صُبُوَّة المسيح
بعد أن ذكر الإنجيل حوادث ميلاد المسيح ذكر حادثة ذهاب المسيح إلى هيكل أورشليم، وله من العمر اثنتي عشرة سنة، ثم صمت الإنجيل تماماً عن ذكر أي شيء من حياة المسيح حتى بلغ الثلاثين من عمره وبدأ خدمته الجهارية بين الناس، يشفي aالمرضى ويقيم الموتى ويعلّم الناس.
ويتوق كل إنسان إلى أن يرى عملاً ولو واحداً، وأن يسمع قولاً ولو كلمة، عن مرحلة طفولة المسيح وصُبوّته. لكن ليس للعالم شيء من ذلك قبل بلوغ المسيح سن الإثنتي عشرة، لأن الوحي أسدل ستاراً حجب عن العالم ما افتكره المسيح وقاله وفعله في تلك المدة كلها.
ويجوز أن نخمِّن بعض أمور أُهمل ذكرها، منها التحاقه في سن السادسة بالمدرسة كسائر أولاد اليهود، مراعاةً لقانون الدين، الذي جعل تعليم الأولاد إلزامياً، فأصبح يسوع شريكاً لجمهور الأولاد في المدارس، ونموذجاً لهم في الدروس والسلوك، يعرف تجاربهم ويشعر معهم فيها، لأنه تجرّب مثلهم فيرثي لهم. ومنها أيضاً امتيازه بين زملائه علمياً وأخلاقياً.
في عمر الثانية عشرة
ولما بلغ يسوع الثانية عشرة من عمره ذهب مع مريم ويوسف إلى هيكل أورشليم، ثم مرَّ على هذا الحادث نحو ثماني عشرة سنة، سكت الوحي تماماً عن أخبارها. ولم نقُلْ "سكت البشيرون" لأن سكوتهم لم يكن طبيعياً. ولا يفسره إلا أنهم كانوا منقادين بروح الوحي إلى هذا السكوت. وأما الكتبة الغير الموحى إليهم، الذين كتبوا بعدهم، فاتَّبعوا النسق الطبيعي، ولفّقوا أخباراً عديدة تتعلق حسب قولهم بتلك السنين.
ولم يرْضَ مسيحيو الأجيال المظلمة عن هذا السكوت، فلفّقوا أخباراً مفصَّلة مطوَّلة، وكتبوا أناجيل ورسائل تحتوي قصصاً خرافية عن طفولية يسوع، تورد أقوالاً وأفعالاً تلائم تصوُّراتهم السخيفة، المضادة لنصوص الإنجيل الحقيقي، فقد ظنوا أن المعجزات التي اخترعوها تزيد من أمجاد المسيح، لكنها في الواقع تشهد بسخافة تلك القصص.
ولكننا نتساءل: لماذا سكت الوحي عن أخبار هذه السنين، مع أن الوسائل لمعرفة حوادثها كانت متوفرة؟ وجواباً لذلك نقول إن حوادث طفولية يسوع أظهرت ملامح طبيعته الإلهية الضرورية لأجل صلاحيته كمخلِّص، فصار من الضروري أن تنحجب هذه الملامح مدة كافية لأجل إيضاح إنسانيته الحقيقية. لذلك انْحجَب لاهوته عن عشرائه أثناء سنوات استعداده الثلاثين، إلى أن برز للخدمة، فتجدّدت براهين لاهوته الحقيقي، في ما بقي من حياته بين الناس.
وهذا السكوت من أهم براهين خطأ الذين يزعمون أن عمل يسوع الأعظم والأهم كان تقديمه قدوة للناس يتمثَّلون بها، فلو أن هذا كان صحيحاً لكان من الواجب إعلان ما قاله المسيح وفعله في السنين التي قضاها في العيشة العادية كأحد العامة، يمارس مهنته كنجار في الناصرة.
ولم يقصد البشيرون تدوين حوادث حياة المسيح تاريخياً، بل قصدوا أن يبيِّنوا أنه المصلِح والمخلِّص. لذلك اكتفوا بالتاريخ الذي ابتدأ عند مباشرته أعماله علانية ورسمياً، بعد بلوغه سن الثلاثين، مع أن الأخبار التي أهملوها كانت تفيد وتلِذُّ العالم كثيراً لو أنها سُجِّلت.
ومع أن الناصرة مدينة حقيرة بالنسبة إلى كثير من مدن البلاد، إلا أنها كانت تناسب من أوجه عديدة تربية الصبي ثم الشاب يسوع فيها، فقد كانت زُمر الكهنة تجتمع فيها من مساكنهم المتفرّقة، عندما يأتي دورهم ليخدموا في هيكل أورشليم، ومنها يذهبون معاً لأورشليم. والذين يتعذَّر عليهم الذهاب إلى أورشليم كانوا يقضون أسبوع خدمتهم في أداء الفروض الدينية في الناصرة، على إحدى الطرق الرئيسية الموصّلة بين المناطق الداخلية وشاطئ البحر الأبيض المتوسط، فكانت تمرُّ فيها القوافل المسافرة إلى البلاد الفينيقية وإلى مصر، فيرى يسوع من الحركات العمرانية ما يفقِّهه في أحوال البشر الزمنية. وقد أدَّى سكنه في قرية حقيرة في أطراف البلاد إلى نموِّه في التواضع وفي البساطة الدينية، لبُعده عن مركز اليهود الديني حيث كان الفساد مستفحلاً، لأن الادعاءات الرياسية، والغطرسة الريائية، والسفسطة التقليدية، والتفنينات الطقسية، كانت قد استولت على قادة الأمة في عاصمة دينهم، فخنقت التقوى الحقيقة، وضاع من بينهم روح الدين بسبب استعبادهم للحرف، وقد أوضح يسوع أفكاره في هذا كله يوم زار أورشليم، ودان أولئك الرؤساء على ذلك بكلام قارص جداً.
ويظهر أن أصل يسوع السماوي كاد يبرح من أفكار مريم ويوسف في سني حداثته. ولا عجب، لأن حياته كانت تسير على أسلوب اعتيادي، ما خلا تفوُّقه في الصلاح، فاعتاد أهله النظر إليه كإنسان فقط. وكان في هذا الإغفال خير، إذْ أدَّى إلى أنه اختبر أحوال البشر المتنوعة، عندما اختلط بقومه في أطوار حياته التي تدرَّج فيها. ونتيجة لذلك تجرب في كل شيء مثلنا. فلو كان أبواه يفطنان في كثير من الأوقات إلى حقيقة طبيعته لأصبحا في ارتباك دائم في معاملته، ولكانا يحسبان أنه يجب عليهما الخضوع له في الرأي، وأن يقدّما له الطاعة، وليس بالعكس. وكان إذْ ذاك قد تربى تربية أبعدتهُ عن سائر البشر، وأفقدته الاشتراك التام في الشعور مع الأولاد والشبان والرجال.
ولا نشك أن يسوع كان في حداثته في الناصرة متّقداً حرارة وغيرة وإشفاقاً لرؤيته مصائب الناس وآلامهم، ولذلك نُدهش أكثر لصبره العجيب، وامتلاكه عواطفه تلك السنين كلها التي كان فيها محتجباً في الناصرة، ومؤجلاً عمله الخطير الذي نزل من السماء لأجله، والذي شغل كل أفكاره.
كان عليه أن يمارس يومياً حرفة النجارة ليكسب رزقه، حتى أطلق اليهود عليه لقب "النجار ابن مريم". وتعلَّم القناعة بحالته الفقيرة، والخضوع للأكبر منه سناً. ومما يؤيد استنتاجنا أن حياته كانت اعتيادية تماماً، أن إخوته لم يؤمنوا به، كما أن صيته لم يمتدّ في البلاد المجاورة، لأن نثنائيل في قانا الجليل على بُعْد ساعات قليلة، لم يكن قد سمع به كل تلك السنين، ولا أهل كفر ناحوم وبيت صيدا الأبعد قليلاً بالنسبة إلى قانا. وقد تلخَّص تاريخ حداثته في قول البشير لوقا: "وَكَانَ الصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، مُمْتَلِئاً حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِ". وقوله: "وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ (في عقله) وَالْقَامَةِ (في جسمه) وَالنِّعْمَةِ (في روحه)، عِنْدَ اللّهِ وَالنَّاسِ" (لوقا 2:40 و52). وهذا الكلام يدل على أن المسيح تدرج في ذلك تدرُّجاً طبيعياً. وبذلك كان حائزاً - ليس فقط على الرضى الإلهي - بل على الإستحسان البشري أيضاً.. وكإنسان نتصوّره في كل تلك المدة يحبه جميع الناس، مستعداً لخدمتهم في كل أمر حسن، يبتعد عن كل ما يكدّرهم، ويصبر على هفواتهم، ويعاملهم باللطف في سيئاتهم. لم تأت ساعته بعد، التي تطلب منه مقاومة الشر جهاراً، فتثير عليه حنق الأشرار، ولم ينَلْ بعد الشهرة والأهمية التي تهيّج عليه حسد الكبار.
زيارة هيكل أورشليم
"وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ. وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ. وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا الْأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا الصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا. وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ الرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ الْأَقْرِبَاءِ وَالْمَعَارِفِ. وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ. وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِساً فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ. فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: "يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!" فَقَالَ لَهُمَا: "لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لِأَبِي؟". فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلَامَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا.
ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعاً لَهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذِهِ الْأُمُورِ فِي قَلْبِهَا. وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللّهِ وَالنَّاسِ" (لوقا 2:41-52).
في عمر الثانية عشرة سافر يسوع من الناصرة إلى هيكل أورشليم. وكان يوسف - رأس هذه الأسرة الناصرية الصغيرة - مكلَّفاً رسمياً أن يصعد إلى أورشليم سنوياً في الأعياد المهمة، وعلى الأخصّ في عيد الفصح، أكبر الأعياد، ولم تكن مريم مكلَّفة بذلك، شأنها شأن سائر النساء، كما كان الصبيان غير مكلَّفين قبل أن يدخلوا تحت "نير الناموس" في سن الإثنتي عشرة.
وفي تلك السنة وقع عيد الفصح في 8 نيسان. إلى هذا العيد إذاً صعد به "أبواه" أول مرة. نحب أن نتصور اهتمام الثلاثة بالاستعداد لهذه الزيارة الأولى - زيارة هذا الولد العجيب - إلى المقام الديني الموقَّر. ثم نتصور رحلتهم برفقة القافلة المؤلَّفة من الجيران، مع كثيرين من بلاد أبعد وراء الناصرة.
وكان على هذه القافلة أن تختار إما الطريق الأقصر الذي يمرُّ في بلاد السامريين المكروهين، وذلك يعرّضهم للإهانة والمضايقة، التي كان يتعرض لها اليهود الصاعدون بزيارات دينية إلى مدينة أورشليم من أهل السامرة. أو أن تفعل فِعل اليهود المتديّنين، وتختار المرور على الطريق الأبعد الواقع شرقي الأردن، فتضطر أن تعبر هذا النهر مرتين. وفي الحالتين يشرف هذا الجمهور على أورشليم في اليوم الرابع أو الخامس.
ولا بد أن يسوع فرح وهو يرى الهيكل الفخم الجميل، والعابدين القادمين من مختلف بلاد العالم، ويسمع فرق الترتيل تعزف بالآلات الموسيقية وترنم بألحان مطربة مردّدة مزامير جدِّه داود. هنا يشاهد خدمة صفوف الكهنة، ولا سيما رئيسهم الأعظم، وهم مخصصون لخدمة الله، وخدمة الشعب في الأمور الروحية، وعليهم دون غيرهم تتوقف المصالح الدينية في البلاد. وكل فرد يطلب المصالحة مع الله وغفراناً لخطاياه كان مضطراً أن يقدم بواسطة هؤلاء الكهنة فقط الذبائح المفروضة عليه لينال هذه البركات.
كان يوسف ومريم ويسوع يقضون أيامهم في المدينة مع المعيِّدين، ويحرصون بكل تدقيق على مواقيت الصلاة القانونية في الهيكل، مع سائر الفرائض المذهبيَّة العديدة المتعلقة بهذا العيد، ولا سيما التقدمات والذبائح. ولا بد أن رغبة هذا الصبي الذكي التقي اتجهت بالأكثر إلى السبب الخصوصي من هذه الزيارة، وهو فريضة الفصح المقدسة. ولا بد أنه كان يعلم أنه هو حمل الفصح الحقيقي، وأن كل تفاصيل هذا الاحتفال بالفصح ترمز إليه، وأن فيه تنتهي هذه السُنَّة القديمة التي مارسها شعب الله بكل تمسُّك مدة ألف وخمسمائة سنة. فكيف لا تكون عواطفه الدينية عامرة ابتهاجاً واشتياقاً إلى الاشتراك لأول مرة في فروض هذا العيد العظيم؟
لكن ما كان أبعد كل أفكار الجمهور الذي اختلط به هذا الصبي من التصوّر بأن هذا هو مسيحهم الموعود به والمنتظر. وكان من الواجب ألاّ يعرفوا ذلك الآن، لأنهم لو عرفوا لما سمحوا له أن يعود ويكمل مدته المعينة لاستعداده الكافي لعمله المقبل.
يظهر أنه كان ينفرد عن "أبويه" في النهار، وهما لا يهتمان لذلك، لعلمهما بصفاته وثقتهما التامة فيه، فلم يلاحظا كم كان يقضي أوقاتاً في غُرف التدريس الديني الملاصقة للهيكل، حيث كان أعظم علمائهم يعظون ويدرّسون. وهو الآن يهتم فوق كل شيء بالاستفادة، فلا بد أنه رأى لأول وهلة الفرق الكلّي بين أفكاره وأفكارهم، وكشف سطحية ديانة هؤلاء المعلمين، فشعر بالحاجة إلى تعاليم روحية جديدة، على نسق جديد، وإلى بيان العلاقة الجوهرية بين التقوى وصلاح السيرة.
وأخيراً انتهت أيام العيد، وتمَّ الاستعداد للرجوع للناصرة، وسافروا صباحاً جمهوراً ليس بقليل، فلم يلاحظ أحدهم - حتى ولا "أبواه" - أن الصبي لم ينضمَّ إليهم، ولا علم أحدهم أنه كان قد ذهب إلى الهيكل "ليسمع المعلّمين ويسألهم". ولكن لما لم يجدوه مساء، بعد التفتيش عنه بين جميع الأقرباء والمعارف، رجع "أبواه" إلى المدينة منزعجَيْن. وهناك لم يجداه في كل الأماكن التي تصوّرا أنه يتردّد إليها، حتى بعد مواصلة التفتيش الجدّي عنه يومين. إلى أن وجداه في اليوم الثالث في دائرة الهيكل جالساً بين علماء أمتهم وقد حصل على احترامهم وتعجُّبهم. كانت أفكاره متَّقدة بالمواضيع الدينية الجوهرية، يسأل العلماء بشغف، ويجيب على أسئلتهم بحكمة فائقة. فلما دخل "أبواه" إلى ذلك المكان الموقَّر لم تمتلك مريم نفسها، بل أسرعت إلى توبيخه، قائلة: "يا بُنيَّ، لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنَّا نطلبك معذبَيْن".
لا نلوم أُمّاً احتدت على ابنها في أحوالٍ كهذه، إلا إذا كان ابنها يسوع، لأن معرفتها سموَّه العقلي والأدبي، كان يجب أن توقِفها عن توبيخه. ومن جوابه عرفنا أنها ملومة، لأن جوابه لم يكن اعتذاراً عمّا فعل أو حُجّةً لترضى بأن يبقى في أورشليم، إذْ رجع حالاً معهما وكان خاضعاً لهما. بل كان من باب التوبيخ اللطيف، إشعاراً لهما أنه مع صِغر سنّه يقدِّم إرادة الله على إرادة الأهل، وأنه لا يعتبر يوسف أباً حقيقياً له، بل أن أباه هو ذلك الذي وُلد من روحه. وجَّهَ لهما اللوم بأنه مع عِلمهما أن يوسف ليس أباه، نسيا أنه ينبغي أن يكون في ما لله أبيه الحقيقي، وليس في ما ليوسف أبيه المجازي، فلو كان يوسف أباه لقال: "ما لأبي السماوي" تمييزاً.
ولا بد من القول إنه لو كان يسوع مجرد بشر، مولوداً من أب وأم بشريين، لاستحق اللوم على ما فعل وعلى ما قال، إذْ لا يحقُّ لابن الإثنتي عشرة أن يستقل عن والديه في الغُرْبة ويسبّب لهما عذاباً كهذا، ولا أن يكتم عنهما رغبته في أن ينفصل عنهما ويبقى في المدينة. ولا يحقّ له أن يجيب أمه كما أجاب يسوع مريم بعد أن وجدته في الهيكل، لأنه بكّتها على إتمامها أقدس واجباتها الوالدية والدينية - أي الاعتناء بولدها والتفتيش عنه، ونسب إليها الجهالة في قوله: "ألستما تعلمان؟". فكأحد أولاد البشر، كان يجب أن يندم على ما سبَّبه لهما من التعب والهم، وأن يُظهر لهما إكراماً لائقاً، ولا سيما بالنظر إلى حالة والدته، والمحنة الشديدة التي حصلت لها بسببه.
إن مريم هي المصدر الوحيد لحفظ هذا الخبر ونشره. وقيل عنها في الوقت ذاته إنها لم تفهم كلامه. لكنها كانت تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها. فلماذا تخبر بما يخجلها؟ ولماذا اهتمَّ البشير والوحي الإلهي بإيراد هذا الخبر الذي يُرينا ولداً لم يقُم تماماً بمقتضيات الإحترام نحو والدته؟
إذا اعتبرنا هذا الصبي كما صوّره لنا البشيرون في أخبار طفوليته أنه ليس مجرد بشر، تنحل هذه العقدة، لأن الطبيعة الإلهية فيه توجب عليه أن يذكِّر أمه ويوسف أيضاً عند قولها: "أبوك وأنا"، أن يوسف ليس أباه، وأنه ليس تحت سيطرتهما كغيره من الأولاد مع والديهم، ولذلك يجب على مريم، ثم على البشير أن يخبرا بما جرى، مما ينبّه الأفكار إلى أصله الإلهي، وأنه حقاً نزل من السماء ليولد من مريم. ويؤخذ من قوله لأمه: "ألستما تعلمان؟" أن السر الجوهري المتعلِّق بأصله السماوي كان معلوماً عنده، فهل كان يا ترى معروفاً عند "والديه"؟
يجب أن نهتم كثيراً بهذه الألفاظ الوجيزة من فم يسوع، لأنها أول ما حُفظ لنا من كلامه. ويُلاحَظ أن قوله: "ينبغي أن أكون فيما لأبي" هو فاتحةٌ تناسب كل حياته فيما بعد، وهو القانون الذي اتخذه لنفسه، ولم يحد عنه مطلقاً في كل الزمان، من أول سني إدراكه، إلى أن اختفى من أبصار تلاميذه متمماً إرساليته بصعوده إلى السماء.
- عدد الزيارات: 4655