يوحنا المعمدان يجهز الطريق
"وَفِي تِلْكَ الْأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ قَائِلاً: "تُوبُوا، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ. فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً". وَيُوحَنَّا هذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الْإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَاداً وَعَسَلاً بَرِّيّاً. حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ الْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْأُرْدُنّ، وَاعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي الْأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ.
فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ: "يَا أَوْلَادَ الْأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الْآتِي؟ فَاصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ. وَلَا تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَباً. لِأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلَاداً لِإِبْراهِيمَ. وَالْآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لَا تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لَا تُطْفَأُ" (متى 3:1-12).
قبلما بزغ نور المسيح العظيم، الذي قال عن نفسه: "أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ" (يوحنا 8:12) لاح فجره في شخص نسيبه يوحنا المعمدان، الذي كان مثله-ولو أنه أقل منه كثيراً، وقال عن نفسه: "لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ" (مرقس 1:7). سمّاه يسوع: "السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ" (يوحنا 5:35). وقال فيه الرسول يوحنا إنه "إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللّهِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ. لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ" (يوحنا 1:8).
كان هذا الفجر المبشَّر به منتظراً، بسبب النبوَّات التي سبقت ظهوره. والمعمدان هو الوحيد غير المسيح الذي جاءت عنه نبوات قبل ظهوره بمئات السنين. أشار البشيرون إلى نبوَّة منها وردت في كتابة إشعياء، أعظم الأنبياء الذين كتبوا بعد موسى وأشاروا أيضاً إلى كلام نبيٍ ثانٍ بعده بثلاثمائة سنة. وهو ملاخي، آخر الأنبياء الذين كتبوا بالوحي. ونبوّته هي الحلقة الموصّلة بين العهد القديم وأسفاره والعهد الجديد وأسفاره (إشعياء 40:3 ، ملاخي 3:1 ، 4:5).
تقرَّر مقام المعمدان أولاً بواسطة هذه النبوات، وتقرَّر أيضاً بواسطة سلسلة المعجزات الممتازة التي رافقت ولادته. ثم بواسطة القوة الفائقة التي ظهرت فيه حتى جذب الجماهير إلى وعظه ومعموديته، لأنه تسلط تسلُّطاً روحياً وأدبياً على الشعب وعلى رؤسائهم، حتى على ملكهم الشرير هيرودس أنتيباس. فصار اليهود يتساءلون قائلين: "ألعل هذا هو المسيح؟" ونال هذه المكانة، دون شيء من الظواهر المجيدة التي كان اليهود يصوّرونها لمسيحهم متى جاء، ودون أن يفعل معجزة واحدة في زمانه.
أما الذي أيَّد عظمة مقام المعمدان تأييداً صريحاً كاملاً، فهو شهادات المسيح له، فقد قال عنه للشعب: "مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ، وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ... اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ!" (متى 11:7-11) كانت عظمته من النوع المُشار إليه في قول دانيال النبي: "وَالْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ الْجَلَدِ، وَالَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى الْبِرِّ كَالْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ الدُّهُورِ" (دانيال 12:3).
يتقدم يوحنا المعمدان بروح إيليا ونشاطه، أمام ملك إسرائيل الحقيقي، حباً واحتراماً، عند قدومه إلى مملكته الأرضية، وكان غرض يوحنا كغرض إيليا: تبكيت شعب الله على حيدانهم عن شرائعه تعالى، وعلى انقيادهم إلى العادات الفاسدة التي اقتبسوها من الأمم حولهم.
يسوق الضمير البشر ليُصغوا إلى الواعظ الذي يأتيهم بروح الأنبياء العظماء، مثل موسى الذي "قَبِلَ أَقْوَالاً حَيَّةً لِيُعْطِيَنَا إِيَّاهَاَ" (أعمال 7:38). وبروح الرسول بطرس الذي كتب: "إِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فَكَأَقْوَالِ اللّهِ، وَإِنْ كَانَ يَخْدِمُ أَحَدٌ فَكَأَنَّهُ مِنْ قُوَّةٍ يَمْنَحُهَا اللّهُ، لِكَيْ يَتَمَجَّدَ اللّهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الْآبِدِينَ" (1 بطرس 4:11).
الواعظ المملوء من الروح القدس - نظير المعمدان - لا يفتقر إلى سامعين، لأنه لا يشغل نفسه بالمقالات الفلسفية، ولا يتكلم من نفسه، ولا يعظ لأن الوعظ حرفته التي يرتزق منها ويُرضي الناس بها، بل يعظ كمن يسمع كلام الله الذي يقول له: "فَالْآنَ اذْهَبْ وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَأُعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ" (خروج 4:12) وكمن يشعر مع بولس لما كتب: "وَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لَا أُبَشِّرُ" (1 كو 9:16).
تيتَّم المعمدان صغيراً، وليس له إخوة ولا أخوات. ولما بلغ سنّ الرشد لم يتبع أباه في رتبة الكهنوت، لأنه علم أنه نذير الله، فاتّخذ البرية مسكنه، والجراد والعسل البري طعامه، وثوباً من وبر الإبل لباسه، والجلد حزاماً لوسطه، والزهد في الدنيا طباعه، فاختلف في ذلك عن المسيح الذي قضى سنيه كلها بين إخوته وأخواته ومواطنيه في الناصرة، يمارس صناعته بينهم، ويختلط بهم كأحدهم، ثم يتجول في المدن والقرى بين الجماهير في أنحاء البلاد. ويلاحَظُ أن قصة المعمدان كقصة المسيح تخلو من الأخبار بين طفوليته وسن الثلاثين، فالقول الوحيد الذي ورد عن المعمدان في هذه المدة كلها هو: "وَكَانَتْ يَدُ الرَّبِّ مَعَهُ. أَمَّا الصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، وَكَانَ فِي الْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لِإِسْرَائِيلَ" (لوقا 1:66 و80).
ومع أن المعمدان لم يماثل المسيح في معيشته الخارجية، إلا أنه ماثله في التمسُّك التامّ بالأمور الروحية، والاهتمام بخير الناس، والغيرة على إصلاحهم، والجرأة في الانتصار للحق والبر، ومحاربة الشر على أنواعه بين كل طبقات البشر. وكان نصير المساواة بين الناس، يحطّ المترفّع منهم، وينهِض المتواضع، ويقوّم المعوّج، ويمهّد الطريق إلى الصلاح، ثم إلى السماء. وكان نصير السلام، يردُّ القلوب المتباعدة بعضها إلى بعض. وفي كل هذا أتمَّ النبوات التي وردت بشأنه، ومنها أنه يجهز الطريق لمجيء المخلّص الذي هو المسيح الرب. وقد قرن يوحنا المعمدان في معموديته الغفران بالتوبة، فليس الغفران أمراً مؤجلاً يناله الخاطئ عند موته، أو في المستقبل بعد أن يُظهِر حقيقة توبته بالأفعال الصالحة، بل هو هبةٌ إلهية تُعطَى حالما تتولّد في قلب الخاطئ ندامة صادقة مخلصة تقود النادم للالتجاء إلى الله.
ولا بد أن الفكر المنتشر في البلاد وقتها بأن ظهور المسيح قريب كان من أسباب ازدحام الجمهور حول المعمدان. ولما قال علانية إن المسيح قد جاء، زاد الحماس الديني في أفكار الناس، فتقاطروا إلى هذا المبشر أكثر فأكثر. لكنه لم يدارِ خاطراً ولم يراعِ مقاماً في توبيخاته القوية الصريحة على الشرور المتنوعة، فبرهن بجرأته وعدالته أهليته للوظيفة النبوية. وفي إنكار ذاتٍ أعلن أنه ليس أكثر من "صوت صارخ في البرية" ينطق بأوامر إلهية تسلَّمها ليسلّمها للشعب، كما صُرِّح عنه في النبوة القديمة المشيرة إليه. ونبّههم إلى أن الوقت قد حان لوضع الفأس على أصل الشجرة التي لا تثمر أثماراً صالحة، وأن بيد مسيحهم القادم رفشاً لتنقية بيدره، وإحراق البطالين بنار لا تُطفأ، بعد جَمع الصالحين إلى مخزنه (متى 3:7-12).
صوت المعمدان هذا هو الصوت الصارخ في البرية، وهو صدى الرعود على جبل سيناء عند إنزال الشريعة الطاهرة على موسى، فحَرك الناس ليفتكروا بالنجاة. ولما رآهم المعمدان مرتعبين سألهم مؤنّباً: "من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟". وأعلن أن النجاة لن تكون بالهروب، بل بإصلاح سيرتهم، وأكّد لهم أن مجرد تسلسلهم من إبراهيم لا يخوّلهم البركات التي وعد الله نسل إبراهيم بها، لأن الله قادر أن يقيم من الحجارة أولاداً لإبراهيم. ولكن لا يمكنه أن يحسب نسلاً لإبراهيم أناساً يخالفون إبراهيم وصلاحه. فظهر تأثير وعظه في المسائل التي تقدمت له لإجل الإرشاد الديني من صفوف الناس المختلفة، وظهرت حكمته في أجوبته.
ولم يكن كل وعظ يوحنا إرهاباً، فقد بشَّر الناس بالعمل الفائق الذي يقوم به المسيح متى ظهر. وأنه هو يقدر أن يعمدهم بماءٍ للتوبة، لكن معمودية الماء ليست إلا رمزاً وتمهيداً للمعمودية التي يفتقر إليها كل خاطئ لأجل الخلاص، وهي معمودية الروح القدس، التي يستحيل على أعظم الرسل والأنبياء أن يعمّد بها، لأنها عمل الإله وحده، فلما قال يوحنا إن المسيح يعمّد بالروح القدس أعلن للناس أن يسوع المسيح حقاً هو الإله المتأنّس، ولما قال إن المسيح الذي يأتي بعده كان قبله، قدَّم برهاناً آخر بأن يسوع لم يكن مجرد بشر.
لا شك أن المعمدان مهّد طريق المسيح كثيراً، لأن تأثير وعظه خلق استعداداً داخلياً في كثيرين لسماع تعاليم المسيح وقبوله فيما بعد. وكان وعظه بأن ملكوت الله قد اقترب ذات الوعظ الذي افتتح به المسيح خدمته.
اختار الله المعمدان من النسل الكهنوتي ليهيئ طريق المسيح المخلّص، ويوصّل بين العهدين القديم والجديد، فأقامه نبياً لا كاهناً، وجعله الأخير في سلسلة الأنبياء، والأول في سلسلة المبشرين الجديدة. اختاره من أنسباء يسوع في الجسد، تكريماً وتعزيزاً للعلاقات العائلية بين البشر، فالعائلة هي أساس المجتمع الإنساني، وأقدس فروعه، وهي أساسٌ في الدين أيضاً. فرأس كل عائلة هو كاهنها ورئيسها الديني لا الزمني فقط. فالدين في المدارس حتى في المعابد أيضاً تابعٌ للدين في العائلة.
رنَّ صوت المعمدان الصارخ في البرية، فملأ البلاد إلى أقاصيها، فجعله صيته مهوباً عند الجميع، من الملك هيرودس أنتيباس إلى رجل الشارع. وفي ذات يوم أتاه المسيح إلى بيت عبرة على ضفة الأردن من الناصرة على بعد سفر يوم - وكان قد أكمل السنين الثلاثين الإستعدادية. طال انحجاب حقيقة أمره عن أبصار العالم، وعن ذويه في وطنه فلم يعرفوا عظمة عمله المقبل، وهكذا يطول انحجاب البذرة في الأرض بحسب أهمية الشجرة التي ستكون منها.
المسيح يطلب من يوحنا أن يعمده
"حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى الْأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ. وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: "أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!" فَقَالَ يَسُوعُ لَهُ: " اسْمَحِ الْآنَ، لِأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ". حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ. فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللّهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً: " هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (متى 3:13-17).
حان زمان ظهور المسيح ليباشر عمله الخلاصي، فامتزج مع الجمهور الفقير الكبير المحيط بالمعمدان في البرية. نظرهم يتقدمون ويعترفون للمعمدان بخطاياهم، وينالون منه المعمودية بالماء إشارة إلى المغفرة، ثم النصائح المناسبة لكل واحد. رأى رهبة هذا النبي الجديد واحترام الجموع وخضوعهم له، وسمع لهجة سلطته الروحية في كلامه، فتقدم المسيح إليه ليطلب أن يعمده، لكنه لم يقدم شرط المعمودية أي الاعتراف والتوبة. فكيف يعمّده المعمدان؟ لاحظ المعمدان أن يسوع مزيَّن بهيبة القداسة، فبدلاً من أن يطالبه بالتوبة، اعتبره أعظم منه وأطهر، ورفض أن يعمده وقال: "أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!" (متى 3:14).
كان يوحنا ذا مقام رفيع، لأنه من السلالة الكهنوتية الممتازة، ومن منطقة اليهودية أشرف أقسام الأرض المقدسة. ومع ذلك لا تتعجب من كلامه هذا، لأنه علم أن الذي يخاطبه هو المسيح الذي طالما نادى بقرب مجيئه، وأطنب في وصفه، وتشوَّق إلى رؤياه. لكن اعتراف المعمدان الصريح بأنه لم يكن يعرفه يجعلنا نُعجب أنه وجَّه كلاماً كهذا إلى نجّار مجهول من وطن حقير. لم يتذلل المعمدان أمام رؤساء البلاد، حتى ولا أمام الملك ذاته. قد سمعنا صوته بالأمس للرؤساء بين الجمهور قائلاً: "يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟" فكيف يتذلل الآن أمام النجار الناصري، ويقول لهذا الشاب الغريب: "أنا محتاج أن أعتمد منك؟".
في قوله هذا أظهر أنه مع كل تقواه وغيرته ونجاحه في خدمة الدين وانتصاره للصلاح، وحياته التقشُّفية يشعر أنه خاطئ، ويفتقر إلى من يعمده هو بمعمودية التوبة. برهن تواضعه على عظمته، فإن التفوق في الشعور بالخطية يرافق دائماً التفوُّق في الصلاح. وكان جواب المسيح على اعتراض المعمدان بالرزانة والحكمة، كأنه معلم يخاطب تلميذاً له. قال: "اسْمَحِ الْآنَ، لِأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ" (متى 3:15).
لا بد من الوقوف تُجاه هذه العبارة، لأنها أول كلام حُفظ لنا من كلام المسيح عندما بلغ سن الرجولية، وهي القول الثاني فقط المدوّن من فمه العزيز. من قوله: "هكذا يليق" نعرف أن المسيح اعتمد لياقة لا وجوباً، واختياراً لا اضطراراً. فلم يقُل كما قال المعمدان: "أنا محتاج أن أعتمد منك". ولكنه طلب المعمودية ليشجع خدمة المعمدان، ويزيد تأثيره الحسن بين الناس، ويقوّي بقدوته تيار القادمين إليه ليسمعوا وعظه ويطلبوا معموديته، فيمكّنه بذلك أن يتمّم هذا القسم من رسالته، وهو تهيئة طريق المسيح.
كان في معمودية يوحنا معنيان (أ) أصغرهما يشير إلى التطهير من الخطية. وثانيهما وأكبرهما (ب) يشير إلى التخصيص لخدمة الملكوت الجديد الذي سوف يقيمه المسيح، وإلى حياة جديدة يحياها المعتمد.
بالمعنى الأول، معنى التطهير من الخطية، يعتمد المسيح لا شخصياً بل نيابياً ورمزياً، فقد أخذ المسيح محل الخاطئ بعد أن اتّخذ شبه جسد الخطية... عند اليهود كان الطاهر يتنجس إن لمس ميتاً. ولما لمس يسوع جنسنا الخاطئ اعتُبر خاطئاً لأنه حسب كلام النبوة "أُحْصِيَ مَعَ أَثَمَة" (إشعياء 53:12) وهكذا اشترك في معمودية التوبة نائباً عنا. وبهذا المعنى قال الرسول بولس إن الله: "جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لِأَجْلِنَا" (2 كورنثوس 5:21).
ولكن بالمعنى الثاني، معنى التخصيص لخدمة الملكوت الجديد، يعتمد المسيح جدياً وشخصياً، لأنه يدخل الآن في خدمته الجهارية الخلاصية في إنشاء هذا الملكوت والترأس فيه. كان غيره من المعتمدين يدخل على حياة جديدة بواسطة ما يناله، إلا أن حياة المسيح الجديدة تقوم بما ينيله للناس. وفي معموديته أخذ المسحة القانونية التي تتطلّبها وظائفه الثلاث: كنبي وكاهن وملك.
عمد يوحنا يسوع بالماء، وصعد يسوع للوقت من الماء عالماً بما لهذه الساعة من الأهمية الفائقة في مستقبل حياته الأرضية، ومستقبل تاريخ البشر. أما معظم أفكاره فكانت متَّجهة إلى غير هذه المعمودية. كان كابن الإنسان يعرف حاجته إلى معمودية الروح القدس كشرط ضروري في كل معمودية مسيحية ثابتة، فشعر في هذه الساعة بقرب الآب منه ورضاه التام عنه. ولذلك كان أمراً طبيعياً أن يصلي وهو صاعد من الماء بعد العماد.
ومن الاستجابة التي نالها عرفنا أن صلاته كانت لأجل حلول الروح القدس عليه.
لما قرع باب السماء بصلاته انشقَّت وانفتحت له. وحلَّ عليه الروح القدس حسب طلبه.
ويظهر أن يوحنا كان موعوداً بعلامة بها يعرف المسيح، لأنه قال: "الَّذِي أَرْسَلَنِي لِأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ، فَهذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللّهِ" (يوحنا 1:33 و34). هذا الوعد كان سبباً كافياً لاتّخاذ الروح القدس هيئة جسمية، لأن المعمدان حالما شاهد ذلك عرف دون أدنى ريب أن هذا هو الذي قال عنه سابقاً إنه يأتي بعده، الذي كان قبله، الذي يعمد بالروح القدس.
ومع حلول الروح القدس على الابن الأزلي المتأنّس، سمع حالاً صوت الآب مستحسناً: " هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (متى 3:17). ثم تحقيقاً لإيمان المعمدان كان هذا الصوت ضرورياً لتحقيق الرؤيا وتفسيرها. وهذه هي أولى المرات الثلاث في تاريخ المسيح التي فيها سُمع صوت الله من السماء.
بمجيء هذا الصوت اجتمعت الأقانيم الثلاثة في الإله الواحد، على صورة جلية ومؤثرة للغاية، عند تكريس المخلِّص. وبناء على هذا الظهور في اعتماده، نرى يسوع يوصي تلاميذه أن يعمّدوا كل من يؤمن به "بِاسْمِ الْآبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ" (متى 28:19). ولم يقل "بأسماء" الآب والابن والروح القدس.
- عدد الزيارات: 5873