لقاءات وأحاديث للمسيح
شفاء عشرة بُرص
"وَفِي ذَهَابِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ اجْتَازَ فِي وَسَطِ السَّامِرَةِ وَالْجَلِيلِ. وَفِيمَا هُوَ دَاخِلٌ إِلَى قَرْيَةٍ اسْتَقْبَلَهُ عَشَرَةُ رِجَالٍ بُرْصٍ، فَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ وَصَرَخُوا: "يَا يَسُوعُ يَا مُعَلِّمُ، ارْحَمْنَا". فَنَظَرَ وَقَالَ لَهُمُ: "اذْهَبُوا وَأَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ". وَفِيمَا هُمْ مُنْطَلِقُونَ طَهَرُوا. فَوَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ شُفِيَ، رَجَعَ يُمَجِّدُ اللّهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ شَاكِراً لَهُ. وَكَانَ سَامِرِيّاً. فَقَالَ يَسُوعُ: "أَلَيْسَ الْعَشَرَةُ قَدْ طَهَرُوا؟ فَأَيْنَ التِّسْعَةُ؟ أَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَرْجِعُ لِيُعْطِيَ مَجْداً لِلّهِ غَيْرُ هذَا الْغَرِيبِ الْجِنْسِ؟" ثُمَّ قَالَ لَهُ: "قُمْ وَامْضِ. إِيمَانُكَ خَلَّصَكَ" (لوقا 17:11-19).
رجع المسيح إلى أورشليم لأن عيد الفصح - ميعاد تقديمه الذبيحة الكفارية - صار قريباً، واثناء دخوله إحدى القرى لاقاه عشرة رجال مرضى بالبرص. ولا يخفَى أن المصائب تجمع حتى الأعداء. وهكذا اجتمع أولئك المرضى معاً. ولكن مراعاةً للقانون واللياقة وقفوا بعيداً وصرخوا: "يا يسوع، يا معلم، ارحمنا".
في بداءة خدمة المسيح كان يلمس البُرص الذين طهَّرهم، لأنه بذلك أظهر حنانه وتفضيله الرحمة على الفرائض الخارجية، أما الآن وقد اشتهر بكل ذلك. فلا حاجة إلى هذا اللمس. فأمر هؤلاء العشرة أن يُرُوا نفوسهم للكهنة في أورشليم، برهاناً على أنهم طهروا، فأطاعوا حالاً قبل أن يروا من التطهير شيئاً، لذلك أكرم المسيح إيمانهم الذي أثمر طاعة. وفيما هم سائرون طهروا.
أما التسعة اليهود فلم يبالوا بالذي قدم لهم الرحمة، فتابعوا سيرهم نحو أورشليم ناسين واجب الشكر للطبيب الشافي. لكن السامري الغريب تأثر من إحسان لم يتوقعه، فرجع وهو يمجد الله بصوت عظيم ليقدم الشكر أولاً للذي أنقذه من العار والخطر وحرمان الحقوق الدينية، وجثا عند قدمي المسيح. فنال جزاءه تلك الكلمة الثمينة: "إيمانك خلَّصك". ألاَ يمثِّل هذا الحادث أكثر ما يحدث في التاريخ البشري؟ وهل يؤدي أكثر من واحد في العشرة شكراً لله على مراحمه الوافرة؟
سؤال عن الملكوت
"وَلَمَّا سَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: "مَتَى يَأْتِي مَلَكُوتُ اللّهِ؟" أَجَابَهُمْ: "لَا يَأْتِي مَلَكُوتُ اللّهِ بِمُرَاقَبَةٍ، وَلَا يَقُولُونَ: هُوَذَا ههُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ، لِأَنْ هَا مَلَكُوتُ اللّهِ دَاخِلَكُمْ". وَقَالَ لِلتَّلَامِيذِ: "سَتَأْتِي أَيَّامٌ فِيهَا تَشْتَهُونَ أَنْ تَرَوْا يَوْماً وَاحِداً مِنْ أَيَّامِ ابْنِ الْإِنْسَانِ وَلَا تَرَوْنَ. وَيَقُولُونَ لَكُمْ:هُوَذَا ههُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ. لَا تَذْهَبُوا وَلَا تَتْبَعُوا، لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ الَّذِي يَبْرُقُ مِنْ نَاحِيَةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ يُضِيءُ إِلَى نَاحِيَةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ، كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضاً ابْنُ الْإِنْسَانِ فِي يَوْمِهِ. وَلكِنْ يَنْبَغِي أَوَّلاً أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْفَضَ مِنْ هذَا الْجِيلِ. وَكَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ نُوحٍ كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضاً فِي أَيَّامِ ابْنِ الْإِنْسَانِ. كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَيُزَوِّجُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ دَخَلَ نُوحٌ الْفُلْكَ، وَجَاءَ الطُّوفَانُ وَأَهْلَكَ الْجَمِيعَ" (لوقا 17:20-27).
بعد هذا سأل الفريسيون المسيح: "متى يأتي ملكوت الله؟" فأجابهم بحقيقة أساسية متعلِّقة بملكوته، أنه لا يُقال عنه في مكان أو زمان معيَّن، أو أن هيئة أو طائفة أو كنيسة خصوصية هي ملكوت الله، بل "ها ملكوت الله داخلكم". أي أن القلوب التي حلَّ هو فيها، ويحكم عليها، هي التي تؤلِّف ملكوته.
ثم وجَّه المسيح كلامه إلى تلاميذه الذين يحلمون بالملكوت الزمني، وأشار مرة أخرى إلى ما أمامه من الآلام الكثيرة والرَّفض. وتكلَّم عن مخاوف اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان، لأن ذلك اليوم يذكِّر العالم بأهوال الطوفان العظيم، وتدمير سدوم وعمورة بالنار والكبريت، حيث تصبح الأمة اليهودية جثة بالية تنقضُّ عليها النسور الرومانية وتقتنصها.
مَثَل عن ضرورة الصلاة المتواضعة
"وَقَالَ لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ الْآخَرِينَ هذَا الْمَثَلَ: "إِنْسَانَانِ صَعِدَا إِلَى الْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا، وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ وَالْآخَرُ عَشَّارٌ. أَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هكَذَا: اَللّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ، وَلَا مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ. أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الْأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ. وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لَا يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللّهُمَّ ارْحَمْنِي أَنَا الْخَاطِئَ. أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً دُونَ ذَاكَ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ" (لوقا 18:9-14).
جدَّد المسيح كلامه للفريسيين ليُريهم صورتهم في مَثَلٍ متعلِّق بالصلاة، فضرب مثلاً عن فريسي معتدّ بنفسه، يصلي ويشكر الله في الهيكل لامتيازه في الفضائل. وعن عشار يصلي في ذات الوقت والمكان، متواضعاً عند مدخل الهيكل، ورأسه المنحني يدلُّ على خشوعه، وقَرْعُه على صدره يبيّن حزنه على آثامه، وكلامُه يكشف عن إيمانه بقوله: "اللهم ارحمني أنا الخاطئ". ألم يقل الكتاب إن "ذبائح الله هي الروح المنكسرة. القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره" (مزمور 51:17)؟ فنزل العشار إلى بيته مبرِّراً دون الفريسي. "لأن كل من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع".
سؤال عن الطلاق
"وَجَاءَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ قَائِلِينَ لَهُ: "هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ؟" فَأَجَابَ: "أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَراً وَأُنْثَى؟" وَقَالَ: "مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الِاثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً. إِذاً لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللّهُ لَا يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ". فَسَأَلُوهُ: "فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلَاقٍ فَتُطَلَّقُ؟" قَالَ لَهُمْ: "إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلكِنْ مِنَ الْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هكَذَا. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلَّا بِسَبَبِ الّزِنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي، وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي". قَالَ لَهُ تَلَامِيذُهُ: "إِنْ كَانَ هكَذَا أَمْرُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ فَلَا يُوافِقُ أَنْ يَتَزَوَّجَ!" فَقَالَ لَهُمْ: "لَيْسَ الْجَمِيعُ يَقْبَلُونَ هذَا الْكَلَامَ بَلِ الَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُم، لِأَنَّهُ يُوجَدُ خِصْيَانٌ وُلِدُوا هكَذَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَاهُمُ النَّاسُ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَوْا أَنْفُسَهُمْ لِأَجْلِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْبَلَ فَلْيَقْبَلْ" (متى 19:3-12).
وجَّه الفريسيون للمسيح سؤالاً عدائياً في أمر الطلاق. ومع أن عندهم شريعة موسى، تظاهروا أنهم يكرمون المسيح ويعطونه الحق ليثبت أو يلغي تلك الشريعة، فأعاد المسيح الحكم للشريعة. ولما قالوا له إن الشريعة تُجيز الطلاق بشرط أن يتم رسمياً ويثبت بصك قانوني، أجابهم أن هذا كان تساهلاً من موسى بسبب قساوة قلوبهم، وأن الله أعطاهم أولاً شريعةً اقتصرت على ما يحتملونه ليحررهم من فساد عادات الأمم حولهم، وليقودهم تدريجياً إلى الوضع الإلهي الأصلي الذي قضى أن تكون امرأة واحدة لرجل واحد. لكن نظام ملكوته الجديد لا يُجيز الطلاق إلا لعلة الزنا. ومتى أُجري الطلاق على القانون اليهودي لا يجوز أن يتزوج المطلَّق فيما بعد، لأن زواجه الأول قائم أمام الله، ولا يوقفه إلا الموت أو الزنى.
فلما سمع تلاميذه هذا القانون الضيق بالنسبة إلى ما تعوَّدوه قالوا: "إن كان هذا أمر الرجل مع المرأة فلا يوافق أن يتزوج". فأظهر لهم أن الامتناع الحسن عن الزواج هو الذي يكون لأجل ملكوت الله.
رأيٌ في الأطفال
"حِينَئِذٍ قُدِّمَ إِلَيْهِ أَوْلَادٌ لِكَيْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وَيُصَلِّيَ، فَانْتَهَرَهُمُ التَّلَامِيذُ. أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ: "دَعُوا الْأَوْلَادَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلَا تَمْنَعُوهُمْ لِأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلَاءِ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ". فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ. وَمَضَى مِنْ هُنَاكَ" (متى 19:13-15).
على أثر الكلام في العلاقة العائلية، تحدث المسيح بكلام جميل يختص بالأطفال، لأن احتقار الصغار ساد كثيراً في كل بلاد العالم. ولما كان هو مخلِّص الجميع، فلا بد أن يهتم بهذا القسم العظيم من البشر. وكان تكريمه للأطفال من أهم امتيازاته.
جاءه في هذا الوقت أناسٌ يقدّمون أطفالهم ليضع عليهم يديه ويصلي، لأنهم اشتهوا لأطفالهم بركة من المسيح كليّ الطهارة والمقدرة، فأراد التلاميذ أن يبعدوا عن سيدهم هذا الإزعاج، فانتهروهم ليذهبوا عنه، وقالوا لهم إن مهمَّة المسيح أعظم من أن تسمح له بأن ينظر إلى أمر طفيف كهذا.
ولم يقبل المسيح هذه المعاملة الخشنة التي تدلُّ على الفرق العظيم بين تفكيره هو وتفكير تلاميذه ومعاصريهم، وخطَّأهم في ذلك. وفي غيظه كما في رضاه تبرق جواهر الحكمة الإلهية، لأنه بكَّت تلاميذه بكلمات مؤثرة يتعلَّمها كل ولد مسيحي، وكم كان تأثيرها مباركاً في العالم منذ ذلك الوقت، وهي: "دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات". وصرح بأنه لا يدخل أحدٌ ملكوت السماوات إن لم يرجع ويصير مثل ولد.
إننا نوقن بأن فداء المسيح يعمُّ جميع الأطفال الذين يموتون في الطفولية في كل الأجيال، على اختلاف أحوال أهلهم الدينية والمدنية. وبناءً على هذا، ما أكثر الجمهور البشري الذي ينضمُّ إلى الجيش السماوي، مقابل العدد الغفير من البالغين الذين يموتون في خطاياهم.
حديث مع شاب غني
"وَإِذَا وَاحِدٌ تَقَدَّمَ وَقَالَ لَهُ: "أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، أَيَّ صَلَاحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ؟" فَقَالَ لَهُ: "لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلَّا وَاحِدٌ وَهُوَ اللّهُ. وَلكِنْ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ فَاحْفَظِ الْوَصَايَا". قَالَ لَهُ: "أَيَّةَ الْوَصَايَا؟" فَقَالَ يَسُوعُ: "لَا تَقْتُلْ. لَا تَزْنِ. لَا تَسْرِقْ. لَا تَشْهَدْ بِالزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَأَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ". قَالَ لَهُ الشَّابُّ: "هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. فَمَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ؟" قَالَ لَهُ يَسُوعُ: "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبِعْ أَمْلَاكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي". فَلَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ الْكَلِمَةَ مَضَى حَزِيناً، لِأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ. فَقَالَ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ" (متى 19:16-23).
فيما المسيح خارج إلى الطريق، جاء رئيس يهودي غني جداً. وجثا له دلالة على أنه أتى بإخلاص ليستفهم منه عن طريق الخلاص، وأكرمه بقوله: "أيها المعلم الصالح، أيَّ صلاحٍ أعمل لأرث الحياة الأبدية؟" فأجابه المسيح بأن كل الناس حتى أصلحهم خالون من الصلاح الكامل، وأنه لا يجوز أن ننسب الصلاح إلا للّه وحده. إمَّا أن يكون المسيح صالحاً فعلاً، فيكون هو الله الذي ظهر في الجسد، أو يكون الشاب الغني مخطئاً.
لم يكن المسيح يقبل تحيةً في غير مكانها، وكان دوماً يريد أن يوضّح أن كماله وصلاحه ناتجان عن كونه "الله الذي ظهر في الجسد" - فليس بين البشر إنسان كامل الصلاح.
سأل الشاب الغني عن أي إصلاح يعمله ليرث الحياة الأبدية، فأفاده المسيح أن الصلاح الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية هو الصلاح الكامل فقط. وهذا معقول، لأن شهادة النجاح التي بها رسوب درس واحد تعني الرسوب كله، كما قال الرسول يعقوب: "مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي الْكُلِّ" (يعقوب 2:10) ولما ادَّعى الرئيس أنه حفظ الناموس كله منذ حداثته، نظر إليه المسيح وأحبه لإخلاصه واجتهاده، وأراد أن يكشف له أن حفظ الناموس المقبول عند الله هو الحفظ الروحي لا الحرفي، فقال له: "يعوزك أيضاً شيء واحد. إن أردت أن تكون كاملاً، فاذهب وبعْ كل أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني حاملاً الصليب".
يلخّص المسيح الوصايا بمحبة الله فوق كل شيء، ومحبة القريب كالنفس. فإن كان هذا الشاب قد حفظ الوصايا كلها، فلا يصعب عليه أن يطيع ما أمره المسيح به. لكنه أثبت على نفسه بطلان ادّعائه، لأنه اغتمَّ من هذا القول ومضى حزيناً لأنه كان ذا أموالٍ كثيرة. وبهذا أثبت أنه يحب ماله أكثر من الله، وأن المال هو ربُه الحقيقي. أحب المسيح هذا الشاب وأسف جداً عليه لأنه فضَّل المال على ملكوت السماوات.
الدخول إلى ملكوت الله يبدأ هنا في هذه الحياة. والذين يدخلونه يدركون أن كل مقتنياتهم مكرَّسة للملك، فمتى طلب منها يقدِّمونه برغبة وسرور، فيزول بذلك كل تذمُّر يسبِّبه عن الفقر أو الخسارة المادية. والذي يتعلق قلبه بأمور الدنيا لا يجد في السماء ما يلذُّ له، وليس له كنز هناك، فذهابه إلى السماء يكون عبثاً، فضلاً عن كونه مستحيلاً.
"فَقَالَ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً: إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللّهِ". فَلَمَّا سَمِعَ تَلَامِيذُهُ بُهِتُوا جِدّاً قَائِلِينَ: "إِذاً مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟" فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ: "هذَا عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلكِنْ عِنْدَ اللّهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ" (متى 19:23-26).
بمناسبة هذا قال المسيح لتلاميذه: "ما أعسر دخول المتكلين على الأموال إلى ملكوت الله". ليبيّن أنه ليس فقط عسراً، قال إن دخول جمل من ثقب الإبرة أيسر من ذلك. ولما اعترض التلاميذ بقولهم: "إذاً من يستطيع أن يخلُص؟" أفهمهم أن ترْكَ الدنيا مستحيل على الطمع البشري، إنما كل شيء مستطاع عند الله. فمتى غيَّر الروح الإلهي قلب محبي المال، يستطيعون أن يدخلوا الملكوت الروحي، لأن قلبهم الجديد سيحبُّ الله أكثر من حبهم للمال.
"فَأَجَابَ بُطْرُسُ حِينَئِذٍ: "هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟" فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الْإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيّاً تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الِاثْنَيْ عَشَرَ. وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلَاداً أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ. وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ" (متى 19:27-30).
حرَّك ذِكْرُ المال بطرس ليسأل: "ها قد تركنا كل شيء وتبعناك. فماذا لنا؟" فأجابه المسيح بما يفيد أنهم ينالون التفاتاً خاصاً من العناية الإلهية في هذه الدنيا، مع اضطهادات لامتحان إيمانهم وزيادة ثوابهم. ثم في الدهر الآتي يرثون الحياة الأبدية. وفي هذه القرينة أعاد ما قاله سابقاً وسيقوله ثالثة بعد حين: "كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَالْآخِرُونَ أَوَّلِينَ" (مرقس 10:31).
مَثَل فعلة الكرم
"فَإِنَّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ مَعَ الصُّبْحِ لِيَسْتَأْجِرَ فَعَلَةً لِكَرْمِهِ، فَاتَّفَقَ مَعَ الْفَعَلَةِ عَلَى دِينَارٍ فِي الْيَوْمِ، وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ. ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ وَرَأَى آخَرِينَ قِيَاماً فِي السُّوقِ بَطَّالِينَ، فَقَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً إِلَى الْكَرْمِ فَأُعْطِيَكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَمَضَوْا. وَخَرَجَ أَيْضاً نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ وَالتَّاسِعَةِ وَفَعَلَ كَذلِكَ. ثُمَّ نَحْوَ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ خَرَجَ وَوَجَدَ آخَرِينَ قِيَاماً بَطَّالِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا وَقَفْتُمْ ههُنَا كُلَّ النَّهَارِ بَطَّالِينَ؟ قَالُوا لَهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْنَا أَحَدٌ. قَالَ لَهُمُ:اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً إِلَى الْكَرْمِ فَتَأْخُذُوا مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ قَالَ صَاحِبُ الْكَرْمِ لِوَكِيلِهِ: ادْعُ الْفَعَلَةَ وَأَعْطِهِمُِ الْأُجْرَةَ مُبْتَدِئاً مِنَ الْآخِرِينَ إِلَى الْأَوَّلِينَ. فَجَاءَ أَصْحَابُ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَأَخَذُوا دِينَاراً دِينَاراً. فَلَمَّا جَاءَ الْأَوَّلُونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ. فَأَخَذُوا هُمْ أَيْضاً دِينَاراً دِينَاراً. وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَ تَذَمَّرُوا عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ قَائِلِينَ: هؤُلَاءِ الْآخِرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ الَّذِينَ احْتَمَلْنَا ثِقَلَ النَّهَارِ وَالْحَرَّ! فَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا صَاحِبُ، مَا ظَلَمْتُكَ! أَمَا اتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟ فَخُذِ الَّذِي لَكَ وَاذْهَبْ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَ هذَا الْأَخِيرَ مِثْلَكَ. أَوَ مَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَالِي؟ أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ لِأَنِّي أَنَا صَالِحٌ؟ هكَذَا يَكُونُ الْآخِرُونَ أَوَّلِينَ وَالْأَوَّلُونَ آخِرِينَ، لِأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ" (متى 20:1-16).
وجواباً على سؤال بطرس: "ماذا يكون لنا؟" روى المسيح مَثَل فعلة الكرم، فقال إن صاحب كرم استأجر فعلة ليعملوا في كرمه في ساعات مختلفة من النهار، بحيث ذهب الأخيرون قبل نهاية النهار بساعة واحدة. واتفق مع الذين ابتدأوا في أول النهار على أجرة دينار واحد. أما للأخيرين فقال: "أعطيكم ما يحقُّ لكم". وعند المحاسبة في آخر النهار ساوى بين الفعلة في الأجر، وأمر وكيله أن يحاسب الآخِرين أولاً ويعطيهم أجرة نهار كامل. فولَّد هذا الكرم آمالاً فارغة في الأوَّلين الذين ظنّوا أنهم يأخذون أجرة أكثر، لأنهم اشتغلوا ساعات أكثر. فلما أعطى كلاً منهم ديناراً واحداً حسب الشرط، تذمروا. فوبخهم صاحبُ الكرم، وذكّرهم أنه لا يحقُّ لهم أن يحكموا عليه كيف يتصرف بماله، كما أنه لا حقّ للذي يأخذ كامل حقوقه أن يحسد من يأخذ أكثر من حقوقه.
في هذا المَثَل درس دائم على خطأ الذين يتذمّرون بسبب نجاح الآخرين أكثر منهم، وخطأ الذين يحتجُّون على عدم المساواة في المعاملة الإلهية. وكل عاقل يعلم أن أتعس الناس في العالم، عنده من الخيرات الزمنية والرحمة الإلهية فوق ما يستحق، وأنه بالنظر إلى المعاملة الإلهية لا يوجد في كل المسكونة مظلوم واحد.
إعلان جديد عن الصليب
"وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيمَ أَخَذَ الِاثْنَيْ عَشَرَ تِلْمِيذاً عَلَى انْفِرَادٍ فِي الطَّرِيقِ وَقَالَ لَهُمْ: "هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الْإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الْأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ". حِينَئِذٍ تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ أُمُّ ابْنَيْ زَبْدِي مَعَ ابْنَيْهَا، وَسَجَدَتْ وَطَلَبَتْ مِنْهُ شَيْئاً. فَقَالَ لَهَا: "مَاذَا تُرِيدِينَ؟" قَالَتْ لَهُ: "قُلْ أَنْ يَجْلِسَ ابْنَايَ هذَانِ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالْآخَرُ عَنِ الْيَسَارِ فِي مَلَكُوتِكَ". فَأَجَابَ يَسُوعُ: "لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا؟" قَالَا لَهُ: "نَسْتَطِيعُ". فَقَالَ لَهُمَا: "أَمَّا كَأْسِي فَتَشْرَبَانِهَا، وَبِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ. وَأَمَّا الْجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ إِلَّا لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ أَبِي". فَلَمَّا سَمِعَ الْعَشَرَةُ اغْتَاظُوا مِنْ أَجْلِ الْأَخَوَيْنِ. فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: "أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَالْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. فَلَا يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيماً فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِماً، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلاً فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْداً، كَمَا أَنَّ ابْنَ الْإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (متى 20:17-28).
وفي سير المسيح نحو أورشليم في مقدمة تلاميذه، زاد شبح الصليب وضوحاً أمامه، وزاد شعوره بثقل خطايا العالم التي أتى ليكفِّر عنها، فانفرد بتلاميذه وأنبأهم ثالثة بآلامه وموته بأكثر تفصيل من قبل. وبما أنهم سيكونون معه متى داهمته تلك الحوادث المخيفة، فهو لا يريد أن يرافقوه إلا باختيارهم، مع علمهم بما سيكون. فأوضح لهم أنه يُسلَّم أولاً لرؤساء الكهنة وللكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ثم يسلِّمونه للأمم خلافاً لنظامهم الملي. ويكون نصيبه الاستهزاء والجلد والشتيمة والبصق عليه. وفي النهاية يموت صلباً، ثم يقوم في اليوم الثالث.
ومع كل هذا الإيضاح ظهر أن التلاميذ لم يفهموا كلامه، إذ تقدم إليه التلميذان الممتازان، يعقوب ويوحنا مع والدتهما التي سجدت له احتراماً، كأنها تريد أن تطلب شيئاً. ولما سألها ماذا تريد، طلبت أن يكون لابنَيْها المقام الأول عندما يجلس المسيح على عرشه في ملكوته، فيجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره. وكانت سالومة واثقة بأنها ستنال طلبها من ابن أختها، سيَّما وأنها تركت بيتها وتبعته مع تلاميذه في أسفارهم، وخدمتهم من مالها، ولأنها لاحظت امتياز ابنيها في بيت يايرس وعلى جبل التجلي.
لم تعلم سالومة، ولا علم يعقوب ويوحنا أن الإنسان لا ينال الإكرام بمجرد الطلب، بل بالأهلية له، فالتضحية وإنكار الذات هما باب الإكرام الإلهي، لا الطمع ولا الطموح، لذلك قال المسيح لتلميذيه: "لستما تعلمان ما تطلبان. فهل أنتما مستعدان أن تشربا مثلي كأس الآلام، والاصطباغ بالموت المهين؟" فلما أجابا دون تروٍّ: "نستطيع" أكد لهما أنهما يقدران على ذلك، أما الامتياز في ملكوته فمحفوظٌ فقط للذين أعدَّه الآب لهم، وليس له كابن الإنسان أن يهبه.
وتضايق باقي التلاميذ من كلام يعقوب ويوحنا، فوبّخهم المسيح على الغيظ الذي تحرك في قلوبهم، وقال لهم: "من أراد أن يصير فيكم أولاً فليكن للجميع عبداً". وعندما يتّخذ كل رئيس صفة الخادم وعمله، طاعةً للسيد المسيح، نرى سريعاً انتشار الخير الروحي والصلاح في العالم.
المسيح يخلص زكا
"ثُمَّ دَخَلَ وَاجْتَازَ فِي أَرِيحَا. وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ زَكَّا، وَهُوَ رَئِيسٌ لِلْعَشَّارِينَ وَكَانَ غَنِيّاً، وَطَلَبَ أَنْ يَرَى يَسُوعَ مَنْ هُوَ، وَلَمْ يَقْدِرْ مِنَ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ كَانَ قَصِيرَ الْقَامَةِ. فَرَكَضَ مُتَقَدِّماً وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ لِكَيْ يَرَاهُ، لِأَنَّهُ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُرَّ مِنْ هُنَاكَ. فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَهُ: "يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ". فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَهُ فَرِحاً. فَلَمَّا رَأَى الْجَمِيعُ ذلِكَ تَذَمَّرُوا قَائِلِينَ: "إِنَّهُ دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئٍ". فَوَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: "هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ". فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "الْيَوْمَ حَصَلَ خَلَاصٌ لِهذَا الْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضاً ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّ ابْنَ الْإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" (لوقا 19:1-10).
وفي يوم آخر دخل المسيح أريحا ليعطي الخلاص لبيت عشار خاطئ ويقدم التوبة والإيمان، وهو زكا الغني ورئيس العشارين، الذي لا بد أن يكون قد علم بما اشتهر به المسيح من فَتْح باب التوبة والخلاص للعشارين، فطلب أن يرى من هو المسيح، فلما تعذّر عليه التفرُّج على المسيح بسبب قِصر قامته والعدد الغفير المحيط بالمسيح، انتبه لجميزة تمتدُّ أغصانها فوق الطريق، فركض وصعد أغصان الجميزة فوق الطريق العام، دون أن يُعير التفاتاً لمن يستهزئ به، فكافأه المسيح عندما وصل إلى تحت الجميزة، إذ أوقف الجمهور وناداه باسمه، وأمره أن ينزل بسرعة ويستقبله في بيته. قصد المسيح بذلك أن يفعل فعلاً روحياً مهمّاً في هذا الشخص، لأن مهنته ورياسته وغناه وصفاته وتصرفاته الماضية تجعله من أبعد الناس عن ملكوت الله، فاختار هذا العشار ليخلِّصه، دون اكثراث لتذمُّر الجمهور معه بسبب ما فعل.
فاض كأس سرور المسيح لما وقف زكا أمامه وأمام الحاضرين في بيته، وأعلن توبته وثمرها وهو يقول: "ها أنا يا رب أعطي نصف أموالي للمساكين، وإن كنت قد اغتصبتُ شيئاً من أحد أردُّ أربعة أضعاف". فالذي رفض أن يفعله الرئيس الغني الفريسي الذي ادَّعى أنه حفظ الوصايا كلها، فعله الآن زكا الرئيس الغني العشار المرفوض عند ذلك الفريسي، لأن الله غيّر قلبه فاستطاع المستحيل، وأمات حب المال في قلبه، فمرَّ الجمل في ثقب الإبرة إلى ملكوت السماوات.
وهنا أعلن المسيح أن هذا الرجل صار من أهل الخلاص. وكرر بأن ابن الإنسان قد جاء لكي يخلص ما قد هلك.
زكا هذا، مثال للذين لا يسمحون لمانعٍ أن يمنعهم عن المجيء إلى المخلص، والذين يتجددون فجأة ويقدّمون فور تجديدهم برهاناً قاطعاً بصحة تجديدهم، لأن إيمانهم مثمر في أعمالهم. فكان بارتيماوس الأعمى وزكا العشار باكورة الكنيسة في أريحا. ويُرجَّح أنهما انضمَّا إلى الموكب الذي ترك أريحا صاعداً مع المسيح إلى أورشليم لحضور احتفالات العيد.
المسيح يزور بيت لعازر
"ثُمَّ قَبْلَ الْفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، حَيْثُ كَانَ لِعَازَرُ الْمَيْتُ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الْأَمْوَاتِ. فَصَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً. وَكَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ مَناً مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ، وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ، وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا، فَامْتَلَأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ. فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلَامِيذِهِ، وَهُوَ يَهُوذَا سِمْعَانُ الْإِسْخَرْيُوطِيُّ، الْمُزْمِعُ أَنْ يُسَلِّمَهُ: "لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هذَا الطِّيبُ بِثَلَاثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ؟" قَالَ هذَا لَيْسَ لِأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ، بَلْ لِأَنَّهُ كَانَ سَارِقاً، وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ. فَقَالَ يَسُوعُ: "اتْرُكُوهَا. إِنَّهَا لِيَوْمِ تَكْفِينِي قَدْ حَفِظَتْهُ، لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ" (يوحنا 12:1-8).
وصل المسيح وتلاميذه قرية بيت عنيا حيث نزل ضيفاً على بيت حبيبه لعازر الذي أقامه من الأموات من عهد قريب. ودُعي إلى وليمة صنعوها له في بيت سمعان الأبرص الذي يقول التقليد إنه كان زوج مرثا قبل ترمُّلها. يذكر الإنجيل لعازر بين "المتكئين" معه في الوليمة، كما يذكر أخته مرثا بين المشتغلين بتدبيرها. وذكر مريم أيضاً لأنها أتت بقارورة طيب ناردين كثير الثمن، وكسرتها لتسكب الطيب على رأس المسيح ثم على قدميه. وبعد أن دهنتهما، مسحتهما بشعر رأسها علامة على شكرها وإكرامها لمخلِّصها. فامتلأ البيت من رائحة الطيب، كما تفوح في كل مكان الرائحة الذكية حتى لأصغر الأعمال التي يصنعها الإنسان حباً بالمخلص، ولو كان كأس ماء بارد يقدمه لأحقر تلاميذه.
لكن فاعل الخير لا ينتظر أن يَسْلَم من الانتقاد. فانسكب في هذا الوقت على رأس المسيح مع الطيب العطر انتقادٌ مر، بحجَّة ضرورة مساعدة الفقراء. والأرجح أن الإسخريوطي بدأ هذا الانتقاد، وأثار الآخرين لأنه "أمين الصندوق". وكان يوزِّع منه إحساناً على الفقراء، كما كان يسرق منه، فيكون دفاعه عن الفقراء نفاقاً. واشترك بعض التلاميذ في هذا الهجوم عن بساطة، منحازين إلى انتقاد الإسخريوطي أن عمل مريم كان إسرافاً في غير محله، وأن توزيع ثمن الطيب على الفقراء كان أفضل.
لم يترك المسيح مريم التائبة تحت نيران الانتقاد، بل وبَّخ المنتقدين وحكم بُحسن عملها. فكأنها بروح النبوة دهنت جسده بالطيب، استعداداً لتكفينه بعد أيام قليلة. وفنَّد حجة المنتقدين بقوله إنه يذهب عنهم قريباً، فيستحيل عليهم إكرام جسده بعد ذلك، أما الفقراء فلا ينقطعون عنهم أبداً، فيستطيعون إلى آخر الزمان أن يحسنوا إليهم. وعوَّض على مريم بقوله: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا الْإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضاً بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ، تَذْكَاراً لَهَا" (مرقس 14:9).
- عدد الزيارات: 3103