رفع البخور والعناية بالمنارة وترتيب خبز الوجوه، وما يدل عليه في العهد الجديد
أولاً- رفع البخور، ومدلوله في العهد الجديد
من (خروج30: 9- 10، 34- 38) نرى أن البخور كان يرفع إلى الله داخل القدس، على مذبح الذهب أو البخور[1]. وكان يتكون من أربعة أصناف عطرية هي: الميعة (وتشبه المر السائل)، والأظفار (وهي مادة صلبة تطحن، وتصدر منها رائحة طيبة) والقنة (وهي دهن له رائحة نفاذة، وتستعمل لتثبيت العطور وحفظ رائحتها)، واللبان النقي (ويستعمل في صناعة بعض الأدوية). وكانت هذه المواد تؤخذ بمقادير متساوية. وبعد سحقها جيداً تملح بملح لصيانتها من الفساد، ثم تركب معاً في تناسق تام، وإزاء ذلك نقول:
(أ)-إن الميعة رمز إلى محبة المسيح التي كانت تتقاطر منه أينما سار، والأظفار رمز إلى صلابته ضد كل انحراف عن الحق. والقنة رمز إلى بقاء صفاته كما هي بكامل فعاليتها في كل الظروف والأحوال. واللبان رمز إلى قدرته على علاج النفوس وشفائها من عللها. وكما أن رائحة البخور من شأنها أن تتصاعد إلى العلاء وتفيح في كل الأرجاء، هكذا فإن حياة المسيح التي عاشها على الأرض قد أنعشت (إن جاز التعبير) قلب الله في السماء، وأنعشت وتنعش قلوب قديسيه في كل الأنحاء. ومن ثم كان هذا البخور يعتبر "قدس أقداس"، أي لا يجوز لإنسان أن يصنع مثله، وكان ذلك إشارة إلى أن المسيح لا مثيل له في كماله على الإطلاق.
والمؤمنون الحقيقيون في العهد الجديد، بوصفهم كهنة لله، ليس لديهم بخور (أو تعبد) يرفعونه إليه، أسمى من أن يظهروا اعتزازهم القلبي بكمالات المسيح، وأن يرفعوا أمامه شكرهم العميق لأجل بركاته الغنية. كما أن الله في مجده، ليس هناك أشهى وأجمل لديه من أن يراهم يعتزون بابن محبته، ويقدرون بركاته حق التقدير بكل قلوبهم.
(ب)-وبمناسبة أهمية البخور في العهد القديم نقول: إننا إذا رجعنا إلى حادثة القضاء على قورح ورفقائه، الذين أرادوا أن يقيموا أنفسهم كهنة بدون أمر الله، نرى هرون يأخذ المجمرة ويضع فيها بخوراً مع نار من المذبح، ويذهب بها مسرعاً إلى الشعب ليكفر عنهم (العدد16: 46) وهناك وقف ببخوره بين الموتى والأحياء، فامتنع الوباء- وكان ذلك رمزاً إلى ربنا يسوع المسيح الذي على أساس رائحته الذكية المنبعثة من كمالاته، يشفع في شعبه كرئيس الكهنة جالباً إليهم رضى الله وعطفه في كل حين.
والبخور، كما يرمز إلى المسيح، يرمز أيضاً إلى الصلاة. فقد جاء في (رؤيا5: 8) عن الشيوخ "ولهم جامات من ذهب مملوءة بخوراً هي صلوات القديسين. وقد عرف هذه الحقيقة كاتب المزامير فقال لله "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك" (مزمور141: 2)، أما البخور في حد ذاته فر قيمة له لدى الله في العهد الجديد، إذ أن هذا العهد ليس عهد الرموز بل عهد الحقائق الروحية.
وهناك علاقات وثيقة بين مذبح المحرقة وبين مذبح البخور: (الأولى) كان هرون يقدم على المذبح الأول كل صباح ومساء المحرقة الدائمة، ثم يدخل تواً إلى القدس لكي يوقد البخور على المذبح الثاني (الثانية) إن الدم الذي كان يسفك على المذبح الأول، كان يؤخذ بعضه إلى الثاني، وذلك للدلالة على أن الفداء الذي تم على الصليب هو أساس العبادة التي يليق تقديمها لله. (الثالثة) إن النار التي كان يوقد عليها البخور عند المذبح الثاني، كانت تؤخذ من النار التي على المذبح الأول، الأمر الذي يدل على أن رائحة عمل المسيح الكفاري على الصليب، هي الرائحة الذكية الوحيدة التي يسر الله أن يتقبلها في حضرته.
(د)-أخيراً نقول إن الوحي كان يحذر كهنة العهد القديم (أولاً) من استعمال بخور غريب، وكان ذلك إشارة إلى أنه لا شيء سوى رائحة المسيح الذكية يمكن أن يقبلها الله في عبادتنا. (ثانياً) من تقديم ذبيحة أو تقدمة أو سكيب على مذبح البخور. لأن في هذا خلطاً بينه وبين مذبح المحرقة- وهذا الخلط هو ما يقع فيه من يجتمعون للعبادة في الوقت الحاضر وهم غير متأكدين من أمر خلاصهم. ولذلك عوضاً عن أن يتأملوا في المسيح ويقدموا الحمد والشكر لله، لأجل ما نالوه من عطاياه، ينشغلون بأنفسهم فيتوسلون إليه لأجل خلاصها (ثالثاً) من تقديم نار غريبة، لأن النار الوحيدة التي كانت تستعمل في البخور، هي المأخوذة من مذبح المحرقة، أو بالحري من عند الرب (لاويين9: 24) وكان ذلك إشارة إلى أن العبادة يجب أن تكون نابعة من المسيح في كمال عمله الكفاري، وليس من عواطف بشرية أياً كان نوعها.
ثانياً-العناية بالمنارة، ومدلولها في العهد الجديد
من (خروج25: 31- 40، 27: 20، 7، 8) يتضح لنا ما يأتي:
(أ)-إن المنارة كانت تصنع من الذهب النقي[2]، إشارة إلى أن الرب يسوع هو ابن الله الكامل الذي أضاء العالم بنوره الأدبي الوهاج. فقد قال عن نفسه "أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة" (يوحنا8: 12). وكون المنارة هي الواسطة الوحيدة لإضاءة القدس (لأنه لم يكن به أية نافذة يدخل منها النور من الخارج)، إشارة إلى أن الرب يسوع هو النور الوحيد الذي يجب أن نسير في هداه. والفروع الستة الخارجة من المنارة والتي تضيء مثلها، رمز إلى المؤمنين الحقيقيين الذين بسبب اتحادهم المستمر بالمسيح، يضيئون في العالم بحياتهم الطاهرة وأعمالهم الصالحة. فقد قال المسيح لهم "أنتم نور العالم" (متى5: 14). وقال الرسول عنهم إنهم كأنوار في العالم (فيلبي2: 15). وزيت الزيتون النقي الذي كان يوضع في سرج المنارة من وقت لآخر لكي تظل منيرة على الدوام، إشارة إلى الروح القدس الذي مسح به المسيح كابن الإنسان (إشعياء61: 1)، كما مسح به المؤمنون الحقيقيون (2كورنثوس1: 21و 22)، وهذا الروح هو العامل فيهم للإضاءة، وبالحري لإظهار صفات المسيح في حياتهم.
(ب)-والملاقط التي كانت تستخدم في النقاط البقايا المحترقة من فتائل السرج، إشارة إلى الوسائل التي يحتاج إليها المؤمنون الحقيقيون (بوصفهم الأواني التي يستخدمها الروح القدس للإضاءة في العالم) لأجل تنقيتهم حتى يقوموا بهذه المهمة خير قيام. والمنافض التي كانت تجمع فيها المواد المحترقة لكي لا تتناثر هنا وهناك، إشارة إلى أن ما يبدو من هؤلاء المؤمنين من النقائص يجب ألا يذاع، بل أن يحصر في أضيق دائرة ممكنة، ثم يوارى في الحال عن الأنظار.
وإن كانت خدمتا "تنقية المؤمنين وعدم إذاعة ما يبدو منهم من نقائص" يقوم بهما الرب يسوع المسيح نفسه مباشرة لهؤلاء المؤمنين، وذلك بواسطة تأثير الروح القدس وكلمته في قلوبهم، غير أنه كثيراً ما يدعو بعضهم للقيام بها نحو البعض الآخر، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض" (يوحنا13: 14). وقد أشار الرسول إلى هذه الحقيقة فقال لهم "أيها الإخوة إن انسبق إنسان فأخذ في زلة، فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة ناظراً إلى نفسك، لئلا تجرب أنت أيضاً" (غلاطية6: 1). وبهذه الوسيلة يمكن رد نفوس العاثرين من المؤمنين إلى الله، وتجنيبهم الاستمرار في الخطأ الذي يجلب عليهم العار والتأديب.
(ج)-ومما تجدر ملاحظته أن الكاهن كان يصلح السرج في كل صباح، في نفس الوقت الذي كانت تقدم فيه المحرقة الدائمة ويوقد البخور الدائم، الأمر الذي يرمز إلى أنه على أساس كمال ذبيحة المسيح، تؤدي الخدمات الكهنوتية لإظهار قوة الروح القدس في حياة المؤمنين، حتى تكون شهادتهم مضيئة ولامعة، ويكون سجودهم مقبولاً أمام الله- فخدمة المسيح الكهنوتية في السماء على أساس ذبيحته الكاملة فوق الصليب مرتبطة كل الارتباط بإظهار نوره في حياة المؤمنين، ومرتبطة أيضاً كل الارتباط بتقديم هؤلاء للعبادة المقبولة أمام الله. ومن هذا يتضح لنا أن عبادة المؤمنين في الأقداس، وسلوكهم في العالم كأنوار له، مرتبطان كل الارتباط.
ثالثاً-ترتيب خبز الوجوه
وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في فصل الأطعمة الكهنوتية، ولا داعي لتكرار ما ذكرناه.
28-كان يسمى مذبحاً بسبب رفع البخور أمامه، لأن البخور رمز إلى التسبيح، والتسبيح يعتبر ذبيحة في نظر الله كما مر بنا. وكان هذا المذبح مصنوعاً من خشب السنط المغشى بالذهب النقي، إشارة إلى شخص ربنا يسوع المسيح بوصفه الله الظاهر في الجسد. وكان هذا المذبح أعلى من التابوت والمائدة، إشارة إلى أن المسيح هو القائد الوحيد لتسبيح شعبه. وكانت للمذبح قرون على جوانبه، إشارة إلى قوة خدمة المسيح الكهنوتية التي تضمن قبول تسبيحنا لدى الله. أما الإكليل الذهبي الذي كان يوجد حول قمة هذا المذبح، فإشارة إلى المجد والكرامة المكلل بهما المسيح (عبرانيين2: 9) والذي على أساسهما يخلع على عبادتنا قيمة عظمى أمام الله.
29-يقال إن وزنها كان 75 كيلو جراماً من الذهب النقي
- عدد الزيارات: 5215