الحاجة إلى المسيح
مرت السنون والإنسان يزيد ظلماً وتعاسة، بسبب زيادة بُعْده عن الكمال. وقد عجزت الفلسفة البشرية عن بلوغ الكمال وإصلاح الحال. ويظهر هذا مما قاله سقراط، الحكيم اليوناني الشهير، لتلميذه ألسبيادس: "يا عزيزي ألسبيادس، إني لا أستطيع أن أبيِّن لك كيف تحصل على الخير الأعظم، لأني لا أعلم. لكنني موقن أن الخالق مُحسن. وأنه بناء على إحسانه سيرسل في الوقت المناسب معلماً يعلّم الإنسان كيف يحصل على ذلك الخير".
علّم الإختبار هذا الفيلسوف أن الناس الفاسدين بطبيعتهم ليسوا أهلاً لإصلاح ما هو فاسد، وقد قال الشاعر العربي:
هل يُرتَجَى الإصلاح من فاسد
فالشهد لا يُجنَى من الحنظل
قد وضع قادة الأمم شرائع لإصلاح الحال، كما نقرأ عن عصر حمورابي وفلاسفة اليونان وحكماء مصر ومشترعي الرومان ومجوس فارس وبراهمة الهند وغيرهم. لكن حكمة هؤلاء كلهم لم تبلغ المطلوب. ومع أن شريعة موسى شريعةٌ إلهية، إلا أنها كانت قاصرة عن الإصلاح الكامل، لأن القصد منها كان تعريف الإنسان بخطئه، وحثّه على طلب الكمال، وإرشاده إلى مصدر الإصلاح، فلم يبْقَ هناك إلا الواسطة الوحيدة التي عيَّنها الله لبلوغ الإنسان درجة الكمال، وهي إرسال المعلم السماوي، إبن محبته، يسوع المسيح، الذي جاء بما لا يستطيع أن يأتي مثله حكيمٌ بشري. فإنه فضلاً عن جلال شريعته وكمالها، لم يرتكب - بفكر أو قول أو عمل - أمراً مخالفاً لنقطةٍ واحدةٍ مما أوجب على الناس حفظه. وهذا ما قصر عنه كل مصلح سواه.
حاجتنا العظمى إذاً ليست إلى من يعلّمنا طريق الكمال، بل إلى من يسير أمامنا في تلك الطريق، لنحتذي مثاله ونقتفي آثاره. ولم تطأ أرض البشر قدوس كامل غير يسوع ابن مريم، الكامل في ذاته وصفاته. وشتّان ما بين تأثير علم الكلام وعلم المثال، لأن عِلم الكلام نظري شفهي، أما علم المِثال فحسّي عملي، ولذلك أصبح المسيح مطمح أبصار العالم الفاسد بأسره، ليمنحه الصلاح والسعادة وبلوغ درجة الكمال. فالأمر الهامّ هو معرفة ما عمله المسيح لأجلنا، وما علّمه. وبعبارة أجلى درس حياة المسيح لنرى فيها طريق الإصلاح والسعادة. إن كل شيء تقريباً يحتمل المبالغة إلا الكلام عن المسيح، فإن بلاغة كل بليغ تصغر عن وصف تلك الحياة السامية الكاملة. وأعظم مكافأة يتوقعها إنسان هي أن يكون وسيلة لاقتياد الناس إلى المسيح راعي نفوسهم وأسقفها، ورسول المحبة السماوية، لننال به الكمال الحقيقي والخلاص المجاني، ونتمتع معه بالحياة الأبدية المقدسة في الأمجاد السماوية. وقد وصف أحد المرنمين السيد المسيح بالقول:
قُمْ ونغِّمْ يا مرنّم باسم فادينا الحبيب
برخيم اللحن عظِّمْ ذلك الشخصَ العجيب
ذلك السامي السجايا صاحب المجد الرفيع
خالق كل البرايا لطفه محيي الجميع
أبديٌّ أزلي كان من قبل الجبال
وهو قدوس زكي لابسٌ ثوب الجلال
شمسُ برٍ ذو جمال كوكب الصبح المنير
وحده حاوي الكمال ما له أصلاً نظير
وقد قرأ المسيح نبوّةً من سفر إشعياء، جاءت عنه قبل مجيئه للعالم بسبعمائة سنة، تقول: "رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لِأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لِأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لِأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لِأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالْإِطْلَاقِ. لِأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ، وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لِإِلَهِنَا. لِأُعَزِّيَ كُلَّ النَّائِحِينَ" (إشعياء 61:1 و2).
وقال الإنجيل عن المسيح:
"نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الْإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللّهِ. فَتَفَكَّرُوا فِي الَّذِي احْتَمَلَ مِنَ الْخُطَاةِ مُقَاوَمَةً لِنَفْسِهِ مِثْلَ هذِهِ لِئَلَّا تَكِلُّوا وَتَخُورُوا فِي نُفُوسِكُمْ" (عبرانيين 12:2 و3).
"تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ" (1 بطرس 2:21).
ولهذا نقول إننا محتاجون للمسيح للأسباب الخمسة التالية:
لأن المسيح هو القائد الديني الذي امتاز بحبه للبشر. ونجاح رسالته اليوم في العالم هي نتيجة حبِّه المتفاني وحضوره الحقيقي الدائم مع أبناء شعبه.
لأن المسيح هو موضوع الإنجيل الذي هو أعظم بشارة سمعتها آذان البشرية، لأنها بشارة اهتمام اللّه بخير الجنس البشري زمنياً وأبدياً.
لأن المسيح هو المخلِّص الذي لبس طبيعتنا البشرية اختيارياً، ليتقرب من الناس، وليتمكن من إنجاز وظيفته كمخلّص الجميع، لأنه يحب كل بني آدم الساقطين.
لأن المسيح هو الذي عيَّنه اللّه منذ الأزل، والذي أرسله في ملء الزمان، ليعلن للبشر محبة اللّه التي لا تُحد ولا تُوصف، وليتمّم عمل الفداء.
لأن المسيح هو كلمة اللّه المتجسّد، المولود الوحيد الذي لا يكون إلا على صورة المولود منه، الذي وصفه الإنجيل بأنه "محبة". في شخص يسوع المسيح أظهر اللّه لنا المحبة الإلهية المتفانية، دون تمييز مذهبي - ليس نحو محبّيه فقط - بل نحو مبغضيه وصالبيه أيضاً، وأورث البشر بعده مبدأ المحبة للجميع حتى الأعداء، وأدرج ذلك في تعاليمه، وأيَّده في سلوكه، فأعلن أن المحبة هي تكميل الشريعة.
تضع بعضُ المذاهب الدينية التنبير على قدرة الإله الذي يعبدونه، وبعضها على قداسته، وغيرهم على حكمته، وآخرون على رحمته. وأما المسيحية، فمع مجاهرتها بهذه كلها، تخصِّص فوقها وتقدِّم عليها ما أتى يسوع المسيح ليعلنه جلياً، وهو محبة اللّه الأبوية التي تعمُّ البشر والتي تسعى لتردَّهم جميعاً حتى أشرّهم عن الضلال، وتخلّصهم من الهلاك (يوحنا 3:16).
ولا يحقُّ لأحدٍ أن يُسمَّى مسيحياً ما لم يكن على مبدأ المحبة لجميع الناس حتى الأشرار والأعداء، للخدمة والتضحية في سبيل الخير الحقيقي للآخرين.
- عدد الزيارات: 4918