الحجج الخاصة بوجوب وضع الأيدي لتعيين رجال الدين، والرد عليها
1- [جاء في (أعمال 13: 2 و3) أنه بينما كان الأنبياء والمعلمون في أنطاكية يخدمون الربّ ويصومون، قال الروح القدس: أفرزوا لي برنابا وشاول (الذي هو بولس) للعمل الذي دعوتهما إليه ؛ فصاموا حينئذٍ ووضعوا عليهما الأيادي، ثم أطلقوهما - وهذا دليل على عدم جواز قيام أحد بخدمة الله إلاّ بعد وضع الأيدي عليه من أشخاص لهم سلطة رسولية ].
الرد: (أ) فضلاً عن أن الروح القدس نفسه هو الذي كان قد دعا برنابا وشاول للخدمة (كما يتضح من الآية الواردة في الحجة)، ودعوة الروح القدس لا تحتاج إلى تأييد أو اعتماد من البشر مهما كان مقامهم ؛ وفضلاً عن أن برنابا وشاول كانا يخدمان الرب قبل هذه الدعوة ببضع سنوات، وانضم بواسطة خدمتيهما كثيرون إلى المسيح (أعمال 9 و 11 و 13)، الأمر الذي لا يدع مجالاً بعد لموافقة أي إنسان على خدمتيهما، فإن الذين وضعوا الأيدي عليهما لم يكونوا رسلاً حتى كان يجوز القول أنه كانت لهم سلطة رسولية، بل كانوا أقل من برنابا وشاول في المركز والمواهب، ومن ثم لا يمكن أن يقال إنهم كانوا الواسطة في تعيين برنابا وشاول للقيام بالخدمة.
(ب) وإذا كان الأمر كذلك، يكون الغرض من وضع الأنبياء والمعلمين أيديهم على برنابا وشاول (كما يتضح من الكتاب المقدس) علامة على تسليمهما إلى نعمة الله الكفيلة بمرافقتهما في القيام بالخدمة التي دعاهما الروح القدس إليها. لأنه مكتوب "ومن هناك (أي من اتاليا) سافرا في البحر إلى أنطاكية (البلد الذي ذكر الوحي أنه وضعت عليهما فيه الأيدي)، حيث كانا قد أسلما إلى نعمة الله، للعمل الذي أكملاه "ـ فالأنبياء والمعلمون المذكورون تحت تأثير المحبة الشديدة التي كانت تربطهم ببرنابا وشاول، وإدراكهم للصعوبات التي كانت عتيدة أن تعترض قيامتهما بالخدمة التي أسندها الروح القدس إليها، تحركت أحشاؤهم بالشفقة عليهما، فصاموا وصلوا ووضعوا أيديهم عليهما للدلالة على تسليمهما إلى نعمة الله، لكي تؤازرهما في خدمته، ومن ثم ليس في تصرفهم هذا، أي مظهر من مظاهر السلطة الرسولية أو غيرها من السلطات.
2- [إن الرسول بولس عيّن تيموثاوس وتيطس خليفتين بواسطة وضع يديه عليهما ؛ الأول في أفسس، والثاني في كريت، وهذا دليل على ضرورة إقامة خلفاء للرسل بواسطة وضع الأيدي عليهم ].
الرد: فضلاً عن أن الوحي الإلهي، وإن كان قد سجل أن بولس وضع يديه على تيموثاوس، لكنه لم يسجل أنه وضعهما على تيطس، الأمر الذي يدل على عدم حتمية وضع الأيدي لإقامة رجال الدين بأعمالهم، نقول: إن بولس لم يسلم تيموثاوس وتيطس المواهب التي أعطاها الله له، أو جعلهما واسطتين لتلقي الوحي الإلهي مثلما كان يتلقاه هو. كما أنه لم يطلب منهما أن يعينا شخصين يخلفانهما في تعيين القسوس، وأن يوصيا هذين بتعيين غيرهما للقيام بهذه المهمة، وهكذا دواليك. لذلك لا يكون قد عينهما خليفتين له، بل مجرد نائبين عنه لكي يقوما عوضاً عنه بإقامة قسوس في مكانين وزمانين محدودين، حتى يتفرّغ هو لنشر الإنجيل. وقد كلفهما بتعيين القسوس، لأن تعيينهم بواسطة الرسول أو بواسطة نائبين معتمدين منه، كان أمراً ضرورياً في ذلك الوقت في بعض البلاد، كما يتضح فيما يلي من هذا الباب.
3- [إن هذا الرسول عيّن تيموثاوس وتيطس أسقفين بالمعنى المعروف في الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية، لأنه خولهما حق إقامة القسوس ؛ كما أنه بتخويلهما إقامة هؤلاء، يكون قد نقل إليهما شيئاً من سلطانه الرسولي ].
الرد: (1) لو فرضنا أن بولس عين تيموثاوس وتيطس أسقفين بالمعنى المعروف في هاتين الكنيستين، لكان قد أمر كلاً منهما بعدم مغادرة البلد الذي أقامه فيه، وذلك لكي يتسنى له رعاية المؤمنين الموجودين هناك، حتى نهاية حياته على الأرض. لكن ما حدث من جهة تيموثاوس، أن بولس الرسول بعدما نادى بالإنجيل في مدينة أفسس، وقبله بعض الناس فيها، أراد أن يغادرها لكي ينادي بالإنجيل في بلاد غيرها. ولذلك طلب من تيموثاوس أن يمكث في أفسس (وكلمة "يمكث "، تختلف كل الاختلاف عن كلمتي يعين ويقيم) لكي يحذر المؤمنين من التعاليم الناموسية التي كان يذيعها بينهم المتهودون من المسيحيين، ولكي يقيم لهم أيضاً قسوساً يتولون القيام بهذه المهمة (1تيموثاوس 1: 3 – 10). وبعد ذلك طلب الرسول منه أن يغادر هذه البلدة لكي يرافقه في خدمة الإنجيل، كما كان يفعل من قبل (2كورنثوس 4: 9)، ومن ثم لا يكون قد عينه أسقفاً بالمعنى الذي يقال عنه في الكنيستين المذكورتين.
وهكذا الحال من جهة تيطس، فإن بولس الرسول لم يعينه في جزيرة كريت لكي يكون أسقفاً بهذا المعنى، بل ما حدث هو أنه بعدما نادى هذا الرسول بالإنجيل في كريت وعزم على مغادرتها للمناداة به في جهات أخرى، ترك تيطس في هذه الجزيرة (وكلمة "ترك "تختلف كذلك كل الاختلاف عن كلمتي أقام وعين) لكي يقيم في كل مدينة فيها قسوساً، لصيانة المؤمنين من التعاليم الناموسية أيضاً (تيطس 1: 5-15). وبعد ذلك طلب منه أن يذهب إلى نيكوبوليس لكي يرافقه في خدمة الإنجيل، كما كان يفعل من قبل، ومن ثم لا يكون قد عينه أسقفاً بالمعنى المصطلح عليه في الكنيستين السابق ذكرهما.
(ب) والسبب في عدم قيام بولس بإقامة القسوس بنفسه، يرجع إلى أن هؤلاء لم يكن من الجائز أن يقاموا في مراكزهم إلاّ بعد قضاء مدة طويلة في حياة الإيمان، حتى تتجلى أخلاقهم وتصرفاتهم (1تيموثاوس 3: 6)، ولذلك كان من البديهي أن يسند الرسول أمر إقامتهم إلى غيره، لأنه لم يكن يستقر في بلد ما مدة طويلة حتى يتضح له من هم أهلاً للقسوسية، بل كان بمجرد انتهائه من الكرازة بالإنجيل في بلد ما، ينتقل إلى غيره للقيام بهذه المهمة، ومن ثم فمثل الرسول (إن جاز التشبيه) مثل مدير هيئة عين وكيلين له، وحدد لهما العمل الذي رأى إسناده إليهما، وذلك في مكانين وزمانين معلومين. ومن ثم من الواجب عليهما أن لا يتعديا الاختصاصات التي أسندها المدير إليهما. وتطبيقاً على هذا المثال، لم يكن لتيموثاوس أو تيطس أن يدعي لنفسه أنه خليفة للرسول في مركزه أمام الله أو الناس، أو أنه يشترك معه في المميزات الخاصة به، أو أن له سلطة تعيين شخص يكون خليفة له أو للرسول بولس، أو إقامة قسوس في غير المكان والزمان المحددين له أيضاً.
(ج) أخيراً نقول: حقاً إن بولس الرسول أسند إلى تيموثاوس وتيطس شيئاً من سلطانه الرسولي، وهو الخاص بإقامة القسوس. لكن ليس معنى هذا أنه يحق لشخص ما أن يسند إلى نفسه ملكية التفويض الذي أعطاه هذا الرسول لهما، لأن هذا التفويض كان شخصياً، كما كان لفترة معينة وفي بلاد معينة أيضاً، ومن ثم فإن دعوى بعض الأفراد في الوقت الحاضر [بأنهم خلفاء للرسل وأنهم يقيمون قسوساً بسلطان رسولي] بعيدة عن روح الكتاب المقدس كل البعد.
4- [قال الوحي عن بولس وبرنابا أنهما انتخبا للمؤمنين قسوساً في كل كنيسة وصليا بأصوام واستودعاهم للرب الذي كانوا قد آمنوا به" (أعمال 14: 23)، ومن ثم يجب أن يكون هناك خلفاء للرسل لإقامة القسوس في كل عصر من العصور].
الرد: فضلاً عن أنه ليس هناك مجال للخلافة الرسولية كما ذكرنا، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذه الحجة نقول: يتضح من الآية الواردة بها (أولاً) أن المؤمنين ليسوا هم الذين اختاروا القسوس([1]) وقدموهم إلى بولس وبرنابا لكي يوافقا على إقامتهم، كما يختار الناس أشخاصاً في الوقت الحاضر ويقدمونهم إلى بعض رجال الدين لديهم لكي يقيموهم قسوساً، بل أن بولس وبرنابا هما اللذان انتخبا القسوس المذكورين([2]). (ثانياً) أن بولس وبرنابا أقاما القسوس بالصلاة والصوم دون أن يضعا الأيدي عليهم، لأن القول "واستودعاهم للرب "لا يدل حتماً على وضع الأيدي عليهم، إذ أن المراد به هو الصلاة لأجلهم لكي يتسلم الرب حياة كل منهم ويقودها في طريقه. وهذا دليل على أن وضع الأيدي ليست له أهمية خاصة في إقامة القسوس.
فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن الرسل لم يقيموا قسوساً في كل مدينة بعد الكرازة فيها بالإنجيل مباشرةً، بل بعد فترة من الزمن كما حدث في لسترة وأيقونية (أعمال 14: 1-23)، أدركنا أن إقامة القسوس في بلد ما، لم يكن حتى العصر الرسولي، أمراً حتمياً لوجود المؤمنين فيها، بل كانوا يقامون فقط عندما كانت تدعو حاجة هؤلاء المؤمنين إليهم. وذلك لمحاربة بدع الناموسيين وغيرها كما ذكرنا فيما سلف.
5- [وإن كان الناس هم الذين يختارون القسوس في الوقت الحاضر، لكن الله هو الذي يصادق على اختيارهم، وذلك بوضع أيدي رجال الدين عليهم، لأنه لا يمكن أن يحدث شيء في العالم إلاّ بإرادته ].
الرد: إن الله لا يصادق على عمل، إلاّ إذا كان يتفق مع كلمته. وبما أنه لم يأمرنا أن نقيم لأنفسنا قسوساً، إذن لا يمكن أن يصادق على إقامتنا لهم بأية طريقة من الطرق. ومما يثبت ذلك أن بعض القسوس المختارين من الناس، والموضوعة عليهم الأيدي بواسطة كبار رجال الدين بينهم، هم أشخاص أشرار عصاة، أو على أحسن تقدير هم مؤمنون بالاسم فحسب. وإذا كان الأمر كذلك، اتضح لنا أن وضع الأيدي الذي يمارس الآن هو مجرد تقليد، أو بالحري مظهر دون جوهر ـ هذا مع العلم بأنه ليس كل ما يحدث في العالم، يريده الله. فهو مثلاً لا يريد الحرب أو الشر، ولكن ما أكثر وجودهما بيننا. ويرجع السبب في ذلك إلى أنه تعالى أعطانا إرادةً حرة يمكننا بها أن نفعل ما نريد، حتى نكون مسؤولين أمامه عن كل عمل نقوم به سواء أكان صواباً أم خطأً.
6- [إن موسى النبي وضع يديه على يشوع عندما أقامه خليفةً له (العدد 27: 18). وتطبيقاً على ذلك، يجب أن يكون تعيين القسوس بواسطة وضع الأيدي، ووضع الأيدي لا ينتقل إلاّ بالخلافة الرسولية ].
الرد: (أ) فضلاً عن أنه هناك مجال للخلافة الرسولية كما اتضح لنا مما سلف، وفضلاً عن أن الله نفسه هو الذي أمر موسى بإقامة يشوع خليفةً له، الأمر الذي لا يحدث مثله في الوقت الحاضر نقول:
إننا لا ننكر أن التعيين في مركز قيادي في العهد القديم كان مقروناً في بعض الحالات بوضع الأيدي. ولكن وضعها لم يكن إلاّ علامةً خارجية ليست لها في ذاتها قوة منح البركة، أو التأهيل الروحي للقيام بالخدمات الخاصة بهذا المركز. الدليل على ذلك أن كثيرين تقلّدوا مراكز دينية وتدبيرية وقضائية في العهد المذكور بمقتضى المواهب التي منحها الله لهم، دون أن يضع أحد الأيدي عليهم، كما كانت الحال مع القضاة، بما فيهم صموئيل النبي نفسه، وهكذا الحال من جهة رسل المسيح، فقد تولوا مراكزهم دون أن يضع له المجد يديه على واحد منهم (متى 10: 1-10) وإذا كان الأمر كذلك، فإن التعيين للخدمات الدينية في الوقت، الذي لا يوجد فيه رسل أو نواب رسميون لهم، يجب أن يكون متوقفاً أولاً وأخيراً على قصد الله نفسه، والحالة الروحية لمن يتطلعون إلى هذه الخدمات. لأنه فضلاً عن عدم وجود خلفاء للرسل كما ذكرنا. فإن وضع الأيدي لإقامة قسوس ليس سلعةً يمكن تداولها من شخص إلى آخر بواسطة ما، بل إنه عمل مرتبط بالرسل ومن لديهم تفويض شخصي منهم، للقيام بهذه المهمة. ومن ثم فالقول بأن وضع الأيدي الذي يمارس الآن في بعض الكنائس متسلسل من الرسل أنفسهم، لا يتفق مع الوحي أو العقل، بل إنه مجرد تقليد.
(ب) ولإيضاح هذه الحقيقة إلى حدّ ما نقول: إن موسى كانت له عصا يستخدمها في عمل المعجزات. لكن القوة المعجزية لم تكن في العصا نفسها، بل في روح الله العامل في موسى. ولذلك لو أن إنساناً ما استلم عصا موسى، لما استطاع أن يعمل بها معجزةً واحدة، بينما أي عصا كان يضعها موسى في يده، كان يمكن أن تتم بها المعجزات التي يريدها الله. وهكذا الحال من جهة وضع الأيدي، فإن بولس عندما كان يضع يديه على إنسان ما، كانت تتحقق مشيئة الله من جهة إقامته قسيساً (أو شفائه من مرض ألم به أو … أو …). لكن الذين يسندون إلى السلطان الرسولي وحق وضع الأيدي في الوقت الحاضر، لا يستطيعون أن يثبتوا عملياً أن لهم مميزات الرسل ومواهبهم في شفاء مريض (مثلاً) بمجرد وضع أيديهم عليه كما كان يفعل الرسل. لذلك تكون دعواهم لا نصيب لها من الصواب، ويكون القسوس الذين يقيمونهم ليسوا مختارين من الله، بل مختارين من الناس فحسب.
الاعتراضات والردّ عليها
1- [إذا لم يكن الغرض من تعيين القسوس قيادة المؤمنين في الصلاة، فلماذا كانوا يقامون، ويقامون بواسطة الرسل أو نوابهم الرسميين فقط].
الرد: (أ) السبب في إقامة القسوس يرجع فقط إلى أن بعض المسيحيين كانوا وقتئذٍ خارجين من اليهودية، والبعض الآخر من الوثنية، وكان الفريق الأول معرضاً للانحراف عن الحق المسيحي الذي آمن به حديثاً والرجوع إلى التقاليد اليهودية التي اعتاد عليها. وكان الفريق الثاني معرّضاً للانحراف عن آداب السلوك المسيحي بسبب ما ألفه قديماً من نجاسة الوثنية (1كورنثوس 5: 1). كما كان يحدث بين الفريقين نـزاع من وقت إلى آخر بسبب الاختلاف في الجنسية، وما يتبع ذلك من الاختلاف في التفكير والتدبير ؛ ولذلك كان من أبرز أعمال القسوس إسكات القائلين بضرورة الختان وحفظ الناموس، وتوبيخ المناقضين الذين يتكلمون بالباطل جرياً وراء الربح المادي (أعمال 15: 24 تيطس 1: 9-11)([3]).
(ب) ومن ثم كان من الضروري إقامة قسوس، أو شيوخ في السن والإيمان أيضاً هناك، بواسطة وضع أيدي الرسل أو نوابهم الرسميين عليهم لغرضين (الأول) لكي ينفّذ المتنصرون جميعاً (سواء أكانوا قبلاً يهوداً أم وثنيين) وصايا القسوس الخاصة بالحقائق المسيحية من جهة التعليم، والسلوك بالقداسة. لأن هؤلاء القسوس كانوا قد عرفوا هذه الحقائق وتشبّعوا بها أكثر من غيرهم. (الثاني) لكي يكون للقسوس سلطة تأديب أو توبيخ المناقضين، لأنهم (أي القسوس) لم يكن يشترط في إقامتهم أن يكونوا من أصحاب الجاه والمراكز العليا، الذين يخشاهم الناس، أو من أصحاب المواهب المعجزية، الذين لديهم البرهان العملي على أن لهم مثل هذه السلطة، بل كانوا يختارون من بين المؤمنين العاديين الذين تتوافر فيهم بعض الصفات الروحية والاجتماعية المناسبة للخدمة الرعوية، مثل الإلمام بكلمة الله والقدرة على الوعظ، والتصرّف باستقامة في حياتهم العملية، وتدبير بيوتهم وتربية أولادهم في خوف الله.
(ج) وبما أن الظروف التي كانت تقتضي إقامة شيوخ أو قسوس بسلطة رسولية قد انتهت، لأن كلمة الله قد وضعت حداً فاصلاً بين حق المسيحية وظلال اليهودية، وأقامت حاجزاً منيعاً بين قداسة المسيحية ونجاسة الوثنية. كما أصبح المؤمنون من اليهود والوثنيين جماعة واحدة لا مجال للاختلاف بين أفرادها من جهة الأمور التي كان يقع بينهم الاختلاف بسببها، لذلك لم تعد بعد حاجة إلى إقامة القسوس أو الشيوخ بسلطة رسولية في بلد ما.
2- [إن الجماعات التي ليس بها قسوس مقامون بوضع الأيدي، ليس فيها مجال للرعاية الروحية ].
الرد: (أ) إن هذه الجماعات ليست خاليةً من خدمة الرعاية الروحية، بل فيها من يقومون بالخدمة المذكورة، كما كانت الحال في العصر الرسولي نفسه. فقد كان هناك أشخاص وضع الله في قلوبهم القيام بما كان يقوم به القسوس من رعاية وتدبير، دون أن يعينهم أحد أو يضع عليهم الأيدي. وكان الرسول يحرّض المؤمنين على إكرامهم والعمل بإرشادهم. فقد قال لهم: "أطلب إليكم أيها الأخوة، أنتم تعرفون بيت استافاناس أنهم باكورة أخائية، وقد رتبوا أنفسهم لخدمة القديسين، لكي تخضعوا أنتم أيضاً لمثل هؤلاء، وكل من يعمل معهم ويتعب" (1كورنثوس 16: 15).
(ب) أما السبب في عدم وضع الأيدي لدى الجماعات (الوارد ذكرها في الاعتراض) على الأشخاص الذين يتفرّغون للرعاية الروحية فيها، فيرجع إلى أن وضع الأيدي بسلطان رسولي كان مقصوراً على الرسل وعلى الأشخاص الذين لديهم تفويض شخصي منهم. ومن ثم يكون وضع الأيدي بواسطة أشخاص غير أولئك وهؤلاء، هو مجرد تقليد ليس له مثل هذا السلطان، لذلك تكتفي هذه الجماعات بالصلاة لأجل الأشخاص المذكورين عند الموافقة على إقامتهم لخدمة الله، لكي يؤيدهم تعالى في أدائها ـ ومع كل فإنها إذا وضعت الأيدي عليهم لمجرّد الاعتراف بخدمتهم، أو المشاركة القلبية لهم فيها، أو استيداعهم لنعمة الله لكي تؤازرهم، دون أن يكون في ذلك أي معنى من معاني الادّعاء بسلطة عليا، لا يكون تصرفها هذا مخالفاً لكلمة الله، لأن الأمر فيه يكون راجعاً أولاً وأخيراً إلى العادات المتبعة، وطريقة التعبير عن التعاون والمحبة.
(ج) أخيراً نقول وإن لم يكن هناك مجال لقسوس مقامين بسلطان رسولي في الوقت الحاضر، لكن هناك رعاة موهوبين كما وإن كان عمل القسيس يشبه عمل الراعي الموهوب، لكن هناك فرقاً كبيراً بين الاثنين. فالأول كان يشترط فيه أن يكون شيخاً متزوّجاً له أولاد، وعن طريق الاجتهاد الشخصي أصبح ملماً بكلمة الله. كما كان يقام لتأدية خدمته بواسطة وضع يدي الرسول أو أحد مفوّضيه. أما الراعي فهو الشخص الذي نال موهبة الرعاية من الربّ مباشرةً (أفسس 4: 11)، دون أن يتوافر فيه شرط الزواج أو الأولاد أو السن، لأن الربّ لا يتقيد في إعطاء المواهب بقيود ما.
من هذا يتّضح لنا أنه وإن كان عصر إقامة الشيوخ أو القسوس بسلطة رسولية قد انتهى [لانتهاء الأسباب الحتمية التي كانت تتطلّب إقامتهم بهذه السلطة، وأيضاً لعدم وجود الأشخاص الذين لهم حقّ إقامتهم بها]، لكن الرعاة الموهوبين موجودون في الكنيسة إلى انقضاء الدهر. لأنهم من عطايا الله لها، مثل المعلمين والمبشّرين (أفسس 4: 11).
[1] - لأنهم لو فعلوا ذلك لكان القسوس موظفين لديهم، وهذا ما لا يتلاءم مع خدمة القسوسية إذ أن هذه كانت تتضمن توبيخ المقاومين، مهما كانت مراكزهم.
[2] - أما الشمامسة، فلأنهم كانوا يتسلمون أموال المؤمنين ليوزعوها على الفقراء، كان من حق المؤمنين أن يختاروهم، لكي يكونوا مطمئنين من جهة الطريقة التي توزّع بها هذه الأموال (أعمال6: 3).
[3] - وإذا كان الأمر كذلك، أدركنا أن مجال القيام بالخدمة التي أقيم القسوس لتأديتها، خارج الاجتماعات الدينية كان أوسع من القيام بها داخل هذه الاجتماعات. لأن اجتماعات العبادة يجب أن تكون مقصورة على التأمل في نعمة الله، حتى يمكن تقديم الحمد والشكر له. واجتماعات التعليم والوعظ والتبشير يجب أن تكون مقصورة على تفصيل كلمة الحق بالاستقامة، أو الحثّ على التقوى والقداسة، أو الشهادة عن محبة الله وفدائه، حتى ينمو المؤمنون في النعمة، ويخلص الخطاة من الخطية ونتائجها الوخيمة.
- عدد الزيارات: 3251