الموعظة على الجبل
(متى 5:1-7:28)
بعد أن اختار المسيح تلاميذه، ألقى عليهم عظة فريدة وافية شاملة أبدية، تُعتبر قاعدة المواعظ وخلاصة الدين، وتُسمَّى "الموعظة على الجبل". ألقاها المسيح في مكان مرتفع بقرب كفرناحوم، اتفق أكثر المفسرين على أنه المكان المعروف حالياً باسم "قرون حطين" وهو للجهة الشرقية الشمالية من مدينة طبرية. والموعظة على الجبل هي أهم وأكمل ما ورد من عظات المسيح، كما أنها الأكثر شهرة، والأقرب قبولاً عند أضداد المسيحية من سائر خُطب المسيح.
هذه الموعظة دستور الملكوت الروحي الجديد الذي أنشأه المسيح على أساس النظام القديم الإلهي الذي أُنزل على موسى والأنبياء، وجاء المسيح لا لينقضه بل ليكمله. في هذا الملكوت نرى أن المسيح هو الملك الذي أنبأ الله عنه قبلاً بفم نبيّه داود: "أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي" (مزمور 2:6). فلا بدَّ له من منشور خصوصي يسلّمه لسفرائه الرسل معلناً فيه ما هو جديد في نظام هذا الملكوت، وما هو المعنى الجديد لما حفظ فيه من النظام القديم. فالملك الذي عيَّن رسله، يؤيدهم بقوة خصوصية تمكّنهم من القيام بمهمتهم المتنوعة العجيبة.
قبل الإصغاء إلى كلام المسيح، لنقف قليلاً لنشرح الظروف الخارجية المتعلِّقة بهذه العظة، التي لم تُعْطَ كما أُعطيت الشريعة القديمة، فقد أُعطيت شريعة موسى على جبل سيناء الأجرد، بصوت إلهٍ غير منظور، ومحُوطةٍ بالبروق والرعود والزلازل ولهيب النار المخيفة، بينما حُرِّم على كل حي، سوى موسى الكليم، الدنوّ من هذا الجبل وإلا قُتل رجماً. أما الموعظة على الجبل فأُلقيت على جبل "قرون حطين" الأنيس، في وسط المروج الخضراء، وبين تغريد العصافير الأليفة، وأريج الأزهار الجميلة. والصوت صوت الإله متأنساً متسربلاً بالطبيعة البشرية، محاطاً بتلاميذه، وراءهم جمهور من كل الأنحاء جاءوا لسماع كلامه.
قال اليهود في تقاليدهم إنه عندما يظهر المسيح فإنه يقف على شاطئ البحر عند مدينة يافا، ويأمر البحر أن يسلِّم ما فيه من الكنوز، فيقذف البحر أمام قدميه الجواهر الثمينة والكنوز التي دُفنت في قاعه، فيُلبِسُ المسيح تابعيه الملابس الفاخرة والحجارة الكريمة، ويطعمهم منّاً سماوياً يفوق حلاوة ولذة المن الذي أكله آباؤهم أربعين سنة في البرية. هذا تصوير وهميٌّ لمجيء مسيح وهمي.
أفلَم تكن الحقيقة التي نحن بصددها أجمل وأكمل؟ هل من جواهر في قاع البحر تساوي جواهر التعليم الروحي الجوهري؟ هل من حُلل أفخر من حلل الخصال الحميدة المذكورة في وعظه والظاهرة في مثاله؟ هل في الأمر للبحر أن يقدم ما فيه سطوة وهَيُبة كالتي في الأمر للشياطين أن تخرج من الناس، وللموتى أن تحيا، وفي الأمر الذي يمنح غفران الخطايا لتابعيه.
لا ريب في أن كل درر تعاليمه ليست جديدة في مسامع البشر. كان قد سبق عند اليهود كثير، وعند الأمم قليل من التعاليم المشابهة لها، لكن هذه السابقة كانت كجسم آدم الجميل، عندما جبله الرب من التراب قبل أن قام حياً، بينما تعاليم المسيح أشبه بجسم آدم بعد أن نفخ الخالق نسمة الحياة.
"وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلَامِيذُهُ. فَعَلَّمَهُمْ قَائِلاً: "طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لِأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. طُوبَى لِلْحَزَانَى، لِأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ. طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لِأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الْأَرْضَ. طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لِأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ. طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لِأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ. طُوبَى لِلْأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لِأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللّهَ. طُوبَى لِصَانِعِي السَّلَامِ، لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللّهِ يُدْعَوْنَ. طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لِأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ. اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لِأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هكَذَا طَرَدُوا الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ" (متى 5:1-12).
بداية الموعظة: طوبى
صعد المسيح إلى الجبل. ولما جلس تقدم إليه تلاميذه، فعلمهم قائلاً: "طوبى". كان روح الشريعة القديمة ظاهراً في القول: "مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لَا يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ" (غلاطية 3:10) وفي اللعنات المفصَّلَة التي نودي بها على جبل عيبال. أما الشريعة الجديدة فقد أعلن المسيح روحها في الآية الشهيرة: "لِأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ" (يوحنا 3:16). استحسن المسيح أن يكون استهلال شريعته كلمة "طوبى"، وهي الكلمة التي استهلَّ بها جده داود بعض مزاميره الفائقة الشهرة والجمال.
افتتح المسيح وعظه، لا بالوصايا والوعيد، بل بالتهنئة، لأنه أتى من عند الآب لكي يردَّ للبشر سعادة فقدوها بسبب الخطيئة، فجعل الفرح من أهم أركان ملكوته، وجمع في كلمة "طوبى" التهنئة والفرح والسعادة، لأنه يتكلم عن الطوبى الحقيقية لا الوهمية. ففي يومنا هذا نرى أن مبادئ ملكوته الجديد قد رسخت في العالم، وأنها تتسلَّط تدريجياً قرناً بعد قرن من يوم ظهورها إلى الآن، فقد أجمع البشر وعلماؤهم على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، بأن شريعة المسيح أسمى كل ما ظهر في تاريخ الإيمان.
نرى في سلسلة التطويبات التي أتت في مقدمة هذه العظة أمراً يجب الانتباه الخصوصي إليه، وهو ما أتى قديماً في القول الإلهي: "لأن أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي يقول الرب" (إشعياء 55:8). فمن أول أعمال المسيح أنه نقض الآراء الدينية الباطلة السائدة في ذلك الزمان، ونفى الخطأ في تعاليم رؤساء الدين اليهودي في زمانه.
طوبى للمساكين
الطوبى الأولى تقول: "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات" وهي تتحدث عن أشخاص غير الذين ظنَّهم أهل ذلك الزمان أصحاب ملكوت السماوات، فهذه الحجة للتطويب لا يصدقها سامعوه، لأنهم يحسبون أن في مقدمة أصحاب السعادة رؤساء الدين من كهنة وكتبة وفريسيين (أي الأغنياء في المنصب الديني). لهؤلاء يكون القول الأول والمنفعة الكبرى في الملكوت الزمني المجيد الذي يقيمه المسيح متى جاء. لكن المسيح يرى أن ملكوت السماوات ليس لأولئك وأمثالهم، بل للمساكين بالروح، لأن هؤلاء هم الذين يملكون مع المسيح. كان المسيح قد استشهد في عظته الشهيرة المختصرة في الناصرة بالنبوة القائلة فيه: "الرب مَسَحَنِي لِأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ" (لوقا 4:18) ولهذا خصص تطويبه الأول للمساكين بالروح.
طوبى للحزانى
الطوبى الثانية أعطاها للذين يتمتعون بتعزيات الحياة في وسط مصائبها ويفرحون بعد البكاء. ولا خلاف بين المسيح وسامعيه في هذا القول، لكنهم يخصصون هذه التعزيات للأغنياء، الذين يدفعون عنهم المصائب بمعاونة ذويهم، ويتعزون بكثرة الأصدقاء. أما فهو فخصصها للباكين من الويل والشقاء. التعزية الإلهية هي للذين قد عُفي عن إثمهم، وقد قبلوا من يد الرب ضعفين عن كل خطاياهم (إشعياء 40:2).
وطوبى للودعاء
الطوبى الثالثة هي للذين يرثون الأرض. نعم ومن هم؟ حسب رأي سامعيه هم أصحاب النفوذ، الذين بدهائهم يسيطرون على البشر، وبمهارتهم يوسّعون أملاكهم ويزيدون ثروتهم. أليس هؤلاء هم الذين يرثون الأرض؟ أما المسيح فيرى أن الذين يرثون الأرض هم الودعاء. في ملكوت المسيح ليس المهوب بل المحبوب هو الذي يرث الأرض. رأى هذه الحقيقة داود النبي فقال: "بَعْدَ قَلِيلٍ لَا يَكُونُ الشِّرِّيرُ. تَطَّلِعُ فِي مَكَانِهِ فَلَا يَكُونُ. أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الْأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلَامَةِ" (مزمور 37:10، 11).
طوبى للجياع والعطاش
الطوبى الرابعة هي نصيب الشباعى. هنا أيضاً اتفاق بين المسيح وسامعيه. لكن من هم الشباعى؟ عند سامعيه هم الأغنياء في المال، الذين لا يشتهون أمراً إلا ويأتيهم المال به. هم الذين لا يعرفون من الجوع إلا اسمه. إنما حسب رأي المسيح، هم الذين لا يبالون بالغنى المادي، ولا يشتهون كثيراً خيرات هذا العالم، بل يجوعون ويعطشون إلى البر السماوي لأجل نفوسهم ولأجل من حولهم. في ملكوت المسيح هؤلاء هم الذين يشبعون. وقد قال نبي الله إشعياء: "هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: "هُوَذَا عَبِيدِي يَأْكُلُونَ وَأَنْتُمْ تَجُوعُونَ. هُوَذَا عَبِيدِي يَشْرَبُونَ وَأَنْتُمْ تَعْطَشُونَ" (إشعياء 65:13).
طوبى للرحماء
الطوبى الخامسة خصَّها للرحومين، الذين ينالون من الله الرحمة ومن الناس المراعاة. لكن هل هم الأغنياء في السلطان، أي الملوك والحكام المرعيو الجانب، السالمون من المظالم؟ وهل هم الذين يرغمون الناس على مراعاتهم بسطوتهم؟ وبقوتهم يخدمون المصالح الدينية الخارجية، وبذلك يكسبون عند الله أيضاً المراعاة؟ يقول المسيح إن الذين يُرحمون هم اللطفاء لا المتجبِّرون. هم الذين يراعون الناس لا الذين يراعيهم الناس. هم الذين يخضعون للآخرين لا الذين يُخضِعونهم. في ملكوته ينال الرحماء الرحمة لا العتاة. قال الحكيم سليمان: "اَلرَّجُلُ الرَّحِيمُ يُحْسِنُ إِلَى نَفْسِهِ" (أمثال 11:17). وقال أبوه داود لِلَّه: "مَعَ الرَّحِيمِ تَكُونُ رَحِيماً" (مزمور 18:25).
طوبى للأنقياء القلب
السبب المعطى للطوبى السادسة هو أصعب الكل وأبعدها عن التصديق. قال: "طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله". أليس هذا مستحيلاً في هذه الدنيا؟ أليس هو العلي الذي يرى ولا يُرى؟ ألم يقل المسيح سابقاً: "اَللّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ؟" (يوحنا 1:18) مع كل ذلك نعلم أن اشتهاء الإنسان معاينة الله أمر فطري، وأشرف ما هو فطري في الإنسان.
حسب تصوُّرات الذين خاطبهم المسيح إن الذين يعاينون الله في هذه الدنيا، أو في الآخرة هم الأغنياء في العلم، ولا سيما المتعمَّقين في الدروس اللاهوتية، لأن لهم البصيرة الكافية ليروا من الأمور الإلهية ما لا يراه غيرهم. لكن المسيح يرى أن أنقياء القلب هم الذين يعاينون الله. لا أنقياء العين بل أنقياء القلب. العين التي تستطيع رؤية الله إذاً ليست عين العقل الذكي بل القلب النقي. قال داود النبي: "لِأَنَّ الرَّبَّ عَادِلٌ وَيُحِبُّ الْعَدْلَ. الْمُسْتَقِيمُ يُبْصِرُ وَجْهَهُ.. مَنْ يَصْعَدُ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ، وَمَنْ يَقُومُ فِي مَوْضِعِ قُدْسِهِ؟ اَلطَّاهِرُ الْيَدَيْنِ، وَالنَّقِيُّ الْقَلْبِ" (مزمور 11:7 و24:3، 4).
طوبى لصانعي السلام
الطوبى السابعة للذين يُدعون أبناء الله. حسب زعم سامعي المسيح هم أبناء إبراهيم، سلالة النسل المختار، الداخلون بالاختتان في عداد شعب الله من بني إسرائيل. هم الذين يقصدون إثارة الحرب على الرومان ليحرروا الأمة المقدسة من نيرهم، حتى لا يكون عليهم ملكٌ إلا الله. هم الذين يقصدون أيضاً محاربة الشعوب الأخرى لكي يُكرهوهم بالسيف على اتِّباع الدين الحق، وترك العبادات الوثنية، ويجعلونهم خُدَّاماً عند شعب الله الخاص الأصلي. لكن المسيح يرى أبناء الله هم الذين يصنعون في العالم سلاماً لا حرباً، لأن السلام هو من أركان ملكوته الرئيسية. هم الذين يصنعون سلاماً مع الله بالطاعة. وسلاماً مع الناس بالمحبة. قيل في الإنجيل إن المسيح جاء ليخلق منّا إنساناً واحداً جديداً. صانعاً سلاماً (أفسس 2:15) "وَثَمَرُ الْبِرِّ يُزْرَعُ فِي السَّلَامِ مِنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ السَّلَامَ" (يعقوب 3:18).
طوبى للمطرودين
أخيراً يكرر المسيح الطوبى للذين لهم ملكوت السماوات. يظن سامعوه أن ملكوت السماوات، هو للأغنياء في التديُّن الخارجي، الذين يكثرون من الأصوام والصلوات ويقدّمون الحسنات، على شرط أن يكونوا من الجنس المختار الإسرائيلي، الذين يعتقدون أن مسيحهم متى جاء يجعل الشخص الذي كان مجده كنور النجم يصبح كنور القمر، والذي كان مجده كنور القمر يصبح كنور الشمس. ويعود مجد الشعب الإسرائيلي إلى أضعاف ما كان عليه في أفخر أيام عزهم. هذا هو ملكوت السماوات الذي يحلمون به، وهؤلاء هم الذين لهم الملكوت ويستفيدون منه. لكن المسيح يرى أن ملكوت السماوات هو للمطرودين من أجل البر، الذين لأنهم مساكين بالروح، وحزانى، وودعاء، وجياع، وعطاش، ورقيقو الشعور، وأنقياء القلب، ومسالمون، لا يعتبرهم العالم، بل يحتقرهم ويجتنبهم ويخرجهم من دوائره، فيعوِّضهم الرب ملك الملكوت الجديد بإعطائهم إياهم ملكوت السماوات.
تعليق على التطويبات
هذه هي سلسلة التطويبات. لم نجد فيها حتى ولا حلقة واحدة من الثمانية تختص بالطقوس المذهبية، أو تتناول شيئاً من الفرائض الدينية الخارجية. وخلاصتها أن مسكين العالم هو غنيُّ الملكوت، والحزين هو المتعزي، والباكي هو الضاحك، والخاضع للناس هو الحاكم في الناس، والجوعان للبر هو الشبعان، والمعطي هو الذي يُعطَى، والبسيط القلب هو الفهيم، وصانع السلام لا صانع الحرب هو ابن الملك وهو المنصور، والمطرود من وطنه لأجل الله هو صاحب الوطن الثابت.
هذه التطويبات فأس، ضرب المسيح بها أصول شجرة الآمال العالمية عند اليهود، والمتعلقة بمجيء المسيا وملكوته المادي، فالطوبى الحقيقية الدائمة لا تتوقف على الأمور الخارجية الدينية، ولا على النجاح المادي والزمني، بل على الأمور الداخلية الروحية والنجاح الأبدي. لما كلّم المسيح نيقوديموس كان موضوع حديثه الولادة الروحية لدخول الملكوت الروحي، ولما كلّم المرأة السامرية كان موضوع حديثه روحانية الله وملكوته. وفي وعظه على الجبل لا يزال هذا الموضوع شاغله الأول. والحاجة إلى هذا التعليم ليست أقل في يومنا هذا مما كانت في تلك الأيام. ما أبعد هذا عما نشاهده اليوم في كل المذاهب من استيلاء المجد العالمي على أرباب الدين ومعلِّميه، ومن ترويج المقاييس المادية لا الروحية في الدوائر الدينية.
كانت هذه التطويبات مقدمة عمومية لخطاب في صيغة المخاطب، كلّم به المسيح الذين اختارهم ليكونوا رسلاً. وكأنه يقول لهم: لقد تولدتْ فيكم مبدئياً الصفات التي بنَيْتُ عليها التطويبات، وذلك يجعلكم ممقوتين من قومكم الذين تربَّيتم بينهم. فأقول لكم طوباكم أنتم متى عاملوكم على الكيفية التي شرحتُها الآن. فمتى طردوكم وأهانوكم وعيّروكم وأفرزوكم من أجل البر، ومن أجل ابن الإنسان، لا تحزنوا ولا تتكدروا، بل افرحوا وتهللوا. أولاً لأن أجركم في السماء لقاء ذلك يكون عظيماً، ثم لأنكم بذلك تماثلون الأنبياء الأقدمين، فتشتركون في شرفهم الدائم.
أنتم ملح.. أنتم نور
"أَنْتُمْ مِلْحُ الْأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لَا يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلَّا لِأَنْ يُطْرَحَ خَارِجاً وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ. أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لَا يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ، وَلَا يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (متى 5:13-16).
في هذه الكلمات يقول المسيح ربنا لنا: أنتم ملح الأرض وأنتم نور العالم. فإذا رفضكم العالم فإن رفضه لا يفسد ملوحتكم ولا يخفي نوركم. وكما يفعل الملح في الطعام تفعلون أنتم فعلاً إصلاحياً، وإنْ كان خفيّاً، حتى في القوم الذين يريدون أن يهلكوكم. وكما أن طبيعة النور هي الانتشار، هكذا لا بد أن تضيء فضائلكم التي هي ثمر الروح القدس فيكم، فيرى الناس أعمالكم الحسنة ولكن ليس لتمجيدكم أنتم، بل لتمجيد أبيكم الذي في السماوات. وكما أن السراج لا يوقد لكي ينظر الناس إليه، بل لكي ينظروا بواسطته شيئاً آخر أهمَّ منه، هكذا تكونون أنتم. لأن لا قيمة للملح في حدّ ذاته بل في فعله، ولا قيمة للسراج إلا في نوره. ولا قيمة لكم كتلاميذي إلى بأن تصلحوا وتنيروا. قد أقمتُكم لأجل هذا، ليس بين شعب إسرائيل فقط، بل أنتم ملح الأرض بأسرها ونور العالم كله. في شخصكم قبل تعليمكم يظهر الملح والنور، لأن الشخص الحي يفعل ما لا يفعله مجرد التعليم.
يكمل القديم، لا ينقضه
"لَا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الْأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ" (متى 5:17-20).
وهنا يقول لنا المسيح: لا تتوهَّموا أن تعاليمي الجديدة تستخفُّ بالكتاب الإلهي الذي بين أيديكم، لأن زوال السماء والأرض أيسر من زوال أدنى نقطة من نقطِهِ، إلا بعد أن تتم. إني أقصد إثبات الناموس المُنزل على موسى والأنبياء لا إلغاءه. أبدل منه ما هو وقتيّ بعد أن أكمله. أتيتُ لأنقض أعمال إبليس وليس ناموس الله وأقوال الأنبياء، فالناموس في يد الكتبة والفريسيين لا يثمر بالصلاح، فهو كبزر الفاكهة الذي لا يؤكل. وإن مطاليب الناموس، جئت لأبيّن لهم عظمتها فوق ما كانوا يتصوّرون.
شريعة الصلح
"قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لَا تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: رَقَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ. فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لِأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ، فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ. كُنْ مُرَاضِياً لِخَصْمِكَ سَرِيعاً مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، لِئَلَّا يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ، فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَا تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الْأَخِيرَ" (متى 5:21-26).
يقول المسيح هنا: إن الوصية التي تنهَى عن القتل تنهَى أيضاً عن الغضب والنميمة والبُغض. صلاتكم وقرابينكم لا تُقبل بمجرد امتناعكم عن القتل، إذ يجب أن تمتنعوا عن البُغض، فهذا روح الوصية قبل حروفها.
تعلَّمتم أن تتركوا ذبيحة الفصح قدام المذبح وتتوقَّفوا عن تقديمها، لكي ترجعوا وتنزعوا من بيوتكم خميراً غفلتُم عنه. وأنا أعلّمكم أن ترجعوا وتستغفروا الذي أسأتم إليه قبل تقديمكم الصلاة لله.
شريعة الطهارة
"قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لَا تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلَا يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلَا يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ" (متى 5:27-30).
كم من أناس يعترفون بخطاياهم الفعلية ولا يحسبون حساباً لخطاياهم الفكرية، ناسين أن النظرة الشهوانية هي الزنى بعينه، لأنها سببه وأصله - إنني أشدد على استئصال جرثومة الخطأ من أسسها، ومن كل ما يؤدي إلى ارتكابها.
لا تنسوا أنه خيرٌ لكم أن تخسروا أثمن ما عندكم ولو كان أحد أعضاء جسدكم، حتى العين أجملها وأعزّها، من أن تخسروا الرضى الإلهي فهو حياتكم وسماؤكم، وأن تجلبوا عليكم الدينونة الإلهية التي هي موتكم وجحيمكم.
شريعة الطلاق
"وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلَاقٍ وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلَّا لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِ" (متى 5:31، 32).
أجاز موسى الطلاق بسبب ما كانت حال قومه من البداوة والقساوة، ولم يستحسن الله ذلك، لأنه يكره الطلاق. ولما كان يكرهه يكون ممنوعاً، ولذلك حُرِّم الطلاق في العصر المسيحي.
كان اليهودي يطلق زوجته لأتفه الأسباب، بمجرد صدور كلمة من فمه (تثنية 24:1)، فصعَّب موسى الطلاق وأوصى أن من أراد تطليق إمرأته فليُعطها رغبته في الطلاق مكتوبة.
أما في العهد المسيحي فإني أطهِّر هذه الرابطة الزوجية لتثبت وتدوم. فالمرأة تبقى مرتبطة أمام الله بزوجها الأول.
شريعة الحق
"أَيْضاً سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ:لَا تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لَا تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ، لَا بِالسَّمَاءِ لِأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللّهِ، وَلَا بِالْأَرْضِ لِأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلَا بِأُورُشَلِيمَ لِأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. وَلَا تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لِأَنَّكَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. بَلْ لِيَكُنْ كَلَامُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لَا لَا. وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ" (متى 5:23-37).
عندكم الوصية التي توجب عليكم القيام بالقَسَم. أما أنا فأقول لكم: ليس فقط لا تحلفوا كذباً، بل أيضاً لا تحلفوا صدقاً. انزعوا من حديثكم كل يمين مهما كان بسيطاً وصادقاً. الحلف في الحديث لا محل له إلا ليبيّن أن بعض هذا الحديث صادق فيؤيد باليمين، وبعضه غير صادق فيُترك دون يمين. أما الصادق الوقور فيكتفي بقوله: "نعم نعم ولا لا" عالماً أن "ما زاد على ذلك فهو من الشرير".
شريعة الحقوق
"سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لَا تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الْأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الْآخَرَ أَيْضاً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ" (متى 5:38-42).
أيضاً تعوّدْتم تحليل الانتقام استناداً على النظام الموسوي الذي يقول: "عين بعين وسن بسن". لكن هذا القول قاعدة العلاقات الرسمية المدنية لا الشخصية.
أجعل لكم تعليماً جديداً، بأن أنزع روح الانتقام ممن يسيء إليكم. تمنع الأحكام المدنيّة الانتقامات الشخصية، وتوكلُ إلى الحكَّام معاقبة المذنبين لردعهم. فالأحكام الدينية تمنع الانتقام طاعة لقول الإنجيل: "لَا تَنْتَقِمُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الْأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَاناً لِلْغَضَبِ، لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: "لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ" (رومية 12:19) فالتنازل عن حقوقكم الشخصية لمن يقصد أن يسلبها منكم أفضل من خِصامكم لأجلها.
شريعة الحب
"سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الْأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الْأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. لِأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ" (متى 5:43-48).
أنتم تظنون أنه جائز لكم أن تبغضوا الذي يبغضكم، وتعادوا الذي يعاديكم. لكن روح الناموس الداخلي هو روح واضع الناموس، الذي يشرق شمسه وينزل مطره على أعدائه كما على أولاده. فإن عاديتُم من عاداكم وأحسنتُم إلى الذين يحسنون إليكم، لا تكونون أفضل من عبدة الأصنام والكفرة. فلا تقابلوا شراً بشر. إن أحسنتم إلى من يسيء إليكم، تخمدون جذوة العداوة، وتطفئون لهيب البغض. اتخذوا الكمالات الإلهية قاعدة لحياتكم فتكونون حقاً (ليس فقط اسماً) أولاد الآب السماوي. ولكن اعلموا أن كل الوصايا تُحفظ حقاً في القلب حفظاً روحياً قبل حفظها حرفياً في الخارج. وإلا فحفظها الخارجي لا يُعتبر عند الله.
الصَّدقة والصوم
"اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلَا تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الْأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلَا تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً".
"وَمَتَى صُمْتُمْ فَلَا تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لَا تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِماً، بَلْ لِأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً" (متى 6:1-4 ، 16-18).
نظام الملكوت الجديد الذي أدخلتكم فيه لا يلغي الفروض الدينية الموحى بها من الله، كالصدقة المتجهة نحو القريب، والصلاة المتجهة نحو الله، والصوم المتجه نحو الذات. لكن يُشترط في هذه الفرائض أن لا تُحفظ أمام الناس فقط، أو تؤخذ وسيلة لأجل الافتخار والتعظُّم، وربح مدح الآخرين، وآلة للرياء الكريه. فإن كنتم لا تتصدَّقون وتصلّون وتصومون في الخفاء، لا تُحسب صدقاتكم وصلواتكم وأصوامكم الجهارية عند الله، لأنكم إذ ذاك تكونون مرائين. لا تتشبَّهوا بمعلمي الدين ورؤسائه عندكم، لأنهم مراؤون، واصطلاحاتهم في هذه الأمور مثل نواياهم، ومكروهة عند الله. لا تنقادوا إلى ضلالة الأمم كما انقاد رؤساؤكم فيتوهمون أن مجرد تكرار الصلاة تسرُّ الإله الذي يصلُّون إليه.
الصلاة
"وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلَا تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً. وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لَا تُكَرِّرُوا الْكَلَامَ بَاطِلاً كَالْأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلَامِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. فَلَا تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لِأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ".
ف"َصَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الْأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلَا تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لِأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، وَالْقُّوَةَ، وَالْمَجْدَ، إِلَى الْأَبَدِ. آمِينَ".
"فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ، لَا يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلَّاتِكُمْ" (متى 6:5-15 ).
الصلاة هي أهم فرائض الدين، فلكي تعرفوا روح الصلاة المقبولة ومضمونها ونسقها، أعطيكم نموذجاً تقيسون به صلاتكم على الدوام.
إن أمعنتم النظر في هذه الصلاة النموذجية تلاحظون أن روح المصلي يكون روح البنوّة لله، لأنه يخاطب الله كأب، ويعظم المحبة المتبادلة بين هذا الآب السماوي وأولاده، ويعظّم أيضاً الطاعة له، والاتكال عليه لأجل احتياجاته كلها. وهو يعظم العلاقة المتبادلة بين أولاده. حتى أن ما يريده المصلي لنفسه يريده للآخرين أيضاً، لأن روح البنوة لله يستلزم روح الأخوَّة للناس. فيصلي المسيحي لا "أبي" بل "أبانا". ولا يطلب غفران الآب لنفسه إلا ويقدم لإخوته غفرانه على سيئاتهم نحوه. فأقصد أن أعلّمكم جيداً حقيقة أبوية الله للبشر وأخوَّة البشر لبعضهم البعض، لأن معلمي الدين قد أهملوا هذه الحقيقة الجوهرية ولم يوضحوها في الماضي كما يجب.
ترون في هذه الصلاة روح الدالة البنوية، وروح المحبة الأخوية، كما ترون روح العبادة التقوية، لأن يوم الله وكتابه وبيته ورجاله (خدام الدين) وكنيسته كلها مقدسة، بسبب نسبتها إليه. وقد ذكرت لكم في هذه الصلاة طلب النجاة من الشرير. هذا الطلب هو اعترافٌ بقوة الشيطان العظيمة وسطوته على البشر، وبأن لا نجاة منه لأحد إلا بقوة إلهية تنقذهم. وأعلنت لكم جلياً في خاتمة هذه الصلاة، كما في فاتحتها، أن على المصلي أن يقدّم أمور الله على أموره، لأن الله هو الكل وفي الكل، فله وحده الملك والقوة والمجد.
علَّمتكم في هذه الصلاة اختصار الصلاة وبساطتها، لأن روح النبوَّة والأخوَّة والعبادة فيها تقضي بذلك. وبما أنني لم أدخل بعد على وظيفتي الشفاعية، فلم اضع اسمي فيها، مع أنه بعد صعودي تقدّمون صلاتكم إلى الآب باسمي. ولم أذكر فيها الروح القدس، لأنه لم يُعْطَ بعد للناس على كيفية تستطيعون الآن أن تفهموا ما يُقال فيه.
المؤمن وحب المال
"لَا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الْأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لَا يُفْسِدُ سُوسٌ وَلَا صَدَأٌ، وَحَيْثُ لَا يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلَا يَسْرِقُونَ، لِأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً. سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِماً، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلَاماً فَالظَّلَامُ كَمْ يَكُونُ!
لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الْآخَرَ، أَوْ يُلَازِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الْآخَرَ. لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللّهَ وَالْمَالَ" (متى 6:19-24).
أحذركم كل التحذير من حب المال، وأذكركّم أن كنوز العالم فانية، ولن تبقى إلا الكنوز السماوية. وما أسعد من تعلق قلبه بالسماء لا بالأرض، فلذلك يتسهَّل له الصلاح. وأما إن ساد في قلبه حب المال، فيستحيل عليه أن يحب الله كما يجب. والكنز في السماء هو ثمر ما يعمله الإنسان ويبذله في سبيل خير الناس، حباً بالله.
لأنكم نور العالم يستنير بكم غيركم من البشر، كما يستنير بواسطة العين الصحيحة. فإن فقدتم أنتم الصلاح، فكم بالحري يفقده الذين ليس لهم وسائط الصلاح مثلكم؟ ومن الأمور المطلوبة منكم لتنيروا على الآخرين أن تتكلوا تماماً على الآب السماوي في أمر حاجاتكم الزمنية. إن عناية الله بمخلوقاته واضحة في طيور السماء التي ترفرف وتغرد فوق رؤوسكم، وفي الأزهار التي تزهو تحت أقدامكم. فكيف لا يعتني الله بالذين خلقهم على صورته، وهم أولاده؟ فإن كل ما في الجو من فوق، وكل ما على الأرض من أسفل، يشهد فعلاً لعنايته بما قد خلق. وما دام يعتني بأدناها، كيف يمكن أن يهمل أسماها؟ الذي وهب الجسد العجيب لا يبخل بالكساء الزهيد، والذي وهب الحياة الثمينة لا يتأخر عن تقديم القوت الرخيص لأجل حفظها. صحيح أن الإنسان يجب أن يهتم بالحاجيات الجسدية، لكنه يجب أن يفعل ذلك وهو متكل على عناية الآب السماوي، وهكذا لا يكون نهباً للقلق، ويجيء اهتمامه بالماديات بعد اهتمامه بالأمور الروحية - لا قبلها ولا فوقها - فما هي فائدة الإنسان لو لم تساعده العناية الإلهية؟ فإذاً ملجأكم في الدرجة الأولى هو هذه العناية لا اهتمامكم أنتم. وكيف تتفوَّقون على غير المؤمنين إن كنتم تهتمون بالدنيويات كما يهتم الوثنيون؟ أقدِّم لكم أعظم نصيحة عندي وأحلاها: "أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تُزاد لكم".
لا تدينوا
"لَا تَدِينُوا لِكَيْ لَا تُدَانُوا، لِأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلَا تَفْطَنُ لَهَا؟ أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لِأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ. يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ! لَا تُعْطُوا الْمُقَدَّسَ لِلْكِلَابِ، وَلَا تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ، لِئَلَّا تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ" (متى 7:1-6).
ثم أوصيكم أن لا تكونوا من الذين يدينون بعضهم بعضاً، فالحكمة تنهَى عن هذا، لأن الناس يعاملونك كما تعاملهم. فالذي يكشف عيوب الناس تكشف الناس عيوبه وهلم جراً. الميّال إلى دينونة الآخرين يكون مدفوعاً من الافتخار والانتقام، فيُذمُّ افتخاراً أو انتقاماً. والأغلب أنه ظالم في الحالتين، لأنه يرى عيوب الآخرين، لا كما هي، بل مكبّرة. ويرى عيوبه هو لا كما هي، بل مصغَّرة. والمُخطئ لا يقدر أن يصلِح الأقل عيباً منه، فيصحُّ القول: "يا مرائي، أخرج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جيداً أن تخرج القذى الذي في عين أخيك".
أسألوا تعطوا
"اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزاً، يُعْطِيهِ حَجَراً؟ وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً، يُعْطِيهِ حَيَّةً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلَادَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ. فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ، لِأَنَّ هذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالْأَنْبِيَاءُ" (متى 7:7-12).
أوصيكم أن تكونوا حكماء مميَّزين في أحاديثكم الدينية، لئلا تعرِّضوا كلامكم للهزء والاحتقار بغير فائدة، فتكونون كمن يعطي المقدس للكلاب ويطرح جواهره أمام الخنازير. لكل مقام مقال، فيجب أن يناسب التعليم المقام الذي يُقدَّم فيه وأحوال السامعين. أؤكد لكم أن الآب السماوي مستعد لاستماع صلواتكم واستجابتها. إن كان الأب البشري وهو خاطئ لا يتأخر عن طلب أولاده، إن كان هذا خيراً لهم، ويُخلِص في ما يمنحه، فكيف يمكن أن يتخلَّى الآب السماوي الكامل عن تضرُّعات طالبيه، أو يهبهم شيئاً ليس هو الخير الحقيقي؟ وأول ما يريد أن يهبه هو الروح القدس للذين يطلبونه.
وأسلمكم أيضاً القاعدة المسمَّاة الذهبية، التي لا يمكن المبالغة في جمالها ومفعولها، فهي تحل المشكلات الأخلاقية للذين يمارسونها، وتُغني عن ألوف الوصايا المفضَّلة لأنها أفضل منها. هذه القاعدة هي: "كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم. لأن هذا هو الناموس والأنبياء". نعم قد ورد في أقوال القدماء ما يقارب هذا القول، ويظن البعض أن هذه القاعدة تكفي لتحيط بالواجب الديني تماماً. لربما كان زَعْمهم يصحّ لو أنه لا يوجد إله. لكن بما أن اللّه موجود، لا يكون القيام بالواجب نحو الناس إلا القسم الأصغر في الدين، لأن القسم الأعظم هو القيام بالواجب من نحوه تعالى.
باب ضيق وباب واسع
"اُدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ، لِأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ!
"اِحْتَرِزُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الْحُمْلَانِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ! مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَباً، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِيناً؟ هكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَاراً رَدِيَّةً، لَا تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً رَدِيَّةً وَلَا شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً جَيِّدَةً. كُلُّ شَجَرَةٍ لَا تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. فَإِذاً مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ.
"لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الْإِثْمِ" (متى 7:13-23).
إني أضع أمامكم طريقين يسير جميع الناس في إحداهما. الأولى ضيقة في بدايتها رحبة في نهايتها، والثانية بالعكس، رحبة في بدايتها ثم ضيقة جداً في نهايتها، فأنصح لكم أن تختاروا الطريق الضيقة في هذه الدنيا والعامرة بالمجد في الآخرة. ولا تقتدوا - بأكثر البشر - لأنهم يفعلون بالعكس، إذ يختارون ما هو راحة حالية غاضين النظر عن العذاب الأبدي.
وأنبّهكم إلى العلاقة بين الشجر والثمر، والتي تستلزم أن يكون الثمر من جنس الشجر، فأعمال الإِنسان لا تكون إلا تابعة لحالة قلبه الداخلية. يجوز أن يدَّعي إنسان أنه نبي مرسَل من اللّه، وأنه يتكلم بكلام الأنبياء، لكن بمرور الأيام لا بد أن تثمر طبيعته في أعماله. ولا بد أيضاً من القَطْع والإِلقاء في النار لكل من يثمر ثمراً رديئاً. ولا يوقف هذا القطع احتجاج الذين يتستّرون تحت ثوب الرياء، متظاهرين بالتديُّن، متكلين على حسناتهم الخارجية، وهم يهملون الوصايا الإِلهية التي لا تروق لهم، أو التي تخالف أغراضهم. قد يكونون من الذين تنبأوا باسمي، وصنعوا معجزات كثيرة حتى إخراج الشياطين باسمي، وهم يعترفون بي بأفواههم، وينادونني: "يا رب، يا رب". لكنهم لم يفعلوا إرادة أبي الذي في السموات. فسأجيب على استنجادهم في يوم الدين: "إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم".
العاقل والجاهل
"فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الْأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ، لِأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى الصَّخْرِ. وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَلَا يَعْمَلُ بِهَا، يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِلٍ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الْأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذلِكَ الْبَيْتَ فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيماً!" (متى 7:24-27).
وفي الختام أقدم لكم تشبيهاً مفيداً جداً، لأن الذي يعرف مشيئة اللّه ويعملها يشبه الشخص الذي يضع أساس بيته على الصخرة. والذي يعرف ولا يعمل يشبه الذي يبني بيته على أساس رملي بجانب مجرى ماء، فما دام الجو صافياً والرياح ساكنة، يظهر أن الذي بنى على الرمل هو الحكيم، لأنه استراح من متاعب الحفر ونفقاته، فيهنّئ نفسه ويهنّئه الآخرون. ولكن صفاء الجو وسكون الريح لا يدومان إلى الأبد، فمتى جاء النوء يظهر جلياً من كان الحكيم الذي سَلِم بناؤه. الذي يعرف ولا يعمل يتلذذ حالياً بملذات الدنيا، ويجتنب المصاعب في سبيل البر، لكن متى هبّت رياح الدِّين، ونزل مطر الغضب الإِلهي، وجاءت أنهار عذاب الضمير، وحدث سيل إرسال الخطاة إلى مكانهم في الهلاك "وصدم" هذا الشخص، يسقط حالاً، ويكون خرابه عظيماً. بينما الأول لا يسقط ولا يتزعزع لأنه مؤسس على صخر.
"فَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذِهِ الْأَقْوَالَ بُهِتَتِ الْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ" (متى 7:28 ، 29).
كل من يتأمل بدِقة وإخلاص في نظام الملكوت الروحي هذا، وفي قوة المطاليب الإلهية من الإنسان، ييأس من استطاعته أن يطيع هذه الوصايا. هذا اليأس هو الخطوة الأولى في الخلاص، لأنه يُبعد الإِنسان عن الاتكال الباطل على الخلاص بالأعمال، ويقوده إلى المخلّص الوحيد الذي جعل الإِيمان الحي الحقيقي به شرط الخلاص الكافي والوحيد
- عدد الزيارات: 44262