تعليم المسيح عن السبت
"وَفِي السَّبْتِ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ اجْتَازَ بَيْنَ الّزُرُوعِ. وَكَانَ تَلَامِيذُهُ يَقْطِفُونَ السَّنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ وَهُمْ يَفْرُكُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ. فَقَالَ لَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ: "لِمَاذَا تَفْعَلُونَ مَا لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي السُّبُوتِ؟" فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: "أَمَا قَرَأْتُمْ وَلَا هذَا الَّذِي فَعَلَهُ دَاوُدُ، حِينَ جَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللّهِ وَأَخَذَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ وَأَكَلَ، وَأَعْطَى الَّذِينَ مَعَهُ أَيْضاً، الَّذِي لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلَّا لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ؟" وَقَالَ لَهُمْ: "إِنَّ ابْنَ الْإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضاً" (لوقا 6:1-5).
كان المسيح وتلاميذه يسيرون بين الزروع، فأخذ التلاميذ يقطفون السنابل ويأكلون. لم يكن في هذا العمل خطأ، لأن شريعة موسى كانت تسمح به، إذْ كانت تقول: "إِذَا دَخَلْتَ زَرْعَ صَاحِبِكَ فَاقْطِفْ سَنَابِلَ بِيَدِكَ، وَلكِنْ مِنْجَلاً لَا تَرْفَعْ عَلَى زَرْعِ صَاحِبِكَ" (تثنية 23:25). ولكن لما قطف تلاميذ المسيح السنابل كان ذلك يوم سبت، فاعتبر رؤساء اليهود أن القطف نوع من الحصاد الممنوع في يوم السبت، وأن الفرك هو نوع من الدِّراس ودارس الغلال في السبت ممنوع. لذلك اعتبروا هذا العمل مخالفاً لإحدى وصايا الله العشر التي كُتبت بأُصبع الله على لوحي حجر في الجبل المقدس، ثم سُلِمت لموسى كليم الله بين الرعود والبروق ودخان النار المخيفة بياناً لأهميتها، وتأكيداً لتوقيرها. ولما كانت وصية السبت هي الوحيدة بين العشر التي تختصّ بالطقوس الخارجية، فاق اعتناء الطقسيين بها على اعتنائهم بما بقي من الوصايا، وتوصّلوا إلى مبالغات غريبة في النهي عن العمل في السبت، خرجت على كل ما ورد في الشريعة.
وانتقد الفريسيون عمل تلاميذ المسيح وقالوا له: "اُنظر، لماذا يفعلون في السبت ما لا يحل؟".. وفي ردّ المسيح على رؤساء اليهود، اقتبس لهم ما ورد في التوراة التي كانوا يفتخرون كثيراً بمعرفتهم الدقيقة لنصوصها. فابتدأ بتأنيبهم لأنهم لم يتذكروا ما فعله داود نبيُّهم وملكهم وقائدهم الأعظم بعد موسى-فعندما جاع هو والرجال الذين معه، أكلوا طعاماً لم يكن يحلّ أكله إلا للكهنة فقط، وهكذا خالف داود شريعة الهيكل في استسلامه لشريعة الرحمة لما جاع هو والذين معه. فإن كان الرب لم يبكت داود على ذلك، فقد جاز لابن داود الأعظم أن يسمح لتابعيه أن يقطفوا فريكاً ويأكلوه في السبت.
ثم استشهد المسيح بحادث ثانٍ كان يتجدد كل سبت أمام عيونهم بأوامر إلهية، وليس كالأول بمجرد استحسان رجل من رجال الله، ولذلك فهو أقوى جداً. قال: "أوَمَا قرأتم في التوراة أن الكهنة في السبت في الهيكل يدنسون السبت وهم أبرياء؟". يدنسون السبت أولاً بإيقاد النار لأجل الذبائح، وثانياً بمضاعفة أشغالهم يوم السبت. فإذاً العمل الذي هو خدمة دينية، لا يوافق فقط أن يمارس في السبوت، بل يُضاعف أيضاً.
ثم زاد المسيح على هذا أنه بيّن سلطته الدينية، لأنه أعظم من الهيكل، بل هو رب الهيكل. فإن كانت عظمة الهيكل تجيز تدنيس السبت بالأعمال في خدمته، فكم بالحري يحقّ لرب الهيكل أن يُجيز ذلك، لأن رب الهيكل يكون رب السبت أيضاً وهو ذاته الهيكل الذي "فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللَّاهُوتِ جَسَدِيّاً" (كولوسي 2:9) وفيه تُقدَّم العبادة الحقيقية لله، لأنه الوسيط بين الله والناس (1تيموثاوس 2:5) فما دام الهيكل أعظم من السبت فكم بالحري رب الهيكل؟
ثم أضاف المسيح شرحاً آخر: "إنما جُعل السبت لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت". فالسبت والهيكل وُضعا لخدمة الإنسان ومنفعته. والمسيح رب السبت يكرمه ويثبّته، وفي الوقت ذاته يوسعه ويحرره من القيود التي قيّده بها الفريسيون. فلو كان المسيح مجرد بشر، لما حقَّ له أن يسمِّي ذاته رب السبت.
نستنتج من عبارات عديدة في الإنجيل أن المسيح استعمل سلطانه كرب السبت ونقله من اليوم السابع في الأسبوع، إلى اليوم الأول الذي هو يوم الأحد، فسُمِّي يوم الأحد يوم الرب. والمقصود هو تخصيص يوم الرب لأعمال الضرورة والرحمة والعبادة. وطالما نكرس لله يوماً من كل سبعة أيام تكريساً ممتازاً، تتمُّ غاية الوصية الإلهية، فإبدال اليوم السابع بالأول، أجراه الرسل بإشارة من المسيح، وبإلهام من روحه القدوس. ولا يخالف هذا الإبدال روح الوضع الإلهي وقصده، فنحسب أن الله وضع في عهده القديم اليوم السابع، حافظاً لعهده الجديد يوماً أشرف منه، هو الأحد، اليوم الأول في الأسبوع. وكما كان السبت اليهودي تذكاراً للعمل الإلهي في الخلق، ويُسمَّى في الكتاب "استراحة الخالق في اليوم السابع"، كذلك يكون السبت الجديد المسيحي، تحويل موضوع التذكار إلى ما هو أعظم من فعل الخلق، وهو عمل الفداء، الذي تمَّ بقيامة الفادي في اليوم الأول، ولذلك تَسَمَّى "يوم الرب". وهو تذكار أيضاً للعمل العظيم في يوم الخمسين لما تأسست الكنيسة المسيحية في يوم الرب، بواسطة انسكاب الروح القدس العجيب. ولا يقدر أحداً أن يصف أو يدرك مقدار فوائد السبت المسيحي في تاريخ تمدُّن العالم، من زمن المسيح إلى الآن، وما أعظم الأضرار التي تنجم عن إهماله.
نتيجة تعليم المسيح في هذا الأمر هي أن الوصية الأولى والعظمة (وهي المحبة لله) لا يمكن أن تعارض الثانية التي هي مثلها (أي المحبة للناس). فلا يمكن أن يرضى الإله بحفظ سبته على صورة فيها قساوة نحو الناس، لذلك ذكَّرهم بالقول النبوي القديم: "إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لَا ذَبِيحَةً، وَمَعْرِفَةَ اللّهِ أَكْثَرَ مِنْ مُحْرَقَاتٍ" (هوشع 6:6). وقال لهم إنهم لو علموا معنى هذا القول لما حكموا على تلاميذه الأبرياء.
"وَفِي سَبْتٍ آخَرَ دَخَلَ الْمَجْمَعَ وَصَارَ يُعَلِّمُ. وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ الْيُمْنَى يَابِسَةٌ، وَكَانَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِي فِي السَّبْتِ، لِكَيْ يَجِدُوا عَلَيْهِ شِكَايَةً. أَمَّا هُوَ فَعَلِمَ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَدُهُ يَابِسَةٌ: "قُمْ وَقِفْ فِي الْوَسَطِ". فَقَامَ وَوَقَفَ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: "أَسْأَلُكُمْ شَيْئاً: هَلْ يَحِلُّ فِي السَّبْتِ فِعْلُ الْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ الشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ إِهْلَاكُهَا؟". ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: "مُدَّ يَدَكَ". فَفَعَلَ هكَذَا. فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَالْأُخْرَى. فَامْتَلَأُوا حُمْقاً وَصَارُوا يَتَكَالَمُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَاذَا يَفْعَلُونَ بِيَسُوعَ؟" (لوقا 6:6-11).
لم يطل الوقت حتى أعطى المسيح الدرس الثالث في هذه السلسلة المتصلة بموضوع السبت، وكان ذلك أيضاً في يوم سبت. أعطى الدرس الأول في الهيكل، والثاني في الحقول، وهذا الدرس الثالث في مجمع. عُرف أنه لا يرى عليلاً إلا ويودُّ شفاءه، ولا يراه عليل إلا ويطلب منه الشفاء.. في هذا السبت وهو يعلّم في المجمع، لاحظ الكتبة والفريسيون الحاضرون إنساناً بين الجمع يده يابسة. وتوجَّهت أفكارهم حالاً نحو هذا الشخص، وأرادوا شفاءه، لا شفقةً عليه، بل ليجدوا علَّة على المسيح تمكِّنهم من تقديم شكاية رسمية عليه للمجلس الأعلى. وهكذا أظهروا اهتمامهم بالرجل المريض وسألوا المسيح: "هل يحلُّ الإبراء في السبوت؟".
لم يحترم المسيح سؤالهم ليجيب عليه لأنهم غير مخلصين. لكنه بعد أن أوقف العليل في الوسط، ليظهر للجميع أنه لا يهاب مقاوميه، ولا يخشى مقاومتهم، وليبكم أعداءه، طرح عليهم سؤالاً: ماذا يوافق القصد الإلهي أكثر من يوم السبت: فعل الخير أو فعل الشر؟ تخليص هذا الرجل في يوم سبت، وهذا فعل خيري، بينما أنتم تقصدون قتلي في هذا اليوم، وهذا فعل شر. فأيٌّ منا يحفظ وصية السبت، وأيُّنا يخالفها؟ ثم ذكّرهم أن ليس بينهم إنسان لا ينتشل في السبت خروفاً له سقط في حفرة، فكم بالحري يجب أن يُنتشَل من هو أفضل جداً من الخروف؟ كان مقرراً حتى عند الفريسيين أن من يهمل نفساً وهو قادر أن يخلّصها يكون قد أهلكها. فدانهم المسيح بسؤاله هذا، دينونة لم يستطيعوا الاعتراض عليها.
وانتظر المسيح جوابهم، لكنهم سكتوا. وفي هذا السكوت بيان سطوته الأدبية. لكن ليس عندهم ضمير حي ينبّههم إلى غلطتهم، ويبكّتهم على غلاظة قلوبهم، ليعترفوا بذلك ويطلبوا الرحمة لصاحب اليد اليابسة. فحالتهم هذه تضطر المسيح كمصلح إلى الغضب، وتضطره كمخلّص إلى الحزن "فنظر حوله إلى جميعهم بغضب، حزيناً على غلاظة قلوبهم". الغضب في الحزن يسمو به، والحزن في الغضب يقدسه ويجعله فضيلة سامية. قال الرسول: "اِغْضَبُوا وَلَا تُخْطِئُوا" (أفسس 4:26). كثيراً ما نقرأ في الكتاب عن الغضب الإلهي، وليس في الإله إلا ما هو فضيلة وكمال - وهذا حال غضب المسيح، فالغضب في محله فضيلة لا رذيلة. كان المسيح غاضباً على هؤلاء المعتزّين بكبريائهم، كما كان حنّاناً على صاحب اليد اليابسة، فشفاه بكلمتين فقط. وبهذا الشفاء العجيب أثبت صحة ما قاله عن نفسه إنه رب السبت، فشفاه بقوله "مدَّ يدك". كان يخشى أن يجيبه جواباً طبيعياً ويقول: "إني عاجز عن ذلك. فلو كنتُ قادراً على مدِّ يدي لاستغنيت عن إحسانك". لكنه آمن، وإلا ما حاول المستحيل. لم يعطه المسيح شفاءً جزئياً بل كاملاً، فعادت يده صحيحة كالأخرى. ولا يعطي المسيح غفراناً جزئياً بل كاملاً لكل من يلتجئ إليه.
نرى في صاحب اليد اليابسة وفي شفائه مثالاً صادقاً للخاطئ والخلاص. فلم يكن العمل الذي شفاه عمله، بل عمل المسيح. لكن عمل المسيح لا يشفيه ما لم يؤمن بذلك العامل وبعمله. وهكذا العمل الذي يخلص الخاطئ هو عمل المسيح لا عملنا. إنما تتوقف نتيجة عمل المسيح في خلاص الخاطئ على إيمان هذا الخاطئ يشخص هذا المخلّص وخلاصه.
في هذه الحوادث الثلاث المتعلقة بالسبت، أوضح المسيح مبدأه الجوهري الذي أشار إليه بعدئذ في قوله: "اَلْكَلَامُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ" (يوحنا 6:63). والذي أوضحه رسوله في قوله: "لِأَنَّ الْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي" (2 كورنثوس 3:6). وقد أغاظ هذا القول الكتبة والفريسيين، فيقول البشير إنهم "امتلأوا حمقاً، وصاروا يتكالمون في ما بينهم ماذا يفعلون بالمسيح". لقد كانوا مستعدين بحجة المحافظة على وصية السبت أن يضحّوا بالوصية السادسة القائلة: "لا تقتل". فشابهت أفكارهم ومعاملتهم للمسيح أفكار أهل العالم ومعاملاتهم في جميع الأجيال لرجال الله الممتازين. فالأنبياء والرسل والشهداء والمصلحون قد قاسوا جميعاً ما قاساه المسيح جزاء غيرتهم الوقادة وتقواهم الممتازة. ولا تخلو المراقبة العدائية من فائدة للصالحين، لأنها تزيدهم حرصاً على حسن السيرة والسريرة، وتزيد وضوح الشهادة بفضائلهم التي تظهر بهذه المراقبة الشديدة
- عدد الزيارات: 8601