ولادة المسيح
"وَفِي تِلْكَ الْأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ. وَهذَا الِاكْتِتَابُ الْأَّوَلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. فَذَهَبَ الْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ. فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضاً مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ، لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ امْرَأَتِهِ الْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى. وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ. فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ" (لوقا 2:1-7).
كانت مريم في بيت يوسف مدة أشهر الحمل. وقرُبت أيامها لتلد وهُما في وطنهما الناصرة، لكن نبوَّة كتبها ميخا النبي قبل هذا الوقت بنحو سبعماية سنة قالت إن المسيح يولد في بيت لحم (ميخا 5:2)، وهي بعيدة عن الناصرة.
يقول المسيح إن السماء والأرض تزولان، ونقطة واحدة من قول الله لا تزول (متى 24:35). وقال النبي إشعياء: "فَتِّشُوا فِي سِفْرِ الرَّبِّ وَاقْرَأُوا. وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ لَا تُفْقَدُ. لِأَنَّ فَمَهُ هُوَ قَدْ أَمَرَ، وَرُوحَهُ هُوَ جَمَعَهَا" (34:16).
فأيُّ دافع يكفي ليسوق يوسف ومريم من الناصرة إلى بيت لحم محتملين مشقّة سفر أربعة أو خمسة أيام في أول فصل الشتاء، ومريم على وشك الولادة؟
أن الله يستخدم لإتمام مشيئته - ليس الملائكة فقط - بل الملوك أيضاً. ألم يقل الحكيم: "قَلْبُ الْمَلِكِ فِي يَدِ الرَّبِّ كَجَدَاوِلِ مِيَاهٍ، حَيْثُمَا شَاءَ يُمِيلُهُ"؟ (أمثال 21:1) فسخَّر اللّه أعظم ملوك الأرض ليتمم النبوة المتعلِّقة بمحل ولادة المسيح، وكلف أوغسطس قيصر الإمبراطور الروماني أن يأمر بإحصاء عمومي لرعاياه. ومراعاةً لمطالب الشعب اليهودي سمح بأن يؤخذ الإحصاء عندهم في الوطن الأصلي لكل سبط وعائلة، حفظاً للأنساب في محل سكنهم، بغضِّ النظر عن موطنهم الأصلي. وبما أن يوسف ومريم كانا من نسل داود، لذلك اضطرا أن يذهبا للإحصاء الجديد في بيت لحم، مدينة داود.
الولادة في بيت لحم
في مدة الألف سنة، منذ عهد داود تفرع وتفرق في أنحاء العالم عددٌ غفير من سلالة داود الملكية، وازدحمت بيت لحم بعودة الكثيرين منهم في وقت واحد لأجل الإحصاء، فلم يجد يوسف ومريم مكاناً لهما في الفندق العمومي، ولم يقبلهما أحد في بيته، لأن فقرهما الظاهر حال دون ذلك. وزِدْ على ذلك أن أهل اليهودية كانوا يزدرون بالجليليين الذين كان يوسف ومريم منهم، فبات يوسف ومريم في إصطبل الفندق.
وبينما هما في الإصطبل تمَّت أيام مريم لتلد. فولدت ابنها البكر وقمطته بالقليل المتيسِّر لديها، وأضجعته في المذود لعدم وجود سرير تضعه فيه.. فأيُّ فقر أعظم من هذا؟ لكن هذا يوافق القصد الإلهي في التأنُّس لأجل إثبات الحب العجيب الذي تنازل إلى هذه الدرجة بقصد تخليص الخطاة.
لم يشعر أحدٌ بولادة هذا الطفل سوى مريم ويوسف، بينما شعر الجميع بالمنشور القيصري الذي ساق هذا الجمهور إلى بيت لحم، فاهتمَّ جميع الناس به وتحدثوا عنه من كبيرهم إلى صغيرهم. أما اليوم فالأمر بالعكس. لقد نسي الناس منشور القيصر تماماً، لولا اقترانه بولادة هذا الطفل، وصار سؤال البشر جميعاً لا عن ذلك المنشور، بل عن هذا المولود ومنزله الوضيع. ويتقاطر اليوم جميع المتمدنين، لا إلى قصر أوغسطس، بل إلى مذود المسيح.
فلنتأمل في هذا المذود ونسأل: هل ذلك الفقير هو ذات الشخص الذي نراه الآن بعد ألفي سنة، موضوع عبادة أعظم ملوك الأرض وأغنى سكانها وأشهر علمائها؟ إنهم يفتخرون أن يسجدوا أمام صليبه، وأن ينتسبوا إليه، وأن يخضعوا لتعاليمه. والحق يُقال إننا نرى فيه وهو ابن يوم واحد موضوعاً لمزيد الإحترام الحبي، لأنه آدم الثاني داخلاً إلى العالم كآدم الأول دون أب بشري، ودون خطية أو شبه خطية، لكي يُصلِح ما أفسده آدم الأول بسقوطه، ويجدد نسلاً روحياً، ويُعيد الفردوس أخيراً إلى عالمنا الحزين.
الملائكة يعلنون الخبر للرعاة
"وَكَانَ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ، وَإِذَا مَلَاكُ الرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ، فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً. فَقَالَ لَهُمُ الْمَلَاكُ: "لَا تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. وَهذِهِ لَكُمُ الْعَلَامَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ".
وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلَاكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللّهَ وَقَائِلِينَ: "الْمَجْدُ لِلّهِ فِي الْأَعَالِي، وَعَلَى الْأَرْضِ السَّلَامُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ".
وَلَمَّا مَضَتْ عَنْهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ الرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: "لِنَذْهَبِ الْآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هذَا الْأَمْرَ الْوَاقِعَ الَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ الرَّبُّ". فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَالطِّفْلَ مُضْجَعاً فِي الْمِذْوَدِ. فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِالْكَلَامِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ عَنْ هذَا الصَّبِيِّ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِنَ الرُّعَاةِ. وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلَامِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا. ثُمَّ رَجَعَ الرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ اللّهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِيلَ لَهُمْ" (لوقا 2:8-20).
صاحَبَ ميلادَ المسيح العديدُ من الحوادث السماوية، فقد جرت في السماء أعظم حركة.
لقد سبق بيان اهتمام أهل السماء بحوادث الأرض، وتكرر مجيء كبير الملائكة ليبشر بقُرب هذه الولادة العجيبة. لكن هذه هي المرة الوحيدة التي أرسل فيها الله إلى العالم جمهوراً من الملائكة، وسُمع على الأرض ترنيم ألحان السماء.
فمن هم الذين نالوا هذا الحظ الفريد، وبهرت أبصارهم رؤيةُ هذا الجمهور، وشنّفت أسماعهم هذه الترنيمة الوحيدة السماوية التي بلغت آذان البشر؟ ليسوا أكابر القوم ولا علماءهم ولا رؤساء الدين المُنزَل. لم يحْظَ بذلك هيرودس الملك في قصره المجاور، ولا رئيس الكهنة في الهيكل القريب الباهر، بل قد جاء هذا الشرف وهذا السرور لأشخاص تشابه أحوالهم الخارجية أحوال هذا المولود، لكي تتمّ هيئة الاتضاع التي تمثّل تنازُل الإله لأجل خلاص الإنسان.
لما تأسست الأرض ووُضع حجر زاويتها، ترنمت كواكب الصبح معاً وهتف جميع بني الله، لكن هذا الهتاف والترنيم لم يطرقا آذاناً بشرية. إنما لما تأسس الفداء، ووُضع حجر زاوية الخلاص للبشر الخطاة بتأنُّس الابن الأزلي، سُمع فوق سهول بيت لحم هتاف ملائكة الله في آذان رعاة متبدِّين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم.
وبينما كان هؤلاء الرعاة ساهرين على أغنامهم وقف بهم ملاك الرب، وأضاء حولهم مجد الرب. فيحقّ لهم أكثر من مريم وزكريا أن يخافوا خوفاً عظيماً. لكن الملاك قال لهم كما قال للمذكورَيْن: "لا تخافوا" ثم قال: "ها أنا أبشركم بفرح عظيم". بشر جبرائيل زكريا ثم مريم بأمرٍ مفرح جداً سيكون قريباً. لكن هذه البشارة أعجب، لأن موضوعها أمر. وأخبرهم أن هذا الفرح يشمل جميع شعب الله الذين يفرحون بهذه الولادة.
كرر الملاك الكلمة الجوهرية التي أعلنها لزكريا عندما سمّى هذا الطفل "قرن خلاص" والتي قالها لمريم ثم ليوسف لما سمَّاه "مخلِّصاً" وقال الآن للرعاة: "وُلد لكم اليوم مخلِّص". وأفهم الرعاة أن هذا المخلص من مدينة داود، فهو إذاً من نسله. وأنه "المسيح" - إذاً هو الموعود به من قديم، وأنه "الرب" - إذاً ليس هو مجرد بشر. ثم أعطاهم علامة دون سؤال منهم، وهي الهيئة التي يرونها عندما يجدون هذا المخلّص.
وحالما أكمل الملاك هذا الموضوع الخطير، ظهر بغتةً جمهور من الجند السماوي، لا ليعلنوا إعلاناً جديداً، بل ليثبّتوا الإعلان الأول. ظهروا مسبّحين الله.. إن تسبيح الله هو عملهم الخصوصي في السماء، ولما جاءوا إلى الأرض كان هذا أيضاً عملهم، فقالوا: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة".
وهذه العبارة الوجيزة تتفق مع قول بولس الرسول إن "مَلَكُوتُ اللّهِ بِرٌّ وَسَلَامٌ وَفَرَحٌ" (رومية 14:17). لأن مجد الله برُّه أي قداسته، وثمر البر هو السلام والسرور.
ليس للملائكة أن يمكثوا مع البشر مهما اشتهى البشر رفقتهم، فرجعوا إلى السماء. وكان تأثير زيارتهم أن الرعاة أسرعوا إلى البلد، حسب إشارة الملاك ليمتّعوا أعينهم بهذا المنظر الذي جمع بين المجد والتواضع، فصاروا شهوداً للزيارة الملائكية، ثم للإعلان المثبّت لحقيقة هذا الطفل غير الظاهرة في شيء من أحواله الخارجية. فلو وُلد هذا الطفل في قصر ملكي، يناسب مقامه الحقيقي، لما سمح أحدٌ لهؤلاء الرعاة في ملابسهم الفقيرة وهيئتهم الخشنة أن يدخلوا لينظروه-ولكن مَنْ يمنعهم عن زيارة الإصطبل؟ جاءوا مسرعين فرأوا ما أخبرهم به الملاك تماماً، وحكوا لمريم ويوسف وغيرهم ممَّن صادفوهم خبر ما حدث لهم في ذلك الليل في البرية. فتعجب كل الذين سمعوا مما قيل لهم من الرعاة. أما مريم، الوالدة السعيدة فكان لها هذا الخبر في المنزلة الأولى من الأهمية لإثبات صحة بشارة الملاك لها بخصوص مولودها.
ثم رجع الرعاة إلى قطعانهم وهم يمجدون الله ويسبحونه، كما فعل الملائكة في مسامعهم، فكانوا أول من بشَّر بمجيء راعي النفوس ورأس الكنيسة العظيم.
نتصوّر هؤلاء الرعاة من الأتقياء رغماً عن فقرهم واضطرارهم أن يهملوا كثيراً من طقوس الدين العديدة والثقيلة. لا بل يجوز الظن أيضاً بأن الأغنام التي كانوا يرعونها هي المخصَّصة لخدمة الهيكل، المُعَدَّة للتقديم على المذبح المقدس. وهنا نرى علاقة لطيفة بين هذه الأغنام المعدة للذبح في الهيكل، وهذا الطفل الذي سماه المعمدان "حَمَلُ اللّهِ" وسماه يوحنا الرسول "الحمل المذبوح" (يوحنا 1:29، رؤيا 5:6).
ختان الطفل
"وَلَمَّا تَمَّتْ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ لِيَخْتِنُوا الصَّبِيَّ سُمِّيَ يَسُوعَ، كَمَا تَسَمَّى مِنَ الْمَلَاكِ قَبْلَ أَنْ حُبِلَ بِهِ فِي الْبَطْن" (لوقا 2:21).
في اليوم الثامن بعد ولادة هذا الطفل، أُجري له فرض الختان الذي جعله الله لإبراهيم علامةً لإفراز شعبه من الأمم الوثنيين حولهم. هذه هي المرة الأولى من مرات عديدة فيها خضع مؤسس العهد الجديد لفرائض العهد القديم. وهذا لكي يربط في شخصه العهدين، كما تتَّحد في شخصه أيضاً طبيعتا الخالق والمخلوق.
زيارة الطفل للهيكل
"وَلَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا، حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى، صَعِدُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ: أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ فَاتِحَ رَحِمٍ يُدْعَى قُدُّوساً لِلرَّبِّ. وَلِكَيْ يُقَدِّمُوا ذَبِيحَةً كَمَا قِيلَ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ، زَوْجَ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ. وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورُشَلِيمَ اسْمُهُ سِمْعَانُ، كَانَ بَارّاً تَقِيّاً يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ أَنَّهُ لَا يَرَى الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ الرَّبِّ. فَأَتَى بِالرُّوحِ إِلَى الْهَيْكَلِ. وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِالصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ، لِيَصْنَعَا لَهُ حَسَبَ عَادَةِ النَّامُوسِ، أَخَذَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَبَارَكَ اللّهَ وَقَالَ: "الْآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلَامٍ، لِأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلَاصَكَ، الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلَانٍ لِلْأُمَمِ، وَمَجْداً لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ".
وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ. وَبَارَكَهُمَا سِمْعَانُ، وَقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ: "هَا إِنَّ هذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ، وَلِعَلَامَةٍ تُقَاوَمُ. وَأَنْتِ أَيْضاً يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ" (لوقا 2:22-35).
أخذ يوسفُ ومريم المسيحَ إلى الهيكل في أورشليم لإداء الطقوس الدينية المطلوبة. ولم تنته هذه الزيارة الأولى من رب الهيكل إلى هيكل الرب دون حوادث فوق العادة تناسب وتؤيد ما سبقها من معجزات. فقد التقى سمعان الشيخ بيوسف ومريم، وهو رجل بار تقي كان الروح القدس عليه، وينتظر مجيء المسيح الموعود به. وكان قد أُوحي لسمعان الشيخ بالروح القدس أنه يرى قبل موته مسيح الرب. فشعر في ذلك النهار أن هذا الروح يجذبه إلى الهيكل، ثم يهديه إلى هذا الطفل. فأخذ الصبيَّ وحمله على ذراعيه كأنه يقدمه للرب، وبارك الرب وقال: "الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك". ثم في خاتمة تسبيحته المختصرة أوضح عمومية هذا الخلاص، إذ قال: "نور إعلان للأمم".
ولما أظهر يوسف ومريم التعجُّب من مضمون هذه التسبيحة، ومن معرفة سمعان لمقام هذا الطفل ومستقبله باركهما سمعان كما يبارك الكبير الصغير، ثم كشف لمريم بكلام خصوصي سراً عميقاً ومهمّاً جداً متعلقاً بشخص المسيح وعمله، وهو: كما أن المخلّص يُقيم كثيرين، فهو أيضاً يُسقِط كثيرين، وأنه سيكون موضوع أشد المقاومة والاضطهاد، ويسبّب كشف كثير من مكنونات القلب، وأن مريم أمه ستشترك في آلامه حتى كأن سيفاً يخترق قلبها.
"وَكَانَتْ نَبِيَّةٌ، حَنَّةُ بِنْتُ فَنُوئِيلَ مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ، وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، قَدْ عَاشَتْ مَعَ زَوْجٍ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ بُكُورِيَّتِهَا. وَهِيَ أَرْمَلَةٌ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لَا تُفَارِقُ الْهَيْكَلَ، عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطِلْبَاتٍ لَيْلاً وَنَهَاراً. فَهِيَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَقَفَتْ تُسَبِّحُ الرَّبَّ، وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ الْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ" (لوقا 2:36-38).
وبعد هذا الحادث تقدمت نبية اسمها حنة بنت فنوئيل من سبط أشير كانت طاعنة في السن، وقد ترمَّلت قبل هذا بنحو أربع وثمانين سنة، صرفتها في التعبُّد لله. ولما رأت الطفل مع أبويه وسمعت كلام سمعان الشيخ وقفت تسبح الرب، وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في أورشليم. وبهذا الحادث أصبحت حنة بكر المؤمنات بالمسيح بعد ولادته، وباكورة جيش النساء الفاضلات اللواتي خدمْنَه في كل العصور.
وبعد هذه الزيارة للهيكل في أورشليم عاد يوسف ومريم والطفل يسوع إلى مدينة أجدادهم بيت لحم. وبزوال الازدحام الوقتي، تيسَّر لهذه العائلة المباركة مقرٌّ هناك غير الإصطبل
- عدد الزيارات: 7205