Skip to main content

المسيح يبشر الوثنيين

جاء المسيح مخلصاً للعالم كله، وكما قدَّم خدمته لبني إسرائيل قدم خدمته للوثنيين من الأمم، فاتجه إلى البلاد الفينيقية - وفي هذا جملة فوائد: فبانتقاله إلى بلاد أممية يحصل هو وتلاميذه على بعض الراحة الجسدية والعقلية، لأن الازدحام عليه يخفُّ بين أناس يجهله أكثرهم. وينال أيضاً غايته إذ يتفرغ لتعليم تلاميذه استعداداً لتركهم، فبرؤيتهم بلاداً جديدة تتّسع مداركهم، ويبتدئ فيهم الاستعداد لوصيته الوداعية أن "يتلمذوا جميع الأمم ويكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (متى 28:18). وسيرون في هذه السياحة شاهداً جديداً على صدق نبوّته لما قال في مسامعهم: "يَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ" (متى 8:11). فيعلمهم بالمشاهدة أن الدين ليس بالإرث بل بالإيمان. لذلك انصرف معهم إلى نواحي صور وصيدا، أفضل وأشهر البلاد الفينيقية.

وهناك دخل المسيح بيتاً وهو لا يريد أن يعلم أحد، فلم يقدر أن يختفي. إذ كيف يمكن أن تختفي الرائحة الذكية التي كانت تفوح من شخصه الكريم؟ كان قد وصل إلى هذه الأصقاع شيء من أخبار محبته وقدرته، لأن بعض أهلها كانوا قد ذهبوا إليه سابقاً إلى كفر ناحوم. ويستحيل أن مسافراً مهوباً مثل المسيح يدخل قرية يرافقه تلاميذه إلا ويسأل الناس عن أمره. فسمعت به امرأة واقعة في مصيبة عظيمة، إذ كانت ابنتها مجنونة جداً، لأن بها روحاً نجساً.

إيمان المرأة الفينيقية

"ثُمَّ قَامَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، وَدَخَلَ بَيْتاً وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَحَدٌ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْتَفِيَ، لِأَنَّ امْرَأَةً كَانَ بِابْنَتِهَا رُوحٌ نَجِسٌ سَمِعَتْ بِهِ، فَأَتَتْ وَخَرَّتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ. وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ أُمَمِيَّةً، وَفِي جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً - فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُخْرِجَ الشَّيْطَانَ مِنِ ابْنَتِهَا. وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهَا: "دَعِي الْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلَابِ". فَأَجَابَتْ وَقَالَتْ لَهُ: "نَعَمْ يَا سَيِّدُ! وَالْكِلَابُ أَيْضاً تَحْتَ الْمَائِدَةِ تَأْكُلُ مِنْ فُتَاتِ الْبَنِينَ". فَقَالَ لَهَا: "لِأَجْلِ هذِهِ الْكَلِمَةِ اذْهَبِي. قَدْ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنِ ابْنَتِكِ". فَذَهَبَتْ إِلَى بَيْتِهَا وَوَجَدَتِ الشَّيْطَانَ قَدْ خَرَجَ، وَالِابْنَةَ مَطْرُوحَةً عَلَى الْفِرَاشِ" (مرقس 7:24-30).

كانت المرأة الفينيقية وشعبها يحتقرون اليهود، ولكنها سجدت عند قدمي المسيح، وصرخت باحترام قائلة: "يا سيد". ربما فهمت أنه أشرف عائلة عند اليهود، أو علمت أن مسيح اليهود يكون ابن داود، فظنت أنها تعظّمه وتسرُّه بمناداتها إياه: "يا سيد، يا ابن داود". لكن لو صَدَقَ ظنُّ اليهود عنه أنه ابن داود فقط، والمسيح الذي تصوروه، فلن ينفعها بشيء، لأنه يكون مخلصاً سياسياً عالمياً لا يبالي إلا باليهود، ويرفض جميع الأمم، عبدَة الأصنام نظيرها، لأنه يعتبرهم كالكلاب المكروهة المطرودة، فطلبت منه الرحمة. لكنها لم تقل: ارحم ابنتي بل "ارحمني". لأن ابنتها المجنونة لا تشعر ولا تهتم لمصيبتها. لكن الأمومة جعلت مصيبة الأم جسيمة جداً.

أكرمت المرأة الفيقيقية المسيح وسجدت له، واستنجدت به بحرارة، لكنه لم يجبها بكلمة. وظهر أنه خرج من البيت متوجّهاً إلى مكان آخر، فتبعته مكررة صراخها وهو لا ينتبه إليها، لكنها لم تيأس. لعلها رأت فيه ما حقَّق لها على رغم سكوته أن صيته في الحنوّ ليس كاذباً، وأنها تحصل بواسطة اللجاجة على بركة منه. ولعل سكوته ناتج من اشتغال أفكاره في أمور أخرى أهم من أمرها. يكفي أنه لم يضجَرْ من صراخها ولم ينتهره. وتضايق التلاميذ من إلحاحها، فطلبوا من المسيح أن يعطيها طلبها، لكنه قال لهم: "لم أُرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة".

لكن كيف يخصص مخلص العالم ذاته لخراف بيت إسرائيل فقط؟ الجواب: أن المسيح قرر أن يبدأ خدمته بتبشير اليهود، لأن عندهم مواعيد الله. ولو خرج المسيح للكرازة بين الأمم، لرفض اليهود الإصغاء إليه. ولم يشأ أن يخدم اليهود والأمم معاً، لأن الفرصة ضيقة لا تكفي لتبشير اليهود والأمم أيضاً. كما أنه كان يدرب تلاميذه ليحملوا بشارته للجميع من يهود وأمم.

قيل حقاً إن الريح التي تطفئ الفتيلة، تزيد الحريق الكبير اضطراماً، فالصدمة التي تطفئ الإيمان الضعيف تزيد الإيمان القوي قوة. فنرى هذه المرأة تتقدم وتجدد استنجادها، كأن الرفض يزيد قوة إيمانها، فسجدت ثانية وصرخت: "أعنّي". كان مفعول هذه الكلمة الواحدة البسيطة الصادرة من قلب ملتهب، أعظم من كل الصلوات الفصيحة التي تقدمت في الهيكل العظيم في ذلك اليوم. أفلا يترأف الآن هذا السيد الصارم؟ ألا يكفي هذا القدر من احتراق قلبها؟ لأن هذا الرؤوف يريد أن يعطيها مجداً أعظم، بعد تزكية إيمانها بامتحان جديد أمرّ من الأول، إذ قال لها: "دعي البنين أولاً يشبعون. ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب؟ ألا يشك من يقرأ هذا الجواب أنه من اختلاق وتزوير أحد مبغضي المسيح؟ أيحتمل أن يخرج كلامٌ كهذا من فم ذلك الذي أحب العالم بأسره كبيره مع صغيره، وأميره مع فقيره، صالحه مع شريره حتى بذل نفسه عنهم جميعاً؟

الإجابة: كلا! فقد أراد المسيح بهذه الكلمات أن يفتح عيني هذه السيدة إلى حقيقة روحية خفيت عنها. نظرت هذه المرأة إليه كابن داود. ومسيح اليهود وحدهم، وإذ ذاك لا نصيب لها مطلقاً في عطاياه وبركاته. ولا يقدر أن يجعل لها هذا النصيب إلا بعد أن تعرفه وتعترف به مسيحاً للأمم أيضاً. ففتح لها بجوابه القاسي باباً تصل منه إلى هذه المعرفة وهذا الاعتراف.

ففي تواضعها العظيم مع احتياجها الكبير، عادت تطالبه بإلحاح. ألم يقل لها: "دعي البنين أولاً يشبعون؟" إذاً الكلاب تأخذ دورها بعد البنين! فجعلت المسيح بوضعه إياها بين الكلاب، يعترف أن لها حقوقاً، لأن أب البنين حول المائدة، هو أيضاً رب الكلاب تحت المائدة. فإنْ كانت هي من الكلاب، فللكلاب أرباب، وهو إذاً ربها. ولها الفتات الفاضلة عن البنين.

في إيمانها هذا أعطت مثالاً يوضح شيئاً عن الإيمان. لو كان إيمانها الإيمان العقلي فقط - نظير إيمان كثيرين، لأقنعتها معاملة المسيح أن تتركه وأن لا نصيب لها عنده. لكن لأن إيمانها قلبي، نظر إلى وراء الظواهر، وتأكد أن المسيح لا يردّ طلب مستغيث ولو أجَّل الإغاثة، فإذا به يلبّي طلبها اللجوج بقوله: "يا امرأة، عظيم إيمانك. ليكن لك كما تريدين. ولأجل هذه الكلمة اذهبي. قد خرج الشيطان من ابنتك". هذا المسيح العظيم الذي لم يرضخ البتة في كل مناقشاته مع فلاسفة اليهود بل كان يلجمهم بأجوبته السديدة، ويريهم بُعدهم عن ملكوت الله، يتنازل الآن ويرضخ بحِلْم عجيب لهذه المسكينة في احتياجها إليه، ويبيّن قُربها لهذا الملكوت.

فائدة للتلاميذ

نلاحظ أيضاً أن التلاميذ حصلوا على نتيجة في هذا الإمتحان، لأنهم رأوا أمامهم مثالاً لخراف هذا الراعي العظيم، التي ليست من الحظيرة اليهودية (يوحنا 10:16) بعضها يفوق الخراف اليهودية في المواهب الروحية. قد تعوّدوا أن يسمعوا من المسيح تأنيباً بقوله لهم مراراً: "يا قليلي الإيمان". ولما كاد بطرس يغرق وبّخه قائلاً: "يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟". فأيُّ خجل يغمرهم جميعاً إذ سمعوا سيدهم يقول مبتهجاً لهذه الوثنية المعدومة الوسائط الدينية: "عظيم إيمانك. ليكن لك كما تريدين!"

استجابة الصلاة

ويرينا هذا الحادث أن استجابة الصلاة لا تتوقف على مقام الطالب كما يتوهم كثيرون، بل على روحه في الطلب. ظهر هذا لما أتي للمسيح يوماً تلميذاه الممتازان يعقوب ويوحنا الحبيب مع والدتهما، التي كانت ترافقهم  وتخدمهم من مالها، وطلبوا منه شيئاً، فلم يسمع لهما، أما الآن فاستجاب لهذه الفينيقية الغريبة العديمة المقام. قد رأينا فيما سبق تلاميذ كثيرين في وطن المسيح يرتدُّون عنه. لكن تلك الخسارة - وإن كان ظاهرها عظيماً - لا توازي ربحه هذه النفس النادرة المثال، التي انضمَّت إليه في القرية الوثنية، في نواحي صور وصيداء.

كرازة في المدن العشر

"ثُمَّ خَرَجَ أَيْضاً مِنْ تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، وَجَاءَ إِلَى بَحْرِ الْجَلِيلِ فِي وَسْطِ حُدُودِ الْمُدُنِ الْعَشْرِ" (مرقس 7:31).

ثم سافر المسيح من جهات صور وصيداء شرقاً إلى مقاطعة ديكابوليس (أي العشر المدن)، في الجولان. وكانت هذه البلاد عظيمة بالتمدُّن اليوناني، وتجارتها الواسعة. ولم تكن تابعة لحكم هيرودس أنتيباس وسلطته الجائرة، كما كانت بعيدة عن سلطة رؤساء اليهود التي هي أشدُّ خطراً على المسيح. وكان قد قضى قبلاً في هذه المقاطعة ساعات قليلة عندما أخرج الشيطان من "لجئون". وعلى ما نرى أن عمل هذا الرجل أثّر في تلك المقاطعة، حتى لما جاء المسيح وصعد إلى جبل وجلس، جاء إليه جموع كثيرة مع عُرج وعُمي ومشلولين وخُرس وآخرون كثيرون وطرحوهم عند قدمي المسيح فشفاهم.

شفاء الأصم الأعقد

"وَجَاءُوا إِلَيْهِ بِأَصَمَّ أَعْقَدَ، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ. فَأَخَذَهُ مِنْ بَيْنِ الْجَمْعِ عَلَى نَاحِيَةٍ، وَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَتَفَلَ وَلَمَسَ لِسَانَهُ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَأَنَّ وَقَالَ لَهُ: "إِفَّثَا". أَيِ انْفَتِحْ. وَلِلْوَقْتِ انْفَتَحَتْ أُذْنَاهُ، وَانْحَلَّ رِبَاطُ لِسَانِهِ، وَتَكَلَّمَ مُسْتَقِيماً. فَأَوْصَاهُمْ أَنْ لَا يَقُولُوا لِأَحَدٍ. وَلكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا أَوْصَاهُمْ كَانُوا يُنَادُونَ أَكْثَرَ كَثِيراً. وَبُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ: "إِنَّهُ عَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَناً! جَعَلَ الصُّمَّ يَسْمَعُونَ وَالْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ" (مرقس 7:32-37).

ورد بتفصيل من بين حوادث الشفاء في صور وصيدا حادث شفاء أصم أعقد جاءوا به محمولاً، إمَّا لعجزهم عن إفهامه ما يقصدونه له، أو لكونه مختل العقل أو معتل الجسم. فهذا الأصم الأعقد لم يسمع كغيره من المسيح ولا عنه، فقصد المسيح أن يحرك فيه عاطفة الإيمان الضرورية في كل عليل يشفيه. ولكي يكلمه كلاماً روحياً انفرد به عن الجمع، ثم وضع أصابعه في أذنيه كأنه يفتح فيهما باباً للسمع. وتفل ولمس لسانه. بهذه الحركات البسيطة أحيا فيه إيماناً جديداً، وأيّد مبدأ استعمال كل ما يمكن من الوسائط الملائمة.

بقي عليه تحويل أفكار هذا المسكين إلى الإله مصدر كل الخيرات، ليعلم مِنْ حيث يأتي عونه. فرفع يسوع نظره نحو السماء (مظهراً بذلك تعلُّقه الكامل بالآب) و"أنَّ" - لعله جمع في أنّته أنين الخلق أجمع، ورفع شاكياً مصائبهم التي لا تُحصى إلى الآب السماوي، طالباً منه الرحمة لجميع المصابين بالعلل الجسدية، لأنه هو الذي قيل عنه "فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ" (إشعياء 63:9). ثم أمر العليل بلغته الأرامية قائلاً: "إفّثا" أي "انفتح" فانحلَّ رباط لسانه وتكلم مستقيماً. فتمَّ قول النبي "آذَانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّحُ" (إشعياء 35:5).

كانت مناظر الشفاء جديدة عند أكثر هذا الجمهور، وعرفوا أن المسيح من بني إسرائيل وليس وثنياً نظيرهم. وأن آلهتهم التي كانوا يفتخرون بها ويتكلون عليها لا تستطيع شيئاً من هذا الذي كان المسيح يصنعه. فلذلك عندما "تعجبوا وبُهتوا للغاية" صاروا يمجدون المسيح قائلين: "إنه عمل كل شيء حسناً". وهذه الشهادة إنه يعمل كل شيء حسناً يقدمها الملايين من الناس الذين على توالي الأجيال والقرون، يأتون إليه ويتخذونه لأنفسهم المخلص والمدبّر في حياتهم اليومية.

إطعام أربعة آلاف وثني

"فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ إِذْ كَانَ الْجَمْعُ كَثِيراً جِدّاً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ، دَعَا يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ وَقَالَ لَهُمْ: "إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ، لِأَنَّ الْآنَ لَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَإِنْ صَرَفْتُهُمْ إِلَى بُيُوتِهِمْ صَائِمِينَ يُخَوِّرُونَ فِي الطَّرِيقِ، لِأَنَّ قَوْماً مِنْهُمْ جَاءُوا مِنْ بَعِيدٍ". فَأَجَابَهُ تَلَامِيذُهُ: "مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هؤُلَاءِ خُبْزاً هُنَا فِي الْبَرِّيَّةِ؟" فَسَأَلَهُمْ: "كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟" فَقَالُوا: "سَبْعَةٌ". فَأَمَرَ الْجَمْعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الْأَرْضِ، وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَشَكَرَ وَكَسَرَ وَأَعْطَى تَلَامِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا، فَقَدَّمُوا إِلَى الْجَمْعِ. وَكَانَ مَعَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ، فَبَارَكَ وَقَالَ أَنْ يُقَدِّمُوا هذِهِ أَيْضاً. فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا، ثُمَّ رَفَعُوا فَضَلَاتِ الْكِسَرِ: سَبْعَةَ سِلَالٍ. وَكَانَ الْآكِلُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلَافٍ. ثُمَّ صَرَفَهُمْ" (مرقس 8:1-9).

أجرى المسيح معجزة إشباع خمسة آلاف نفس في الجليل - وأجرى معجزة أخرى لإشباع أربعة آلاف نفس في دائرة ديكابوليس أي (المدن العشر) وهي من البلاد الوثنية.

اجتمع الناس هناك من حول المسيح في البرية، وطال اجتماعهم به ثلاثة أيام حتى نفد الزاد، لأن قوماً جاءوا من بعيد. فحمله إشفاقه على تكرار إشباع الجمهور بمعجزة. وإشفاق المسيح هذا يرافق كل فرد من البشر من مهده إلى لحده. كان كلامه الحنون: "لست أريد أن أصرفهم إلى بيوتهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق". لا يسعنا إلا أن نستغرب تكرار التلاميذ اعتذارهم بالعجز في صيف ذات السنة التي في ربيعها أشبع المسيح جَمْعاً أكثر بشيء زهيد من الطعام. غير أن المسيح بكّتهم بعد قليل على نسيان المعجزتين معاً وعدم استفادتهم منهما. فالشكوك الحاضرة تولّد نسيان المراحم الماضية.

شفاء أعمى وثني

"وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ صَيْدَا، فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَعْمَى وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسَهُ، فَأَخَذَ بِيَدِ الْأَعْمَى وَأَخْرَجَهُ إِلَى خَارِجِ الْقَرْيَةِ، وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ هَلْ أَبْصَرَ شَيْئاً؟ فَتَطَلَّعَ وَقَالَ: "أُبْصِرُ النَّاسَ كَأَشْجَارٍ يَمْشُونَ". ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ أَيْضاً عَلَى عَيْنَيْهِ، وَجَعَلَهُ يَتَطَلَّعُ. فَعَادَ صَحِيحاً وَأَبْصَرَ كُلَّ إِنْسَانٍ جَلِيّاً. فَأَرْسَلَهُ إِلَى بَيْتِهِ قَائِلاً: "لَا تَدْخُلِ الْقَرْيَةَ، وَلَا تَقُلْ لِأَحَدٍ فِي الْقَرْيَةِ" (مرقس 8:22-26).

زادت هذه المعجزة في انتشار شهرة المسيح في هذه البلاد الجديدة، فاضطر أن يغادرها تخلّصاً من الازدحام، فدخل السفينة مع تلاميذه وجاء إلى تخوم مجدل ودلمانوثة المجاورة لها. ولما وصل إلى بيت صيدا يولياس، على جانب البحيرة الشرقي، حيث أشبع الخمسة الآلاف، أتوه بأعمى ليشفيه باللمس، فلم يقبل أن يعيّنوا له أسلوب الشفاء. لكنه استجاب طلبهم وشفاه على الأسلوب الذي استحسنه هو. أخرجه إلى خارج القرية، وبينما كان الأعمى ينتظر متحيّراً ماذا يفعل المسيح أو ماذا يطلب منه، تفل المسيح في عينيه ووضع على كل عين يداً، فأبصر الناس كأشجار يمشون - أي أتاه البصر على قدر إيمانه - ولما زاد إيمانه بعد البصر القليل كرر المسيح وضع يديه على عينيه، فأتاه البصر الكامل. وبذلك مثَّل الذين يستنيرون تدريجياً في الأمور الروحية. فإن استعملوا النور القليل الذي لهم، تكون النتيجة ازدياد النور "فَإِنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَيُزَادُ" (متى 13:12).

  • عدد الزيارات: 4544