Skip to main content

السبيل الإلهي إلى الغفران

الباب الأول: ضرورة الكفارة[1]

لكي تعرف السبيل الإلهي إلى الغفران، يجب أن نعرف أولاً شيئاً عن ماهية الخطيئة في نظر الله، والنتائج السيئة التي تترتب عليها، ولذلك نقول:

1-ماهية الخطيئة وتأثيرها على الناس:

الخطيئة في نظر الله ليست هي الشر الشنيع فحسب كما يعتقد البعض، بل هي أيضاً مجرد الانحراف عن كماله تعالى، سواء أكان هذا الانحراف بالاتجاه إلى الشر أن بالتقصير في عمل الخير. فقد قال الوحي: "فكر الحماقة خطية" (أمثال 24: 9). و "من قال يا أحمق، يستوجب نار جهنم" (متى5: 22). و"كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس، سوف يعطون عنها حساباً يوم الدين" (متى12: 36). كما قال: "من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل، فذلك خطية له" (يعقوب4: 17). ولما كان الأمر كذلك، أعلن الوحي بأن "الجميع زاغوا وفسدوا معاً، ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد" (رومية3: 12).

2-خطورة الخطيئة أمام الله:

إن الاعتقاد السائد بين معظم الناس، هو أن من يفعل الخطيئة يسيء إلى نفسه وإلى غيره من البشر فحسب. لكن الحقيقة هي أنه يسيء بها إلى الله قبل كل شيء آخر، لأن الله هو الذي نهى عنها لتعارضها مع صفاته، ومع الحالة الروحية التي يريد أن يراها في خلائقه العاقلة. فقد قال الوحي عن الله إنه لا يطيق الإثم (اشعياء1: 13)، وإن عينيه أطهر من أن تنظرا الشر (حبقوق1: 13). ولذلك فإن من يفعل الخطيئة، فضلاً عن أنه يفسد نفسه، التي ائتمنه الله عليها، ويسيء إلى غيره من مخلوقاته تعالى، فإنه يرفض شريعة الله (إرميا6: 19)، وينقض عهده (يشوع7: 11)، ويتمرد على سلطانه (هوشع13: 16)، ويسلبه حقوقه (ملاخي3:8)، ويفسد أمامه (نحميا1: 7)، ويحتقر اسمه ويهينه أيضاً (ملاخي1: 6، حزقيال 16: 20).

3-نتائج الخطيئة في العالم الحاضر، وفي العالم في الأبدية:

(أ)-إن البشر، بسبب الخطيئة، أصبحوا عاجزين عن التوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية. وقد شهد بهذه الحقيقة رسول عظيم، فقال عن طبيعته الذاتية: "فإني أعلم أنه ليس ساكن فيَّ، أي في جسدي، شيء صالح لأن الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحسنى، فلست أجد. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لست أريده، فإياه أفعل. فإني أُسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن، ولكني أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي. ويحي أنا الإنسان الشقي! من ينقذني من جسد هذا الموت؟" (رومية7: 18- 24)، والعجز الذاتي عن التوافق مع الله في صفاته الأدبية، يعبر عنه دينياً بالموت الأدبي، وعلمياً بالقصور الذاتي.

(ب)_ أما من جهة نتائج الخطية في العالم الآخر، فيقول: "نظراً لأن العقوبة تتناسب طردياً مع قدر الشخص المساء إليه فإذا كانت الإساءة موجهة إلى خادم صغير في منزله، كانت عقوبتها لا تذكر، أما إذا كانت موجهة إلى شخص عظيم القدر، كانت عقوبتها جسيمة. وبما أن الخطيئة هي إساءة إلى الله الذي لا نهاية لسلطانه أو مجده، لذلك لا غرابة إذا أعلن الوحي أن عقوبتها عذاب أبدي (رؤيا 21: 8).

4-عدم إمكانية الحصول على الغفران، أو التوافق مع الله، بواسطة الأعمال التي تدعى الصالحة[2]:

(أ)-بما أن الصوم والصلاة والصدقة والتوبة وغير ذلك من الأعمال الطيبة، وإن كانت لها قيمتها وفائدتها بالنسبة إلى المؤمنين الحقيقيين[3]، غير أنها هي محدودة في قدرها، بينما الله، الذي أسأنا إليه بارتكاب الخطية، لا حد لقدره. وبما أن الأشياء المحدودة في قدرها، لا توفي مطالب أمر لا حد لقدره. لذلك فإن هذه الأعمال مهما كثرت وتنوعت، لا تستطيع أن تأتي لنا بالغفران الذي نحتاج إليه. لأن الله بسبب كماله المطلق، لا تقل عدالته عن رحمته بأي وجه من الوجوه. ومن ثم لا يمكن الإفادة من الثانية، إلا بعد إيفاد مطالب الأولى.

(ب)-ومن ناحية أخرى، بما أن الأعمال التي ذكرناها لا تستطيع أن تقضي على الخطية الكامنة فينا أو تحول بيننا وبين تنفيذ رغباتها، لأننا مع قيامنا بهذه الأعمال قد نخطئ بالفعل أو الفكر أو القول، لذلك فإنها لا تهيئنا روحياً للتوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية. وبالتالي لا تهيئنا للتمتع به في سمائه، مهما بذلنا من جهد، ومن ثم فحاجتنا ليست إلى غفران فحسب، بل وأيضاً إلى روحية تسمو بنا فوق قصورنا الذاتي أو موتنا الأدبي، لنستطيع التوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية ، كما ذكرنا.

5-الفداء بالذبائح الحيوانية:

لكن الله، بسبب عطفه العظيم علينا، لم يتركنا حيارى من جهة السبيل إلى الغفران والقبول أمامه، بل أعلنه لنا بكل جلاء منذ القديم، كما يتضح مما يأتي:

(أ)-فعندما أخطأ آدم واستحق الموت الجسدي مع ما يتبعه من عذاب أبدي (تكوين3: 17)، لم يأمره تعالى بالصلاة أو الصوم أو... أو... ، حتى يغفر له خطيته، بل افتداه بنفسه من عقوبته الخطيئة، وذلك بواسطة ذبيحة حيوانية. وإن كان هذا العمل لم يذكر في التوراة بالنص الحرفي، لكنه يستنتج بكل سهولة قول الوحي إن الله صنع (وليس خلق) لآدم وحواء أقمصة من جلد وألبسهما (تكوين3: 21)، لأن صناعة هذه الأقمصة تستلزم وجود جلد لكي تصنع منه، والله لم يخلق جلداً بمفرده، بل خلق حيوانات يكسوها الجلد. ومن ثم لا بد أنه بناء على مشيئته، ذبح حيوانان بوسيلة ما، ومن جلدهما صنعت الأقمصة المذكورة. وبما أن آدم وزوجته لم ينتفعا بشيء من لحم هاتين الذبيحتين، لأنهما كانا يأكلان النباتات فحسب (كما يشهد الكتاب المقدس وكتب التاريخ الطبيعي)، وفي الوقت نفسه لم يكن من المتعذر على الله أن يخلق الأقمصة التي نحن بصددها من لا شيء (كما خلق العالمين من قبل من لا شيء)، لذلك لا بد أنه قصد بالحيوانين المذكورين أن يكونا فدية عن آدم وامرأته كما ذكرنا.

(ب)-وقد عرف هذه الحقيقة المخلصون من أبناء آدم، ولذلك كان هابيل (تكوين4: 3- 5) ونوح (تكوين8: 21) وابراهيم (تكوين12: 6- 8) واسحق (تكوين26: 25) ويعقوب (تكوين33: 20) وأيوب (أيوب1: 5) يقدمون الذبائح لله، ليس فقط للتعبير عن شكرهم وتعبدهم له وتكريس حياتهم له، بل أيضاً لتكون فدية عن نفوسهم أو نفوس غيرهم من الناس.

(ج)-كما أن الله، عندما أراد أن يخلص بني اسرائيل من اضطهاد قدماء المصريين لهم، أمر موسى النبي أن يوصي كل عائلة منهم أن تذبح شاة (عرفت باسم خروف الفصح)، وأن ترش دمها على القائمتين والعتبة العليا من المنزل الذي كانت تقيم فيه، لئلا ينزل قضاء الموت على الابن البكر فيه (خروج12)، كما كان عتيداً أن ينزل على كل بكر في منازل قدماء المصريين، بسبب تمردهم على الله وعدم إذعانهم لكلامه. وبذلك كانت كل شاة فدية أو كفارة عن كل بكر من أبكار بني اسرائيل.

(د)-وبعد ذلك أوصاهم الله بتقديم ذبائح مختلفة أهمها: ذبيحة الكفارة (لاويين16: 31- 34، العدد29: 7- 10) وذبيحة المحرقة (لاويين 1: 1- 9) وذبيحة السلامة (لاويين3: 1- 5) وذبيحتنا الخطية والإثم (لاويين4: 1- 35) (لاويين5: 11- 19)- وكان غرض الله من هذه الذبائح أن يعلم الناس أنه بسبب خطاياهم، كان من الواجب أن يحل بهم، ما كان يحل بهذه الذبائح من عذاب. ولكن رأفة بهم رضي بالذبائح المذكورة كفارة عن نفوسهم، حتى يدركوا حسب مفاهيمهم البدائية شناعة الخطية وعاقبتها الوخيمة، ويدركوا أيضاً أنه لا خلاص لهم من نتائجها إلا بالفداء.

6-عجز الذبائح الحيوانية عن التكفير الحقيقي عن الخطية:

لكن بارتقاء الأتقياء روحياً وعقلياً، أخذوا يدركون نجاسة الخطية وتأثيرها الشنيع على نفوسهم. كما أخذوا يدركون فداحة الإساءة التي يوجهونها إلى الله بارتكابها. ومن ثم عرفوا أن الذبائح الحيوانية لا يمكن أن تكون في ذاتها هي الفدية التي قصدها تعالى للخلاص من نتائج الخطية، بل أنها كانت مجرد رموز إلى فدية أعظم منها بما لا يقاس. ولذلك قال داود النبي مرة لله "لأنك لا تسر بذبيحة، وإلا فكنت أقدمها. بمحرقة لا ترضى" (مزمور 51: 16). وتساءل ميخا النبي بينه وبين نفسه قائلاً "بم أتقدم إلى الرب وأنحني للإله العلي؟ هل أتقدم بمحرقات بعجول أبناء سنة؟ هل يسر الرب بألوف الكباش، بربوات أنهار زيت؟ هل أعطى بكرى عن معصيتي، ثمرة جسدي عن خطية نفسي؟" (ميخا6: 6- 7). ومن ثم قطعوا الأمل من جهة وجود الفدية المناسبة لنفوسهم. فقال داود النبي "الأخ لن يفدي الإنسان فداء، ولا يعطي الله كفارة عنه، وكريمة هي فدية نفوسهم فغلقت إلى الدهر" (مزمور 49: 7- 8)، أو بالحري أصبحت بعيدة المنال بالنسبة لهم. وقد صادق المسيح على هذا الحق الذي وصل إلى قلوب هؤلاء الأتقياء فقال "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟!" (متى 16: 26).

7-توقف الحصول على الغفران والتمتع بالله، على إيفائه تعالى بنفسه لمطالب عدالته وقداسته نيابة عنا:

بما أن الله وحده هو الذي يحيط بمطالب عدالته وقداسته ويستطيع إيفاء مطالب كل منهما إلى التمام، لذلك فهو وحده الذي يستطيع أن يكفر عن خطايانا ويهبنا الحياة الروحية التي نستطيع بها التوافق معه في صفاته الأدبية السامية- وهذا العمل وذاك قام بهما تعالى بواسطة المسيح، كما يتضح مما يلي:

(أ)-فباحتمال المسيح دينونة خطايانا على الصليب، كفر عنها إيفاء لمطالب عدالة الله، فقد قال عن نفسه إنه لم يأت ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين (مرقس10: 45). وقال يوحنا المعمدان عنه إنه "حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يوحنا1: 29). وقال بولس الرسول عنه إنه "بذل نفسه فدية لأجل الجميع" (1تيموثاوس2: 6).

(ب)-أما من جهة بعث حياة روحية فينا ترقى بنا فوق ناموس الخطية، وتجعلنا مهيئين للتوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية، فهذا ما ينعم به الله علينا الآن، على أساس كفارة المسيح، التي وفت كل مطالب عدالته، وذلك بواسطة عمل الروح القدس المتواصل في قلوبنا. وقد اختبر المؤمنون الحقيقيون هذه الحياة اختباراً عملياً، فبولس الرسول، الذي كان يتضجر فيما سلفت من اتجاه طبيعته البشرية باستمرار إلى الخطية، قال بأعلى صوته: "لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت" (رومية8: 2).


1- درسنا هذا الموضوع بالتفصيل "قضية الغفران في المسيحية". فللمزيد من الإيضاح يمكن للقارئ أن يرجع إليه.

2 - الأعمال الصالحة ليست فقط هي الأعمال الطيبة، بل إنها أيضاً هي التي تعمل دون النظر إلى جزاء أو ثواب.

3-المؤمنون الحقيقيون هم الذين تابوا عن خطاياهم وقبلوا المسيح في نفوسهم مخلصاً وحياة لها، فتمتعوا بغفران خطاياهم إلى الأبد، كما نالوا من الله طبيعة روحية تهيئهم للتوافق معه في صفاته الأدبية السامية إلى الأبد أيضاً. ولذلك يمكنهم على مبدأ التوبة المتمكن في نفوسهم، أن يعيشوا منصرفين عن أهواء العالم ومتجهين إلى الله دون سواه ويمكنهم بالصوم أن يرتقوا فوق كل ظروف الحياة ومشاكلها (إذا كانوا قد تأثروا بها يوماً)، وأن يوجدوا بالروح في السماويات ويمكنهم بالصلاة أن يزدادوا قرباً من الله وتوالفاً معه وتمتعاً بعطاياه. ويمكنهم بالصدقة أن يشاركوه في عطفه على المحتاجين والمعوزين ومن ثم يكون لهم منه نعم الجزاء.

  • عدد الزيارات: 3620