المعنى الصحيح لعبارة وضع الأيادي الواردة في الرسالة إلى العبرانيين
الباب الثاني: الحجج الخاصة وضرورة إقامة رجال الدين بواسطة وضع الأيادي عليهم
يقول الذين يؤمنون بالخلافة الرسولية إن "وضع الأيدي" هو من الأعمال التي أمر الوحي بوجوب ممارستها في العهد الجديد، للمحافظة على هذه الخلافة فيه، معتمدين في ذلك على عبارة الرسول "لذلك ونحن تاركون كلام بداءة المسيح لنتقدم إلى الكمال [ غير واضعين أيضاً أساس التوبة من: الأعمال الميتة والإيمان بالله، تعليم المعموديات، ووضع الأيادي، قيامة الأموات والدينونة الأبدية ]، وهذا ما سنفعله إن أذن الله" (عبرانيين 6: 1-3) – ولإيضاح معنى هذه العبارة نقول:
إذا أمعنا النظر فيها نرى (أولاً) أن الكلام الذي وضعناه بين [ ] هو كلام معترض، يستبعد به الرسول الأعمال التي يجب أن لا تكون أساساً للتوبة (ثانياً) أن قوله "وهذا سنفعله إن أذن الله"، ليس متعلقاً بوضع الأيادي، أو أي عمل من الأعمال التي وضعناها بين [ ]، بل هو تكملة لقوله "… لنتقدم إلى الكمال". ومن ثم يكون المعنى التفصيلي للعبارة المذكورة هو:
1- "لذلك ونحن تاركون كلام بداءة المسيح ": إن "كلام بداءة المسيح "، ليس هو التعليم الذي نادى به في بداءة خدمته على الأرض والوارد في (متى 5و6و7) مثلاً، لأن هذا التعليم يجب أن لا نتركه، بل أن نطبقه عملياً على حياتنا، مثل أي تعليم آخر، نادى به له المجد في كل مرحلة من مراحل وجوده على الأرض، طالما أنه ليس متعلقاً بعقائد يهودية كان المسيح قد وافق عليها وقتئذٍ([1]) بصفة مؤقتة، بسبب عدم قيامه بعد بالتكفير عن الخطية. لكن "كلام بداءة المسيح الذي يجب تركه" هو بداءة أقوال الله" (عبرانيين 2: 12) أو كلامه عن المسيح "([2])، أو بالحري هو الفرائض التي كان تعالى قد أمر اليهود بممارستها في العهد القديم رمزاً إلى المسيح وخلاصه الحقيقي من الخطية ونتائجها. لأن الرموز يجب أن تترك إذا جاء المرموز إليه، كما أن الظلال يجب أن تهجر إذا أتت الحقيقة التي كانت تومئ إليها ـ وقد نبّه الرسول أذهان المؤمنين العبرانيين (وهم من كتب لهم الرسالة المقتبسة منها العبارة التي نحن بصددها)، دون غيرهم من المؤمنين إلى هذا الموضوع، لأنهم حتى بعد إيمانهم بالمسيح كانوا في كثير من الأحيان يحاولون العودة إلى الفرائض والطقوس التي توارثوها عن أجدادهم (غلاطية 2: 16، 3: 2، 4: 10) خوفاً من الاضطهاد الذي كان يحلّ بهم من ذويهم.
2- "لنتقدم إلى الكمال ": إن الرسول يحرض المؤمنين من العبرانيين هنا، ليس على الكمال في السلوك (وإن كان هذا أمراً واجباً على كل المؤمنين مهما كانت أجناسهم)، بل يحرضهم على إدراك كمال أو إتمام الفرائض والطقوس السابق ذكرها في المسيح وكفارته الثمينة. حتى يستطيعوا التمتّع أمام الله بالكمال الذي لهم في شخصه له المجد، بوصفه نائبهم وممثلهم أمامه، وما يتبع ذلك من تمتعهم براحة الضمير وسلام القلب. لأن الكمال أمام الله لا يكون بواسطة القيام بالفرائض الدينية أو الأعمال الصالحة [إذ أننا مهما أكثرنا من هذه وتلك، لا نبلغ الكمال الذي يريده
الله، بل نظل عبيداً بطالين أو عاطلين لأننا لا نكون قد عملنا أكثر مما يجب علينا
(لوقا 17: 10)]، بل بواسطة الإيمان الحقيقي بالمسيح أو بالحري الوجود في شخصه المبارك أمام الله (أفسس 1: 3-7). ولذلك كان غرض الرسول من الكرازة بالإنجيل أن يحضر كل إنسان كاملاً في المسيح يسوع (كولوسي 1: 28)، لأن المؤمنين الحقيقيين يكونون مملوئين (أو بالحري كاملين إلى النهاية) في شخصه المبارك (كولوسي2: 10).
3- "غير واضعين أساس التوبة ": أي يجب أن لا يؤسسوا التوبة فيما بعد، من الأمور التي كانوا يعتمدون عليها في العهد القديم، وهذه الأمور كما يعلن الوحي هي:
(أ) "الأعمال الميتة ": وهذه الأعمال هي الفرائض والطقوس اليهودية([3]) التي كانت فيما سلف من علامات التوبة. لكن نظراً لأن هذه وتلك كانت مجرد رموز إلى كفارة المسيح، أصبحت جميعها بلا قيمة أمام الله بعد هذه الكفارة.
(ب) "الإيمان بالله ": كان الإيمان بالله بصفة عامة في العهد القديم، أساساً من أسس التوبة (خروج 20: 3)، لأن هذا الإيمان كان هو الذي يميز بين المؤمنين وبين الوثنيين. أما في العهد الجديد، فأساس التوبة والاتصال بالله، لكل الناس يهوداً كانوا أو غير يهود، هو الإيمان بأنه تعالى مع وحدانيته هو "الآب والابن والروح القدس "([4])، وضمنا هو الإيمان بلاهوت المسيح وتجسده لأجل خلاصنا. ولذلك يقول العهد الجديد "لأن كل من ينكر الابن، ليس له الآب أيضاً. ومن يعترف بالابن، فله الآب أيضاً" (1 يوحنا 2: 23). كما يقول "الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله" (يوحنا 3: 36).
(جـ) "تعليم المعموديات": المعموديات هنا، لا يراد بها المعمودية المسيحية، لأن هذه واحدة لا ثاني لها. فمكتوب "رب واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة" (أفسس 4: 5). كما أن هذه المعمودية يجب أن لا تهمل أو تترك، بل أن تمارس طوال العهد الجديد (متى 28: 19). إنما المعموديات بالجمع هي الغسلات اليهودية التي كانت تستعمل قديماً للتطهير الطقسي (خروج 19: 10)([5]). ولذلك فإن التعليم الخاص بها يجب أن لا يبقى له مجال في المسيحية، لأن التطهير فيها، هو تطهير النفس من أدرانها بواسطة وضعها تحت تأثير كلمة الله الحية الفعالة (يوحنا 15: 3)، وذلك بعد الإيمان بالمسيح إيماناً حقيقياً.
(د) "وضع الأيادي ": كان اليهود يضعون أيديهم قديماً على الذبائح الكفارية التي يقدمونها لله عن خطاياهم، وكانوا يشعرون في تصرفهم هذا براحة لضمائرهم، لأن هذا العمل كان رمزاً إلى انتقال براءة هذه الذبائح إليهم (إن كانت ذبائح محرقة) أو انتقال خطاياهم إليها (إن كانت ذبائح إثم وخطية)، وصيرورتهم تبعاً لذلك أبراراً أمام الله على أساس حرق هذه الذبائح وتلك نيابة عنهم. (لاويين 1: 4، 3: 2، 4: 4، خروج 29: 10)، كما ذكرنا بالتفصيل في كتاب "كهنوت المؤمنين". لكن التصرف المذكور لا مجال له في الوقت الحاضر، لأن الله وضع خطايانا على المسيح (إشعياء 53: 6). والمسيح تبارك اسمه قبل قصاصها عوضاً عنا (إشعياء 53: 4)، ومن ثم فكل من يؤمن به إيماناً حقيقياً، يحسب باراً (رومية 5: 1)، كما أنه لا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة (يوحنا 5: 24).
(هـ) "قيامة الأموات والدينونة الأبدية ": وهاتان الحقيقتان كانتا من البواعث التي تدفع العبرانيين على التوبة في العهد القديم. لكن في ضوء العهد الجديد، نعلم (أولاً) أن هناك قيامتين للأموات، وليس قيامة واحدة لهم ؛ القيامة الأولى هي للمؤمنين الحقيقيين، وهذه لا تتبعها دينونة، بل حياة سعيدة مع الله إلى الأبد (رؤيا 2: 5). أما القيامة الثانية فهي للأشرار والمؤمنين بالاسم معاً، وهذه تتبعها الدينونة ثم العذاب الأبدي (رؤيا 20: 10-13). ومن ثم إن كان الفريقان الأخيران يخشيان القيامة الثانية، فإن الفريق الأول يرحب بالقيامة الأولى كل الترحيب، (ثانياً) إنه على أساس احتمال المسيح لدينونة الخطية عوضاً عنا (إشعيا 53: 8، رومية 8: 3)، فإن من يؤمن به إيماناً حقيقياً لا يدان، أما من لا يؤمن به بهذا الإيمان فقد دين (يوحنا 3: 18، 5: 24، رومية 8: 1). ومن ثم إن كانت الدينونة تدفع البشر في العهد الجديد للتوبة، إلاّ أن محبة الله التي تجلت في كفارة المسيح تجعلهم يقبلون على هذه التوبة بكل رضى. لأنهم يقبلون إلى الله ليس خوفاً من دينونته، بل حباً في ذاته، الأمر الذي يهيئهم للتمتع به والتوافق معه في صفاته الأدبية السامية، "لأن من خاف، لم يتكمل في المحبة" (1يوحنا 4: 17و 18) .
4- "وهذا سنفعله إن أذن الله": إن ما كان الرسول يريد أن يفعله (أو بالحري أن يفعله العبرانيون، الذين كان يضع نفسه جنباً إلى جنب معهم، لكي يسمو بمداركهم إلى الحق المسيحي الكامل)، ليس طبعاً الأعمال الميتة أو... أو... أو قيامة الأموات وما يتبعها من دينونة أبدية، بل هو التقدم إلى الكمال الذي ذكره في أول الأمر ـ فالرسول كانت له ثقة في الله أنهم سيقتلعون من نفوسهم المبادئ اليهودية التي توارثوها عن أجدادهم، وأن يكتفوا بالمسيح رباً ومخلصاً لهم، حتى يتمتّعوا بالكمال أمام الله في شخصه المبارك.
وإذا كان الأمر كذلك، فلا مجال للقول بوجوب وجود خلافة رسولية حتى يمكن الاستمرار في ممارسة "وضع الأيدي".
[1] - فهو له المجد بعد ما شفى الأبرص (مثلاً) أوصاه بتقديم القربان الذي أمر به موسى (متى 8: 4)، مع أن هذا القربان لا مجال له على الإطلاق في المسيحية الآن، لأنه لم يكن إلاّ رمزاً إلى كفارة المسيح، كما ذكرنا في كتاب كهنوت المسيح.
[2] - لأن هذا هو ما يدل عليه الأصل اليوناني، كما تدل عليه الترجمات الأجنبية جميعاً.
[3] - ومن الأعمال الميتة في الوقت الحاضر، الصدقات والأصوام التي يقوم بها المؤمنون بالاسم كمجرد واجبات دينية، لأنها لا تقضي على الخطية الكامنة فيهم، كما أنها ملوثة بنقائص متعددة مثل التقتير والتباهي، والمصلحة الذاتية (كتجنب عقاب الله والحصول على ثوابه) الأمر الذي يجعلها بلا جدوى أمامه من الناحية الروحية الأبدية. فضلاً عن ذلك فإن هذه الأعمال محدودة في قيمتها، بينما حق الله الذي أساؤوا إليه بعمل الخطيئة، لا حدّ لقيمته، والأشياء المحدودة في قيمتها لا تفي حقاً لأحد لقيمته، لذلك فإن الأعمال المذكورة لا يمكن أن تكون وسيلة للحصول على الغفران، لأن الله كما هو رحيم، هو عادل أيضاً، وذلك لكماله المطلق في ذاته وفي كل صفة من صفاته. أما الذي وفى مطالب عدالة الله التي لا حدّ لها، فهو المسيح، وذلك بكفارته التي قدمها على الصليب (يوحنا 19: 20) ومن ثم كان الخلاص من الخطيئة هبة مجانية من الله على أساس هذه الكفارة، وكان في وسعنا الحصول عليه بواسطة الإيمان الحقيقي (رومية 3: 24)، كما ذكرنا بالتفصيل في كتاب
" فلسفة الغفران".
[5] - لأن كلمة "العماد "يراد بها في أصلها السرياني "الاغتسال".
- عدد الزيارات: 3620