زيارة المجوس ليسوع الطفل
"وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: "أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ". فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ. فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْبِ، وَسَأَلَهُمْ: "أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟" فَقَالُوا لَهُ: "فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، لِأَنَّهُ هكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لِأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ".
حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرّاً، وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ. ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَقَالَ: "اذْهَبُوا وَافْحَصُوا بِالتَّدْقِيقِ عَنِ الصَّبِيِّ، وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي، لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضاً وَأَسْجُدَ لَهُ". فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. فَلَمَّا رَأَوُا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدّاً، وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوُا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ، فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ، ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَباً وَلُبَاناً وَمُرّاً. ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لَا يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، انْصَرَفُوا فِي طَرِيقٍ أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ" (متى 2:1-12).
في فجر التاريخ البشري لم يطِقْ إبليس أن يرى أبوينا الأولين طاهرين سعيدين في جنة عدن، فاحتال عليهما وأسقطهما مع نسلهما جميعاً تحت عبودية الخطية. فهل يمكن أن يسكت لولادة المسيح، آدم الثاني، الأعظم من الأول بما لا يُقاس؟ أوَلَيْس هذا عدوَّه المقتدر الذي قال عنه الرسول: "لِأَجْلِ هذَا أُظْهِرَ ابْنُ اللّهِ لِكَيْ يَنْقُضَ أَعْمَالَ إِبْلِيسَ"؟ (1 يوحنا 3:8). حقاً إن سكوت إبليس في هذا الوقت مستحيل، فلا بد من هيجانٍ جديد في دوائر الجحيم.
ولا يحتاج هذا الرئيس إلى رسل من عالم الأرواح لإجراء مشيئته في إهلاك هذا الطفل الفريد، لأن عظماء القوم في البلاد هم في قبضة يده يستخدمهم كما يشاء في إتمام مقاصده المهلكة. ومَنْ هو أقدر على الإعدام من الملوك؟ أوَلَيْس ملك البلاد هيرودس الكبير الشرير الظالم الدموي طائعاً تماماً لمشيئة ملك الشياطين؟ فما حاجة إبليس إلى غير عبده هذا الملكي الذي يفتخر ويكتفي به ليُجري له مرامه الآن؟ وبما أن أجَلَ هذا الملك الشرير اقترب، فلذلك لا يتباطأ إبليس في استخدامه.
وفي ذات يومٍ في أواخر أشهر الشتاء وقع اضطراب عظيم في أورشليم وفي قصر الملك، بسبب ظهور قومٍ غرباء في أورشليم آتين من المشرق، كانوا على ما يرجَّح من أهل العِلم والرُّتب الرفيعة اسمهم المجوس. ولا يقال من أي مشرق أتوا: أمن بلاد فارس أم الهند أم بلاد العرب؟ ولا يُقال كم كان عددهم: هل إثنا عشر حسب بعض التواريخ، أو ثلاثة حسب الرأي الغالب. والذين يصرُّون على أنهم ثلاثة يبنون حكمهم على أن تقدماتهم كانت من ثلاثة أنواع. ويحسبون أنهم مثَّلوا أقسام البشر الثلاثة: أي بني سام وبني حام وبني يافث، كما مثَّلوا أقسام العمر الثلاثة أي: الشباب والرجولة والكهولة.
يُرجَّح أنهم كانوا من المهتمّين، كسائر علماء عصرهم، بدرس علم الفلك ومراقبة الأجرام السماوية. وقد يكونون من الذين سمعوا من اليهود المتغربين في بلادهم عن المسيح العظيم المنتظَر، وأنهم من أمثلة الوثنيين الذين يقول فيهم كتَبَةُ اليهود والرومان إنهم كانوا يتوقَّعون ظهور شخص عظيم في بلاد اليهود.
أما أهل أورشليم فقد اعتادوا مجيء الزائرين من كل بلدان العالم حيثما كان الشعب اليهودي مشتتاً، لأن شهرة مدينتهم جعلتها مطمح أبصار الكثيرين من غير اليهود، الذين يريدون التفرُّج والاتِّجار. لكن قدوم هؤلاء المجوس أوقع اضطراباً عاماً بسبب السؤال الذي سألوه وغرضهم من هذه الزيارة. كان سؤالهم: "أين هو المولود ملك اليهود؟ لأننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له".
أثار هذا السؤال خوفاً عظيماً في قلوب الذين سمعوه، بسبب ما توقعوا أن يفعله الملك الشرير هيرودس متى سمع بملكٍ جديد غيره. لا بد أن فنون جنونه تتجدَّد بذلك. ولا يعلم أحد على من تقع ضرباته البربرية المهلكة. كان جواسيسه المأجورون يبلغونه حالاً بكل ما يمسُّه أو يهمُّه، فلما بلغه خبر مجيء المجوس وسؤالهم، هاج خوفاً على عرشه وعلى حياته، فجمع حالاً كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب ليعرف منهم إن كان في كتب الأنبياء إشارة إلى مكان مولد المسيح. وإطاعة لأمره سردوا له قول النبي ميخا: "أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الْأَزَلِ" (ميخا 5:2).
ولا بد أن هيرودس دعا المجوس إلى قصره وأكرمهم - رغم شدة هيجان حنقه الداخلي عليهم - ليعرف منهم موعد ظهور النجم. ونعتقد أنه كان يهينهم ويعذبهم ويهلكهم لولا مَكْره الذي أوعز إليه أن يستخدمهم لإهلاك المولود الجديد الذي يهدد عرشه، فأخفى عنهم غيظه وأرسلهم إلى بيت لحم، ثم بمزيد الخبث والمكر أوصاهم: "أن يفحصوا بالتدقيق عن الصبي" وبمنتهى الرياء قال: "ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتي وأسجد له" فقدَّر لنفسه يوماً قريباً فيه يأخذ من المجوس الخبر الذي طلبه منهم، فيذهب بنفسه متظاهراً بقصد السجود، ليقتل الصبي، وربما المجوس أيضاً الذين أزعجوه.
كنا نود أن نعرف أفكار المجوس لما وصلوا إلى العاصمة اليهودية، ووجدوا أن لا علم لأحد بميلاد الملك الجديد، من سكان القصر الملكي إلى أحقر رجل في الشارع. لماذا لم يأسفوا على سياحتهم ومشاقها ويعودوا على أعقابهم إلى بلادهم خجِلين؟ لماذا لم يفتكروا أن نجمهم أضلَّهم فيندمون على ما فعلوا؟ ربما استأنسوا بقول هيرودس إنه يريد هو أيضاً أن يسجد لهذا المولود، فتجددت آمالهم بعد أن علموا أن الملك هيرودس نفسه يريد أن يأتي ويسجد له. فذهبوا مستعدين أن يفعلوا ما أوصاهم، وشكروه على التسهيلات التي قدمها لهم.
وفي طريقهم إلى بيت لحم عاد النجم الذي رأوه في المشرق إلى الظهور، وتقدَّمهم "حتى جاء ووقف حيث كان الصبي. ففرحوا فرحاً عظيماً جداً" ولا بد أنهم استدلّوا من النجم، لما رأوه في بلادهم، أن وُجهتهم يجب أن تكون أورشليم، وأن النجم لم يرافقهم إليها. رأوه في المشرق وودّعهم هناك، ولذلك سرَّهم جداً ظهوره الآن بعد انحجابه.
وبما أن ليس في أحوال العائلة المقدسة الخارجية، ولا في منظر الصبي، ما يؤيد أصله العجيب ومقامه السماوي، نرجح أن "أبويه" لم يكونا قد أظهرا هذه الأسرار لأهل بيت لحم، وأنه لا يمكن أن يهتدي المجوس إلى مكان المسيح بدون هداية النجم. فإلى أي طفل من جميع أطفال بيت لحم ينبغي أن يسجدوا؟ لذلك ظهر لهم النجم من جديد ليثبِّت إيمانهم، وليدُلَّهم على البيت الذي يجب أن يزوروه. فلم يكن النجم مجرد أعجوبة، بل كان وسيلة ضرورية للوصول إلى نتيجة مهمة.
ونلاحظ أنهم لما دخلوا البيت الذي هداهم النجم إليه لم يسجدوا إلا للطفل، وقدموا له وحده الهدايا، فقدَّموا مُرّاً ناسب مقام هذا الطفل النبوي، ولباناً وافق مقامه الكهنوتي، وذهباً لائم مقامه الملكي.
وقد بحث العلماء كثيراً في موضوع هذا النجم العجيب، ودقّق الفلكيون في حساب الظهورات الجوية النادرة، ليروا أيّها يجوز اتخاذه تفسيراً لهذا الظهور. وعُلم أن في نحو ذلك التاريخ حدث اقتران في النجوم السيارة، لا يحدث إلا مرة بين مئات السنين. وظن بعضهم أن هذا الاقتران كان دليل المجوس. وعُلم أيضاً أن نجماً خارقاً في لمعانه ظهر في نحو ذلك الزمان، وبقي وقتاً وجيزاً ثم اختفى، فظنّه آخرون أنه نجم المجوس، وزعم غيرهم أنه كان من ذوات الأذناب التي لم يرد خبر ظهور بعضها في التاريخ إلا مرة، خلافاً للبعض الآخر التي لضيق حلقة دورانها، تعود إلى الظهور في فلكنا في مواقيت معلومة. ولكن لا يعرف أحد بالتأكيد شيئاً كافياً عن هذا النجم.
كم فرح المجوس برؤية هذا الطفل الذي رأوا نجمه أولاً في مشرقهم البعيد. لقد حصلوا على نور جديد يفوق كثيراً الأجرام السماوية التي كانوا يراقبونها. وهذه نتيجة اهتمامهم بالدين، لذلك أُوحي إليهم في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس، فانصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم. ولا نعرف كيف ودَّع المجوس الأغنياء العائلة المقدسة الفقيرة.
"وَبَعْدَمَا انْصَرَفُوا، إِذَا مَلَاكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: "قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لِأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ". فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ هُنَاكَ إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ: "مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي" (متى 2:13-15).
حال انصراف المجوس ظهر ملاك الرب ليوسف في حلمٍ ثانٍ، كما ظهر قبل هذا في الناصرة، وأمره بالذهاب إلى مصر، وأعلن له سبب ذلك، فلم يتباطأ يوسف في طاعة الأمر الإلهي.
لا بد أن مجيء المجوس وما فعلوه أثّر في جميع سكان بيت لحم، وزاد احترامهم لعائلةٍ ربما كانوا قبلاً يحتقرونها، ولا سيما للطفل الذي اعتبره المجوس ملك إسرائيل الجديد، فسجدوا له وأتحفوه بهدايا ذات قيمة مهمة.
ولولا هدايا المجوس الثمينة ما كان يوسف يقدر أن يقوم بنفقات هذا السفر البعيد والتغرُّب في مصر. فجاءت هذه الهدايا شاهداً جميلاً لتدبير العناية الإلهية العجيبة متى مسَّت الحاجة لإتمام مشيئته المقدسة.
قتل أطفال بيت لحم
"حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى هِيرُودُسُ أَنَّ الْمَجُوسَ سَخِرُوا بِهِ غَضِبَ جِدّاً، فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا، مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ، بِحَسَبِ الّزَمَانِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ الْمَجُوسِ. حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ: "صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلَادِهَا وَلَا تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ" (متى 2:16-18).
ماذا جرى في قصر هيرودس بعد أن ترك المجوس بيت لحم، وماذا فعل يوسف ومريم؟ لنعُدْ بالفكر إلى القصر الملكي في أورشليم، فنرى هيرودس منتظراً بفروغ صبر عودة المجوس، ليعرف ماذا يعمل لكي يُهلك المولود ملك اليهود. ولما انتهت المدة المتّفَق عليها بينه وبينهم لم يعودوا إليه، يرجَّح أنه أرسل إلى بيت لحم يسأل عنهم. ولما أخبره رسوله أنهم انصرفوا على غير طريق أورشليم، أدرك أن المجوس خدعوه، فاغتاظ جداً لأن هذا أضاع فرصته لمعرفة أي صبي في بيت لحم يجب أن يُقتل.
ولا شك أن هيرودس سعى ليعرف من أهل بيت لحم البيت الذي زاره المجوس. ولما أُخبر أنهم كانوا غرباء من الجليل، وأنهم سافروا ليلاً إلى جهة مجهولة، لم يصدق ذلك، بل نسب إليهم الخداع، حسب عادته المشهورة في التطرُّف في إساءة الظن، واعتبر أن هذه الإجابة محافظةٌ على أحد أولادهم، فحمي غضبه أكثر، وقصد أولاً أن يتأكد من قَتْل الطفل يسوع. وثانياً أن ينتقم من أهل بيت لحم بعد أن ظن أنهم قاوموه بالخداع، وقبلوا سخرية المجوس به، وهو الملك العظيم. فأرسل رجاله ليقتلوا جميع الصبيان الذين في بيت لحم والذين في كل تخومها (لئلا يكون قد تحذَّر أحد فهرب إلى خارج) من ابن سنتين فما دون، بحسب الزمان الذي تحققه من المجوس.
يرى البشير متى في هذا الحادث المريع وهذه الفظاعة الهيرودية، إتماماً ثانياً لقول إرميا: "صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ بُكَاءٌ مُرٌّ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلَادِهَا وَتَأْبَى أَنْ تَتَعَزَّى عَنْ أَوْلَادِهَا لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ" (إرميا 31:15) وقد حسبهم البعض باكورة الشهداء المسيحيين لأنهم ذُبحوا في سبيل المسيح.
عودة إلى الناصرة
"فَلَمَّا مَاتَ هِيرُودُسُ، إِذَا مَلَاكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِي حُلْمٍ لِيُوسُفَ فِي مِصْرَ قَائِلاً: "قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّهُ قَدْ مَاتَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ الصَّبِيِّ". فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَجَاءَ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ. وَلكِنْ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ أَرْخِيلَاوُسَ يَمْلِكُ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ عِوَضاً عَنْ هِيرُودُسَ أَبِيهِ، خَافَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُنَاكَ. وَإِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي حُلْمٍ، انْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي الْجَلِيلِ. وَأَتَى وَسَكَنَ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةُ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالْأَنْبِيَاءِ: "إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيّاً" (متى 2:19-23).
لم يطل الوقت إلا ونال هيرودس الظالم الدموي الشرير عقابه الذي يستحقه، لأنه مات موتاً مخيفاً في قصره في مدينة أريحا، معذّباً عذابات لا توصف من خارج ومن داخل. فمن يقدر أن يتصور لسعات ضمير الشرير في ساعات الموت، وخصوصاً متى طالت هذه الساعات، وكانت علته لا ترحمه؟ ظن هيرودس لما قتل أطفال بيت لحم أنه يعيش وأن الصبي الذي خشي أن يهدد عرشه قد قُتل. لكن بعد أيام قليلة كان هيرودس في قبره، بينما كان الصبي يسوع حياً محروساً، قد عظُم شأنه حسب ما نراه في هذا اليوم.
ولم يطل تغرُّب العائلة المقدسة، فقد جاء ليوسف في مصر ملاكٌ قال له في حلم: "قم وخذ الصبي وأمه" لكنه لم يقل: "اهرب" بل "اذهب". وأمره بالرجوع إلى أرض إسرائيل باطمئنان، لأن الذي أراد أن يقتل الصبي قد مات، فسمع يوسف وأطاع.
ونعتقد أن يوسف ومريم أرادا أن يستوطنا في بيت لحم، مدينة أجدادهم، مدينة داود الجميلة المكرمة، الواقعة على حدود المدينة المقدسة أورشليم، وبقرب هيكل الله العظيم، وبجانب المدارس العالية التي يلزم أن يتخرج فيها كل من قصد التقدُّم في المراتب الدينية، فقد كان تقدُّم المسيح مطمح أبصارهما، وهذه هي المدينة التي وضع الله اسمه فيها منذ أيام داود الملك والنبي العظيم، أفلا يوافق أن يتربى فيها أو في جوارها وارث داود الأعظم؟ ولكن بما أن ملك اليهود الجديد أرخيلاوس بن هيرودس الذي قام في أول ملكه بأعمال كثيرة حسنة، ليؤيد سلطته ويحفظ عرشه، تغيَّر سريعاً، وأظهر من القساوة ما ماثل تصرفات أبيه، خاف يوسف أن يستوطن تحت ظله.
ويظهر أن يوسف كان في حيرته يلتجئ إلى الصلاة طلباً لإرشاد الله، فكان الله يجيبه وينيره بواسطة أحلامه. وقد شعر الآن بعظمة المسؤولية التي عليه للمحافظة على يسوع وحُسن تربيته. وفي هذه الحيرة أتاه الإرشاد الإلهي في حلم، فرجعوا إلى وطنهم الأول في الناصرة وسكنوا هناك. ويقول متى البشير إن الإقامة في الناصرة حققت قول أحد الأنبياء إن المسيح سيُدعى ناصرياً (متى 2:23).
طفولة فريدة
تتضح طفولية يسوع الفريدة عن كل طفولية سواها في التاريخ لمن يتتبع قراءتها بإمعان، فمنها الكلام العجيب الذي جاء أولاً في النبوات القديمة التي تحققت بصورة مدهشة في تفاصيل هذه الطفولية، ثم جاء في النبوات الجديدة من ملائكة وبشر قبل ولادته مباشرة، ثم في الأناشيد الممتازة لأليصابات وزكريا ومريم.
ومنها الحوادث العجيبة التي ابتدأت بظهور الملاك لزكريا وعقابه بالخَرس لعدم إيمانه، ثم تلا ذلك حبل أليصابات العجيب، وشفاء زكريا من خرسه، وظهور الملاك لمريم وحبلها العجيب، والتعليمات الضرورية الصادقة التي وردت ليوسف في الأحلام، والأمر الإمبراطوري بالإحصاء وحفظ القيود النَسَبيّة اليهودية، وظهور الملائكة للرعاة، وحوادث التقديم في الهيكل، وزيارة مجوس المشرق، ومنها التنوُّع العجيب في الاحتفاء بولادة هذا الطفل: أولاً اشتراك الملائكة ممثلي أهل السماء، ثم الكاهن ممثل رجال الدين، ثم الرعاة ممثلي فقراء العالم. ثم مريم وأليصابات ممثلتيْ الشابات والعجائز ثم المجوس ممثلي الأغنياء والعلماء والأشراف، وممثلي الأمم الوثنية، ثم سمعان الشيخ ممثل الإسرائيليين الأتقياء، وحنة ممثلة الأنبياء، والنجم ممثل الطبيعة غير العاقلة.
يُضاف إلى هذا مناسبة الوقت الذي جاء فيه هذا المولود، ليس فقط أنه الوقت الذي اتفق مع النبوات الصريحة المختصة بالمسيح الموعود به، بل أن المناسبة ظهرت من أوجه أخرى عديدة، أوضحها الرسول بولس بعد ذلك في قوله: "لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الّزَمَانِ، أَرْسَلَ اللّهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ" (غلاطية 4:4).
جاء المسيح رئيس السلام في وقت سلام عمَّ الأرض نادر الوقوع. وجاء في وقت توطَّد فيه الأمن العام، وتوفّرت المواصلات في الداخل والخارج تسهيلاً لأسفار رسله والمبشرين بإنجيله، وذلك بواسطة امتدادٍ لا مثيل له في التاريخ لسطوة سياسية موحَّدة منظمة شاملة، هي سطوة الإمبراطورية الرومانية في عِزِّها. ومن محاسن هذا الحكم إطلاق الحرية التامة الدينية.
وكانت اللغة اليونانية، أفضل اللغات القديمة، منتشرةً مع فلسفتها البليغة في البلدان المختلفة، تسهيلاً لتوزيع إنجيل المسيح والتبشير به، ولا سيما أن اليهود كان لهم في الشتات ترجمة توراتهم العبرانية إلى اللغة اليونانية.
جاء المسيح في وقت تفاقم فيه الشر في العالم لتتضح شدة احتياجه إلى مخلِّص مقتدر يقدم فداءً كافياً، ويُظهر سلطةً وافية ليكون مخلص البشر أجمع.
جاء المسيح في وقت تمّت فيه الوسائل الأخرى التي استخدمها الإله سبحانه لردِّ البشر عن شرورهم. وكانت هذه الشرور تزداد، فامتلأت صدور الأتقياء القليلي العدد يأساً، جعلهم يتوقعون بفروغ صبر المسيح المخلص.
جاء المسيح في وقت تشتَّت فيه الشعب اليهودي في كل المعمور، وهو شعب متمسك بالتوحيد الإلهي، يكره العبادة الصنَمية. وباعتبار التوراة الكتاب المُنزل كان رسل المسيح يبدأون باليهود في التبشير بمجيء مسيحهم، ويستعينون بمن يؤمن منهم لنشر البشارة بين الأكثرية الوثنية. وفي ذات الوقت كان الحكم الروماني العادل الصارم حاجزاً منيعاً أوقف رؤساء اليهود الذين أرادوا أن يخنقوا المسيحية في مهدها وأن يطفئوا ذكر المسيح.
فبناءً على الأمور المار ذكرها وأمثالها، هل من عجب أن افتتح البشير مرقس تاريخ حياة هذا المولود بقوله: "بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله؟".
- عدد الزيارات: 21218