Skip to main content

وصف شخصية المسيح

كلما كان ادّعاء الإنسان كبيراً صعُبَ عليه أن يبرهنه، وسهُلَ على الغير إثبات خطئه، لذلك يتجنَّب كلُ عاقلٍ الادّعاء الكاذب، خشية الفشل، وتعرُّض زعيمه للاحتقار.

والمسيحية أصعب المذاهب في ما تدَّعيه لزعيمها. فإنْ صحَّ هذا الادّعاء أصبحت سيدة المذاهب، وزعيمها سيد الزعماء. أما إثبات ما تتطلبه المسيحية فيتوقف على مطالعة تاريخ حياة المسيح الذي قال: "مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ" (متى 7:16). فعلى أقوال السيد المسيح وأفعاله ونتائج ما قال وفعل، يُبنَى الحكمُ في مقدار عظمته الحقيقية - وليس على ما ينعته به المحبون، أو يطعنه به المخالفون.

يوم كان المسيح معلماً جليلياً فقيراً أوثقه خصومه، رؤساء اليهود، وأحضروه مخفوراً مكتوفاً إلى الوالي الروماني الصارم بيلاطس البنطي، طالبين الحكم عليه بالصَّلْب. وبعد المحاكمة صرّح بيلاطس ببراءة المسيح، وقال للشاكين: "أنا لستُ أجد فيه علةً واحدة". فألحُّوا عليه أكثر حتى جدَّد المحاكمة ثم قال: "وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هذَا الْإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَلَا هِيرُودُسُ (الملك) أَيْضاً، لِأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ" (لوقا 23:13-15). ثم أوصتْ زوجة بيلاطس بالمسيح بسبب حُلْمٍ آلمَها، وسمَّتْهُ "ذلِكَ الْبَارَّ" (متى 27:19). ثم بعد ذلك قال بيلاطس ثالثة: "إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهِ عِلَّةً لِلْمَوْتِ" (لوقا 23:22). ولما رضخ أخيراً لطلب اليهود بغير رضى وسلّم المسيح للصلْب، لم يفعل إلا بعد محاولة أخرى لتهدئة ضميرِه الثائر، إذْ أخذ ماء وغسل يديه قدام الجميع قائلاً: "إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا الْبَارِّ. أَبْصِرُوا أَنْتُمْ" (متى 27:24).

فحص بيلاطس وكانت نتيجة فحصه أنه وجد المسيح باراً، وهذه النتيجة التي وصل إليها بيلاطس في نهاية حياة المسيح الأرضية هي مفتاحٌ ضروري في معرفة الشخص الذي سمَّاه هذا الوالي الروماني وامرأته "ذلك البار". ومعلومٌ أن العالم الراقي بأسره يؤيدهما في حكمهما في صلاح يسوع المسمَّى المسيح. وشهادات اليهودي والمسلم والوثني والكافر مجمعةٌ على هذا القرار.

فأين الحل المعقول للمشكل الدائم المتعلِّق بهذا الشخص، وهو التوفيق بين حُكم العالم بأسره بصدق المسيح وقداسته، وبين كل ما (أ) ادَّعاه لنفسه مما لا يجوز لمجرد بشر أن يدَّعيه، و (ب) كل ما فعله ممّا لا يستطيع أن يفعله مجرد بشر، و (ج) كل ما قَبِل أن يقوله فيه الآخرون أو يفعلوه له، مما لا يجوز أن يُقال في مجرد بشر أو يُفعل لهم؟

لا يختلف اثنان على أن ادّعاء الإنسان بأكثر مما له، أو بغير ما له، يكون خداعاً أو غباوة أو اختلالاً عقلياً. وبالطبع لا يخطر ببال أحد أن يتهم يسوع المسيح بشيء من هذه، فكراً أو قولاً أو فعلاً.

ولا يخفى أن الرسل والأنبياء: كلما تقدموا في الصلاح، زاد تواضعهم وانكسار الروح فيهم بسبب زلاتهم أو تقصيراتهم، لأن التواضع من أسمى الفضائل، والاعتراف بالخطأ من أول الواجبات. والصلاح يولّد الشعور الدقيق في الضمير. فكما يشمئزُّ المتمدن من أقذار لا يبالي بها المتوحش، هكذا يستغفر الصالح على أمور تُعتبر طفيفة عند الأقل صلاحاً، وتكون عند الأشرار موضع الافتخار. ففي سيرة أعظم الأنبياء والرسل الذين ورد خبرهم في كتاب الوحي، نظير موسى وداود ودانيال وبطرس وبولس، ترى اعترافات مؤثرة جداً، واسترحاماً كثيراً - وذلك يزيد اليقين بصلاحهم الحقيقي، لأن ليس بينهم من ادَّعى لنفسه الكمال. ولكن المسيح يختلف في هذا عن جميع الصالحين، وهذا الاختلاف يتطلب تفسيراً مقنعاً، وإجابةً للسؤال: من هو يسوع هذا؟

ولا يغيب عن البال أن الذين وصفوا المسيح بالكمال، هم الذين لازموه نهاراً وليلاً، صيفاً وشتاءً، زُهاء ثلاث سنين، فتيسَّر لهم أن يعرفوا بواطنه وظواهره. ولم يكونوا من المتساهلين الذين يسدلون الستار على التقصيرات والهفوات أو يسكتون عنها، بل هم الذين بينما يشرحون سيرة المسيح، ويؤيدون سموَّ كماله، كانوا يذكرون سقطاتهم وتقصيراتهم. وفي هذا دلالة كافية على إخلاصهم وحكمتهم واستقامتهم، ومستندٌ كافٍ لوضع شهاداتهم عن المسيح محل اليقين والاحترام.

من غرائب التاريخ أن الدين المسيحي دام واستمر ونجح، رغم أنه قاسى في كل ماضيه، ولا يزال يقاسي، أمرَّ المقاومات وأشدها من خصومة الأقوياء، الذين قصدوا أن يحقّروه ويضعفوه، بل ويلاشوه، لأنه منذ يوم حاول هيرودس الملك قتل الطفل يسوع في بيت لحم إلى يومنا هذا، لم ينفكَّ أعداء المسيحية العديدون المقتدرون، عن محاربة الكنيسة المسيحية وتعاليمها بذات القصد الذي ساق هيرودس إلى ما فعل.

ولا يخفى على كل مطَّلع مفكّر أن جميع أبواب الاعتراض على التعاليم والعقائد المسيحية فُتحت قديماً في العصر الرسولي. وكانت تنام وتستيقظ جيلاً بعد جيل، وبعضها يموت لسخافته عند بيان ما يدحضه تماماً. وكان أنصار هذه الاعتراضات الكفرية وزعماء هذه المقاومات يزعمون ثم يفتخرون بأنهم قد هدموا أركان المسيحية حتى أصبحت ملاشاتها أكيدة، مدَّعين أن كل احترام لكتابها المقدس قد زال، وأن أهل العالم قد رفضوا أهمَّ القضايا المُدرجة فيه. ولكن تعليم الإنجيل عن شخص المسيح اجتاز كل امتحان وثبت.

وقد قال المسيح في صلاته: "أَيُّهَا الْآبُ، هذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ" (يوحنا 17:3). وقال الرسول بولس إنه يحسب كل ما في الدنيا نفاية لكي يعرف المسيح حق المعرفة (فيلبي 3:8).

ويوحنا الرسول، الذي صوَّر بقلمه أجمل الصور الأربع للمسيح، يقول في آخر كلامه: "وَأَمَّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ" (يوحنا 20:31).

فحبذا إن توصَّل كل إنسان إلى الإيمان الشخصي الحي بهذا المخلّص المنفرد عن البشر، مع كونه أيضاً شريكاً للبشر في طبيعة بشرية حقيقية، لأن هذا الإيمان يضمن لصاحبه الحياة الأبدية، باسم المسيح الذي كتب فيه الرسول بولس أن الله "رَفَّعَهُ وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الْأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الْأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللّهِ الْآبِ" (فيلبي 2:9-11).

  • عدد الزيارات: 7396