الأدلة على كهنوت المسيح الخاص
وإن كانت الذبائح في العهد القديم شيئاً، والكهنة الذين يقدمونها شيئاً آخر، لكن نظراً لأن المسيح هو الذي قدم نفسه كفارة، لذلك فكما أنه (من الناحية الإنسانية) الذبيحة، هو (من هذه الناحية أيضاً) الكاهن (عبرانيين3: 1- 6)، بل ورئيس الكهنة كذلك (عبرانيين4: 14). لأنه فضلاً عن أنه ليس هناك شخص يمكن أن يكون رئيساً له، فإنه قام بالعمل الذي كان يقوم به رئيس الكهنة في العهد القديم، لكن ليس رمزاً ومثالاً كما كان يفعل هذا[1]، بل فعلاً وحقاً، ومن ثم إذا رجعنا إلى كهنوت هرون، الذي خصه الله بشروط معينة، تجب توافرها في كل من يمارسه، نرى أن هذه الشروط تتوافر بكل دقة وبدرجة مطلقة في المسيح، كما يتضح مما يلي:
1-قبول خدمة الكهنوت من الله مباشرة:
كان رئيس الكهنة يقام في وظيفته الكهنوتية بناء على دعوة من الله نفسه ومن ثم لم يكن لواحد من اليهود أن يشغل هذه الوظيفة من تلقاء ذاته، أو بناء على اختيار بعض الناس له. ولذلك عندما حاول نفر من اليهود قديماً أن يتولوا الكهنوت بدلاً من هرون وأولاده، قضى الله عليهم في الحال (العدد 16: 1- 35). وقد أشار الرسول إلى حقيقة توقف القيام بالكهنوت على الدعوة المباشرة من الله، وطبقها على المسيح فقال "ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه، بل المدعو من الله (مباشرة) كما هرون أيضاً. كذلك المسيح (من الناحية الإنسانية) لم يمجد نفسه ليصير رئيس كهنة، بل الذي قال له "أنت ابني أنا اليوم ولدتك" (عبرانيين5: 5- 6).
2-الخلو من العيوب:
فقد قال الوحي إنه من الواجب ألا يكون في الكاهن أي عيب جسدي (لاويين21: 16- 23)- والعيوب الجسدية قديماً كانت رمزاً إلى العيوب الأخلاقية، لأن العيوب الأخيرة هي التي تمنع صاحبها من التوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية- والمسيح هو الشخص الوحيد الذي خلا من العيوب الأخلاقية، لأنه كان كاملاً كل الكمال. فقد قال بطرس الرسول عنه "الذي لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر، الذي إذ شتم لم يكن يشتم عوضاً وإذ تألم لم يكن يهدد..." (1بطرس2: 22- 23). وقال بولس الرسول عنه "لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا: قدوس بلا شر ولا دنس، قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات" (عبرانيين7: 26).
3-المشابهة لمن يكهن لأجلهم:
لم يكن رؤساء ملائكة أو نوعاً آخر من الكائنات الغريبة عنا، بل كانوا بشراً مثلنا. والمسيح مع كونه ابن الله الأزلي[2]، غير أنه بمحض اختياره صار بشراً مثلنا. فقد ولد من عذراء من جنسنا متخذاً منها بقوة الروح القدس ناسوتاً يشبه ناسوتنا في كل شيء ما عدا الخطية. لذلك قال الوحي عنه "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم. اشترك هو أيضاً كذلك فيهما. لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس. ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت، كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية. ومن ثم كان ينبغي أن يشبه أخوته[3]في كل شيء (ما عدا الخطية) لكي يكون رحيماً ورئيس كهنة أميناً فيما لله، حتى يكفر خطايا الشعب" (عبرانيين2: 14- 17).
4-القدرة على تعضيد المجربين والرفق بالجهال والضالين:
كان من الواجب على رؤساء الكهنة، بوصفهم بشراً مثل غيرهم، أن يكونوا كثيري العطف، يشفقون على الضعيف ويرثون للمسكين، يرأفون بالجاهل ويهتمون بالضال. إذ أنهم كانوا معينين من الله لخدمة الجميع على السواء. فقد قال الوحي "لأن كل رئيس كهنة مأخوذ من الناس يقام لأجل الناس فيما لله... قادراً أن يترفق بالجهال والضالين. إذ هو أيضاً محاط بالضعف" (عبرانيين5: 2)- والمسيح مع قداسته المطلقة وعدم تعرضه للتجارب التي يتعرض لها الناس بسبب الضعف أو الميل إلى الخطية، هو المثل الأعلى في العطف على الجهال والضالين، والمتألمين والمجرمين. فقد قال الرسول عنه "لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا، بل مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية".. "ولأنه فيما هو قد تألم مجرباً يقدر أن يعين المجربين" (عبرانيين4: 15، 2: 18)- فالقلب الذي أدمى على الصليب لأجل خلاصنا، لا يزال يخفق على العرش رثاء لنا. واليدان اللتان سمرتا هناك عوضاً عنا، تمتدان بكل عطف وحنان لمعوتنا، مع أنه تبارك اسمع موجود الآن في جسد المجد، ونحن لا نزال على الأرض في جسد الضعة.
5-القيام بتقديم ذبيحة كفارية:
كان العمل الرئيسي لرؤساء الكهنة (كما ذكرنا فيما سلف) هو تقديم الذبائح الكفارية عن أنفسهم وعن غيرهم من الناس. فقد قال الرسول: "لأن كل رئيس كهنة مأخوذ من الناس يقام لأجل الناس في ما لله... لكي يقدم قرابين وذبائح عن الخطايا قادراً أن يترفق بالجهال والضالين إذ هو أيضاً محاط بالضعف ولهذا الضعف يلتزم أنه كما يقدم عن الخطايا لأجل الشعب، هكذا أيضاً لأجل نفسه" (عبرانيين5: 1- 3). ومن ثم كان ينبغي أن يقدم المسيح أيضاً ذبيحة كفارية. فقد قال الرسول: "فمن ثم كان يلزم أن يكون لهذا أيضاً شيء يقدمه" (عبرانيين8: 3)، لكن ليس عن نفسه وعنا معاً (كما كان يفعل رؤساء الكهنة)، بل عنا فحسب. لأنه كان في ذاته كاملاً كل الكمال. ولذلك قال الرسول عنه "الذي ليس له اضطرار كل يوم مثل رؤساء الكهنة أن يقدم ذبائح أولاً عن خطايا نفسه، ثم عن خطايا الشعب، لأنه فعل هذا مرة واحدة، إذ قدم نفسه. فإن الناموس يقيم أناساً بهم ضعف رؤساء كهنة. وأما كلمة القسم التي بعد الناموس فتقيم ابناً مكملاً إلى الأبد" (عبرانيين7: 27- 28).
6-الدخول بدم ذبيحة الكفارة إلى قدس القداس للحصول على الغفران العام من الله:
كان من الواجب على رؤساء الكهنة في العهد القديم، أن يدخلوا بدم هذه الذبيحة إلى قدس الأقداس الأرضي، في عيد الكفارة، لكي يحصلوا من الله للشعب على غفران رمزي لمدة عام (عبرانيين9: 7). أما المسيح، وقد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة، فقد "دخل بدم نفسه إلى الأقداس السماوية، فوجد فداء (ليس لمدة عام، بل فداء أبدياً) " (عبرانيين9: 7- 12)، ومن ثم لا مجال أمام من يريد الغفران لتقديم أية ذبيحة عن نفسه، بل فقط أن يتوب عن خطاياه، ويؤمن بالمسيح إيماناً حقيقياً، كما رأينا في الآيات المتعددة التي ذكرناها فيما سلف.
7-المحافظة على المؤمنين إلى النهاية:
كان المفروض في هرون أن يحافظ على الذين كان يمثلهم، من الشرود عن الله. لكنه لم يستطع القيام بهذه الخدمة، لأنه كان إنساناً محدوداً في قدرته، كما كان لا بد أن تنتهي حياته في وقت ما. أما المسيح فيستطيع القيام بالخدمة المذكورة خير قيام، إذ بالإضافة إلى قدرته التي لا حد لها، فهو لا يموت بل ولا يضعف على الإطلاق فقد قال الرسول عنه: "فمن ثم يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم" (عبرانيين7: 25)، أو بالحري ليعالج كل نقص يبدو منهم طوال سياحتهم في العالم الحاضر، حتى يأتي بهم إلى مجده بلا عيب (يهوذا: 24).
وبذلك تكون قد تجمعت في المسيح كل الشروط الواجب توافرها في الكاهن، أو بالحري في رئيس الكهنة، وذلك حسب المقاييس الإلهية المطلقة، ومن ثم يكون هو وحده الكاهن، أو بالحري رئيس الكهنة الحقيقي، إلى أبد الآباد كما ذكرنا.
15-فهو رئيس كهنة لقيامة فعلاً بالمهمة التي كان يقوم بها رئيس كهنة اليهود رمزاً وليس لأن له كهنة رسميون من بين المؤمنين في العهد الجديد يقومون بكهنوته تحت رياسته، كما يظن بعض الناس.
16-درسنا في هذا الموضوع بالتفصيل في كتاب "الله- وحدانية ثالوثه وثالوث وحدانيته"
- عدد الزيارات: 3928