Skip to main content

الذبائح، ومدلولها في العهد الجديد

الباب الثالث: الأطعمة الكهنوتية في العهد القديم، ومدلولها في العهد الجديد

(أولاً) ذبيحة السلامة[1]:

بالرجوع إلى (لاويين3: 1- 16، 7: 28- 36، 10: 14) يتضح لنا ما يأتي:

1-أن هذه الذبيحة ليست رمزاً إلى المسيح، بوصفه الذي صنع لنا الصلح والسلام بدم صليبه مع الله، وإن كان هذا حقاً لا شك فيه، بل هي رمز إليه كمن على أساس كفارته جعل للمؤمنين الحقيقيين شركة مع الله ومع بعضهم بعضاً، الأمر الذي يدعوهم إلى تقديم الشكر إليه، لأن الوحي يطلق على الذبيحة المذكورة اسم "ذبيحة شكر السلامة". ولذلك كان الله يتقبل على مذبحه شحمها وكليتيها وزيادة الكبد منها. وكان هرون وبنوه وبناته يأخذون صدرها وكان الكاهن الذي يعملها يأخذ ساقها. وباقي الذبيحة كان يأكله هو والذين معه. وهكذا كان جميع أفراد البيت الكهنوتي يشتركون فيها.

2-إن حرق بعض أجزاء الذبيحة المذكورة على مذبح الله، واشتراك الكهنة ومقدم الذبيحة في الأكل من البعض الآخر، رمز إلى الشركة الروحية الثمينة التي بها نتمتع نحن المؤمنين في العهد الجديد مع الله ومع بعضنا البعض. وقد أشار الرسول إلى هذه الشركة فقال عن المسيح "الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً" (1يوحنا 1: 3- 4) لأننا جميعاً (مع الرسل والأنبياء) لنا إيمان متساو (2بطرس1: 1) وخلاص مشترك (يهوذا:3)، وتبعاً لذلك لنا في المسيح نصيب مشترك وفرح مشترك- وطبعاً كما أننا نسر بالشركة مع الرب، فهو أيضاً يسر بالشركة معنا. وقد أشار المسيح إلى هذه الحقيقة، فأعلن لنا أنه لا يشرب من نتاج الكرمة (أو بالحري لا يتمتع بالأفراح السماوية) إلى ذلك اليوم، حينما يشربه معنا جديداً في ملكوت الآب (متى26: 29).

3-إن الأكل من ساق الذبيحة رمز إلى التمتع بقوة كفاية كفارة المسيح. والأكل من صدرها رمز إلى التمتع بالعواطف الكريمة التي قادت المسيح إلى تقديم نفسه كفارة. والإناث في بيت هرون اللاتي كن يشتركن في الأكل، رمز إلى المؤمنين الضعفاء، لأن هؤلاء مهما كان أمرهم، يجب أن يتغذوا بمحبة المسيح وقوته. فمحبته تشبع قلوبهم وتريح ضمائرهم وترفع من نفسياتهم. وقوته تمنحهم اليقين بإمكانية الغلبة على جميع الأهواء والشهوات، كما تمنحهم اليقين بأنه لا يستطيع أحد أن يخطفهم من يد المسيح (يوحنا10: 28).

4-وعدم إبقاء شيء من هذه الذبيحة إلى اليوم الثالث، لئلا تصبح أمام الله مرفوضة ونجسة، رمز إلى أن الشكر لله يجب أن يكون مقترناً بالتأثر القلبي الكافي بكفارة المسيح. فإذا انعدم هذا التأثر أو قل، رفض الله الشكر بل واعتبره نجاسة أيضاً، وبذلك يحرم صاحبه من البركة، ويكون موقفه موقف من رفع لله بخوراً بواسطة نار غريبة عن نار المذبح (لاويين10: 1).

(ثانياً) ذبيحة الملء:

بالرجوع إلى (خروج29: 1- 37، لاويين8: 1- 36)، يتضح لنا ما يأتي:

1-أن بني هرون مع أبيهم وموسى النبي كانوا (بوصفهم عائلة الله المكونة من الآباء والأحداث والأولاد) يأكلون ما تبقى من ذبيحة الملء التي سبق أن وضعوا أيديهم عليها، ومن فطيرها الذي سبق أن ملأوا أيديهم منه عند تقديسهم، وذلك عند باب خيمة الاجتماع. كما كان عليهم أن يظلوا هناك مدة سبعة أيام كاملة، لئلا يقع عليهم قضاء الموت- وكان ذلك رمزاً إلى أن المؤمنين الحقيقيين الذين تمتعوا بالقبول الأبدي أمام الله في المسيح، يجب أن يتغذوا به (يوحنا6: 35- 58) في الأقداس السماوية. وأن ملء أيديهم منه أو بالحري ملء قلوبهم منه، هو السبيل الوحيد لوجودهم في حالة القداسة العملية التي تجعلهم قريبين منه، ومهيئين للقيام بخدماتهم الكهنوتية لله. كما يجب أن يظلوا في هذه الأقداس بقلوبهم كل حين لأن العدد "7" رمز إلى الكمال. أما إذا اتجه قلب واحد منهم إلى العالم، تعطلت شركته مع الله وحرم من التمتع ببركاته، الأمر الذي كان يرمز إليه قديماً بموت الكهنة، إذا تركوا باب خيمة الاجتماع قبل مرور السبعة أيام اللازمة لتقديسهم.

2-ومما تجدر الإشارة إليه أن الله في نعمته الغنية يدعونا للإقامة في حضرته طوال أيام حياتنا، لكي نفرح معه بابنه ونشاركه في عواطفه السامية من نحوه. حقاً إننا لا نستطيع التمتع بهذا الامتياز من تلقاء أنفسنا، لكن عندما نغض النظر عن أهواء العالم، ونسلم قلوبنا للروح القدس الساكن فينا تسليماً كاملاً، يستطيع أن يهيئنا للتمتع بالامتياز المذكور على أكمل وجه. أما إذا انشغلنا بالأمور العالمية. فإننا مهما سمعنا عن المسيح أو فكرنا فيه، لا يمكن للأسف أن نفيد منه، أو نجد بهجة في الشخوص إليه!!.

3-وحرق ما يتبقى من الذبيحة المذكورة في اليوم التالي، إشارة إلى أن تغذي المؤمنين الحقيقيين بالمسيح ينبغي ألا ينفصل عن التأثر الكافي بذبيحته، لأن هذا التأثر هو الأساس الوحيد لإمكانية التغذي بالمسيح. وإشارة أيضاً إلى أن هذه التغذية يجب أن تكون بأشواق حارة خالصة، وإلا فإننا لا نفيد منه كما ذكرنا.

(ثالثاً) ذبيحة الإثم[2]، وذبيحة الخطية[3]التي لم يدخل بدمها إلى قدس الأقداس:

بالرجوع إلى (لاويين4، 5، 6) يتضح لنا ما يأتي:

1-إن تسجيل الوحي عن هاتين الذبيحتين أنهما قدس أقداس (لاويين10: 27)، يدل على أنهما من أخص الأمور المتعلقة بالله. وهذا ما يدعونا للنظر إلى الخطية في نور قداسته، لنرى شناعتها وكراهيته الشديدة لها. والذبيحة الأولى رمز إلى المسيح بوصفه الذي حمل قصاص آثامنا الفعلية. والثانية رمز إليه بوصفه الذي حمل شر طبيعتنا الفاسدة الداخلية التي ورثناها من آدم.

والأكل من هاتين الذبيحتين فيه معنى من معاني التكفير لأنه يدل على اشتراك الكاهن إلى حد ما في تحمل مسؤولية خطأ الذين قدموها. فقد قال موسى لابني هرون "ما لكما لم تأكلا ذبيحة الخطية في المكان المقدس، لأنها قدس أقداس. وقد أعطاكما الرب إياها لتحملا إثم الجماعة تكفيراً عنها أمام الرب" (لاويين10: 17). نعم ليس هناك من يستطيع الاشتراك مع مخلصنا الكريم في حمل دينونة خطايا الآخرين. لكن المسيح لم يحمل دينونتها فحسب، بل شعر أيضاً بشناعتها. وفي هذا الشعور يمكن أن نشترك نحن معه ككهنة مقدسين لله، يكرهون الخطية كما يكرهها، ونتألم كثيراً لارتكاب الناس لها، لأنها تعد على حقوقه وإساءة إلى شخصه.

2-والأكل من هاتين الذبيحتين في دار خيمة الاجتماع، إشارة إلى أن مهمة الاشتراك في الشعور بشناعة خطايا العاثرين، لا يمكن القيام بها إلا في حالة الاتصال القلبي بالله. وقصر الأكل منهما على الذكور إشارة إلى أن الأقوياء من المؤمنين الحقيقيين (أو بالحري الأتقياء جداً منهم) هم وحدهم الذين يستطيعون القيام بهذه المهمة[4]. فعوضاً عن أن ينتهروا العاثرين من إخوتهم أو يبتعدوا عنهم أو يسرعوا إلى عزلهم، يبكون في حضرة الله بسبب خطاياهم كأنهم هم الذين عملوها. ويتضرعون إليه أن ينتشل هؤلاء العاثرين من سقطتهم حتى يستطيعوا العودة إلى الشركة معه.

وإذا رجعنا إلى العهد القديم نرى أيضاً أشخاصاً أتقياء أدركوا المعنى الروحي للأكل من ذبيحة الخطية الذي ذكرناه ومارسوه أيضاً على أكمل وجه، نذكر منهم عزرا (9: 5- 15) ونحميا (9: 32- 38) ودانيال (9: 4- 19).

ولذلك يقول الرسول للمؤمنين "فيجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل أضعاف الضعفاء، ولا نرضى أنفسنا" (رومية15: 1). ويقول لهم أيضاً "احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمموا ناموس المسيح[5]" (غلاطية6: 2). وأيضاً "اسندوا الضعفاء" (1تسالونيكي5: 14). وقد ضرب بولس الرسول المثل الأعلى في التأثر بضعفات المؤمنين فقال: "من يضعف وأنا لا أضعف[6]، من يعثر وأنا لا التهب!!" (2كورنثوس11: 29). فضلاً عن ذلك قد بلغت محبته للناس وعطفه عليهم درجة تمنى معها لو كان من الممكن أن يكون هو محروماً من المسيح، لكي يتمتعوا هم بخلاصه الثمين (رومية9: 3) مقتدياً في ذلك إلى حد ما بالمسيح نفسه، الذي حمل في جسده خطايانا حاسباً إياها خطاياه، وقابلاً في نفسه على الصليب قصاصها الجهنمي نيابة عنا.

والحق إن تحمل بعض المؤمنين خطايا الآخرين، هو أسمى الخدمات الكهنوتية وأرفعها، إذ فيه تختفي الذات منهم، ولا يكون أمامهم سوى مجد الله وخير البشر- فضلاً عن ذلك، فإن هذا العمل يزيد الحساسية الروحية فيهم، فينظرون إلى الخطية بنظرة الله إليها، ومن ثم يبغضونها بكل قلوبهم ويجتهدون أن يعيشوا مع الله في كل حين، حياة القداسة التي يرتضيها.

3-وعدم إبقاء شيء من هاتين الذبيحتين إلى الصباح (وليس إلى اليوم الثاني أو الثالث، كما كانت الحال مع بعض الذبائح الأخرى) إشارة إلى أن خدمة تحمل خطايا الآخرين هي أدق الخدمات الكهنوتية، إذ تتطلب من القائم بها أن يكون متأثراً كل التأثر بمحبة المسيح الغنية التي جعلته مع عظمته التي لا حد لها، يحمل في نفسه على الصليب خطايانا بأسرها، بكل ما فيها من نجاسة لا تطاق وما تستحقه من قصاص لا يحد.


15-كلمة "السلامة" هذه، ترد في الأصل العبري في صيغة الجمع، ومن ثم يراد بها السلام من كل ناحية من النواحي.

16-ذبيحة الإثم كانت خاصة بالخطية من حيث ظهورها في الخارج. وكان ينظر إلى الذنب فيها باعتباره تعدياً على شريعة الله، كما في حالات التقصير في أداء العشور، والاستيلاء على مال الآخرين. ولذلك كانت هذه الذبيحة مقترنة بالتعويض المناسب، الأمر الذي يشير إلى أن المخطئ يجب ألا يسعى للحصول على الصفح فقط، بل ويجب أيضاً أن يرد الحقوق إلى أصحابها، وذلك لكي يتعلم التدقيق في سلوكه.

17-ذبيحة الخطية كانت خاصة بالخطية ليس من حيث فعلها الخارجي فحسب، بل وأيضاً من حيث كونها فساداً في الطبيعة البشرية لا يصلح بحال. ومن ثم لم يكن ينظر فيها إلى الخطية باعتبارها تعدياً فقط (كما هي الحال مع ذبيحة الإثم)، بل وأيضاً كنجاسة ضد طبيعة الله القدوس. ولذلك فإنه إذا كان يدخل بدم هذه الذبيحة إلى قدس الأقداس، كانت تحرق بأكملها خارج المحلة، وليس على المذبح كما كانت الحال مع ذبيحة الإثم.

18-أما إذا كانت هناك خطية على ضمير واحد من هؤلاء الأقوياء، فإنه لا يستطيع طبعاً أن يحمل على نفسه خطية غيره. وقد عرف هذه الحقيقة هرون وابناه العازار وإيثامار من قبل فإنهما بعد ما قدما لله ذبيحة خطيتهما، لم يستطيعا الأكل من ذبيحة الخطية التي قدماها له من قبل (لاويين10: 16- 20).

19-ناموس المسيح هو المحبة لكل الناس.

20-أي أن الرسول كان يحس بالهزال والضعف الجسدي، إذا رأى أحد المؤمنين قد سقط في خطية ما.

  • عدد الزيارات: 7170