أقرباء المسيح الحقيقيون
شفاء مجنون أعمى أخرس
"حِينَئِذٍ أُحْضِرَ إِلَيْهِ مَجْنُونٌ أَعْمَى وَأَخْرَسُ فَشَفَاهُ، حَتَّى إِنَّ الْأَعْمَى الْأَخْرَسَ تَكَلَّمَ وَأَبْصَرَ. فَبُهِتَ كُلُّ الْجُمُوعِ وَقَالُوا: "أَلَعَلَّ هذَا هُوَ ابْنُ دَاوُدَ؟" أَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: "هذَا لَا يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إِلَّا بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ". فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: "كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لَا يَثْبُتُ. فَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يُخْرِجُ الشَّيْطَانَ فَقَدِ انْقَسَمَ عَلَى ذَاتِهِ. فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟ وَإِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ، فَأَبْنَاؤُكُمْ بِمَنْ يُخْرِجُونَ؟ لِذلِكَ هُمْ يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ! وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ اللّهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللّهِ! أَمْ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ الْقَوِيِّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ، إِنْ لَمْ يَرْبِطِ الْقَوِيَّ أَوَّلاً، وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ؟" (متى 12:22-29).
جاء الناس للمسيح بمريض مصاب بثلاث علل: كان مجنوناً، أعمى وأخرس. فلما شفاه تماماً من العلل الثلاث، تهلل الجمهور متسائلاً إن كان هذا المحسن المقتدر هو مسيحهم ابن داود. أما الفريسيون والكتبة الذين نزلوا من أورشليم ليراقبوه فلم يقدروا أن يسكتوا على عواطف الحب والاحترام التي بدأت تظهر في الجمهور، فاستعانوا بسطوتهم السياسية ليبعدوا الجمهور عنه، وقالوا إنه آلة في يد "بعلزبول رئيس الشياطين". وأذاعوا هذا الحكم بين القوم على غير مسمع من المسيح. لكن المسيح عالم الخفايا، أدرك ما أذاعوه، وأوضح لهم مرة أخرى طبيعته السماوية في علمه الخفايا، دون أن يرى أو يسمع. فدعاهم إليه وابتدأ يفنّد حكمهم الشرير.
وقد دفع المسيح تهمة شيوخ اليهود له بدفاع مثلث:
لا يمكن أن إبليس يساعد المسيح الذي يقاومه ويخطف من يده فرائسه من البشر. لو أن الشيطان فعل ذلك لسقطت مملكته، لأن انقساماً حدث في بيته. ولا يمكن أن إبليس يُخرج شيطاناً من إنسان، وإلاّ هلكت مملكته. والشيطان لا يفسد عمله في العالم عمداً.
أما الدفاع الذي دافع به المسيح، فهو أن بعض اليهود كانوا يدَّعون أنهم يُخرجون شياطين، فإذا صحَّ الاتهام على المسيح أنه بقوة الشيطان يخرج الشياطين، يصح أيضاً على كل اليهود الذين يقولون أنهم يخرجون شياطين. وعندما يُثبت أولئك كذب كلام شيوخ اليهود، فيكونون القضاة الذين يدينونهم. وعندما يعلن أولئك اليهود أنهم يطردون الشياطين بقوة الله يسكتون شيوخ اليهود.
3 -ثم قال المسيح إن إخراج الشياطين هو من عمل روح الله، الذي يعلن قدوم ملكوت المسيح الجديد. فإن المسيح قد هاجم الشيطان القوي وقيَّده وأخذ فرائسه من بين أسنانه. عندما أخرج المسيح الشياطين من المسكون برهن أنه المخلِّص القوي القادر أن يخلص إلى التمام. فكيف يكون المسيح شريك الشيطان وهو الذي قيده بسلسلة سلطانه؟
أليس غريباً أن الفريسيين رأوا في معجزات المسيح ناحية القوة فقط، ولم يروا فيها ناحية الرحمة؟ عند الشيطان قوة فائقة ولكن بلا رحمة، فكيف أغفل شيوخ اليهود عنصر الرحمة في معجزات المسيح، ولم يفطنوا إلى ما هو ظاهر كعين الشمس، وهو أن طبيعة الشيطان وكل أعماله منافية تماماً لأعمال الرحمة والخير؟ فما أعظم عماهم وهم ينسبون إلى الشيطان الأعمال الخيرية، التي لا يمكن أن يقوم بها إلا صانع الخيرات!
الحياد في الدين مستحيل
"مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لَا يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ" (متى 12:30).
بعد أن شرح المسيح أن معجزاته هي من عند الله، أثبت أننا لا يمكن أن نقف موقف الحياد في الدين، فكل إنسان يكون في صف المسيح أو ضده. إن الذي لا يعمل أعمال الله، فهو من إبليس. فهو لا يجمع معه بل يفرق، لأن الجميع أصلاً في خدمة عدوه إبليس، ولا يكونون قد تركوا خدمته الطبيعية فيهم إلا بانتقالهم عمداً إلى خدمة المسيح.
في العالم الروحي مملكتان فقط، والحرب بينهما لا تهدأ ولا تنتهي. لا صلح ولا هدنة بين هذين الضدين. مملكة الله (مملكة النور والحق والبر) ومملكة الشيطان (مملكة الظلمة والبُطل والإثم). وموقف الحياد فيهما مستحيل على كل إنسان.
لم يفعل المسيح معجزاته إلا بقوة الروح القدس الذي لم يعطَ بالكيل بل بفيضان. وكان هذا الروح دائماً يقود الإنسان يسوع المسيح ويقويه. ولقد أهان شيوخ إسرائيل الروح القدس إذ نسبوا فعله إلى بعلزبول، فأدانهم المسيح بسبب إضلالهم للشعب. لقد سبق أن حكم الرؤساء على المسيح حكماً ظالماً لما قال للمفلوج: "مغفورة لك خطاياك" - وها هو المسيح الآن يثبت عليهم حكماً عادلاً بأنهم جدفوا في ما افتكروه وقالوه في أمر إخراج الشياطين.
في قلب حكم المسيح الصارم هذا على الرؤساء، أعلن أعظم تعزية لعالم الخطاة وهي أن الغفران الإلهي يشمل جميع الخطايا، مهما كان جُرمها، متى تقدَّم الخاطئ في توبة حقيقية مع إيمان. لم يبق لأعظم الخطاة عذر يعطلهم عن الخلاص من الخطايا ونتائجها، ولم يبق موجب لليأس لأي خاطئ تفاقمت شروره وأحب أن يقدم التوبة ويطلب الغفران. ويؤيد كلام المسيح هذا قول الله على فم النبي إشعياء: "هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ الرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَالْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَالثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَالدُّودِيِّ تَصِيرُ كَالصُّوفِ" (إشعياء 1:18).
التجديف على الروح القدس
"لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ، وَأَمَّا التَّجْدِيفُ عَلَى الرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَرَ لِلنَّاسِ. وَمَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ابْنِ الْإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ، لَا فِي هذَا الْعَالَمِ وَلَا فِي الْآتِي" (متى 12:31، 32).
أظهر المسيح لرؤساء اليهود وللعالم، نوعاً واحداً من الخطايا يُستثنى من رجاء الغفران، وهو التجديف على الروح القدس، ذلك أن التوبة الحقيقية هي بفعل هذا الروح القدس. فالذي يهين الروح القدس يمنع فعله فيه ويحرم نفسه الواسطة الوحيدة للتوبة والغفران الذي يتبع التوبة. وكل من يخاف التجديف على الروح القدس يبرهن برهاناً قاطعاً أنه لم يجدف، لأن الذي يجدف على الروح القدس يفقد تماماً كل شعور روحي، ويضيع منه كل رجاء بالغفران، لأن الرجاء بتوبته مفقود، لعدم مبالاته كلياً بهذه الأمور، إذ أن ضميره قد مات، فرفض التوبة عن عمد، وأصر أن يختار الظلمة، إلى أن تركه الروح الإلهي لقساوة قلبه.
في كلام المسيح عن التجديف على الروح القدس، ودرجة شر ذلك، إثبات لحقيقة شخصية ذلك الروح، وإثبات لحقيقة التثليث في الله الواحد.
من فضلة القلب يتكلم الفم
"اِجْعَلُوا الشَّجَرَةَ جَيِّدَةً وَثَمَرَهَا جَيِّداً، أَوِ اجْعَلُوا الشَّجَرَةَ رَدِيَّةً وَثَمَرَهَا رَدِيّاً، لِأَنْ مِنَ الثَّمَرِ تُعْرَفُ الشَّجَرَةُ. يَا أَوْلَادَ الْأَفَاعِي! كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِالصَّالِحَاتِ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ؟ فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ الْفَمُ. اَلْإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنَ الْكَنْزِ الصَّالِحِ فِي الْقَلْبِ يُخْرِجُ الصَّالِحَاتِ، وَالْإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنَ الْكَنْزِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشُّرُورَ. وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَاباً يَوْمَ الدِّينِ. لِأَنَّكَ بِكَلَامِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلَامِكَ تُدَانُ" (متى 12:33-37).
نبَّه المسيح أفكار سامعيه إلى أن الكلام ثمر الأفكار، ولا يصلح الكلام إلا إذا صلُحت الأفكار أولاً. لا تقدر أفكار الرؤساء الشريرة الكاذبة أن تأتي بكلام صالح، ولذلك فإنهم يستحقون اللقب الذي رشقهم به المعمدان في أيام سطوته، وكرره المسيح بتسميتهم: "أولاد الأفاعي". كان سمُّهم موروثاً، فهو لهذا السبب أصعب وأردأ. في هذه القرينة لفظ المسيح بحكمة جوهرية ثمينة. قال: "من فضلة القلب يتكلم الفم". وعلّم أنه حتى على الكلمة الواحدة البطالة يجري الحساب يوم الدين، لأنها تكفي للدلالة على حالة القلب الفاسدة، التي هي الأساس الحقيقي للدينونة.
اليهود يطلبون معجزة
"حِينَئِذٍ قَالَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ: "يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً". فَقَالَ لَهُمْ: "جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلَا تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلَّا آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لِأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَثَلَاثَ لَيَالٍ، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الْإِنْسَانِ فِي قَلْبِ الْأَرْضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَثَلَاثَ لَيَالٍ. رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لِأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ ههُنَا! مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُ، لِأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الْأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ ههُنَا! إِذَا خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الْإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ، يَطْلُبُ رَاحَةً وَلَا يَجِدُ. ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغاً مَكْنُوساً مُزَيَّناً. ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذلِكَ الْإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ. هكَذَا يَكُونُ أَيْضاً لِهذَا الْجِيلِ الشَّرِّيرِ" (متى 12:38-45).
طلب شيوخ اليهود من المسيح آية يتفرجون عليها، فاستحقوا على عماهم الروحي هذا تأنيباً جديداً مُرّاً، إذ قال لهم: "جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي". الجيل فاسق، لأن الفسق الحقيقي الأصلي هو الابتعاد القلبي عن حب الله، والتمسك بحب غيره. والفسق المتعارف بين الناس هو رمز لذلك. يتظاهرون كأنهم مستعدون أن يؤمنوا بالمسيح، إن هو أشبعهم بالآيات مع أن المعجزات التي شاهدوها تزيد عما يحتاجونه ليقتنعوا بأنه مسيحهم المنتظر، وكانت توجب عليهم الإيمان به. أمثالهم كثيرون في كل الأجيال. هؤلاء يعتذرون في رفضهم الدين، بما يسمُّونه النقص في البيّنات، بينما الواقع هو أنهم لا يريدون أن يؤمنوا، ولا يؤمنون ولو زادت البراهين أضعافاً.
وقد أحالهم المسيح على آية يونان النبي المألوفة جيداً عندهم، لأن فيها إشارة نبوية إلى قصده أن يمكث في القبر ثلاثة أيام وثلاث ليال. وقد برهن اقتباس المسيح هذا صدق قصة يونان تاريخياً، فكل ما نعهده في المسيح يكذّب الزعم أنه يتّخذ خرافة يمثّل بها عمله العظيم في موته الفدائي. إذاً قصة يونان والحوت ليست خرافة، لأن المسيح علّق عليها تعليقاً مهماً، فشرح أن الله سيفضِّل في يوم الدين رجال نينوى الوثنيين، وملكة التيمن الوثنية، على هؤلاء المدَّعين أنهم رجال الله، لأن أهل نينوى تابوا عند مناداة يونان، ولأن ملكة التيمن الوثنية آمنت بسليمان وقصدته من بعيد. بينما المسيح الذي هو أعظم جداً من يونان ومن سليمان، ظهر لهم وكلَّمهم بكلام الحكمة السماوية ولم يؤمنوا به.
شبَّه المسيح ذلك "الجيل الشرير الفاسق" برجل خرج منه شيطان كان ساكناً فيه، ثم عاد إليه ترافقه سبعة أرواح أُخر أكثر شراً منه، فهُمْ على زمان المعمدان ذهبوا إليه وقدموا توبة من خطاياهم وقبلوا معموديته، لكن لأنهم لم يؤمنوا بالمسيح، ولم يقبلوا روحه القدس ليسكن فيهم، أبقوا قلوبهم فارغة، فعادت إليهم شرورهم القديمة متجددة أضعافاً. ثم أكّد المسيح أن أواخر الجيل الشرير الذي كان يكلّمه تصير شراً زمن الخراب الهائل والعذاب المخيف الذي سماه المسيح "ضيقٌ عظيمٌ لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن، ولن يكون".
أما الفائدة التي نتعلمها من هذا المثل، فهي أن مجرد ترك الشرور يكون عبثاً لو لم يملأ الإنسان مكانها بالخيرات، التي هي ضد تلك الشرور - وإلا فتعود الشرور القديمة ترافقها شرور جديدة إلى القلب الذي طردها، لأن فراغ القلب مستحيل. وما لم يحل روح الله ويسكن القلب الذي يخرج الشيطان منه، فإن الشيطان يرجع متنشطاً أكثر، ويمتلك القلب امتلاكاً مضاعفاً. والعودة إلى الخطيئة شرٌّ جداً من ارتكابها أولاً.
أقرباء المسيح الحقيقيون
"وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ الْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ. فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: "هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ". فَأَجَابَهُ: "مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟" ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلَامِيذِهِ وَقَالَ: "هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي. لِأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي" (متى 12:46-50).
لما سمع أقرباء المسيح أن الازدحام زاد عليه وعلى من معه، حتى أنهم لم يجدوا وقتاً للأكل، خرجوا ليمسكوه باعتبار أنه "مختل العقل" (مرقس 3:21) وكان الواجب أن يدركوا أن ليس الغيور في الدين هو المختل، بل الفاتر في الدين.
هل يمكن أن نقدّر مرارة الحزن التي تولَّدت في قلب المسيح المحب، عندما جاءت أمه مع إخوته ليحجزوا عليه كمختل، لكنهم لم يقدروا أن يصلوا إليه لسبب الجمع المزدحم من حوله؟ أليس غريباً أن درجة الحماسة والتفاني التي يحسبها الناس نشاطاً، ويمدحونها كحكمة في جمع المال، أو مقاومة الخصوم، أو تحصيل العلوم، يعتبرونها جنوناً إن كانت في خدمة الدين والإصلاح؟ فلما منع الازدحام أقرباء المسيح من الوصول إليه كلَّفوا بعض الواقفين أن يقولوا له: "هوذا أمك وإخوتك واقفون خارجاً يريدون أن يروك، طالبين أن يكلّموك". وكانوا يأملون أن يخرج ليكلّمهم خارجاً، فيسهل لهم أخذه معهم ولو قسراً، ليستعملوا الوسائط اللازمة لشفائه من هذا الاختلال العقلي الذي اتّهموه به ظلماً وجهالة.
وانفتح للمسيح بهذا الطلب باب مناسب ليعلّم أهله، ثم تلاميذه، ثم جمهور سامعيه، أموراً جوهرية، يأمل رسوخها في أذهانهم. علّمهم أنه ليس من هذا العالم، فهو لا يعتبر أحداً من البشر أُمّاً حقيقياً أو إخوة حقيقيين له، كغيره من البشر. فقد زالت العلاقة الوقتية الجسدية مع أهل بيته، وحلّت محلها العلاقة الدائمة الروحية، التي تربطه، مستقلة عن الروابط الجسدية، مع كل الذين يتّحدون به اتحاداً روحياً. أعلن كل هذا في سؤاله للذي كلَّمه: "من هي أمي، ومن هم إخوتي؟" ثم مدَّ يده نحو تلاميذه (من رجال ونساء) وقال: "ها أمي وإخوتي. أمي وإخوتي الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها. لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي".
كانت محبة المسيح لأمه مريم العذراء واحترامه لها ومحبته لإخوته حسب الجسد أشد وأنقى من محبة أي إنسان كان لذويه، فالمسيح مثال الكمال في هذا الأمر، كما في غيره. لكن أمانته وحبه لأقربائه هؤلاء تخضع كل الخضوع لأمانته وحبه للآب الذي أرسله. كما تخضع أيضاً للمحبة الروحية التي تربط أولاد هذا الآب الروحيين معه كإخوة حقيقيين. ومن جواب المسيح هذا نرى أن كل الذين يعملون مشيئة الآب يكونون أقرب البشر إليه وأعزهم عنده.
وللقارئ العزيز أن يتخيل مقدار تعزية رسل المسيح من تأثير هذا الكلام في أيام الاضطهاد المرّ القادم عليهم، الذي سيقاسونه من مبغضيهم. فإن المسيح يُكافئ كل من يصنع مع تلاميذه خيراً، ويعاقب كل من يصنع معهم شراً، حتى ومن يتغاضى عن فعل الخير لأجلهم. فيتحقق معهم قول النبي زكريا: "مَنْ يَمَسُّكُمْ يَمَسُّ حَدَقَةَ عَيْنِهِ" (زكريا 2:8).
رفض المسيح أن ينقاد إلى أهله في حبهم البشري الطبيعي، الممتزج بقصر البصر الروحي، وخرج من البيت وجلس عند البحر، ليسرد سلسلة أمثال تبيّن ماهية ملكوت السماوات
- عدد الزيارات: 6877