهذه كلُّها تحمل اسم الإيمان، لكنها ليست إيماناً بمعناه الحقيقي. وأصحاب مثل هذا الإيمان لهم صورة التقوى لكنهم يُنكرون قوتها (2تي 3: 5).
أما الإيمان الحق، الإيمان الذي يخلص، فيتميز عن سائر هذه الأنواع بثلاث نواحٍ. ففي المقام الأول، لهذا الإيمان مصدر مختلف. إن الإيمان التاريخي والإيمان الوقتي والإيمان العجائبي ليسوا خطأً في حد ذاتهم. فجميعهم أفضل من عدم الإيمان الكلي والعداء السافر. ولهم أيضاً نفع مؤقت. لكنهم من هبات نعمة الله العامة فحسب، وهم يوهبون أيضاً للإنسان الطبيعي. إلا أن الإيمان الخلاصي هو عطية من الله، مثل الخلاص بجملته (أف 2: 8). إنه عطية من عطايا نعمة الله الخاصة (في 1: 29) ونتيجة للاختيار (أع 13: 48؛ رو 8: 30؛ أف 1: 5). وهو عمل من أعمال الروح القدس (1كو 12: 3) وثمرٌ من ثمار التوبة (يو 1: 12، 13).
إن المولودين ولادة طبيعية فحسب، ينتمون إلى العالم، وهم من أسفل ويحبون الظلمة أكثر من النور، ولا يفهمون الكلمة. إلا أن التجديد يعلّل سبب استجابة قومٍ لدعوة الإنجيل وقبولهم المسيح (يو 1: 12، 13). فهؤلاء وُلدوا من الله، وهم من الحق، وقد اقتادهم الآب إلى المسيح، وهم يسمعون صوته ويفهمون كلامه ويتبعونه.[43] والروح القدس الذي وُلدوا منه يشهد مع أرواحهم أنهم أولاد الله (رو 8: 16) ويجعلهم ينطقون بالاعتراف بأن المسيح هو ربهم (1كو 12: 3).
ثم إن الإيمان الخلاصي، في المقام الثاني، وبفضل مصدره هذا، ينبغي أن يتميز عن سائر الأنواع بجوهره أيضاً. لاشك أن فيه عنصر معرفة، لأنه معني بشهادة تتناول أموراً غير منظورة وأبدية لم نرها نحن بأعيننا ولا يمكن أن نراها. ولا قِبَل لهذا الإيمان بأن يبني الحق فقط على الحياة المجدَّدة ولا على الاختبار الديني الذاتي والمشاعر الشخصية. ذلك أن المؤمنين، وإن كانوا قد نالوا مسحة الروح القدس من القدوس - أي المسيح - ويعلمون كل شيء (1يو 2: 20)، يدينون للمسيح تحديداً بفضل ذلك الروح، ويظلون ملتزمين التقيّد بكلمة الحق التي سمعوها معاً على أساس الرسل والأنبياء (أف 2: 20).
غير أن المعرفة المختصة بالإيمان الخلاصي هي من نوع خاص. فهي ليست معرفة نظرية بحتة يتولى أمرها العقل والذاكرة فقط وتبقي الإنسان في ما عدا ذلك جامداً وغير مبالٍ. إنها لا تقوم على المستوى الواحد عينه مع المعرفة الحاصلة في العلم عن طريق البحث والتفكير، كما لا ينبغي أن تعادل بتصديق خبر تاريخي يتعلق بأمر وقع في الماضي. فالمعرفة الإيمانية معرفة عملية، معرفة قلبية أكثر منها عقلية، معرفة عميقة يُعنى بها الشخص نفسَه بكلِّ جوارحه، إذ إنها تتعلق بشيءٍ يهمُّ النفس في لُبِّ جوهرها - شيءٌ يتناول وجودي وحياتي ونفسي وخلاصي. إذاً الإيمان تصديق، وقبول، ومعرفة لشهادة تبلغ الإنسان ولكنه قبولٌ لتلك الشهادة بتطبيقها على الذات - قبولٌ لكلمة خبرٍ من الله لا ككلمة بشر بل باعتبارها كلمة الله (1تس 2: 13). إنه تصديقي في قرارة نفسي لبشارة الإنجيل بوصفها رسالة يبعثها الله إليّ شخصياً.
وفي المقام الثالث، ترتبط بما تقدم حقيقة كون الإيمان الخلاصي مختلفاً عن غيره من حيث الغرض. فالإيمان التاريخي يتوقف عند الخبر الخارجي ولا ينفذ إلى ما دونه. والإيمان الوقتي يرى في الخبر جمالاً ما يبتهج به، لكنه في الحقيقة يرفض التسليم بمضمونه ومعناه الحقيقي. كذلك يتعلق الإيمان العجائبي بالآيات والعجائب، لكنه لا يبالي أساساً بالرب الذي يُجريها. على أنه عندما نقبل البشارة بقلبٍ صادق ككلمةٍ يعطينا الله إياها شخصياً لا يمكن أن هذا الإيمان الخلاصي يتركنا خاوين وبلا ثمر. فلو أن شخصاً مسافراً علم أن أسرته في خطر عظيم لكان لا يتابع سفرته بكل هدوء على أكثر احتمال. كذلك تماماً لا يُحتمل أن من يؤمن بالبشارة حقاً ويرى ضرورة الاستجابة لها شخصياً، ويدرك بالتالي أنه مذنبٌ وهالك وأنه لا فداء في المسيح يسوع وحده، يظلُّ مع ذلك بارداً ولا مبالياً تجاهها. فالإيمان الصادق، على النقيض، يبدأ سريعاً في العمل في أولئك الذين يقبلونه. وهو لا يدعهم يستريحون بل يدفعهم نحو المسيح باطّراد. فإيمان كهذا لا يقنع بمجرد الخبر الموضوعي، بل ينفذ إلى داخل الإنسان الذي يتبلّغ الخبر.
هكذا كانت الحال في العهد القديم أيضاً. فالقديسون الذين يظهرون أمامنا هناك هم دائماً مشغولون وعاملون مع الله نفسه. أحياناً، يُدعى ذلك إيماناً[44] ولكن فعل الإيمان هذا ليس مجرد اقتناع عقلي بأن الله موجود، بل هو الاتكال على الله بكل النفس والسلوك بمقتضى كلمته. من هنا تُستعمل ألفاظ مختلفة للتعبير عن هذا الإيمان. فيقال دائماً عن القديسين إنهم يتكلون على الله، ويلجأون إليه، ويرجونه، ويخافونه، ويتوقعون كل شيء من عنده، وينتظرون، ويستندون إليه، ويطلبونه. وهكذا الحال أيضاً في العهد الجديد. فالرسل الذين أطلعونا على حقيقة الإيمان، ليسوا كتّاب تاريخ بمعنى الكلمة المألوف، بل هم عاشوا في شركة مع المسيح ومنها تكلموا عما خبروه. والإيمان هو قبول المسيح، لا مجرد الشهادة المتعلقة به كما قدمها الرسل. إنه قبول للمسيح شخصياً (يو 1: 12). وهو يتضمن لبس المرء للمسيح كما يلبس ثوباً (غل 3: 27)، كما يتضمن أيضاً موت الإنسان مع المسيح والقيامة معه (رو 6: 4)، والحياة في الشركة معه (غل 2: 20)، والثبات فيه بوصفه الكرمة الحقيقية. إلى غير ذلك فالله، في المسيح، وهو أبو القديسين، وهم بنوه وبناته (2كو 6: 18).
وباختصار، فإن الإيمان الخلاصي ليس مجرد معرفة معينة وقناعة راسخة ويقين ثابت فيما يتعلق بالشهادة النبوية والرسولية باعتبارها كلمة الله، بل هو في الوقت عينه ثقة وطيدة، كما لشخص في آخر، بالمسيح نفسه باعتباره ملء النعمة والحق المُعلَنين فيه من قبل الله. والأمران مرتبطان أحدهما بالآخر ارتباطاً لا تنفصم عراه. فبغير معرفة، لا إمكانية لثقة ولا اتكال. إذ كيف نثق بشخص لا نعرفه؟ وبالعكس أيضاً، فإذا كانت المعرفة لا تُفضي إلى الثقة والاتكال لم تكن معرفةً من النوع الصحيح، فالعارفون اسم الرب، يتكلون عليه (مز 9: 10). ولكن الذين لا يتكلون عليه لا يكونون بعد قد تعلّموا أن يعرفوه كما هو بالحقيقة من خلال كلمته. وكل من يلتمس المسيح خارج نطاق كلمته، وبالروح القدس فقط، يفتقد إلى المعيار الصالح لامتحان الأرواح، وقد يصل أخيراً إلى حدّ اعتبار روحه الذاتية وروح المسيح أمراً واحداً؛ وكل من يدرس الكلمة بغير روح المسيح إنما يدرس الصورة فيما يتجاهل الشخص الذي تمثّله.
لهذا السبب أعطانا المسيح كلا الأمرين: كلمته وروحه. وروح المسيح هو الذي يؤدي الشهادة نفسها في الكلمة المقدسة وفي قلوب المؤمنين. وعند التجديد يزرع الروح الكلمة في قلوبنا (يع 1: 18، 21؛ 1بط 1: 23، 25)، وهو يوجّه حياة المؤمنين الروحية، بمقتضى طبيعته، فيردّهم دائماً إلى الكلمة لكي يغذيهم بها ويقويهم. وما دمنا هنا على الأرض لن يأتي يوم فيه نستغني عن الكلمة المقدسة، لأن هذه الكلمة هي الوسيلة الوحيدة لتوطيد شركتنا مع المسيح الحي الحقيقي الذي صُلب مرة لكنه الآن جالس عن يمين الله. فالمسيحية ديانة تاريخية، ولكنها ديانة الحاضر أيضاً. إذ إن فيها كلمة ترسم لنا صورة المسيح، ولكن فيها أيضاً روحاً به يسكن المسيح الحي نفسه في قلوبنا. لهذا السبب، يجمع الإيمان المعرفة والثقة كلتيهما. فهو قبولٌ للمسيح نفسه في رداء الكلمة المقدسة.
وكما أن الإيمان هو ثمر التجديد من جانب العقل، فكذلك التوبة هي التعبير عن الحياة الجديدة من جانب الإرادة. هذا الأمر يُطلعنا عليه العهد القديم مراراً وتكراراً. فبعد تحرير بني إسرائيل، قادهم الرب إلى سيناء وأدخلهم في عهده. وبوصفهم شعباً لله، كان ينبغي لهم أن يحفظوا ذلك العهد ويُطيعوا صوت الرب، فيصيروا له مملكة كهنة وأمّة مقدسة (خر 19: 5، 6). ولكن الشعب، وهو بعد في البرية، ارتكب ذنب الخيانة والعصيان. ثم تفاقم الارتداد في أرض كنعان، إذ سكن الشعب هناك بين شعوب وثنية. فلما فني الجيل الأول وقام بعده جيلٌ آخر لم يعرف الرب ولا العمل الذي عمله للشعب، حينئذٍ فعل بنو إسرائيل الشرَّ في عيني الرب وعبدوا البعل (قض 2: 10، 11).
من هنا صارت الدعوة إلى التوبة ضرورية بين بني إسرائيل. وفي أول الأمر أقام الرب قضاةً أنقذوا الشعب من أيدي أعدائهم وردوهم إلى عبادة الرب. وفيما بعد، جاء الأنبياء ينذرون الشعب كي يتوبوا عن طرقهم الرديئة ويحفظوا وصايا الله وفرائضه حسب الشريعة التي أوصى بها الآباء (2 ملوك 17: 13). وقد بدأ صموئيل ذلك (1صم 7: 3)، وكرَّر جميع الأنبياء الكرازة ذاتها: فجميعهم مُنادون بالتوبة والرجوع إلى الرب، لكنهم أيضاً معلنون لمغفرة الخطايا والفداء الكامل.[45] ومن ثم كانت هناك توبةٌ ما ملموسةً بين الشعب أحياناً. فلما استعبدهم أعداؤهم وجاروا عليهم، بدأوا يصرخون إلى الرب (قض 3: 9، 15؛ 4: 13؛ ومواضع أخرى). وقد حدثت إصلاحاتٌ كبرى أو صغرى على أيدي الملوك الأتقياء، آسا ويهوشافاط ويوشيا وحزقيا.[46] وذهب يونان إلى نينوى، واستجابةً لمناداته آمن أهلها بالله ودعوا إلى صوم ولبسوا مسوحاً، ورجعوا عن طريقهم الرديئة (يون 3: 5، 10). ونقرأ عن أخاب أنه بعد إنذار إيليا له بالدينونة اتّضع أمام الرب (1ملوك 21: 27، 29)، وعن منسّى أنه في آخر حياته طلب وجه الرب واعترف بأن الربَّ هو إلهه (2أخ 33: 12).
ومع أن هذه التوبة كانت لدى بعضهم، كما هو مفترض، صادرةً عن رغبة صادقة ومخلصة، فقد كانت عند عامة الشعب لا تكاد تتعدّى التغيير الظاهري فكما تكلم إرميا، لم يتوبوا بكل القلب بل بالكذب (إر 3: 10). ولذلك واصل الأنبياء دعوتهم إلى التوبة. فقد ظلّوا يبرزون ضرورة التوبة وواجبها، وشددوا باستمرار على ضرورة توبة الشعب عامة أيضاً لكل شخصٍ بمفرده، أن يتوب ويترك طريقه الرديئة ويرجع إلى الرب (حز 18: 23، 32: 33: 11). وعندما يتمادى الشعب في تجاهل هذه التحريضات تنضج لدى الأنبياء الفكرة بأن مناداتهم سيكون لها مفعول دينونةٍ على الشعب (إش 6: 10)، وأن إسرائيل تحولت أغصان كرمةٍ برية (إر 2: 21)، وأنها لا تقدر على التوبة كما لا يستطيع الزنجيُّ أن يُغيِّر جلده أو النَمِر رُقطه (إر 13: 23)، وأن الله هو من يمنح التوبة ويُعطي القلب الجديد.[47] ويتطلّع الأنبياء بشوقٍ إلى اليوم الذي فيه يصنع الله عهداً جديداً ويختن قلوب الشعب ويكتب شريعته عليها.[48]
ذلك اليوم بزغ فجره، حسب كرازة يوحنا المعمدان والرب يسوع، باقتراب ملكوت السماوات. وقد نادى كلاهما بأن التوبة تفتح الطريق إلى الملكوت وكلِّ بركاته - لا أية مجهودات لحفظ الشريعة ولا البر الذاتي الفرّيسي (مر 1: 4، 15). وللدلالة على هذه التوبة، يستعمل العهد الجديد كلمتين في الأصل اليوناني أولاهما اسمٌ أو فعلٌ[49] يعني تغييراً روحياً داخلياً، تغييراً في الموقف الأدبي. واللفظة الثانية[50] تشير بالأحرى إلى التوبة العملية، إلى تغيير اتجاه الحياة، أي الرجوع الذي هو نتيجة التغيير الداخلي وإعلانُه. وفي (أع 3: 19، 26: 20)يتمُّ الجمع بين الكلمتين: توبوا وارجعوا، أي غيِّروا موقفكم ومسلككم، ارجعوا إلى رشدكم وغيّروا اتجاهكم.
ولما كُرز بالإنجيل في أيام الرسل لكل اليهود والأمم، وقَبِله قومٌ من هؤلاء وأولئك، واقتضى ذلك أيضاً تغييراً خارجياً يراه الآخرون. فكان على اليهود أن يتخلوا عن حفظهم لشريعة موسى، ولاسيما الختان ونظام الذبائح بجملته، وعلى الأمم أن يُقلعوا عن وثنيتهم وعبادتهم للصور وممارساتهم الدينية. وهكذا كان الانتقال إلى المسيحية يتطلّب قدراً وافياً من إنكار الذات ومن الجرأة. والشخص الذي كان يقوم بذلك إنما كان يقوم به بفضل الاقتناع القلبي، بإخلاصٍ وصدق، إذ لم يكن ممكناً أن يُحصِّل كرامة أو ربحاً من وراء ذلك. وتبعاً لهذا، كان الأمران المعبَّر عنهما بالكلمتين اليونانيتين اللتين تُفيدان معنى التوبة والرجوع مترابطين في العادة ترابطاً وثيقاً جداً. فالتغييران الداخلي والخارجي سارا جنباً إلى جنب.
هذا التحول الكليّ، في الداخل والخارج معاً، كان في المعمودية المقدسة ختمُ المصادقة عليه (أع 2: 38): فكلُّ من قبل المعمودية أعلن قطع علاقته بماضيه، وانفصل عن أترابه، وصُلب للعالم، ومات مع المسيح، ودُفن معه بالمعمودية؛ لكنه في الوقت نفسه أُقيم مع المسيح إلى حياةٍ جديدة، ولبس المسيح كثوبٍ جديدٍ ومختلف يظهر به أمام العالم، وصار تلميذاً للمسيح وتابعاً، وخادماً له وجندياً، وعضواً في جسده، وهيكلاً للروح القدس.[51] وما دام على الكنيسة المسيحية أن تنتشر في العالم بين اليهود والأمم، لم تكن التوبة مجرد تغيير داخلي، بل كانت أيضاً رجوعاً خارجياً، إقلاعاً عن عبادة الأوثان البُكم (1كو 12: 2؛ 1تس 1: 9)، وعن العبادة الباطلة حسب أركان العالم (غل 4: 3؛ كو 2: 8، 20)، وعن الأعمال الميتة (عب 9: 14؛ 1تس 1: 9)، وعن خطايا العلن والتعدّيات،[52] لكي يتمَّ الانصراف مذ ذاك فصاعداً على عبادة الله الحي الحقيقي (عب 9: 14؛ 1تس 1: 9) والإخلاص للرب وحده (1كو 6: 15 - 20).
ولكن لما مضت فترة الإعداد هذه ترسّخت الكنيسة عبر الأجيال، لم يتغير الرجوع إلى الرب بطبيعته الجوهرية في الواقع، ولكنه وضع جانباً ذلك المظهر الخارجي الخاص الذي اتخذه تعبيراً عن حقيقته فيما مضى، الأمر الذي اقتضاه تغيُّر الحال. وهكذا درجت العادة على إدخال الأطفال في العهد عقب ولادتهم، فعُمّدوا بالعماد المقدس، علامةً على ذلك وختماً له، وبذا كانوا يُدمجون في جسد المسيح، ولو قبل أن يبلغوا الإدراك الذاتي فيخصصون الإيمان لأنفسهم. وغالباً ما كان يحدث بطبيعة الحال أن أعضاء الكنيسة الذين عُمِّدوا كباراً أو صغاراً يسقطون فيما بعد في خطايا كبرى أو صغرى. وكان هنالك مذاهب، أمثال المونتانيين والنوفاتيين، تعتقد أن الكبائر لا يُمكن ولا يجوز أن تسامح الكنيسة بها. غير أن الكنيسة على العموم وقفت موقفاً مغايراً، فكانت تستردّ إلى شركتها أولئك الذي سقطوا أو ضلّوا إذا عادوا تائبين نادمين واعترفوا بخطاياهم، وأخضعوا أنفسهم للتأديب الكنسي الكنسية.
عن هذا الطوق شبّ سر التوبة تدريجياً. فبات المؤمنون الذين يرتكبون صغائر أو كبائر يعترفون بها للكاهن على كرسيّ الاعتراف، ويُبدون ندماً أو أسفاً كاملاً أو ناقصاً (كاملاً حين يحزن المرء على خطاياه لأنه أخطأ إلى الله، وناقصاً حين يخشى العواقب وما شابه)، وأخيراً يقومون بالصلوات والأعمال الصالحة التي يُمليها كاهن الاعتراف على التائب. وهكذا باتت التوبة في الكنيسة الرومانية أمراً خارجياً صرفاً. فقد انتقل جوهر القضية من تغيير الموقف القلبي الداخلي إلى الاعتراف والتكفير الذاتي، إذ كانت الندامة غير الكاملة كافيةً للحصول على التحرر من الخطايا. حتى إنه كان بمقدور المرء أن يُعفى من أعمال التوبة التكفيرية بالحصول على صكِّ غفران.
عند هذه النقطة بالذات افترق الإصلاح على يد لوثر عن الكنيسة. فبقراءة لوثر للعهد الجديد اكتشف أن التوبة بالمعنى الكتابي المقدس كانت أمراً مختلفاً تماماً عن إجراءات التوبة التي مارستها الكنيسة. ولكن لوثر مع ذلك ظلّ يفصل التوبة عن الإيمان فصلاً أبعد كلاً منهما عن الآخر كثيراً. فقد شعر في ضميره الخاص بلعنة الناموس ووجد راحته في تبرير الخاطئ بالإيمان وحده. وعلى حدّ ما تصور الأمر، اعتبر أن الرجوع إلى الله، بمعنى تبكيت الضمير والتوبة والندامة، قد حصل عن طريق الناموس، أما الإيمان فعن طريق الإنجيل. وقُيِّض لكالفن فيما بعد أن ينظر نظرةً أفضل في حقيقة هذه العلاقة، فأتى بتفسيرٍ لها يختلف نوعاً. فكما جاء في الكتاب المقدس، فصل كالفن بين التوبة الحقيقية والتوبة الزائفة (إر 3: 10) بين حزن العالم والحزن الذي بحسب مشيئة الله (2كو 7: 10)، بين الندامة، أي الحزن على عملٍ خاطئ، والتبكيت القلبي من جراء إثارة الإنسان لغضب الله بسبب خطيته. فإن الندم على عمل خاطئ قد يحدث أيضاً عند أهل العالم. وحين تكون للخطية عاقبة مختلفة عما كان متوقعاً، حين تُفضي إلى الخسارة والخزي، يشعر العالم أيضاً بالندم. ولنا بيّنة على هذا في أمثال قايين (تك 4: 13) وعيسو (عب 12: 17) ويهوذا (مت 27: 3). ندمٌ كهذا لا يؤدي إلى التوبة الصادقة، بل يُفضي إلى الموت ويجلب معه اليأس والمرارة وقساوة القلب.
غير أن الرجوع والتوبة الحقيقيين ليس قوامهما مثل هذا الندم الذي يتأسف على عواقب الخطية بل بالأحرى انكسار القلب الداخلي (مز 51: 17؛ أع 2: 37)، أو الحزن الناشئ من الخطية ذاتها، لأنها ضد مشيئة الله ومثيرةٌ لغضبه، وتأنيب الضمير الصادق، وكُره الخطية والنفور منها. هذه التوبة لا تطلع من الإنسان العتيق بل من الإنسان الجديد. فهي تفترض وجود إيمان خلاصي، وهي ثمر هذا الإيمان. وقوامُها حزنٌ يريده الله ويُنشئه، وإليه تعالى تتجه انفعالاته، ويُنشئ توبةً لخلاصٍ لا ندم عليه (كو 7: 10). فلما ثاب الابن الضال إلى رشده ونوى أن يعود إلى البيت، قال: أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له: يا أبي، أخطأت إلى السماء وقدامك (لو 15: 18). فهو ينطق باسم "الآب" بلسانه وإن كان ما يزال بعيداً عنه. وهو يتجاسر أن يذهب إلى الأب ويعترف بخطاياه أمام وجهه، لأنه يؤمن في قرارة قلبه بأن الأب هو أبوه. ونحن ما كنا لنجرؤ على الالتفات نحو الله لو لم نثق في قرارة نفسنا، وبعمل الروح القدس، بأنه يقبل اعترافنا بالخطايا ويغفر لنا بوصفه أباً لنا. فالتوبة الحقيقية مرتبطة بالإيمان الخلاصي الحقيقي ارتباطاً لا ينفصم.
ومن هنا أن المعالجة الوافية لرجوع الإنسان إلى الله لا تنتمي إلى عقيدة الشقاء والفداء بل إلى الإقرار بفضل الله (التعليم المسيحي لهيدلبرج - 33). وأحياناً تُفهم كلمة "الاهتداء" أو الرجوع بمعنىً أوسع لتشمل التغيير الكلي الواجب أن يجري في الإنسان ليصير ابناً من أبناء الله ومواطناً من مواطني الملكوت. فكما أن المسيح في (يوحنا 3) يتكلم عن الولادة الجديدة فقط، وفي مواضع أخرى، في (مرقس 16: 16) مثلاً، عن الإيمان فقط بوصفه الطريق المؤدي إلى الخلاص، فكذلك في (متى 4: 17) يذكر التوبة وحدها. ورغم كل شيء فالمرء لا يستطيع أن يحوز بركةً من هذه البركات دون الأخرى. فالإيمان والتوبة، من حيث المبدأ، تنطوي عليهما الحياة الجديدة التي تبدأ بالولادة الجديدة، وهما ينتجان منها حتماً ويُعبَّر عنهما في حينه. ولكن مع أن هذه الأمور لا يمكن فصل أحدها عن الآخر، فمن الممكن تمييزها بعضها من بعض. وإذاً، فالتوبة هي ثمرة من ثمار التجديد الذي يفترض بدوره وجود الإيمان. وفي هذه الحال أيضاً تكون التوبة وتبقى عطية من عطايا الله وعملاً من أعماله، لا في بدايتها فقط بل في استمرارها أيضاً.[53] لكن التوبة أيضاً، بفضل الحياة الجديدة التي تكون قد سُكبت في الإنسان، عملٌ من أعمال الإنسان[54] لا يقتصر على لحظة واحدة بل يدوم مدى الحياة.
ثم إن التوبة، على وحدتها في الجوهر، تختلف من حيث الشكل باختلاف الأشخاص الذين يختبرونها والظروف التي تحيط بحدوثها. فالطريق التي يسلكها أولاد الله هي طريق واحدة، إلا أنهم يُقادون على تلك الطريق بطرائق متنوعة ولهم اختباراتٌ متنوعة. فيا له من تنوع ظهر في القيادة التي قاد بها الله مختلف الآباء، ويا له من تباين شهده تجديدُ كلٍّ من منسّى وبولس وتيموثاوس! وما أبلغ الاختلاف بين اختبارات أشخاص مثل داود وسليمان، ويوحنا ويعقوب! هذا التفاوت عينُه نلحظه أيضاً، خارج نطاق الكتاب المقدس، في حياة آباء الكنيسة ورجال الإصلاح وسائر القديسين. وما إن ترى أنظارنا غنى الحياة الروحية، حتى نُقلع عن عادة الحكم على الآخرين وفقاً لمعيارنا لضئيل. فرُبَّ قومٍ لا يعرفون غير أسلوب واحد فقط، ولا يعتبرون أحداً أنه قد تاب ما لم يكن قادراً على التحدث عن الاختبار الروحي نفسه الذي اختبروه أو يزعمون أنهم اختبروه. غير أن الكتاب المقدس أغنى كثيراً وأوسع جداً من ضيق مثل هذه التحديدات. ففي هذا المجال أيضاً تنطبق الكلمة القائلة: "أنواعُ مواهبَ موجودةٌ، ولكن الروح واحد؛ وأنواع خِدَمٍ موجودة، ولكن الرب واحد؛ وأنواع أعمال موجودة، ولكن الله واحدُ الذي يعمل الكلَّ في الكلِّ" (1كو 12: 4 - 6). فليس قوام التوبة الصادقة ما يعتبره الناس بل ما يقوله الله. على تنوُّع التدبيرات والاختبارات، فإن قوامها - ولابد أن يكون قوامها - موت الإنسان العتيق وقيامة الجديد.
وما هو موت الإنسان العتيق؟ إنه ندامة قلبية على كوننا أثرنا بخطايانا غضب الله، ندامةٌ فيها نكره خطايانا أكثر فأكثر وننفر منها.
ثم ما هي قيامة الإنسان الجديد؟ إنها فرح قلبي في الله بالمسيح، ورغبة ومحبة بالعيشة لأجل الله في كلِّ عمل صالح.
[26]- مز 104: 24؛ 145: 7؛ مت 5: 45؛ أع 14: 17.
[27]- رو 3: 31؛ 8: 3؛ 11: 8 – 10؛ غل 5: 14.
[28]- رو 2: 18، 20؛ 7: 12، 14؛ 12: 10.
[29]- رو 3: 20؛ 4: 15؛ 5: 20؛ 7: 5؛ 8: 9، 13؛ 2كو 3:6 وما يلي؛ غل 3: 10، 13، 19.
[30]- أع 2: 38؛ 20: 34؛ رو 3: 21 – 26؛ 4: 3 – 8؛ 5: 1، 2؛ ومواضع أخرى.
[31]- يو 6: 63؛ عب 5: 12؛ 1بط 1: 25.
[32]- لو 2: 34؛ 1كو 1: 18؛ 1بط 2: 7.
[33]- تك 1: 3؛ مز 33: 6؛ مت 4: 4؛ عب 1: 3.
[34]- إِش 32: 15؛ إر 31: 33؛ 32: 39؛ حز 11: 19؛ 36: 26؛ يؤ 2: 8.
[35]- يو 14: 16؛ رو 8: 14؛ أف 4: 30.
[36]- أع 9: 5؛ 1كو 1: 23؛ 2: 14.
[37]- إر 24: 7؛ 31: 13 – 34؛ 32: 39؛ حز 11: 19؛ 36: 26 – 28، يؤ 2: 28؛ ومواضع أخرى.
[38]- يو 3: 3، 5، 8؛ 6: 63؛ رو 8: 9؛ 1كو 12: 3؛ 1بط 1: 2.
[39]- رو 8: 29؛ أف 4: 24؛ كو 3: 10.
[40]- 2كو 3: 18؛ غل 3: 27؛ 4: 19.
[41]- مت 12: 24؛ يو 8: 22؛ 1كو 1: 23.
[42]- يو 1: 11؛ 3: 3؛ 3: 19، 20؛ 6: 44؛ 8: 47؛ 1كو 2: 14؛ وآيات أخر.
[43]- يو 3: 3، 5؛ 6: 44؛ 8: 47؛ 10: 5، 27.
[44]- تك 15: 6؛ خر 14: 31؛ 2أخ 20: 20؛ إش 28: 16؛ حب 2: 4.
[45]- إر 3: 12، 14؛ 18: 11؛ 25: 5؛ حز 14: 6؛ 18: 30 – 32؛ 33: 11؛ هو 12: 6؛ 14: 3؛ يؤ 2: 12، 13؛ وآيات أخر.
[46]- 1مل 15: 11 وما يلي؛ 22: 47؛ 2مل 23: 15؛ 2أخ 33: 12.
[47]- مز 51: 12؛ إر 31: 18؛ مرا 5: 21.
[48]- تث 30: 2، 6؛ مز 22: 28؛ هو 3: 5؛ إر 24: 7؛ 32: 33.
[49]- مت 3: 2، 8، 11؛ 9: 13؛ 11: 20؛ أع 3: 38؛ 2كو 7: 9، 10.
[50]- مت 13: 15؛ لو 1: 16، 17؛ 22: 32؛ أع 9: 35؛ 11: 21؛ 14: 15؛ 15: 19؛ 26: 18، 20؛ وآيات أخر.
[51]- رو 6: 3 وما يلي؛ غل 3: 27؛ كو 2: 11، 12.
[52]- 1كو 6: 10؛ أف 2: 2، 3؛ كو 3: 5، 7؛ تي 3: 3.
[53]- إر 31: 18؛ مرا 5: 21؛ أع 5: 31؛ 11: 18.
[54]- أع 2: 38؛ 11: 21؛ رؤ 2: 21؛ 2: 5، 16 وما يلي.
[55]- مي 6: 8؛ عا 5: 14، 15؛ إش 1: 16، 17.
[56]- تث 1: 17؛ لا 19: 15؛ أم 24: 23.
- عدد الزيارات: 561