تطهير المصابين بالبرص[1] والملوثين بالنجاسة في العهد القديم
الباب الخامس: الخدمات الكهنوتية الخاصة بالناس في العهد القديم ومدلولها في العهد الجديد
أولاً-تطهير المصابين بالبرص في العهد القديم، ومدلوله في العهد الجديد
بالرجوع إلى (لاويين13و 14) يتضح لنا ما يأتي:
1-إذا رأى الكاهن في جسم إنسان بقعة ذات علامات معينة، كان يعتبره (بما له من تمييز كهنوتي) مصاباً بالبرص. ومن ثم كان يطرده خارج المحلة، فيذهب المسكين إلى هناك مشقوق الثياب عاري الرأس. كما كان يغطي شاربه وينادي وهو خارج المحلة، قائلاً عن نفسه "نجس نجس". وذلك لكي لا يدنو أحد منه، فيتنجس مثله. لكن إذا رأى الكاهن أن الإصابة غطت جسم الأبرص كله، كان يعتبره طاهراً- وإزاء ذلك نقول:
إن البرص كان رمزاً إلى الخطيئة، فإنها تجلب العار والمذلة على صاحبها، كما تفقده مقامه بين الناس وتحول بينه وبين العلاقة مع الله. واعتبار الإنسان الذي تصدر منه أصغر الخطايا، لا يعتبر أمام الله باراً بل خاطئاً ونجساً أيضاً (متى5: 22). لكن بمجرد اعتراف هذا الإنسان بعدم وجود شيء صالح فيه (رومية7: 18)، تتداخل نعمة الله وتعلن طهارته بناء على كفاية كفارة المسيح (1يوحنا1: 7). وتصرف كهنة العهد القديم هذا، فيه إشارة إلى أن المؤمنين الحقيقيين القائمين في حضرة الله يستطيعون بما لديهم من تمييز كهنوتي أن يدركوا أي شر يمكن أن يوجد في إنسان ما بينهم[2]، ولذلك يقومون بعزله، إذا لم يصلح النصح فيه (1كورنثوس5: 13). لكن إذا وجدوا أنه تاب توبة حقيقية، فإنهم يعيدونه إلى الشركة معهم (2كورنثوس2: 7و 8).
2-وعندما كان الأبرص يعتبر طاهراً، كان الكاهن يأمر بأخذ عصفورين، مع خشب أرز وقرمز وزوفا. وبعد ذبح أحد العصفورين في إناء خزفي على ماء حي (أو بالحري ماء جار)، كان يغمس العصفور الآخر مع الأرز والقرمز والزوفا في دم العصفور المذبوح، ثم ينضح على الأبرص الذي برئ بالدم، سبع مرات. وبعد ذلك كان يطلق العصفور الحي على وجه الصحراء. أما الأبرص فكان يغسل ثيابه ويحلق شعره ويستحم بماء. وبعد سبعة أيام كان يحلق شعر رأسه ولحيته وحواجب عينيه- وإزاء ذلك نقول:
(أ)-إن العصفور المذبوح يرمز إلى ربنا يسوع المسيح الذي مات كفارة عنا ليطهرنا من خطايانا، والإناء الخزفي رمز إلى الشعور بالضعف (2كورنثوس4: 7)، والماء الحي رمز إلى كلمة الله عاملة بقوة الروح القدس (أفسس5: 26). أما العصفور الحي- فلاقترانه بالعصفور المذبوح بواسطة انغماسه في دمه، ثم تركه طليقاً بعد ذلك ليطير نحو السماء- كان رمزاً إلى ربنا يسوع مقاماً من الأموات وصاعداً إلى السماء، حاملاً معه آثار كفارته الكريمة أمام الله (عبرانيين9: 12)، لتبرير كل من يؤمن إيماناً حقيقياً وخشب الأرز لضخامة شجره، يشير إلى كل ما في العالم من رفعة. والقرمز، للونه الأحمر الزاهي، يشير إلى كل ما في العالم من رونق. وعشب الزوفا، لصغره وقصره، يشير إلى الظهور بمظهر التواضع الجسدي (كولوسي2: 18و 23). والماء الحي الذي يوضع فيه الدم رمز إلى الكرازة بكلمة الله المصحوبة بالروح القدس (أفسس5: 16، يوحنا7: 38- 39)، عن الكفارة التي قام بها المسيح. وغمس الأرز والقرمز والزوفا في الماء المذكور، رمز إلى أن الناس سواء أكانوا في نظر أنفسهم أبراراً أم أشراراً، عظماء أم أدنياء، يحتاجون إلى التطهير بالدم والغسل بكلمة الله. ونضح المتطهر بالماء والدم رمز إلى قبول الخاطئ في نفسه للكفارة كما هي معلنة في كلمة الله، الأمر الذي يؤثر في نفسه وينقيها. ومن ثم يصبح طاهراً في الباطن، كما هو طاهر في الخارج أمام الله في المسيح.
(ب)-وغسل الأبرص لثيابه إشارة إلى التدريب الروحي الذي يقوم به الخاطئ الذي يؤمن، وذلك للتخلص من كل الأقذار السابقة. وحلق الأبرص لشعره واستحمامه بماء، إشارة إلى الاحتياطات التي يجب على هذا الشخص اتخاذها، للسلوك بالقداسة والطهارة. وقيام الأبرص بهذه الأعمال بعد سبعة أيام، إشارة إلى بقاء الشخص المذكور مدة كافية من الزمن يمتحن فيها نفسه، حتى يقضي على كل فكر أو قول أو فعل يتعارض مع قداسة الله حتى يكون مهيأ للعبادة مع القديسين.
3-وبعد ذلك، كان الأبرص الذي تم تطهيره يأتي بخروفين بلا عيب ونعجة واحدة حولية بلا عيب، وثلاثة أعشار دقيق تقدمه ملتوتة بزيت، ولج زيت[3]. فيقدم الكاهن الخروف الأول ذبيحة إثم ويردده أمام الرب. ثم يأخذ من دمه ويضع على شحمة أذن الأبرص المذكور اليمنى وعلى إبهام يده اليمنى وعلى إبهام رجله اليمنى. وبعد ذلك كان الكاهن يمسح هذه الأعضاء بالزيت. ثم يصب الباقي منه على رأس هذا الأبرص. وأخيراً كان يقدم الخروف الثاني ذبيحة خطية والنعجة ذبيحة محرقة، وتقدمة الدقيق قرباناً رائحة سرور لله- وإزاء ذلك نقول:
(أ)-إن تقديم ذبيحة الإثم عن الأبرص المذكور، رمز إلى أنه ليس هناك اقتراب إلى الله إلا على أساس ذبيحة المسيح الكفارية. ومسح أعضائه المشار إليها بالزيت بعد الدم، إشارة إلى أن المؤمن المفدى بالدم، يجب أن ينقاد بالروح القدس في كل عمل من أعماله. فلا يستمع إلا لأقوال الله، ولا يعمل إلا ما يريده الله، ولا يسير إلا في طريق الله. وصب باقي الزيت على رأسه، إشارة إلى أن هذا المؤمن أصبح بكلياته وجزئياته ملكاً لله، فمكتوب "وهو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام" (2كورنثوس5: 14- 15).
(ب)-وتقديم ذبيحتي الخطية والمحرقة معاً إشارة إلى توجيه نظر المؤمن المذكور إلى فوائد كفارة المسيح المتعددة، التي تواجه كل حاجة من حاجاته فهي تنزع عنه من أمام الله شر الطبيعة الخاطئة التي لا تصلح بأي مجهود ذاتي كما تجعله مقبولاً كل القبول أمامه تعالى في المسيح، وبذلك تستريح نفس هذا المؤمن كل الراحة ويقدم لله الشكر اللائق برحمته ونعمته. وتقديم تقدمة الدقيق إشارة إلى توجيه نظره بعد ذلك إلى كمالات المسيح حتى تشبع نفسه به ويجد فيه كل لذته ومسرته، الأمر الذي يقوده إلى التمسك به والسير في سبيله.
ثانياً-تطهير الملوثين بالنجاسة المادية، ومدلوله في العهد الجديد
إن مراعاة القداسة الكاملة في كل أمر من الأمور، عمل ضروري لكل المؤمنين الحقيقيين، حتى تكون لهم علاقة مستمرة مع الله. ولذلك وضع تعالى أمامنا العلاج الكافي لكل نجاسة يمكن أن نتعرض لها أثناء سيرنا في العالم الحاضر، ليس لكي نتبرر أمامه تعالى (لأن تبريرنا تم مرة واحدة وإلى الأبد بواسطة كفارة المسيح الدائمة الأثر، عندما آمنا به إيماناً حقيقياً (رومية5: 1))، بل لكي تظل شركتنا معه دون عائق أو مانع طوال سيرنا في هذا العالم. وفيما يلي نرى العلاج الذي وضعه الله في العهد القديم للتطهير من النجاسة المادية، مثل ليس الميت أو شيء قذر (العدد19). وما نستطيع أن نفيده من هذا العلاج بحالة روحية في العهد الجديد:
1-كان بنو إسرائيل يقدمون لأليعازر الكاهن بقرة حمراء صحيحة لا عيب فيها، ولم يوضع عليها نير- وإزاء ذلك نقول:
(أ)-إن كون البقرة أنثى، إشارة إلى ظهور المسيح بمظهر الضعف وخضوعه حتى الموت موت الصليب (مزمور102: 23، 88: 4، 2كورنثوس13: 4)، وذلك لعلاج كل ضعف (2كورنثوس12: 9و 10) يمكن أن يظهر فينا. كما أننا إذا فتحنا قلوبنا للشر المحيط بنا في الخارج، أو سمحنا لطبيعتنا العتيقة بالظهور بشرها في أفكارنا وعواطفنا في الداخل، نضعف ونكون كمن لمسوا ميتاً، وتبعاً لذلك نكون قد تنجسنا وأصبحنا في حاجة إلى معونة المسيح.
(ب)-وكون البقرة صحيحة لا عيب فيها، إشارة إلى كمال المسيح وعدم وجود أي عيب فيه (1بطرس2: 22، 2كورنثوس5: 21، 1يوحنا3: 5). وكونها حمراء (أو بالحري مهيأة منذ ولادتها لتكون ذبيحة خطية)، إشارة إلى أن الغرض الوحيد من مجيء ربنا يسوع المسيح إلى العالم هو لكي يبذل نفسه فدية عن كثيرين (مرقس10: 45). وعدم انحنائها تحت أي نير، إشارة إلى عدم خضوع المسيح للخطية. فهو تبارك اسمه، لم يكن فقط خالياً منها، بل وأيضاً لم يذعن لها في أي دور من أدوار حياته.
2-وكانت هذه البقرة تذبح وتحرق أمام ألعازر خارج المحلة[4]، ثم ينضح من دمها إلى جهة وجه خيمة الاجتماع سبع مرات. وبعد حرقها بأكملها كان الكاهن يطرح في حريقها خشب الأرز وزوفا وقرمزاً، ثم يغسل ثيابه ويرحض جسده بماء، ويكون نجساً إلى المساء. والذي ذبح البقرة وحرقها يغسل ثيابه ويرحض جسده، ويكون نجساً أيضاً إلى المساء، ثم يجمع رجل طاهر رماد البقرة ويضعه خارج المحلة في مكان طاهر، فيكون بعد مزجه بماء حي (أو بالحري ماء جار) وسيلة للتطهير. وكان هذا المزيج يسمى "ماء النجاسة" أو "ماء الانفصال[5]". والذي جمع رماد البقرة كان يغسل ثيابه أيضاً، ويظل نجساً إلى المساء- وإزاء ذلك نقول:
(أ)-إن ألعازر الكاهن يرمز إلى المؤمن الحقيقي الذي يعيش في حضرة الله باستمرار، والذي يستطيع تبعاً لذلك أن يتداخل في تطهير العاثرين من إخوته. وذبح البقرة وحرقها أمام عينيه، رمز إلى إدراك هذا المؤمن من أول الأمر كفاية موت المسيح للتكفير عن الخطايا، وتأثره بهذه الحقيقة المباركة تأثراً عميقاً. وحرق البقرة بأكملها خارج المحلة، رمز إلى أن الله اعتبر المسيح بوصفه نائبنا، كأنه ذات جسد الخطية الذي لا يسكن فيه شيء صالح، والذي يجب إبعاده نهائياً عنه تعالى (عبرانيين13: 12). ونضح الكاهن من دم الذبيحة إلى وجه خيمة الاجتماع سبع مرات، رمز إلى أن أساس الشركة مع الله، هو كفاية دم المسيح للتكفير عن الخطية. وطرح خشب الأرز والزوفا والقرمز في وسط حريق البقرة، رمز إلى طرح كل ما يفخر به الناس من رفعة أو رونق أو اتضاع ظاهري (أوبالحري ما يفخرون به من أعمال صالحة وعبادة منمقة وتقشف جسدي) لأن هذه الأعمال فضلاً عن أنها لا تستطيع أن تسدد شيئاً من مطالب عدالة الله التي لا حد لها، فإنه لا قيمة لها أمام الله إزاء دم المسيح الكريم (فيلبي3: 7- 9) إذ أن قيمة هذا الدم لا تقل عن قيمة المسيح، وقيمة المسيح لا حد لها على الإطلاق. وغسل الكاهن لثيابه وترحيضه لجسده واعتباره نجساً إلى المساء، رمز إلى أن المؤمن الحقيقي الذي يتأمل في المسيح كمن حمل الدينونة عنه وعن الآخرين، يدرك ما في باطنه هو من فساد، حتى إذا لم يكن قد تدنس فعلاً بشر من الخارج. وبذلك يتقوى فيه الشعور بالحاجة إلى الاغتسال بكلمة الله المرموز إليها هنا بالماء، لكي يكون نقياً في باطنه النقاوة التي يريدها تعالى.
(ب)-والشخص الذي ذبح البقرة وحرقها، والذي جمع رمادها بعد ذلك، رمز إلى المؤمنين الذين يتعاونون مع المؤمن الأول (المرموز إليه بأليعازر) في خدمة العاثر من إخوتهم. وغسل الشخصين المذكورين لثيابهما وترحيضهما لجسديهما واعتبارهما نجسين إلى المساء، إشارة إلى أن هؤلاء المؤمنين في علاجهم للعاثر يتذكرون خطاياهم الشخصية السالفة، ومن ثم يعتبرون أنفسهم نجسين حتى إذا لم يكونوا قد عملوا وقتئذ في الظاهر خطية ما. ولذلك عليهم أن يضعوا ذواتهم تحت تأثير كلمة الله الحية الفعالة لكي تتطهر كل أفكارهم وعواطفهم وتكون في الحالة التي تتوافق مع قداسة الله. كما عليهم أن يقوموا بالخدمة المذكورة وهم في حالة الاتضاع، عالمين أنهم هم أنفسهم قد يحتاجون يوماً ما إلى مثلها. فقد قال الرسول "أيها الإخوة: إن انسيق إنسان فأخذ زلة، فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة ناظراً إلى نفسك، لئلا تجرب أنت أيضاً" (غلاطية6: 1).
3-أما الشخص الذي لمس ميتاً وأصبح نجساً من الناحية الطقسية، فكان يرش عليه ماء النجاسة (أو الانفصال) في اليوم الثالث، كما كان يغسل أيضاً نفسه بهذا الماء. وإذا لم يتطهر في هذا اليوم، لا يكون طاهراً في اليوم السابع- وإزاء ذلك نقول:
(أ)-إن ترك المتنجس جانباً ثلاثة أيام لأنه لمس جثة، إشارة إلى أن المؤمن من العاثر يجب أن تعطى له الفرصة المناسبة للحزن على خطيته، والشعور بعدم أهليته للتمتع بالشركة مع الله. وإتيان شخص طاهر (أو بالحري له شركة حقيقية مع الله) إلى المتنجس بعد ذلك ليرش عليه ماء النجاسة، إشارة إلى تزويد المؤمن العاثر بكلمة الله العاملة بقوة الروح القدس. وعدم اكتفاء المتنجس برش هذا الماء عليه، وقيامه بتطهير نفسه شخصياً به، إشارة إلى أن هذا المؤمن، يجب أن يضع نفسه بنفسه تحت تأثير كلمة الله الحية الفعالة حتى تقضي على كل فكر شرير يمكن أن يكون فيه[6]. وقد أشار الرسول إلى ذلك فقال "فإذ لنا هذه المواعيد أيها الأحباء، لنطهر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح مكملين القداسة في خوف الله" (2كورنثوس7: 1).
(ب)-وصيرورة المتنجس طاهراً في اليوم الثالث، إشارة إلى استراحة ضمير المؤمن الذي أخطأ، بعد أن يكون قد ندم تماماً على خطيته، وأدرك أن المسيح قد حمل فعلاً نجاستها (كما حمل قصاصها) عنه. وتركه لغاية اليوم السابع إشارة إلى أنه يجب أن تكون لهذا المؤمن الفرصة الكافية للحكم على ذاته، حتى يحصل على إدراك كامل لوجوب مراعاة القداسة في كل صغيرة وكبيرة في حياته، ويستطيع تبعاً لذلك القيام بالعبادة والخدمة مع إخوته المؤمنين في حضرة الرب.
30-البرص أحد الأمراض المعدية الخطيرة، وبه تتآكل المفاصل وأصابع الأيدي، ثم أصابع الأرجل، ثم الأنف. ومن ثم فهو رمز إلى الخطية في شرها ونتائجها المريعة.
31-مما تجدر الإشارة إليه أن الأبرص، كما هو رمز إلى الخاطئ البعيد عن نعمة الله، يمكن أن يكون أيضاً رمزاً إلى المؤمن الذي يؤخذ في زلة ما.
32-مكيال يساوي ثلث اللتر عندنا.
33-هذه هي الذبيحة الوحيدة التي كانت تذبح هناك.
34-لأنه كان يستعمل رمزاً إلى الانفصال عن الشر، والرجوع إلى الله.
35-وعلى هذا النسق نقول: إن طلب بعض الناس من الأتقياء أن يصلوا لأجلهم. لا يجدي عليهم خيراً، إلا إذا قاموا هم بالصلاة لأجل أنفسهم.
- عدد الزيارات: 5808