Skip to main content

المسيح يجاوب على أسئلة شيوخ اليهود ثم يسألهم

كما يطلب المحارب المغلوب حلفاء جدداً لعله ينتصر أخيراً، تحالف رؤساء اليهود مع خصومهم من الهيرودسيين أنصار الملك هيرودس. وبعد أن تشاوروا اتفقت القوة السياسية مع الدينية على هجوم جديد.

ما لقيصر لقيصر

"ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْماً مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ: "يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلَا تُبَالِي بِأَحَدٍ، لِأَنَّكَ لَا تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللّهِ. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لَا؟ نُعْطِي أَمْ لَا نُعْطِي؟" فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: "لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ اِيتُونِي بِدِينَارٍ لِأَنْظُرَهُ". فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ: "لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟" فَقَالُوا لَهُ: "لِقَيْصَرَ". فَأَجَابَ يَسُوعُ: "أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّهِ لِلّهِ". فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ" (مرقس 12:13-17).

كانت الحيلة أن الهيرودسيين يتظاهرون بالتديُّن لكي يصطادوا المسيح ويمسكوه بكلمة، فيسلِّموه إلى حكم الوالي وسلطانه. فتقدموا إليه وتملَّقوه واستشاروه إن كانوا يدفعون الجزية للحكومة الرومانية أو لا يدفعونها، أملاً أن يمسكوه في شبكتهم مهما كانت إجابته، فإن قال بدفع الجزية ينفر الشعب منه، لأنهم ضجروا من هذه الضريبة التي هي علامة استعبادهم للرومان، ولأنهم ينتظرون مجيء المسيح ليحررهم منها. وكانوا يسألون: "كيف يمكن أن يكون المسيح ملك إسرائيل - كما هتف له الشعب بالأمس في الهيكل، ويحكم أن ندفع الجزية لقيصر؟". وإن أجاب بعدم دفعها كما يرغب الهيرودسيون (وهو ما كانوا يرجّحونه) يحصلون على حجة كافية ليسلموه للحكومة، كمثير للفتنة ضد القيصر الذي وضع هذه الضريبة.

علم المسيح رياءهم وخبثهم، وأن الجواب الذي يروق للفريسيين لا يروق للهيرودسيين - ومع ذلك اتفق الفريقان على امتحانه، فأجاب: "لماذا تجربونني يا مراؤون؟ أروني معاملة الجزية". ولما أتوا بدينار. كانت صورة الإمبراطور مرسومة عليه. ومعنى هذا أنهم يعترفون بسلطان قيصر عليهم. فقال: "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله". أي أعطوا كل ذي حق حقه. بهذا الجواب حطم الشَّرَك المنصوب له، ونطق بهذا القول المأثور قاعدة للواجبات في الدين والدولة. فلم يقدروا أن يمسكوه بكلمة قدام الشعب وتعجبوا من جوابه وسكتوا، وتركوه ومضوا.

من تعليم المسيح هذا نرى أن الواجبات للدولة مقدسة وضمن الواجب الديني... ليس السؤال: هل نخضع لقيصر أم لله، لأن الخضوع للاثنين واجب، والخضوع لقيصر في ما لا يخالف الخضوع لله هو من أصل الخضوع لله، لأن الله هو الذي سمح لقيصر أن يتسلَّط عليهم. فعليهم أن يخضعوا لهذا التأديب. وكما تذكِّرهم صورة القيصر على الدينار، بما عليهم له، يجب أن تذكّرهم صورة الله التي خُلق فيها الإنسان، بما عليهم لله.

إله أحياء، لا إله أموات

"وَجَاءَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ الصَّدُّوقِيِّينَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ قِيَامَةٌ، وَسَأَلُوهُ: "يَا مُعَلِّمُ، كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لِأَحَدٍ أَخٌ، وَتَرَكَ امْرَأَةً وَلَمْ يُخَلِّفْ أَوْلَاداً، أَنْ يَأْخُذَ أَخُوهُ امْرَأَتَهُ، وَيُقِيمَ نَسْلاً لِأَخِيهِ. فَكَانَ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ. أَخَذَ الْأَوَّلُ امْرَأَةً وَمَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ نَسْلاً. فَأَخَذَهَا الثَّانِي وَمَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ هُوَ أَيْضاً نَسْلاً. وَهكَذَا الثَّالِثُ. فَأَخَذَهَا السَّبْعَةُ، وَلَمْ يَتْرُكُوا نَسْلاً. وَآخِرَ الْكُلِّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ أَيْضاً. فَفِي الْقِيَامَةِ، مَتَى قَامُوا، لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لِأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ". فَأَجَابَ يَسُوعُ: "أَلَيْسَ لِهذَا تَضِلُّونَ، إِذْ لَا تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلَا قُوَّةَ اللّهِ؟ لِأَنَّهُمْ مَتَى قَامُوا مِنَ الْأَمْوَاتِ لَا يُزَوِّجُونَ وَلَا يُزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلَائِكَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْأَمْوَاتِ إِنَّهُمْ يَقُومُونَ: أَفَمَا قَرَأْتُمْ فِي كِتَابِ مُوسَى، فِي أَمْرِ الْعُلَّيْقَةِ، كَيْفَ كَلَّمَهُ اللّهُ قَائِلاً: أَنَا إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ؟ لَيْسَ هُوَ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ. فَأَنْتُمْ إِذاً تَضِلُّونَ كَثِيراً" (مرقس 12:18-27).

أخيراً اتفقت جميع الأحزاب الكبرى الدينية والسياسية على مهاجمة المسيح هذا اليوم الأخير في الهيكل، فانضمَّ الصدوقيون إلى الفريسيين والكتبة ورؤساء الكهنة وشيوخ الشعب، ونصبوا للمسيح شركاً آخر علقوه علىفلسفتهم الطبيعية. كان الصدوقيون يستخفُّون بالدِّين إجمالاً، ولا يؤمنون بالقيامة ولا الملائكة ولا الأرواح، فكان يُنتظر منهم أن يسألوا سؤالاً هزلياً جدياً، ليثيروا الاستهزاء بالمسيح.

وبما أن أفكارهم كانت جسدية، فقد لفّقوا مشكلة تتصل بالعالم الروحي الذي تسكنه الأرواح بعد الموت الجسدي. كانت شريعة موسى توجب على إخوة كل رجل متزوج يموت دون أن ينجب نسلاً أن يتزوج أحدهم بأرملة المتوفَّى ليقيم للأخ الميت نسلاً. ولأجل غايتهم الهزلية تخيل الصدوقيون امرأة تزوجت بسبعة إخوة، الواحد بعد الآخر. وسألوه لمن من هؤلاء السبعة تكون زوجة في القيامة؟

كان الفريسيون يشاركون المسيح في الإيمان بالقيامة وبعالم الأرواح، فهزيمته هنا أمام الصدوقيين تكون هزيمة لهم أيضاً. ونجاح المسيح في الجدل، يساعد الفريسيين من هذا الوجه. ولو أنه يكون مصيبة عليهم، لأنه يرفع مقام المسيح فيتعلَّق الشعب به أكثر من قبل.

نلاحظ في جواب المسيح على الصدوقيين أنه ترفَّق بهم أكثر مما بالفريسيين، وتلطَّف في توبيخهم، لأنه كان يحسب رياء الفريسيين أشر من كفر الصدوقيين، فلم ينطق عليهم بالويل أو يناديهم: "يا مراؤون". بل أجاب: "أليس لهذا تضلون، إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله؟" إن خطية الصدوقيين أخف من خطيئة الفريسيين الذين يعرفون ولا يعملون بما يعرفونه.

وأعطاهم المسيح برهاناً من أسفارهم الموسوية أن الله ليس إله أموات بل إله أحياء. إذاً توجد قيامة حقيقية. وهو سبحانه روح. إذاً يوجد عالم روحي واسع وأعظم جداً من العالم المادي. فلو كانوا يعرفون الكتب المقدسة لما كانوا ينكرون القيامة. ولو كانوا يعرفون قوة الله لما حددوها وحصروها في عالم الماديات الصغير.

وأفهم المسيح سامعيه أن العالم الروحي لا يقاس تماماً على العالم المادي، فالزيجة الجسدية لا وجود لها هناك، إذ يكون كل من له نصيب في قيامة الأبرار كملائكة الله في السماوات. فبُهت الجموع من تعلميه، وفرح بعض الكتبة بفشل الصدوقيين أكثر مما تكدروا لانتصار المسيح، وقالوا له: "يا معلم، حسناً قلت". وتوقف قليلاً تيار الاعتراض على هذا المعلم الناصري، ولم يتجاسروا أيضاً أن يسألوه عن شيء.

الوصية العظمى

"فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَناً، سَأَلَهُ: "أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟" فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: "إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الْأُولَى. وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ". فَقَالَ لَهُ الْكَاتِبُ: "جَيِّداً يَا مُعَلِّمُ. بِالْحَقِّ قُلْتَ، لِأَنَّهُ اللّهُ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ. وَمَحَبَّتُهُ مِنْ كُلِّ الْقَلْبِ، وَمِنْ كُلِّ الْفَهْمِ، وَمِنْ كُلِّ النَّفْسِ، وَمِنْ كُلِّ الْقُدْرَةِ، وَمَحَبَّةُ الْقَرِيبِ كَالنَّفْسِ، هِيَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ". فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ أَنَّهُ أَجَابَ بِعَقْلٍ قَالَ لَهُ: "لَسْتَ بَعِيداً عَنْ مَلَكُوتِ اللّهِ". وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ بَعْدَ ذلِكَ أَنْ يَسْأَلَهُ" (مرقس 12:28-34).

ثم سأله أحد علماء الشريعة المعروفين بالكتبة، وهو يريد أن يمتحن معرفته بالناموس: "يا معلم، أية وصية هي العظمى في الناموس وأول الكل؟" أجاب المسيح إن أول كل الوصايا هي "اسمع يا إسرائيل: الرب إلهك رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل مقدرتك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء". ثم وصف المسيح عالِم الشريعة هذا بأنه "ليس بعيداً عن ملكوت الله". فهل عرف عالِم الشريعة أن حالة الذي ليس بعيداً عن الملكوت ولا يدخله، هي حالة أصعب من الذي هو بعيد؟ ما أمرَّ هلاك الواقفين عند باب الملكوت.

قال الرب لربي

"ثُمَّ سَأَلَ يَسُوعُ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ: "كَيْفَ يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ دَاوُدَ؟ لِأَنَّ دَاوُدَ نَفْسَهُ قَالَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي، حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ. فَدَاوُدُ نَفْسُهُ يَدْعُوهُ رَبّاً. فَمِنْ أَيْنَ هُوَ ابْنُهُ؟" وَكَانَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ" (مرقس 12:35-37).

ترقب المسيح وهو يعلّم في الهيكل فرصة اجتماع الفريسيين ليمتحنهم كما امتحنوه، فطلب منهم تفسير هذه الآية في مزامير داود: "قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: "اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي" (مزمور 110:1). هنا تُكلِّم العزة الإلهية شخصاً يسميه ربَّه. وهذا الشخص حسب تفسير اليهود جميعاً هو المسيح، وفي ذات الوقت هو المسيح ابن داود. فكيف يكون بشراً محضاً، ويكون ربَّ داود وابن داود في الوقت نفسه؟ لا يحل هذه المعضلة إلا القول بطبيعة المسيح المزدوجة التي تجعله رب داود من جهة لاهوته، وابن داود من جهة ناسوته، وهذا هو الوصف الذي يطلقه سفر الرؤيا على المسيح "أَصْلُ وَذُرِّيَّةُ دَاوُدَ" (رؤيا 22:16). فبما أنهم ينكرون لاهوته لم يستطع أحد أن يردّ بكلمة. فأسكت جميع معانديه وأسعد الجمع الكثير بكلامه. ويناسب هنا أن نذكر الشهادة التي قدمها سابقاً رسل خصومه الفريسيين بقولهم: "لم يتكلم قط إنسان هكذا مثلُ هذا الإنسان". ويؤيد العدد الذي لا يُحصى من الذين سعدوا بكلامه من ذلك الوقت إلى يومنا هذا.

المسيح يمدح عطاء الأرملة

"وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاساً فِي الْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيراً. فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ، قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ. فَدَعَا تَلَامِيذَهُ وَقَالَ لَهُمُ: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذِهِ الْأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا" (مرقس 12:41-44).

ثم انتقل المسيح من قسم الهيكل الداخلي إلى الدار الخارجية التي كانوا يسمُّونها دار النساء (لأنهم كانوا يسمحون بدخول النساء إليها). وكان هناك ثلاثة عشر بوقاً مخصّصة لوضع التقدمات النقدية لخدمة الهيكل وأعمال الرحمة. وكان العابدون بعد غياب طويل يعودون في أيام العيد العظيم ليقدِّموا لهذا المعبد الفريد مبالغ وافرة، فجلس المسيح تجاه الأبواق في محل "الخزانة" يراقب العابدين وهم يدفعون عطاياهم. فلما وضعت أرملة فلسين، وهي أقل قيمة يجوز تقديمها، دعا تلاميذه لينظروا وقال "إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة، لأن الآخرين ألقوا من فضلتهم، وأما هي فألقت كل معيشتها". للعطاء أهمية كبيرة في الدين، وقد علّم المسيح أن مقياس السخاء ليس مقدار التقدمة، بل مقدار ما يبقى للمعطي بعد أن يقدمها. ويخطئ الذين يقدمون في الإحسان قليلاً ويسمُّونه "فلسي الأرملة"، لأن هذا الاسم لا يُطلق على العطاء القليل، إلا إن كان كل ما عند المعطي.

قدمت الأرملة ما عندها متكلة على العناية الإلهية التي تدبر كل أعوازها، ولذلك نالت مدح المسيح على محبتها لله، وعلى ثقتها في عنايته.

اليونانيون يطلبون المسيح

"وَكَانَ أُنَاسٌ يُونَانِيُّونَ مِنَ الَّذِينَ صَعِدُوا لِيَسْجُدُوا فِي الْعِيدِ. فَتَقَدَّمَ هؤُلَاءِ إِلَى فِيلُبُّسَ الَّذِي مِنْ بَيْتِ صَيْدَا الْجَلِيلِ، وَسَأَلُوهُ: "يَا سَيِّدُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ" فَأَتَى فِيلُبُّسُ وَقَالَ لِأَنْدَرَاوُسَ، ثُمَّ قَالَ أَنْدَرَاوُسُ وَفِيلُبُّسُ لِيَسُوعَ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا: "قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الْإِنْسَانِ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الْأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ. إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الْآبُ. اَلْآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الْآبُ نَجِّنِي مِنْ هذِهِ السَّاعَةِ. وَلكِنْ لِأَجْلِ هذَا أَتَيْتُ إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ. أَيُّهَا الْآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ". فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: "مَجَّدْتُ، وَأُمَجِّدُ أَيْضاً". فَالْجَمْعُ الَّذِي كَانَ وَاقِفاً وَسَمِعَ، قَالَ: "قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ". وَآخَرُونَ قَالُوا: "قَدْ كَلَّمَهُ مَلَاكٌ". أَجَابَ يَسُوعُ: "لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هذَا الصَّوْتُ، بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ" (يوحنا 12:20-30).

من المشرق البعيد أتى قوم، هم المجوس العلماء، ليروا المسيح في طفولته. والآن أتى قوم آخرون من المغرب البعيد من اليونان بلاد العلماء، ليروا المسيح في خاتمة خدمته. وقفوا في الدار الخارجية من الهيكل، وهي المكان المخصص لعبادة اللّه لغير اليهود، يقدمون العبادة للإله الواحد إله إسرائيل. وأبلغوا تلميذ المسيح فيلبس شوقهم لرؤية المسيح. وحدَّث فيلبس أندراوس، واتفقا أن يقولا لسيدهما هذا الأمر.

رأى المسيح في أولئك اليونانيين مقدمةً للجمهور الذي لا يُحصى من الأمم المزمعين أن يطلبوه بالإيمان، فقال: "قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان". سيتمجد بالرغم من رفض أمته له، فلا يكون هذا فشلاً له ولا لعمله.

التقى المسيح باليونانيين وقال لهم: "الحق الحق أقول لكم، إنْ لم تقع حبةُ الحنطة في الأرض وتمُتَ، فهي تبقى وحدها، ولكن إنْ ماتت تأتي بثمر كثير. من يحب نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية". كلّمهم عن موت هو مقدمة الحياة - هو موته الفدائي ليحيي نفوساً بلا عدد. وهو موت المؤمن عن الخطية ليحيا للبر.

في هذا الوقت وفي هذا المقام اعترف المسيح أن نفسه اضطربت لشدة هول ساعة موته. لكن بما أنه قد أتى من السماء لأجل هذه الساعة، هل يمكن أن يطلب التخلُّص منها؟ كلا ثم كلا. لأن طلبه الوحيد هو أن يتمجد اسم الآب. فصلَّى أوجز صلواته وآخرها في الهيكل قائلاً: "أيها الآب مجد اسمك". فأكرم الآب هذا التسليم التام وإنكار الذات، وجاء صوت من السماء يقول: "مجدت وأمجد أيضاً".

عندما غلب المسيح إبليس في البرية وقت التجربة، أرسل الآب له ملائكةً جاءت وصارت تخدمه، لكن هذه الغلبة الجديدة على تجربة الاستعفاء من الصليب وما يتعلق به أشهُر من تجربة البرية، وهذه الساعة أعظمُ من تلك. فأسْمَعَ الآبُ صوتَه للمرة الثالثة في حياة المسيح على الأرض. أما أعداؤه فسمعوا صوتاً دون أن يفهموا الكلام، فقالوا: "قد حدث رعد". وأما مريدوه فسمعوا كلاماً، لكن غير مفهوم، فقالوا "كلَّمه ملاك". لكن المسيح الذي وحده فهم كلام الصوت، أكَّد لجميع السامعين أنه لم يكن لأجله بل لأجلهم، وإنْ لم يكن مفهوماً عندهم.. جاءهم صوت اللّه تأييداً لشخص المسيح وتعليمه، فبواسطة هذه الغلبة الجديدة أثبت المسيح مرة أخرى صلاحيته كمخلّص العالم. وصلاحيتُه تضمن نجاحه، لأنه بارتفاعه على الصليب "يجذب إليه الجميع". وهذا الجاذب الفعال لا يزال يشتغل بنجاحٍ في العالم، فوق ما كان يتصوره بشر. يجذب الأفراد ويجذب الشعوب، ولا يتوقف عن عمله الخلاصي، إلى أن تُسمع الأصواتُ في السماء قائلة: "قَدْ صَارَتْ مَمَالِكُ الْعَالَمِ لِرَبِّنَا وَمَسِيحِهِ، فَسَيَمْلِكُ إِلَى أَبَدِ الْآبِدِينَ" (رؤيا 11:15).

  • عدد الزيارات: 6624