Skip to main content

الفصل الثامن: "صلبوا رب المجد"

إن أحسن عمل هو أن نكرز بالمسيح مصلوباً متيقنين أن هذا وحده يفتح الطريق لشفاء الضمير الجريح ويطهر المؤمن من كل خطية دفينة. والغلبة هي لتلك الكنيسة التي تجدد بغيرة ومحبة وبلا تردد ذلك الاعتراف القديم القائل: "الرب قد وضع عليه اثم جميعنا" وتحوله بكل فرح وابتهاج إلى ترنيمة السموات والأرض "الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه وجعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين".

الرئيس جون كيرنز

لقد تحقق بولس الرسول أن الكرازة بالمسيح مصلوباً هي "عند الهالكين جهالة" (1كو1: 17) وأنها "لليهود عثرة ولليونانيين جهالة" (1كو1: 23). ومع أن هذه الكرازة كلفته فحصاً عميقاً لقلبه وكان من قبلها في ضعف وخوف ورعدة كثيرة فقد عزم على أن لا تكون له رسالة أخرى "إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً" (1كو2: 2). ورسالة الصليب هذه عظيمة جداً: إنها تعلن حكمة الله وقوته؛ ولكنها تعلن فقط بواسطة الروح الذي "يفحص كل شيء حتى أعماق الله (1كو2: 20). وبمناسبة هذه الفكرة نرى بولس الرسول يستعمل عبارة مدهشة عن عظماء هذا الدهر قائلاً أنهم يجهلون حكمة الله "لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد" (1كو2: 8).

وفي خطابه إلى قسوس كنيسة أفسس يستعمل بولس الرسول كلمات أشدَّ جرأة من هذه إذ يقول: "احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه" (اع20: 28) يعني دم الله.

قد نشمئز نحن من عبارة مدهشة مثل هذه "رب المجد على الصليب" و"دم الله"؛ ولكن مهما حاولنا تخفيفها نرى الأصل اليوناني لا يسمح بغيرها بديلاً.

وكتب القديس اغناطيوس إلى الأفسسيين بعد ذلك بخمسين سنة قائلاً أن المؤمنين قد "اشتعلوا وصاروا ناراً حية بواسطة دم الله". وبعد ذلك بقرن يستعمل القديس ترتليانوس نفس التعبير "دم الله". ومثلها العبارةُ التي كتبها بولس الرسول بعد وقوع حادثة الصلب بأقل من سبع وعشرين سنة: "لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد".

من هو رب المجد؟ رب الجنود هو ملك المجد (مز24: 10). ورب المجد في العهدين القديم والجديد معناه ذلك الذي صفته المجد (مز29: 1واع 7: 2 وأفسس1: 17 ويع2: 1) أي الرب الذي له المجد حق طبيعي منذ البدء. وهذا التعبير مهم لاهوتياً لأنه يدل صريحاً على لاهوت يسوع. أجل إن معنى العبارات "موت الرب" (الواردة في 1كو11: 26) و "جسد الرب ودمه" (الواردة في 1كو11: 27) هو واحد ولكن الألفاظ أقل تشديداً. كان بولس الرسول يرى أن المخلص حتى في أيام تجسده هو الرب الذي له كل المجد كحقه الطبيعي. ويوحنا يرى أن المخلص هو الكلمة الذي صار جسداً وأنه كان في البدء عند الله وكان (الكلمة) الله.

حقاً ليس في السماء أو على الأرض سر أعظم من سر الإله المتألم والمخلص القادر على كل شيء مسمراً على الصليب. ومع ذلك فهذا عين ما تقصده هذه الكلمات وتعنيه، فإنه عند الصليب نرى في المسيح ملء محبة الله ورحمته جسدياً. إنه في هذه النقطة نؤمن نهائياً- كما آمن قائد المئة- بلاهوته. لأن العمل الذي يعمله هو لا يستطيع أحد أن يعمله غير الله، "والنفس التي تربح لله في المسيح".

بل إن المسيح في موته وقيامته هو- لبولس الرسول- مركز الكائنات ومحورها. هو قبل كل شيء وفيه خلق الكل وله خلق لأنه المصدر الأصلي لكل خليقة. الكل به لأنه مبدأ وحدتها، وفيه يقوم الكل لأنه غايتها وهو مفتاح جميع أسرارها (كو1: 13- 18).

يقول جون كوردليير اللاهوتي الكاثوليكي إيماء لهذه العبارة الجليلة عن لاهوت المسيح ابن محبته الذي لنا فيه الفداء ما يأتي: إذا كان الصليب شيئاً على الإطلاق فهو رسم الخليقة. إنه يمتد من سديم إلى سديم موصلاً أبعد أركان العالم ماداً لها يدي المحبة المثقوبتين. إن كل تقدم إنما ينتج عن تصادم محبته مع الألم الذي هو سر قلبه؛ وإن عذابه السري لهو أساس مسراتنا ومصدر أفراحنا كافة. وأستغرب أن يكون أي عالمٍ بأسباب الحياة وأحوالها غير مسيحي لأنه يرى في كل شيء أعمق رمز للمسيحية أي الصليب منقوشاً في نفس أساسات مملكة الحياة. ويرى الألم والعناء وتضحية الفرد أمراً لازماً لعمليات التناسل اليومية كما أنه ضروري للجنس في نمائه البطيء إلى الكمال. انظر إلى العلاء، انظر على الأعماق، انظر داخلاً، انظر خارجاً تجد الصليب في كل مكان.

عُلِّق الفادي على عود صلبٍ وأُهين

كل هزءٍ حملا وهو ربُّ العالمين

اسلم الروح وقد مات من أجل الخطاة

ملك الكون رقد وهو سلطان الحياة

دفن المحيي الرميم في ضريح كالبشر

واختفى الدر النظيم ضمن مختوم الحجر

حاملاً ما حمله لازماً كان لنا

فتعالى فضله إذ فدانا كلنا

بل اليوم هذا ثم في الليل بعده

تلاقى عذباً بل وصلباً لأجلنا

فهبني لسيري قبس نورٍ لحزنكا

وهبني لستري ظلّ صلب غدا لكا

وهبني عزاء بعض مجد بفضلكا

لأنسى إلهي مر عار لأجلكا

فنحن لا نرى فقط في موت المسيح ظهور محبة الله العظمى بل نرى فيه أيضاً حزنه الكلي وعطفه الكامل. وإنا نقرأ "كما يترأف الأب على البنين" في نفس المزمور الذي ينبئنا أنه "كبعد المشرق عن المغرب أبعد عنا معاصينا" إذ على الصليب اختلطت المحبة مع الحزن وسالتا معاً- حزن الله ومحبة الله.

إن عقيدة الكفارة المسيحية مبنية على أساس عقيدة لاهوت المسيح، فإيماننا في الثانية يعين يقيننا في الأولى إذ لا يستطيع الإنسان المجرد أن يحمل قصاص خطية إنسان آخر. وجميع الاعتراضات على ذبيحة المسيح الكفارية تختفي أمام هذه الحقيقة العظمى لجلال شخص المخلص. ويقول الدكتور ماتشن: حقيقة أن المسيح الذي يقدمه لنا العصريون اليوم لا يمكن أن يكون قد تألم عن خطايا الآخرين ولكن الحالة تختلف جداً بالنسبة إلى رب المجد.

وإذا كانت فكرة الفداء الكفارية مستحيلة كما يظن بعضهم فماذا نقول عن الاختبار المسيحي المبني عليها؟ إن الكنيسة الحديثة مغرمة بالالتجاء إلى الاختبار ولكن أين يمكن وجود ذلك الاختبار المسيحي الصحيح إلا في ذلك السلام المبارك الذي ينبع من الصليب؟ وهذا السلام إنما يأتي عندما يرى الإنسان أن كل مجهوداته للصلح مع الله وكل محاولاته أن يحفظ الناموس قبل أن يستطيع الخلاص غير ضرورية، وأن يسوع المسيح قد محا الصك الذي عليه بموته بدلاً عنه على خشبة العار. ومن يستطيع أن يقيس عمق السلام والفرح اللذين يحصل عليهما الإنسان من هذه المعرفة المباركة؟ فهل هذا خيال وهمي أو نظرية تصورية لفداء الجنس البشري أم هو نفس حق الله؟".

إن بولس الرسول عندما يتكلم عن يسوع المسيح كمتألم على الصليب بمثل العبارات التي أوردناها آنفاً إنما يتناول حقائق سامية يدعوها "أعماق الله" (1كو2: 10) لأن هذه الأمور عميقة جداً حتى أعجزت الفلسفة البشرية، وهي أسمى من أن ينالها العقل البشري بالإدراك. إن بعض الأجرام السماوية وبعض النجوم لن تكشف سرها حتى لأعظم النظارات المقربة وهذه الأمور "ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم تخطر على بال ولكن الله أعلنها" حتى للأطفال بروحه القدوس. ومع أننا لا نستطيع إدراكها فإنا نستطيع- على الأقل- أن نخرّ على جباهنا بكل تواضع وشكر ونقول:

"حين أرى صليب من قضى فحاز الانتصار

ربحي أرى خسارة وكل مجد الكون عار"

لم يحدث على الصليب أي انفصال بين طبيعتي المسيح: إن ناسوته الحقيقي ولاهوته الحقيقي لم يكونا مختلطين ولا ممتزجين بل كانا متميزين وحاضرين فعلاً، إذ "أن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه". فالذبيحة لم تكن الإنسان في المسيح مراضياً الله بل الله في المسيح مصالحاً الإنسان، وبمعنى آخر مصالحاً نفسه. ولم يكن موت المسيح موت بطل أو شهيد إطاعة لإرادة الله بل موت ابن الله لأجل خطايا العالم. في موته أظهر المسيح مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً. لأن الفداء كان عمل اللاهوت جميعاً لأنه- هكذا أحب الله (الآب) العالم حتى بذل الله (الابن) الذي وضع نفسه لأجل الآخرين. والله (الروح القدس) ملأ يسوع بحضرته وقوته حتى يحتمل مثل هذا الموت ثم انتصر عليه بقيامته المجيدة (رو1: 4).

فليس فقط في بيت لحم بل عند الصليب أيضاً نرنم مع الملائكة: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة.

ولذلك- كما يقول فورسيث- "نحن نستعمل الكلمات- إلى ملء معناها- إن الله كان في المسيح مصالحاً ليس مصالحاً بالمسيح بل حاضراً فعلاً بالمسيح في المصالحة، وعاملاً بالمسيح عمله نفسه في المصالحة. فالمصالحة تمت باللاهوت جميعاً وليس بالابن وحده. ولقد كان لآباء الكنيسة كل الحق في إصرارهم على أن عمل الفداء كان عمل الثالوث بأكمله- أي الآب والابن والروح القدس. ونحن نعبر عن ذلك عندما نعمّد إلى حياة المسيحية الجديدة بالاسم المثلث".

غير أنه يجب علينا أن نزداد تعمقاً في ذلك إذا أردنا أن نعرف شيئاً عن هذا السر إذ ينبغي ألاَّ يبقى هذا مجرد عقيدة بل أن يكون اختباراً واقعياً، فنحن صلبنا رب المجد ونحن اشترينا بدمه.

والآن فاسمع أحد الكتَّاب وهو يتأمل في هزيع الليل أمام الصليب إذ يقول: "ماذا صنعت يا يسوع يا أحلى البشر وأعز الأصدقاء حتى تعامل هكذا؟... أنا هو تلك اللطمة التي آلمتك، أنا مسبب موتك، أنا الذي اشتغلت لعذابك". ثم يشير إلينا بكلمات لا تزال ترن بوضوح في قلوبنا قائلاً: "ضع كل اعتمادك نهائياً على موته لا تثق في شيء عداه بل ثق كلية في ذلك الموت، استر نفسك كلية في ذلك وحده، بل لفّ نفسك كلية في ذلك الموت". واسمع قول الفيلسوف العلامة برنار: "أن أعظم فلسفتي هي أن أعرف يسوع ويسوع مصلوباً لأن الصليب هو موضع ملتقى الحبيبين". ثم انصت إلى صلاة فرنسيس الأسيزي يقول: "أي ربي يسوع المسيح نعمتين ألتمس منك قبل أن أموت: الأولى أن أشعر في حياتي، في روحي وفي جسدي بقدر الإمكان بذلك الألم الذي شعرت به أيها السيد في أشد ساعات ألمك مرارة. والثانية أن أشعر في قلبي بقدر الإمكان بتلك المحبة العجيبة التي اضطرمت في قلبك يا ابن الله حتى احتملت باختيارك مثل ذلك الألم لأجلنا نحن الخطاة".

ثم أن موت المسيح يختلف كلية عن موت باقي الأنبياء والشهداء من عدة وجوه؛ فالأنبياء تنبأوا بموته، وموته كان كفارة عن الخطية. وقد رافق موته استعلانات خارقة للعادة، وأعقبه قهر الموت والقيامة. ولكن نقطة الخلاف الحقيقية هي في شخص الذي مات. فإن هذا لم يكن غير ابن الله" الذي فيه حل ملء اللاهوت جسدياً لأن الكلمة صار جسداً وصلب لأجلنا.

دما العلي قد سالتْ فوق ذرى الصليبْ

كذا يقول الوحي فاقبل فدى الحبيب

يا أيها التعبان تضل للمدى

إن تنتظرْ بعقلك إدراك ذا الفدى

يا أجهل الأناسي كيف تُرى تريد

بغير صلب المولى أبطال ذا الوعيد؟

أو كيف تستطيع إدراك فعل الله

وهو العلي المستعلي يا أحقر الخطاة

دما العلي قد سالت لينقذ الفجار

فاهرب إليه تنج شرّ القضا والنار

أو فانتظر بعيداً حتى ترى الهلاك

أدنى لام رأسكْ من فعل من فداك

بل فاستح يا أبلهْ وانظر لكي ترى

ما أدهش الأفلاكا وحير الورى

من ثم آمن تواً ولا تكن فاجر

بل قربه تعالا فهو الغني القادر

فقد ظهر على الصليب أعظم شيء في الخليقة وهو المحبة وأشنع سر في العالم وهو الخطية وأسمى صفة من صفات الله وهي القداسة "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية ً لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه".

في الكتاب الذي نشر حديثاً عن حياة الدكتور كَليْ كران كترجي (أحد زعماء مبشري الهند مدة ثماني وأربعين سنة خلت ومن أعمدة الكنيسة الهندية) نقرأ الشهادة التالية:

"طالما سُئلت لِمّ طلّقت ديانتي الهندوسية وصرت تلميذاً للمسيح؟ والجواب أني قد جذبت دون شعور تقريباً إلى شخص المخلص بحياته الطاهرة النقية وطاعته لإرادة الله وأعمال الخير والرحمة التي صنعها لتخفيف آلام الإنسانية المعذبة. ثم أن تعاليمه كما جاءت في الموعظة على الجبل ومحبته للخطاة قد ملكت إعجابي وخلبت لبي فأعجبت به وأحببته. أما معنى التجسد فكنت قد تعلمت أن أعبده في ديانتي السابقة. وقد ظهر لي المسيح أنه وحده مثل الله في القداسة وحقيق بالعبادة مثل الله. ولكن العقيدة التي اضطرتني أن أعتنق المسيحية وأعلن على رؤوس الأشهاد إيماني هي عقيدة آلام المسيح وموته الكفاري. فقد شعرت بأني خاطئ ووجدت في المسيح شخصياً مات عن خطاياي وحمل العقاب المستوجب عن معاصيَّ. "لأنكم بالنعمة (أنتم) مخلصون بالإيمان وذلك ليس منكم. هو عطية الله ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد". وكان هذا موضوع تأمل قلبي أن المسيح مات وبموته قد قضى ديناً لا يستطيع الإنسان أن يفيه. وهذا الاعتقاد الذي ازداد قوة بعد قوة بنموي في الحياة المسيحية وزيادة اختباري فيها صار الآن جزءاً من حياتي لأنه الحد الفاصل بين المسيحية وجميع الأديان الأخرى. لقد شعرت بذلك عندما صرت مسيحياً، والآن أشعر به بأقصى قوة". ليس الموت الكفاري فقط هو العلامة الفارقة بين الديانة المسيحية وجميع الديانات الأخرى بل موت مخلص هو علامة فارقة أيضاً. فإن كل شيء يتوقف على طبيعة وأخلاق الشخص الذي يدفع البدل الكافي. والعلاّمة انسلموس في كتابه "لماذا تجسد الكلمة" الذي هو أعمق وأوضح كتاب منطقي ظهر في القرن الحادي عشر يقول: "إن حياة الإله الإنسان هي أعظم بما لا يقاس من تلك الخطايا التي يفوقها موته بأبعد مما يتصور... إني أفضل حمل كل آثام العالم الحاضر والماضي والآتي أيضاً على أن أرتكب تلك الخطية، بل أرى أن أؤثر ذلك على أدنى أذى يلم به بسببي فضلاً عن صلب رب المجد". ويقول في موضع آخر: لا يستطيع إيفاء مطاليب الله غير الله؛ ولكن الإنسان قد أخطأ فينبغي أن يقوم هو بالإيفاء عن خطية الإنسان، إذاً فمن الضروري أن يكون القائم بذلك إلهاً وإنساناً معاً. وهذه الحقائق العميقة إنما نراها في نفس قوانين الإيمان المستعملة في العبادة الجمهورية كما نراها في ترانيم الكنيسة المسيحية.

لا سواه كان يُرضى أو يفي عدل الإله

لا ملاكاً لا نبياً ينشل القوم الخطاه

لا سواه كان يفتحْ للملا باب السما

ثم يدعونا إليه للسرور وإلهنا

نعم إن الإنسان الطبيعي يكره العبارات العقائدية ولكن لا شيء يعمق فينا روح الخشوع وينقذنا من روح الاستخفاف في الصلاة مثل التأمل في هذه الحقائق الجليلة؟ عندما تفهم قوانين الإيمان وأصوله فهماً صحيحاً وتدرس درساً لاهوتياً تقرب إلى القلب والعقل، إلى المخيلة والفهم. حقيقةً أن التأمل في "أعماق الله" في الكتاب المقدس لمن الصعوبة بمكان؛ وقد يظهر مبدئياً أنه شيء جاف ولكنه مثل التمرن على الأنغام في درجات السلم الموسيقي: عاجلاً أم آجلاً تنتظم درجات العقيدة وتكون لحناً روحياً لذيذاً. ومن يثابر يعرف "عمق غنى الله وحكمته وعلمه".

وهكذا نرجع ثانية إلى كلمات بولس الرسول القائلة: "صلبوا رب المجد" و "كنيسة الله التي اقتناها بدمه".

في شخص يسوع طبيعتان: اللاهوتية الكاملة والناسوتية الكاملة متحدتان فيه، ولكن دون اختلاط بين الطبيعتين. فالله قد تألم على الصليب ليس في طبيعة الله بل في طبيعة الإنسان. لأنه كما يلاحظ هوكر: "عندما يقول الرسول عن اليهود أنهم صلبوا رب المجد (1كو2: 8) ينبغي لنا أن نفهم منه أن كل شخصية المسيح الذي هو رب المجد قد صلب حقيقة ولكن ليس في تلك الطبيعة التي دعي من أجلها رب المجد. كذلك عندما يقرر ابن الإنسان- وهو على الأرض- أن ابن الإنسان كان في تلك اللحظة في السماء (يو3: 13) أن معنى ابن الإنسان هو بالضرورة كل شخصية المسيح الذي وهو على الأرض كان يملأ بمجده السماء ولكن ليس في تلك الطبيعة التي سمي من أجلها ابن الإنسان".

ويسوع المسيح نفسه أدى أمام رئيس الكهنة قبل أن يقضي عليه بالموت أقوى اعتراف ممكن عن حقيقة لاهوته وناسوته. وقد ورد هذا الإقرار في الأناجيل (انظرمت26: 64 ومر14: 62 ولوقا22: 70) "وأما يسوع فكان ساكتاً. فقام رئيس الكهنة وقال له أما تجيب بشيء؟.... استحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله؟ قال له يسوع أنت قلت (وفي إنجيل مرقس ورد قوله- أنا هو ومن الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء).فمزق رئيس الكهنة حينئذ ثيابه قائلاً قد جدّف... إنه مستوجب الموت حينئذ بصقوا في وجهه.... ما حاجتنا بعد إلى شهود لأننا نحن سمعنا من فمه".

ولكن لم يفهم منهم أحد كما يقول بولس الرسول "لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد". ويقول اللاهوتي العظيم ليون الكبير "لقد اجتمعت في شخص فادينا طبيعتان؛ ومع بقاء خواص كل من هاتين الطبيعتين فقد كان اتحادهما هكذا وثيقاً حتى أنه من تلك اللحظة التي صار فيها الكلمة جسداً في رحم مريم العذراء لا نستطيع أن نفتكر فيه كإله من دون ذلك الذي هو إنسان أو كإنسان دون ذلك الذي هو الله. وكل طبيعة تشهد لحقيقتها بأعمال خاصة ولكن لا تفصل إحدى طبيعته نفسها عن الأخرى. لا تقصير من إحداهما للأخرى. بل ضعف كامل في العظمة وعظمة كاملة في الضعف. لأن الاتحاد لا يوجد التشويش ولا يفصم النظام عرى الاتحاد. قد كان في المسيح (طبيعة) تقبل الألم وأخرى غير قابلة له. مع ذلك فاحتقاره كان احتقار من له المجد وضعفه كان ضعف من له القوة. نفس الشخص الواحد قابل الموت وقاهر له. فالله إذاً قد لبس الناسوت الكامل واتحد نفسه فيه والإنسان في نفسه في الضعف والقوة حتى أن كل طبيعة كانت في الأخرى. لكن لم تفقد الواحدة خواصها في الأخرى".

وهكذا في موت يسوع المسيح على الصليب تتبدل آلام الجسد وعاره إلى آلام إلهية بسبب اللاهوت المتحد مع جسد وروح الناسوت الاتحاد المتبادل. أجل إن الآلام غير محدودة لأن شخص المسيح غير محدود إن "ابن الله أحبني وأسلم نفسه لأجلي" والله اقتنى الكنيسة بدمه.

  • عدد الزيارات: 3460