من جهة الملابس الكهنوتية
بالرجوع إلى (خروج28: 4- 40)، نرى أن ملابس أبناء هرون كانت تتكون من أربعة أنواع رئيسية هي: القميص والسروال والمنطقة والقلنسوة. وفيما يلي وصف لكل منها، وما يدل عليه من معنى روحي:
(أولاً) القميص:
وكان يصنع من الكتان الأبيض، ولم يكن مكوناً من أجزاء مثبتة بعضها بالبعض الآخر، بل كان كله من نسيج واحد، ومن ثم فهو رمز إلى بر المسيح، الكامل من كل النواحي. والذي يرى الله المؤمنين الحقيقيين لابسين إياه على أساس اتحادهم الروحي بشخصه المبارك، ورمزاً أيضاً إلى الطهارة التي يجب أن يعيشوا فيها أمامه كل حين، سواء في السيرة أو في السريرة.
(ثانياً) السروال:
وكان يصنع أيضاً من الكتان النقي الأبيض. وكان الغرض منه ستر العورة التي كشفتها الخطية، فجعلت الإنسان يخجل ويرتعب من الله (تكوين3: 7- 11). والشيء الوحيد الذي يستر الخطية من أمام الله هو كفارة المسيح، لأنها هي التي وفت كل مطالب عدالته إلى الأبد. أما الذين يهدئون ضمائرهم من جهة خطاياهم بالالتجاء إلى الفرائض الدينية، فإنهم يخطئون كثيراً، لأن هذه الفرائض لا تستر خطية واحدة من خطاياهم، لعدم قدرتها على إيفاء مطالب عدالة الله، إذ أن هذه لا حد لها، بينما الفرائض الدينية مهما كثرت وتنوعت هي محدودة، والأمور المحدودة لا تفي مطالب أمر لا حد له.
ومما تجدر الإشارة إليه أن السروال كان يغطي الساقين إلى الحقوين، ومن ثم كان يخفي إلى التمام موضع القوة في الإنسان، هذه القوة التي يستخدمها الإنسان الجسدي في عمل إرادته الشخصية أو بالحري في مقاومته لله، كما كانت الحال مع يعقوب (تكوين32: 25)- وهذا رمز إلى عدم إمكانية الاقتراب إلى الله، إلا بعد الشعور بالضعف وعدم القدرة الذاتية على مواجهته تعالى (إشعياء6: 5).
(ثالثاً) المنطقة (أو الحزام):
وكانت تصنع من الكتان النقي الأبيض، وكان الغرض من استعمالها تركيز قوى الكاهن حتى يقوم بالخدمة المطلوبة منه على أفضل وجه. ومن ثم فهي رمز إلى حصر المؤمنين الحقيقيين لعواطفهم وأفكارهم ضمن دائرة الحق الإلهي، لكي تكون بأسرها متجهة إلى الله، إذ بدون هذا العمل لا يكون هناك مجال أمامهم للاقتراب منه أو القيام بخدمته. وقد أشار الوحي إلى وجوب استعمال المؤمنين للمنطقة الروحية فقال لهم "فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق" (أفسس6: 14). كما قال لهم "لذلك منطقوا أحقاء ذهنكم صاحين. فألقوا رجاءكم بالتمام على النعمة التي يؤتى بها إليكم، عند استعلان يسوع المسيح" (1بطرس1: 13). الأمر الذي يدل على أن المجيء الثاني للرب، لا يكون له أيضاً تأثير على قلوب المؤمنين، إلا إذا كانوا يمنطقون ذواتهم بحق الله.
(رابعاً) القلنسوة:
وهذه الكلمة مشتقة في العبرية من فعل يدل على الارتفاع، لأنها كانت تحيط بالرأس في شكل حلزوني يرتفع إلى أعلى. ومن ثم كان الغرض منها الإشارة إلى رفعة مقام من يلبسها.
وإذا نظرنا إلى المسيح، أدركنا شيئاً من الرفعة التي نلناها على أساس كفارته الثمينة، إذ أصبحنا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه (أفسس5: 30) كما أصبحنا أبناء الله وأولاده (1يوحنا3: 1) الأمر الذي يقودنا للخضوع التام له في كل أمر من الأمور (أفسس5: 24)، وفي هذا الخضوع يتجلى الجمال والمجد اللذان يريد الله أن يراهما فينا.
وإذا نظرنا بصفة عامة إلى هذه الملابس، نرى ما يأتي:
1-أنها لم تكن مزدانة بأي نوع من أنواع الزينة، كما أنه لم يكن بها شيء من الذهب أو الألوان الزاهية (كما كانت الحال مع ملابس هرون[1]) بل كانت بسيطة كل البساطة. ومع ذلك كانت تدعى "ملابس المجد والبهاء"، الأمر الذي يدل على أن جمال المؤمنين الحقيقيين هو في نقاوة حياتهم وتواضعهم وإنكارهم لذواتهم، وخضوعهم التام لله كما ذكرنا.
2-أنها كانت تغطي الجسد من هامة الرأس (حيث القلنسوة) إلى أسفل القدمين (حيث أطراف السروال)، الأمر الذي يدل على أن الله في نعمته قد دبر كل ما هو لازم لإخفاء كل عيب يمكن أن يكون فينا، والإتيان بنا إليه في المسيح نتمتع بخلاص الله بحالة لا نحتاج معها إلى القيام بأي عمل من جانبنا لكي نتمتع بخلاص الله (أفسس2: 9).
3-أنه لم يكن لأبناء هرون أن يلبسوا هذه الملابس إلا بعد الاغتسال، الأمر الذي يدل على أنه لا سبيل للتبرر أمام الله والوجود في حضرته إلا بعد نزع الخطية والاكتساء ببر المسيح، وذلك بالإيمان القلبي به- هذا مع العلم بأن ملابس بني هرون العادية، مثل ملابس بني إسرائيل، كان في طرفها شريط اسمانجوني (أي سماوي اللون)، إشارة إلى أن سلوك المؤمنين الحقيقيين في العالم، يجب أن يكون مطبوعاً بالطابع السماوي.
مما تقدم يتضح لنا أن المؤمنين الحقيقيين، بوصفهم كهنة لله في العهد الجديد، ليسوا في حاجة إلى نوع خاص من الثياب حتى يكونوا أهلاً للاقتراب من الله، أو القيام بخدمته إذ أن الثياب التي يريد الله أن يرتدوها كل حين هي ثياب روحية محض. فقد قال لهم أن يلبسوا أسلحة النور (رومية13: 12) لكي يقدروا أن يثبتوا ضد مكايد إبليس (أفسس6: 11). وأن يلبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين، أحشاء رأفات ولطفاً وتواضعاً ووداعة وطول أناة... وعلى جميع هذه أن يلبسوا المحبة التي هي رباط الكمال (كولوسي3: 12- 14). وبالإجمال أن يلبسوا الرب يسوع المسيح، وألا يصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات (رومية13: 14)- والمراد بلبس المسيح هنا، إظهاره في حياتنا العملية، بعد أن لبسناه شرعاً أمام الله على أساس الإيمان الحقيقي به (غلاطية3: 27). ولكي نظهره في حياتنا العملية، يجب أن نعطيه أولاً السيادة على أفكارنا وعواطفنا الباطنية...
هذا وقد أدرك داود النبي قديماً قيمة الملابس الكهنوتية المعنوية، فقال لله "كهنتك يلبسون البر" (مزمور132: 9). لكن مهما كان المعنى الذي قصده داود من "البر" هنا، فإنه لا يقاس على الإطلاق بجانب البر الذي يرتديه المؤمنون الحقيقيون كهنة العهد الجديد، لأنه ليس براً لإتيانهم، بل بر الله عليهم. فمكتوب "وأما الآن فقد ظهر بر الله بدون (أحكام) الناموس مشهوداً له من الناموس والأنبياء: بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون" (رومية3: 21و 22)... وكل من اختبر هذا البر يعتز به كل الاعتزاز، فقد قال بولس الرسول "بل إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي، الذي من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية. لكي أربح المسيح وأوجد فيه. وليس لي بري الذي من (أعمال) الناموس، بل الذي بإيمان المسيح. البر الذي من الله بالإيمان" (فيلبي3: 8و 9). ولذلك فالمؤمنون الحقيقيون، كهنة العهد الجديد، يحظون بالقبول أمام الله، بدرجة لم يكن يحلم بها حتى هرون، وهو في ملابسه الكهنوتية الزاهية الغالية.
14-مما تجدر الإشارة إليه أن هرون وحده كان يلبس الملابس الفاخرة، لأنه كان يمثل الشعب أمام الله في كمال نعمته، أما أبناؤه فلم يكن لواحد منهم هذا المقام. وهكذا الحال من جهة المؤمنين الحقيقيين، فإنه وإن كان يصلي بعضهم لأجل البعض الآخر، لكن ليس هناك من هو كفء بينهم لأن ينوب عن غيره أو يمثله أمام الله، لأن من يقف هذا الموقف يجب أن يكون بلا خطية، والحال أنهم جميعاً خطاة، إن لم يكن بأفعالهم، فبأفكارهم وأقوالهم. ومن ثم فإن الذي يمثلهم أمام الله هو المسيح الذي لم يكن هرون إلا رمزاً ضئيلاً له.
- عدد الزيارات: 4027