Skip to main content

من جهة كيفية التعيين للكهنوت

بالرجوع إلى (خروج29: 1- 37، لاويين8: 1- 36)، يتضح لنا أن أبناء هرون تعينوا للكهنوت بالاقتران مع أبيهم. وقول الكتاب المقدس عن هرون وبنيه "ليكهن" (خروج28: 1) وليس "ليكهنوا"، دليل على وحدتهم معه في الكهنوت. ومن ثم فإن كان هرون وحده يرمز إلى المسيح، فإن هرون وبنيه معاً يرمزون إلى المسيح والمؤمنين الحقيقيين، لأن هؤلاء متحدون بالمسيح اتحاداً روحياً على أساس قيامته من الأموات. فقد قال الوحي إنهم من لحمه وعظامه (أفسس5: 30). كما قال: إن المقدس (أي المسيح) والمقدسين (أي المؤمنين الحقيقيين)، جميعهم من واحد (عبرانيين2: 11).

وطريقة تعيين أبناء هرون للكهنوت على وجه الإجمال، هي ذات طريقة تعيين أبيهم له. وقد تحدثنا في كتاب كهنوت المسيح، عن طريقة تعيين هرون بوصفه رمزاً إلى المسيح، وسنتحدث فيما يلي عن طريقة تعيين أولاده بوصفهم رمزاً إلى المؤمنين الحقيقيين في العهد الجديد، ولذلك نقول.

1-تقديم أبناء هرون إلى باب خيمة الاجتماع:

إن هذا العمل دليل على أن تعيينهم للكهنوت هو بناء على إرادة الله وحده وليس بناء على رغبتهم الشخصية أو اختيار بعض الناس لهم.

وهكذا الحال من جهة المؤمنين الحقيقيين، فهم مدعوون للكهنوت ليس بناء على رغبتهم الشخصية أو اختيار هيئات دينية لهم بل بناء على دعوة الله وحده لهم، وذلك على أساس إيمانهم الحقيقي بالمسيح واتحادهم الروحي به. فقد قال الوحي إنهم شركاء الدعوة السماوية (عبرانيين3: 1)، وإن الله اختارهم بمقتضى علمه السابق في تقديس الروح للطاعة ورش دم يسوع المسيح" (1بطرس1: 2).

2-غسلهم بالماء:

كان موسى، بوصفه النائب عن الله وقتئذ، يغسل بني هرون عند تقديمهم إلى خيمة الاجتماع. وبعد ذلك كانوا يغسلون هم أنفسهم. والغسل المسند إلى موسى يراد به (في اللغة الأصلية) غسل الجسد كله. أما الغسل المسند إلى بني هرون، فيراد به في هذه اللغة غسل الأطراف فحسب. ومن ثم:

(أ)-فإن الاغتسال الأول إشارة إلى التطهير الكامل الذي قام الله نفسه به لأجلنا مرة واحدة وإلى الأبد، وذلك على أساس الإيمان الحقيقي بالمسيح. فقد قال الوحي "أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكي يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة" (أفسس5: 26) وقال أيضاً "وهكذا كان أناس منكم. لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1كورنثوس6: 11). كما قال أن المسيح أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه (رؤيا1: 6)- وبما أننا لم نقم بهذا الاغتسال أو التطهير بل قام الله وحده به لأجلنا، لذلك يكون اغتسالاً أو تطهيراً اكتسابياً أو شرعياً. ولا مجال لتكرار هذا الاغتسال أو التطهير بأي حال من الأحوال (وذلك لبقاء فعالية كفارة المسيح كما هي إلى الأبد) أما الغرض منه فهو جعلنا مقبولين أمام الله إلى الأبد.

(ب)-إن الاغتسال الثاني إشارة إلى الاغتسال أو التطهير الذي نقوم به بأنفسنا للقضاء على أي شر، يمكن أن ينبع من الطبيعة العتيقة الكامنة فينا، أو يعلق بنا من تصرفات الأشرار الذين نلتقي بهم في العالم، وذلك بوضع نفوسنا تحت سلطان كلمة الله الحية الفعالة التي هي أمضى من كل سيف ذي حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ (عبرانيين4: 12)، والتي لم يكن الماء المستعمل قديماً للتطهير إلا رمزاً ضئيلاً إليها (أفسس5: 26)[1]- وهذا الاغتسال أو التطهير من الجائز أن يتكرر في اليوم الواحد مرات متعددة، لتعرضنا للخطأ من وقت لآخر. ونظراً لأننا نحن الذين نقوم بهذا التطهير، يكون تطهيراً عملياً أو ذاتياً. والغرض من هذا التطهير أو الاغتسال هو التهيؤ للقيام بعبادة الله وخدمته بالحالة المرضية أمامه. وقد أشار الوحي إليه فقال "فإن طهر أحد نفسه من هذه، يكون إناء للكرامة مقدساً نافعاً للسيد مستعداً لكل عمل صالح" (2تيموثاوس2: 21). وقال أيضاً "طهروا نفوسكم في طاعة الحق" (1بطرس1: 22). وأيضاً "وكل من عنده هذا الرجاء به (أي المسيح) يطهر نفسه كما هو طاهر" (1يوحنا3: 4).

ونظراً لأن المسيح قد غسلنا وطهرنا من خطايانا بدمه الكريم، يجب أن نحفظ أنفسنا في حالة الطهارة العملية، وذلك بالوجود في كل حين في حالة الشركة الروحية مع الله والطاعة الكاملة لوصاياه كما ذكرنا وإلا فإننا نحرم أنفسنا من القيام بالعبادة والخدمة المرضيتين أمامه، الأمر الذي كان يرمز إليه قديماً بالقضاء بالموت، على من يهمل الاغتسال من بني هرون قبل الدخول إلى أقداس الله (خروج30: 19، 20). فمركزهم هذا وإن كان عظيماً، غير أنه لم يكن ليحميهم من قضاء الله إذ أن الله لا يطيق رؤية شيء من النجاسة في أي شخص يدنو منه، مهما كانت مكانته...

وقد أشار المسيح له المجد إلى هذين النوعين من الاغتسال في آية واحدة، فقال لبطرس الرسول: "الذي اغتسل (أو بالحري اغتسل بأكمله، كما يتضح من اللغة الأصلية) ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه، بل هو طاهر كله" (يوحنا13: 10). فالاغتسال الأول إشارة إلى التطهير الكامل بالإيمان الحقيقي بالمسيح (أعمال15: 9). والاغتسال الثاني إشارة إلى تنقية المؤمن المطهر بالدم الكريم، من أي خطية تعلق به بعد الإيمان، وذلك بوضع نفسه تحت تأثير كلمة الله- كما أشار له المجد على وجوب اقتران التطهير الثاني بالأول للتهيؤ للشركة معه، فقال لبطرس أيضاً "إن كنت لا أغسلك، فليس لك معي نصيب" (يوحنا13: 8). فالمسيحية لا تتساهل مع الخطية، كما يظن بعض الناس، بل تدينها أكثر مما كان يفعل الناموس قديماً.

3-وضع الملابس عليهم:

بعد الاغتسال، كان موسى يقوم بوضع الملابس على بني هرون (أ). وكانت هذه الملابس تستر أجسامهم من أولها إلى آخرها- ومن ثم كانت رمزاً إلى البر الإلهي الذي يخلعه الله على المؤمنين الحقيقيين (رومية3: 22) بناء على إيمانهم الحقيقي بكفارة المسيح، حتى لا يبدو منهم شيء من العيوب.كان موسى يقوم بوضع الملابس على بني هرون (أ). وكانت هذه الملابس تستر أجسامهم من أولها إلى آخرها- ومن ثم كانت رمزاً إلى البر الإلهي الذي يخلعه الله على المؤمنين الحقيقيين (رومية3: 22) بناء على إيمانهم الحقيقي بكفارة المسيح، حتى لا يبدو منهم شيء من العيوب.

ونظراً لأننا سنتحدث في الفصل التالي عن هذه الملابس، وما ترمز إليه من معان روحية، نكتفي هنا بهذه الإشارة.

4-تقديسهم:

بعد عمل ذبائح الخطية والمحرقة والملء- التي ذكرنا شيئاً عنها في طريقة تعيين هرون في "كتاب كهنوت المسيح"- كان موسى يأخذ من دم الذبيحة الأخيرة، ويضع على شحم آذان بني هرون وعلى أباهم أيديهم اليمنى وعلى أباهم أرجلهم اليمنى. ثم يأخذ من الدم الذي على المذبح ومن دهن المسحة العطر، وينضح أيضاً على ثيابهم فيتقدسون هم وثيابهم (ب). وإزاء هذا نقول:

إن دم الذبائح رمز إلى دم المسيح الكريم. ومسح الأعضاء المذكورة به رمز إلى أنها أصبحت ملكاً لشخصه الكريم. ودهن المسحة[2]العطر رمز إلى الروح القدس في ثماره الطيبة (غلاطية5: 22). ومسح الكهنة به بعد مسحهم بالدم رمز إلى حلول الروح القدس عليهم بعد تطهيرهم من خطاياهم لكي يهيئهم لخدمة الله وطبعاً لم يكن من الممكن أن يمسحوا بالدهن قبل أن يمسحوا بالدم، لأن التطهير يسبق التقديس- ونضح ثيابهم أيضاً بالدم والدهن رمز إلى أنهم ملك لله ومقدسون له، ليس من جهة الباطن فقط، بل ومن جهة الظاهر أيضاً.

والمؤمنون الحقيقيون اشتروا بدم المسيح، ويجب أن يمجدوا الله في أجسادهم وفي أرواحهم التي هي لله (1كورنثوس6: 20)، ومن ثم فإنهم بنعمة الله لا يخلصون من عقوبة خطاياهم فقط، بل يخلصون أيضاً من ذواتهم وميولهم الدنيوية. كما أن سكنى الروح القدس فيهم بعد ذلك يجعلهم مقدسين للرب. وقادرين على التمتع به، والقيام بخدمته- لأن الغرض من التقديس ليس الانفصال عن الأشرار فقط، بل والالتصاق بالرب أيضاً- ولكن إذا لم يخضع أحدهم للروح القدس في أمر ما (ج)، فإنه للأسف يحزنه (أفسس4: 30)، وبالتبعية يحرم نفسه من القدرة على القيام بالعبادة التي ترضي الله.

5-امتلاؤهم:

بعد ما وضع بنو هرون أيديهم على ذبيحة الملء (التي كانت ترمز إلى المسيح من حيث كفاية كفارته لملء القلوب وجعلها بأكملها ملكاً لله)، قبضوا بعد ذبحها على شحمها وزيادة الكبد فيها وكليتيها وساقها اليمنى، مع ثلاثة أنواع من الفطير: الأول مدهون بالزيت، والثاني ملتوت به، والثالث خال منه. ثم قاموا بترديد هذه كلها أمام الله (لاويين8: 27). وإزاء ذلك نقول:

الشحم رمز إلى كمال المسيح الزاخر. وزيادة الكبد (أو الحجاب الحاجز الذي يتحرك عند كل شهيق وزفير)[3]رمز إلى أن كل أنفاس المسيح كانت سماوية، والكليتان بما فيهما من أوعية دقيقة رمز إلى أن دقائق حياة المسيح كانت كلها لأجل مجد الله. والساق اليمنى رمز إلى قوة كغاية كفارته له المجد.

والفطير، لخلوه من الخمير الذي يشار به إلى الشر (1كورنثوس5: 7) رمز إلى الحياة الطاهرة (1كورنثوس5: 8). والزيت كما مر بنا رمز إلى الروح القدس. ومن ثم تكون الثلاثة الأنواع من الفطير رمزاً إلى المسيح الذي لم يعرف خطية (2كورنثوس5: 21)، والذي حبل به في بطن العذراء بالروح القدس (لوقا1: 35)، والذي مسح بعد ذلك به للقيام بالخدمة التي أتى من السماء لأجلها (لوقا3: 21). وقبض الكهنة بأيديهم على كل ما تقدم رمز إلى امتلاك المؤمنين الحقيقيين للمسيح مع كل بركاته أمام الله.

وترديد الكهنة للتقدمات المذكورة أمام الله، رمز إلى اعتزاز المؤمنين الحقيقيين بالمسيح وتقديرهم لكماله، وتأملهم في مقاصد الله العجيبة من جهة بذله كفارة عنهم، الأمر الذي يقودهم إلى تقديم السجود بكل سرور أمام الله- أما الذين لم يختبروا نتائج كفارة المسيح في نفوسهم، بل لا يزالون يجاهدون في الحصول على الخلاص بمجهودهم الشخصي (كما يقولون)، فإنهم للأسف لا يعرفون ما هو السجود[4]، مثلهم في ذلك مثل بني إسرائيل عندما كانوا لا يزالون في أرض العبودية، فإنهم لم يعرفوا هناك معنى التعبد لله (خروج5: 1و 3). لكن عندما تحرروا منها وانطلقوا إلى البرية، تعلموا كيف يقومون بعبادة الله وخدمته.


10-وقد أشار الله حتى في العهد القديم إلى وجوب الاغتسال بالمعنى الروحي. فقال لبني إسرائيل "اغتسلوا، تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني" (إشعياء1: 16). وقال لأورشليم "اغسلي من الشر قلبك يا أورشليم، لكي تخلصي" (إرميا4: 14).

11-مما تجدر الإشارة إليه أن الدهن لم يكن يصنع للاستعمال العام، أو يوضع منه على شخص غريب عن الكهنوت (خروج30: 33)- وكان هذا رمزاً إلى أن الروح القدس ليس له بديل أو نظير، ورمزاً أيضاً إلى أن غير المولود من الله لا يستطيع القيام بالصلاة أو الخدمة لله، لأن العامل في أداء هذه وتلك هو الروح القدس دون سواه (رومية8: 26). وإذا قام بعمل منهما من تلقاء ذاته، لا يمكن أن يحوز عمله رضى الله، لأن هذا العمل يكون ملطخاً بما في الطبيعة من شر وفساد.

12-ولذلك وردت في ترجمة Knox (مثلاً) بما تعريبه "غطاء الكبد"، وما يغطي الكبد هو الحجاب الحاجز.

13-لا يراد بالسجود مجرد الركوع، بل سكب كل ما في القلب من حب وتقدير أمام الله، وذلك تحت التأثر بعظمته ومحبته وعطاياه التي لا حد لها. فالساجد لا يفكر إلا في الله ولا ينشغل إلا به، ولذلك لا ينطق إلا بعبارات الحب والتسبيح له.

  • عدد الزيارات: 3359