Skip to main content

الانتماء إلى الكنيسة الأرثوذكسية أو الكاثوليكية

من المعلوم لدينا أنه قد ينتمي بعض المسيحيين إلى أشهر الكنائس، ويبذلون كل ما في وسعهم للخدمة فيها، ومع ذلك لا تكون لهم علاقة حقيقية بالله. ومن ثم فالاعتقاد بـأن [الخلاص يتوقف على الانتماء إلى الكنيسة الأرثوذكسية أو الكاثوليكية، بحجة أقدميتهما، ووجود الأشخاص الذين لهم كما يقال سلطان الحل والربط فيهما] لا يمكن أن يكون صواباَ، كما يتضح مما يلي:

أولاً: أقدمية الأرثوذكسية والكاثوليكية:

1. [إن المسيح قال لبطرس الرسول "أنت بطرس. وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" (متى 16: 18)، ولذلك تكون الكنيسة الكاثوليكية التي أسسها بطرس الرسول هي الكنيسة الحقيقية التي يجب أن ينتمي إليها كل المسيحيين حتى يتمتعوا بخلاص الله].

الرد: فضلاً عن أن الذي نادى بالمسيحية في روما، هو بولس الرسول (كما يتضح من الكتاب المقدس)، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذه الحجة نقول:

(أ) إن كلمة "كنيسة" أو كنيست" معناها في الأصل جماعة من الناس تربطهم رابطة ما، ولذلك فلا يراد بها رجال الدين أياً كان شأنهم، أو العقائد أو الطقوس الدينية المستعملة في أي طائفة من الطوائف، كما يعتقد بعض المسيحيين.

وبالرجوع إلى الكتاب المقدس يتضح لنا أنه وإن كانت هناك كنائس في بلاد متعددة، لكن هذه الكنائس لم تكن إلا فروعا لكنيسة المسيح الواحدة، وهذه الكنيسة هي جماعة المؤمنين الحقيقيين في كل العالم (أو بالحري الأشخاص الذين قبلوا المسيح رباً وفادياً في نفوسهم، وحصلوا بهذا القبول على طبيعة روحية من الله تؤهلهم للتوافق معه في صفاته الأدبية السامية) فقـد قـال الرسـول "أَحَبَّ الْمَسِيحُ أيضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأجلهَا" (أفسس 5: 25)، والمسيح أسلم نفسه لأجل كل هؤلاء المؤمنين، وليس لأجل فريق خاص منهم وقد أشار إلى وحدة الكنيسة المسيحية أعناطيوس في القرن الأول فقال "إنها كنيسة واحدة في العالم أجمع"، كما أشار إليها ترتوليانوس في القرن الثالث، فقال "إن بيت الرب الروحاني واحد" (الآباء في القرون الثلاثة الأولى ص 23، 45)، والقانون المعروف بقانون الإيمان، فقال "نؤمن بكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية"، أي جامعة لكل المؤمنين الحقيقيين الذي في العالم، ومقدسة بالمسيح ولشخصه وحده، ومشيدة على الوحي الإلهي الذي أعطاه الله للرسل، وليس على أقوال رجال الدين مهما كان شأنهم.

مما تقدم يتضح لنا أن ما يطلق عليها الكنيسة الأرثوذكسية أو الكاثوليكية أو الإنجيلية أو الرسولية أو كنيسة الله أو المسيح أو... أو... هي مجرد طوائف دينية تجتمع كل منها حول عقائد خاصة بها، وما الألقاب التي تسندها إلى نفسها إلا مجرد أسماء استحسنتها لتتميز بها عن غيرها، وقد تنطبق هذه الأسماء عليها أو لا تنطبق. وفي كل طائفة من هذه الطوائف يوجد مؤمنون بالحق، كما يوجد مؤمنون بالاسم. فالمؤمنون بالحق في هذه الطوائف[1] هم الكنيسة الحقيقية أمام الله. أما المؤمنون بالاسم فليسوا من هذه الكنيسة حتى إذا كانوا من أعظم رجال الدين وأشهرهم بيننا، ومن ثم فالقول [إن هذه الكنيسة هي الحقيقية وإن تلك ليست هي الحقيقية] هو قول بشري لا أساس له في الكتاب المقدس، إذ أن الكنيسة الحقيقية بوصفها جماعة المؤمنين الحقيقيين في كل العالم، لا يمكن تحديدها بحدود مادية، إذ أنها، كما قال ترتوليانوس، روحانية لا مادية.

(ب) أما من جهة الآية التي نحن بصددها، فإنه لو كان المسيح قصد أن يبني كنيسته على بطرس، لكان قد قال له: أنت بطرس، وعليك أبني كنيستي، ولكنه لم ينطق بهذا القول، ومن ثم لا مجال في أن المراد بالصخرة، المسيح نفسه، لأنه هو المرموز إليه بها. فقد قال الرسول عن اليهود قديماً "وَجَمِيعَهُمْ أَكَلُوا طَعَاماً وَاحِداً رُوحِياً وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَاباً وَاحِداً رُوحِياً - لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ" (1كورنثوس 10: 3). فضلاً عن ذلك فإننا إذا رجعنا إلى رسالتي بطرس، لا نرى أنه يدعو نفسه الصخرة، بل يعلن أن الصخرة هي المسيح فقال عنه: إنه صخرة عثرة، أي الصخرة التي لم يشأ بعض اليهود أن يثقوا فيها، فعثروا وسقطوا (1 بطرس 2: 4-8)، أو بالحري هلكوا إلى الأبد.

(ج) كما أننا إذا رجعنا إلى رسائل بولس الرسول، نراه يعلن لنا أن المسيح هو أساس المؤمنين، فقد قال "فإنه لا يستطيع أحد أن يضع أساساً غير الذي وضع، الذي هو يسوع المسيح" (1كورنثوس 3: 11)، ومن البديهي أن يكون الأمر كذلك، لأنه لو كانت الكنيسة بنيت على بطرس، لانهارت منذ زمن بعيد وقويت عليها أبواب الجحيم، إذ أن بطرس كان كثير الأخطاء (اقرأ مثلاً: متى 16: 23، 26: 69-75)، الأمر الذي لا يجعله أهلاً لأن يكون أساسا للمؤمنين.

أما قول بولس الرسول عن هؤلاء المؤمنين "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع نفسه هو حجر الزاوية، الذي فيه كل البناء مركباً معاً ينمو هيكلاً مقدساً في الرب، الذي فيه أنتم مبنيون معاً مسكناً لله في الروح" (أفسس 2: 20)، فلا يراد به أن الرسل والأنبياء هم أساس المؤمنين، بـل أنهم أول من آمن بالمسيح، ثم بواسطة خدمتهم أتوا بكثيرين إلى الإيمان به، لأن الرسل والأنبياء، كما يتضح من باقي الآية، هم حجارة في مسكن الله الروحي، أو بالحري أعضاء في كنيسته.

2. [إن الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية هما أقدم الكنائس وأقربها إلى الرسل، ومن ثم تكونان أقرب الكنائس إلى الحق الإلهي. ويجب أن ينتمي كل المسيحيين إلى إحداهما حتى يتمتعوا بالخلاص].

الرد: فضلاً عن أن المؤمنين الحقيقيين لا ينتمون جوهرياً إلى طائفة بل إلى المسيح، لأنه رأسهم ومصدر حياتهم وإليه وحده مآلهم، وفضلاً عن أن صدق العقائد الدينية لا يقاس بالنسبة إلى قدمها، أو اسم الطائفة التي تتمسك بها، بل بالنسبة إلى ما جاء في الكتاب المقدس بشأنها، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذا الحجة نقول:

(أ) أن المسيحيين كانوا في أول نشأتهم يتمسكون بالكتاب المقدس دون سواه، ومن ثم كانت لهم في كل البلاد عقائد واحدة. ولكن لما ظهرت البدع في القرن الثاني أطلق المقاومون لها على أنفسهم اسم "أرثوذكس" أي "مستقيمي الرأي" أما الكنيسة الأرثوذكسية من حيث هي جماعة خاصة لها كيانها، فلم تتكون إلا حوالي سنة 387/ (كنيسة الآباء في القرون الثلاثة الأولى ص 120)، أي بعـد ظهور اسم الكاثوليكيــة (أو الكنيسة الجامعة) بمدة 180 سنة (The Pilgrim Church, P. 10 ).

(ب) ولما حدث نـزاع بين المسيحيين بشأن طبيعة المسيح سنة 451م انقسم المسيحيون إلى قسمين. قال القسم الأول: أن المسيح له طبيعتان متميزتان، ويشمل هذا القسم الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية. أما القسم الثاني فقال: أن المسيح جعل الناسوت واحدا مع اللاهوت، ومن ثم تكون له طبيعة واحدة، ويشمل هذا القسم الكنيسة الأرثوذكسية بمصر وغيرها من بلاد الشرق. وبالإضافة إلى ذلك فإنه على مر السنين استحدثت كل من الكنيستـين الأرثوذكسية والكاثوليكية، عقائد متشابهة نشأت من سوء فهم بعض الآيـات الكتابيـة (كما اتضح لنا مما سلف)، بينما استحدثت الكنيسة الكاثوليكية وحدها عقائد خاصة بها لم توافق عليها الكنيسة الأرثوذكسية.

ويعوزنا الوقت إذا حاولنا أن نحصي العقائد الأخيرة، ولذلك نكتفي بالقول أن الكاثوليك بجانب اختلافهم عن الأرثوذكس من جهة طبيعة المسيح كما ذكرنا، ذهبوا إلى أن الروح القدس ينبثق من الآب والابن، وأن الاستحالة التي تحدث في العشاء الرباني لديهم لا تتم بحلول الروح القدس عليه، وأنه لا يجوز لعامة المؤمنين التناول إلا من خبز هذا العشاء دون كأسه، وأنه لا يجوز أن يكون الخبز المذكور به شيء من الخمير. كما ذهبوا إلى أن البابا معصوم من الخطيئة، وأن له السلطان أن ينقل جزاء الأعمال الصالحة عند الله من شخص إلى آخر، وأن له إصدار صكوك للغفران، وأن التأديب الذي يأمر به هو ورجاله على المخطئين غايته التكفير عن خطاياهم، وليس إصلاح نفوسهم. كما ذهبوا إلى أن نفوس البشر تذهب بعد انطلاقها من أجسادها إلى المطهر لتتطهر بناره من خطاياها وتصبح أهلاً للدخول إلى الفردوس، وأنه كلما رفعت عنها قداديس أكثر، كلما قصرت مدة وجودها في المطهر.

(ج) مما تقدم يتضح لنا أنه فضلاً عن أن الكنيسة المسيحية الحقيقية لا تحدها حدود مادية لأنها روحانية كما ذكرنا، الأمر الذي لا يدع مجالاً للقول أن الكنيسة الحقيقية هي الأرثوذكسية أو الكاثوليكية، فإننا إذا وضعنا أمامنا أن الكنيسة من الناحية الموضوعية الظاهرية تكون (كما قيل في القانون المسمى قانون الإيمان) واحدة (أي لا ثاني لها) وجامعة (أي تشمل جميع المؤمنين الحقيقيين في كل العالم) ومقدسة (أي خالية من الشر خلواً تاماً، وملتصقة بالرب التصاقاً لا انفصال فيه) ورسولية (أي أن تعليمها هو تعليم الرسل أنفسهم دون زيادة أو حذف)، اتضح لنا أنه لا يمكن أن تكون الكنيسة الحقيقية من الناحية الموضوعية الظاهرية هي الكنيسة الأرثوذكسية أو الكاثوليكية أو الإنجيلية أو غيرها من الكنائس المعروفة لدينا. كما أننا إذا وضعنا أمامنا أن الكنيسة الأرثوذكسية لم تتمسك بالكتاب المقدس وحده، بل تمسكت أيضاً بأقوال بعض المسيحيين القدماء الذين أساءوا فهم بعض الآيات الواردة في هذا الكتاب، اتضح لنا أن هذه الكنيسة أصبحت لا أرثوذكسية، لأن الأرثوذكسية كما ذكرنا فيما سلـف، معـناهـا استقامة الرأي، وليس هناك مجال لاستقامة الرأي إلا في نطاق الكتاب المقدس، ومن ثم فالاعتقاد [بوجوب الانتماء إلى الكنيسة الأرثوذكسية أو الكاثوليكية للحصول على الخلاص] يدل على التحيز الطائفي دون التمسك بالحق الإلهي، إذ لو كان أصحاب هذا الاعتقاد على شيء من الإخلاص، لكانوا قد أزالوا الاختلافات التي بين هاتين الكنيستين، وحذفوا من عقائدهما ما يتعارض مع الكتاب المقدس، قبل أن ينادوا باعتقادهم المذكور، إن كان الانضمام إلى كنيسة ما، هو السبيل للحصول على الخلاص.

3. [إن كل بركات الخلاص الذي تممه المسيح على الصليب قد أودعها في الكنيسة، والدليل على ذلك أن المسيح عندما ظهر لشاول (الذي صار فيما بعد بولس الرسول) لم يرشده إلى الخلاص، بل أرسل حنانيا إليه لكي يقوم بهذه المهمة. كما أن الملاك نفسه لم يجرؤ على القيام بإرشاد كرنيليوس إلى هذا الخلاص، بل طلب منه أن يستدعي بطرس لكي يرشده، وهذا ما يجعل الخلاص وقفاً على الانتماء إلى الكنيسة].

الرد: فضلاً عن أن المثالين اللذين أوردهما صاحب هذه الحجة لا يؤيدانه في ما ذهب إليه بشأن الكنيسة، لأن حنانيا وبطرس ليسا هما الكنيسة، الأمر الذي لا يدع مجالاً لحجته، نقول:

(أ) أن صاحب الحجة المذكورة يقصد بالكنيسة التي ذكرها، الكنيسة الأرثوذكسية أو الكاثوليكية (لأنه ينظر إلى الجماعات المسيحية الأخرى كمجرد طوائف)، ولكن غاب عن ذهنه أن الكنيسة مهما كان شأنها ليست هي التي تخلص من ينتمون إليها. لأن الذي يخلصهم هو المسيح نفسه، والدليل على ذلك أنه يوجد في كل طائفة من الطوائف المسيحية (وفي مقدمتها ما يطلق عليهما الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية) أشخاص أشرار ومؤمنون بالاسم فحسب، وهؤلاء وأولئك لا خلاص لهم على الإطلاق.

وبما أن المسيح هو الذي يخلص، بجب على الذين يريدون الحصول على الخلاص أن يتجهوا إليه شخصياً تائبين عن خطاياهم ومؤمنين به إيماناً حقيقياً، وقد قصد المسيح أن يحتفظ بالخلاص في يده وحده لأسباب هامة منها:

(1) إنه رأس المؤمنين، ولا يليق أن يكون هناك أي فاصل بين الرأس وبين أعضاء الجسد. (2) أن الأشخاص المتغربين في بلاد ليست بها كنيسة أرثوذكسية أو كاثوليكية (مثلاً) لا يمكـن أن يحصلوا على الخلاص، إذا كان متوقفاً على الانتماء إلى هاتين الكنيستين.

(3) أن المسيح أكثر عطفاً علينا من أتقى إنسان في الوجود، كما يمكن الالتجاء إليه في أي وقت من الأوقات. أما لو كان الخلاص في يد فريق من الناس لاحتكروه لأنفسهم، ولما أعطوه إلا لذويهم أو للذين يقدمون لهم فروض الطاعة ويجزلون لهم العطاء.

(4) فضلاً عن ذلك، إذا لم تكن للمؤمنين علاقة مباشرة مع المسيح بالروح القدس في العالم الحاضر، لا يمكن أن تكون لهم علاقة معه بعد انطلاقهم من هذا العالم، الأمر الذي يؤدي إلى حرمانهم منه إلى الأبد.

(ب) ولذلك إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس نرى أن المسيح لا يقول للتعابى (سواء من هموم العالم أم من الخطية) اذهبوا (مثلاً) إلى بطرس أو مرقس، بل يقول لهم "تَعَالَوْا إِلَيَّ (أنا) يا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا (أنا) أُرِيحُكُم.. وَتَعَلَّمُوا مِنِّي (أنا). فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ" (متى 11: 28) ويقول لهم أيضاً "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ" (متى 23: 8) وأيضاً "اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ (أنا) وَاخْلُصُوا يا جَمِيعَ أَقَاصِي الأرض" (إشعياء 45: 22)، لأن "َمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ (أنا) لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً" (يوحنا 6: 37) وهلم جر. لكن وإن كان الخلاص في يد الرب وحده، غير أن هذا لا يدعو من يؤمن به إلى الانعزال عن باقي المؤمنين، بل بالعكس يدعوه إلى الالتصاق بهم والاتحاد معهم، لأنه وإياهم أعضاء في جسد واحد، وأعضاء الجسد الواحد تتعاون معاً لخدمة هذا الجسد، ولذلك يقول الرسول لهم "الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ مُرَكَّباً مَعاً، وَمُقْتَرِناً بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِلٍ، حَسَبَ عَمَلٍ، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُو الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ" (1تسالونيكي 4: 4-16)

(ج) أما من جهة الشاهدين الواردين في الحجة التي نحن بصددها، فإن الغرض من إرسال حنانيا إلى شاول وبطرس إلى كرنيليوس، يرجع إلى أنهما كانا من تلاميذ الرب العارفين بطريق الخلاص، فضلاً عن ذلك لو كان شاول وكرنيليوس قد تلقيا معرفة هذا الطريق بواسطة ملاك ما، لظلا بعيدين عن جماعة الرب على الأرض وحرما تبعاً لذلك من بركة التعضيد في الحياة الروحية، لأنه لا سبيل إلى هذه البركة إلا بالوجود مع باقي المؤمنين الحقيقيين.

ثانياً: الحجج الخاصة بسلطان الحل والربط والرد عليها:

[إن المسيح أعطى تلاميذه سلطاناً لمغفرة الخطايا وإمساكها، فقد قال لهم "اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ" (يوحنا 20: 22). ومن ثم يكون هذا السلطان قاصراً عليهم وعلى خلفائهم الموجودين في الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية، ويكون البعيدون عن هاتين الكنيستين لا غفران لهم على الإطلاق].

الرد (أ) إن الغفران أو عدم الغفران هو من حق الله دون سواه. ففي العهد القديم قال داود النبـي لله "غَفَرْتَ إِثْمَ شَعْبِكَ. سَتَرْتَ كُلَّ خَطِيَّتِهمْ" (مزمور 85: 2)، كما قـال عنه إنه "أَمَّا هو فَرَأوفٌ يَغْفِرُ الإِثْمَ وَلاَ يُهْلِكُ" (مزمور 78: 38) وفي العهد الجديد قال بولس الرسول للمؤمنين "غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ" (كولوسي 3: 13) و "يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا" (1يوحنا 1: 9) ومن جهة عدم المغفرة، قال يشوع لليهود عن الله إنه "وَإِلَهٌ غَيُورٌ هو" (يشــوع 24: 19)، لأنــهم تركـوا الله ورجـعـوا إلى عبادة الأوثان. وقال صموئيل عن الله إنه "وَلَمْ يَشَأ الرَّبُّ أن يَغْفِر" لليهود (2ملوك 24: 4) لأنهم سفكوا دماً بريئاً. ولذلك خاطبه أرميا النبي مرة قائلاً "نَحْنُ أذنَبْنَا وَعَصِينَا. أَنْتَ لَمْ تَغْفِرْ" (مراثي 3: 42)

أما الآيات التي نحن بصددها، فالمسيح لا يقصد بها أن يعطي تلاميذه سلطانه الشخصي من جهة مغفرة الخطايا أو عدم مغفرتها، والدليل على ذلك أنه لم يقل واحد منهم لإنسان ما "مغفورة لك خطاياك" كما كان المسيح يقول من قبل. بل كانوا جميعاً يوجهون أنظار الخطاة إلى الله لكي يحصلوا منه مباشرة على الغفران.

فبطرس الرسول (مثلاً) عندما اكتشف خطية سيمون الساحر قال له "فَتُبْ مِنْ شَرِّكَ هَذَا وَاطْلُبْ إلى اللهِ عَسَى أن يُغْفَرَ لَكَ فِكْرُ قَلْبِكَ" (أعمال 8: 22)

وإذا كان ذلك كذلك، أدركنا أن المسيح بإعطائه هذا السلطان لتلاميذه، لم يتنازل عنه لهم وأصبحوا هم الواسطة التي يلجأ إليها الناس للحصول على الغفران، بل خولهم فقط حق إرشاد الناس إلى ما يجب عليهم القيام به من أمور حتى تغفر خطاياهم، فإذا قاموا بها أعلنوا لهم غفران خطاياهم، وإذا لم يقوموا بها أنذروهم بإمساكها. وهذه الأمور هي التوبة والإيمان الحقيقي، كما يتجلى على كل صفحة من صفحات الوحي.

(د) ويرجع السبب في ذلك إلى أن الإنجيل الذي يعلن السبيل إلى غفران الخطايا أو إمساكها لم يكن قد كتب بعد. وأن الروح القدس العامل في التلاميذ (والذي كان المسيح قد طلب منهم أن يقبلوه، قبل إعطائهم التفويض بإعلان غفران خطايا الناس أو إمساكها) هو الذي كان يحل محل الإنجيل وقتئذ، ومن ثم كانوا هم الواسطة الإلهية التي يعرف الناس عن طريقها السبيل إلى غفران الخطايا أو إمساكها كما ذكرنا، وكان من الواجب على الناس أن يسمعوا أقوالهم وينفذوا إرشاداتهم بكل دقة وإخلاص. أما وقد كتب الإنجيل ووصل إلى أيدينا كاملاً، فلسنا في حاجة بعد (ما دمنا نستطيع أن نقرأ ونفهم) إلى إنسان ما، مهما كان مركزه الديني، لكي يعلن لنا أن خطية ما قد غفرت أو أمسكت. إذ يمكننا أن نعرف كل شيء عن هذا الموضوع من الكتاب المقدس مباشرة: فإذا لم يتب إنسان ويؤمن إيماناً حقيقياً بالمسيح فلن تغفر له خطاياه، حتى إذا أعلن له رجال الدين جميعاً أنها تغفر، والعكس بالعكس.

(ج) أخيراً نقول أن الرسل كانوا يستعملون سلطان غفران الخطايا وإمساكها، ليس حسب آرائهم الشخصية (كما يفعل الذين يسندون إلى أنفسهم هذا السلطان في الوقت الحاضر)، بل حسب مشيئة الله وحدها. ولذلك كانوا يطلبون الصفح للناس الذين يسيئون إليهم إساءات شخصية، عملا بقول المسيح "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ" (متى 5: 44) ولذلك طلب بولس الرسول من الله ألا يحسب للذين تركوه أثناء محاكمته، خطية عدم تعاونهم معه. أما الذين قاوموا الإنجيل، لم يكن في وسعه أن يطلب الصفح عنهم، لأن الإساءة كانت إذ ذاك موجهة ضد الله نفسه، ومن ثم طلب منه أن يجازيهم حسب أعمالهم (2تيموثاوس 4: 14-16).

مما تقدم يتضح لنا أنه على فرض وجود خلفاء للرسل، فإنه لا يكون لواحد منهم سلطان غفران الخطايا أو إمساكها بالمفهوم الأرثوذكسي والكاثوليكي.

2. [إن المسيح قال لبطـرس الرسول "وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ[2] مَلَكُوتِ السماوات" (متى 16: 19)، وهذا دليل على أن المسيح أعطاه السلطة ليفتح السماء أمام من يشاء. ومن ثم يجب على كل الناس أن يلتجئوا إليه أو إلى خلفائه الذين في الكنيسة الكاثوليكية حتى يكون لهم نصيب في الحياة الأبدية].

المعنى (أ) لا يراد بهذه الآية أن المسيح أعطى بطرس امتياز فتح السماء أمام من يشاء، كما يقال، لأن ملكوت السموات ليس هو السماء، بل هو دائرة الإيمان بالمسيح على الأرض. والدليل على ذلك، أن هذا الملكوت كما يتضح من (متى 13: 24-50) يوجد به مؤمنون حقيقيون لهم حياة أبدية، كما يوجد به أشرار مصيرهم العذاب الأبدي. بينما السماء ليس بها، كما نعلم، إلا المؤمنون الحقيقيون الذين لهم حياة أبدية. وإذا كان الأمر كذلك، أدركنا أن الغرض من فتح ملكوت السموات، هو فتح باب الإيمان بالمسيح على الأرض أمام جميع الناس دون استثناء. ولذلك إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس نرى أن بطرس هو الرسول الذي استخدمه المسيح للقيام بهذا العمل في أول الأمر. ففي يوم الخمسين وعظ اليهود عن قيامة المسيح وصعوده إلى السماء، "نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ وَسَأَلُوا بُطْرُسَ وَسَائرَ الرُّسُلِ: «ماذا نَصْنَعُ أيها الرِّجَالُ الإِخْوَةُ؟ فَقَالَ لَهُمْ بُطْرُسُ: «تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسم يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الخطايا فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ...فَقَبِلُوا كَلاَمَهُ بِفَرَحٍ وَاعْتَمَدُوا وَانْضَمَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَحْو ثَلاَثَةِ آلاَفِ نَفْسٍ" (أعمال 20: 27-41).

(ب) وبناء على رؤيا خاصة من الله، ذهب بطرس نفسه بعد ذلك إلى كرنيليوس وأنسبائه وأصدقائه (وكانوا جميعاً من الأمم الذين لم يكن لأحد من اليهود أن يتصل بهم وقتئذ، خشية أن يعتبر نجساً بسبب انحراف الأمم عن الله وعبادتهم الأوثان). وبينما كان يكرز لهم بالإنجيل حل الروح القدس عليهم للدلالة على أنهم آمنوا بالمسيح إيماناً حقيقياً وأصبحت لهم حياة أبدية) (أعمال 10: 24- 42)، على النقيض مما كان اليهود يتوقعون أن يعتقدوا، وقد أشار بطرس الرسول مرة لليهود إلى أحقية قيامة بفتح باب الإيمان للأمم جميعاً، فقال لهم "أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنْذُ أيام قَدِيمَةٍ اخْتَارَ اللهُ بَيْنَنَا أَنَّهُ بِفَمِي[3] يَسْمَعُ الْأُمَمُ كَلِمَةَ الإنجيل وَيُؤْمِنُونَ" (أعمال 15: 7)، ومذ فتح بطرس باب الخلاص أمام جميع الناس بإرشاد الله كما ذكرنا، لا يزال هذا الباب مفتوحاً، وما على الذين يريدون أن يتمتعـوا بهـذا الخـلاص من أي جنس من الأجناس إلا أن يؤمنوا بالمسيح إيماناً حقيقياً. وإذا كان ذلك كذلك، فلا مجال للقول بأن حق الدخول إلى السماء، هو في يد بطرس وخلفائه، إن كان له خلفاء[4] .

3. [إن المسيح قال لتلاميذه "الحق أقول لكم:كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأرض يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي السَّمَاءِ وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأرض يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاءِ" (متى 18:18) وبذلك أصبح لهم أن يحاكموا الخطاة ويحكموا عليهم بالنار على أنه ليس هناك خلاص إلا بواسطة الرسل وخلفائهم الموجودين في الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية].

المعنى (أ) لا يستنتج من هذه الآية أن المسيح أعطى تلاميذه سلطان غفران الخطايا أو عدم غفرانها، لأن هذا السلطان في يده دون سواه كما ذكرنا. وكل ما يستنتج من الآية المذكورة أن الرسل إذا ربطوا خطية إنسان على الأرض أوحلوه منها، يصادق الله على تصرفهم هذا في السماء. ويرجع السبب في ذلك إلى أنهم كانوا يتصرفون في كل كبيرة وصغيرة من أعمالهم حسب إرشاد الروح القدس لهم، وليس حسب آرائهم الشخصية. و"ربط الخطية" كما يتضح من الكتاب المقدس، يراد به إعلان فداحتها وشناعتها، كما يراد به حرمان فاعلها من الاتصال بالمؤمنين والاشتراك معهم في العبادة وتوقيع التأديب المناسب عليه في الزمن الحاضر، حتى يستفيق من غفلته ويعود إلى صوابه و "الحل" يراد به رفع هذا التأديب عن فاعل الخطية إذا ندم عليها وتاب عنها، وإعادته بعد ذلك إلى مكانته بين المؤمنين التي كان يشغلها من قبل[5] .

(ب) و"سلطان الحل والربط" لم يعطه الرب لتلاميذه بصفتهم الشخصية، بل بصفتهم باكورة المؤمنين الحقيقيين وقتئذ. وتتضح لنا هذه الحقيقة بكل جلاء عندما نقرأ الآية التي نحن بصددها مع الآيات السابقة لها. فقد قال الرب لكل واحد من المؤمنين "وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فاذهب وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. أن سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ فَخُذْ مَعَكَ أيضاً وَاحِداً أو اثنين لكي تَقُومَ كُلُّ كَلِمَةٍ عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أو ثلاثة. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَقُلْ لِلْكَنِيسَةِ (أو بالحري للمؤمنين الحقيقيين الذين في بلدتك) وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكَنِيسَةِ (أو بالحري من هؤلاء المؤمنين) فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ كَالْوَثَنِيِّ وَالْعَشَّار (أي لا تعامله على الإطلاق). اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأرض يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي السَّمَاءِ وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأرض يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاء" (متى 18: 15-18).

ولذلك لم يحتكر الرسل لأنفسهم سلطان الحل والربط، بل كانوا يقومون به الاشتراك مع باقي المؤمنين. فمثلاً عندما سقط أحد المؤمنين في خطية الزنا، قال بولس الرسول لأهل كورنثوس "قَدْ حَكَمْتُ..بِاسم رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ - إذ أَنْتُمْ وَرُوحِي مُجْتَمِعُونَ مَعَ قُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ - أن يُسَلَّمَ مِثْلُ هَذَا (الزاني) لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ الْجَسَدِ (أو بالحري لإصابتـه بالأمراض الفتاكـة) لكي تَخْلُصَ الرُّوحُ فِي يَوْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ" (1كورنثوس 5: 3-5)[6]

(ج) ومن باب الحل والربط بصفة عامة، قول الرسول لنا: "إِنْ رَأى أَحَدٌ أَخَاهُ يُخْطِئ خَطِيَّةً لَيْسَتْ لِلْمَوْتِ، يَطْلُبُ (من الله)، فَيُعْطِيهِ حَيَاةً لِلَّذِينَ يُخْطِئونَ لَيْسَ لِلْمَوْتِ. تُوجَدُ خَطِيَّةٌ لِلْمَوْتِ. لَيْسَ لأجل هَذِهِ أَقُولُ أن يُطْلَبَ" (1يوحنا 5: 16)، فالمؤمن (أو بالحري المؤمن الحقيقي) السائر في خوف الله، بوصفه عارفاً بفكر المسيح عن طريق الطاعة القلبية له والشركة الروحية معـه (1كورنثوس 2: 26)، إذا رأى أخاً قد ارتكب خطية (شنيعة أوخطية تكرر ارتكابه لها يوقع الله عليه بسببها مرضاً ما، وأدرك أن الله قد أمسك على هذا الأخ خطيته، يجب ألا يصلي لأجل شفائه، بل أن يتركه وشأنه تحت التأديب الإلهي حتى إذا أدى به الأمر إلى المـوت. وإن رأى آخر قد ارتكـب خطيـة (صغيرة نسبياً أوخطية لم يسبق له السقوط في مثلها) يوقع الله عليه بسببها مرضاً، يمكن أن يصلي لأجل شفائه حتى ينهض الأخ المذكور من مرضه، ويستأنف حياته على الأرض في خدمة الرب وعمل مشيئته.

أما القول [إن الموت في الآية التي نحن بصددها يراد به العذاب الأبدي] فليس بصواب، لأننا لو سلمنا بهذا القول، لكانت هناك خطايا لا تستحق العذاب المذكور. وهذا ما يتعارض مع الكتاب المقدس كل التعارض، لأنه يعلن لنا أن من قال فقط "يا أحمق" يكون مستوجباً نار جهنم (متى 5: 22)، وإذا كان ذلك كذلك، أدركنا أن الموت هنا لا يراد به إلا الموت الجسدي تحت التأديب كما ذكرنا.

(ه) أخيرا نقول أن سلطان ربط الخطايا الذي كان يمارسه الرسل كان مصحوبا بقوة معجزية فمثلاً: لما قاوم عليم الساحر إنجيل الله، قال له بـولس الرسـول "فَالآنَ هو ذَا يَدُ الرَّبِّ عَلَيْكَ فَتَكُونُ أَعْمَى لاَ تُبْصِرُ الشَّمْسَ إلى حِينٍ. فَفِي الْحَالِ سَقَطَ عَلَيْهِ ضَبَابٌ وَظُلْمَةٌ فَجَعَلَ يَدُورُ مُلْتَمِساً مَنْ يَقُودُهُ بِيَدِه" (أعمال 13: 11) حتى يتوب عن شره ويؤمن بالمسيح، لأنه لم يكن مؤمناً به. والذي ارتكب خطية الزنا في ساعة من ساعات الطيش، طلب الرسول من المؤمنين ألا يخالطوه، وليس هذا فحسب بل أسلمه للشيطان ليهلك جسده حتى تخلص روحه في يوم الرب يسـوع (1كورنثوس 5: 15) كما ذكرنا فيما سلف[7].

والذين استهانوا بمائدة الرب أصابهم الله بالضعف والمرض والموت أيضاً. حتى لا يدانوا مع العالم (1كورنثوس 11: 3)، لأنهم مع الشخص الذي ذكرناه من قبل كانوا من المؤمنين الحقيقيين. وإذا ذلك كذلك، أدركنا أنه لو كان للرسل خلفاء في الوقت الحاضر، لا يكون لهم سلطان على غفران الخطايا أو ربطها، بمعنى إنقاذ فاعليها من جهنم أو إلقائهم فيها، حسب المفهوم الأرثوذكسي والكاثوليكي. كما أدركنا أنه نظراً لأن الذين يسندون إلى أنفسهم وحدهم سلطان الحل والربط في الوقت الحاضر، لا يستطيعون أن يبرهنوا على أحقيتهم فيه بأعمال معجزية كما كان يفعل الرسل من قبل، يكون إسنادهم هذا السلطان إلى أنفسهم فقط، مجرد تقليد لا يرفع من شأنهم أو قدرهم، إذ يكون مثلهم مثل الخادم الذي يقلد سيده في حديثه وأعماله، فإنه مهما أتقن تقليده لا يرتفع إلى مركز سيده على الإطلاق.

4. [إن سلطان الحل والربط بالمفهموم الأرثوذكسي والكاثوليكي، كان موجوداً في الكنيسة منذ نشأتها، ومن ثم يكون منقولاً عن الرسل أنفسهم].

الرد: هذا الاعتقاد ليس بصواب، لأنه بالرجوع إلى التاريخ[8] نرى: (أ) أن سلطان الربط لم يكن في يد رجال الدين مهما كان شأنهم، بل كان في الكنيسة (أو بالحري المؤمنين الحقيقيين كما ذكرنا)، وذلك لغاية القرن الثالث. وكان هذا السلطان قاصراً على حرمان المخطىء من العشاء الرباني وولائم المحبة، ولكن في القرن الرابع أخذ بعض الأساقفة يحتكرونه لأنفسهم شيئاً فشيئاً، حتى تم لهم ذلك نهائياً بواسطة مجمع رومية سنة 502م.

(ب) وبعد ذلك حولوا هذا السلطان إلى حق القضاء باللعنة وبالحرمان (الأناثيما) معا، ومن ثم أخذوا يصبون اللعنة الواردة في (تثنية 27، 28) على الخاطئين ويقضون بطردهم من الكنيسة وحرمانهم من السماء أيضاً. فثار ضدهم كثير من القديسين ووجهوا نظرهم إلى أن اللعنة تكون على أعمال المخطئين لا على المخطئين أنفسهم، وإلى أن الحرمان من السماء ليس في يدهم بل في يد المسيح وحده. لكن الأساقفة المذكورين لم يصغوا لأقوالهم على الإطلاق.

(ج) فضلاً عن ذلك لما أصبح لكنيسة روما سلطة مدنية في القرن التاسع، قرر مجمع بافيا سنة 508 م أن المحروم من الكنيسة لا يعين في الوظائف الحكومية ولا تقبل شهادته أمام المحاكم، ولا تعتمد وصيته الأخيرة، ولا يدفن إلا كما يدفن الحمار. كما أن الأساقفة بعد ما كانوا يستعملون سلطان الحرم ضد المخطئين الذين في كنائسهم فحسب، أخذوا يستعملونه ضد من لايقضون لهم حاجتهم، حتى إذا كانوا بعيدين عن نفوذهم الديني. ومن ثم فلا مجال لهذه الحجة أيضاً.


[1] - طبعاً ما عدا الطوائف التي لا تؤمن بلاهوت المسيح وكفاية كفارته وخلود النفس، إما في السماء أو في الجحيم، وغير ذلك من الحقائق الأساسية في الكتاب المقدس.

[2] - كان الناموسيون يأخذون مفتاحاً يطلق عليه مفتاح المعرفة عند تعيينهم في وظائفهم رمزاً لأنه أصبح لهم حق التعليم والإرشاد (لوقا 11: 11)، أما المفاتيح المذكورة أعلاه ليست مادية بل روحية.

[3] - إن المسيح لم يعط بطرس هذا الامتياز لأنه كان أفضل من غيره من الرسل، بل لأنه كان أول من عرف شخصه حق المعرفة (متى 16:16).

[4] - بحثنا موضوع الخلافة بالتفصيل في كتاب "الكهنوت".

[5]- مما تجدر الإشارة إليه أنه جاء في (صحيفة 525 من كتاب "حياة المسيح" تعريب الدكتور عقداوي الأرثوذكسي المشهور) "أن سلطان الحل والربط يراد به تخويل التلاميذ حق إصدار الأوامر والنواهي للمؤمنين"، لكن وإن كان هذا الرأي يقضى على الاعتقاد بأن الرسل كان لهم السلطان أن يغفروا الخطايا أو لا يغفروها، غير أننا لا نقر صاحب الكتاب المذكور على رأيه هذا، لأن المسيح أعطى سلطان الحل والربط للكنيسة أو بالحري لجماعة المؤمنين الحقيقيين (متى 18: 15-18)، وهؤلاء المؤمنون ليس لهم سلطة التشريع، إذ يجب عليهم جميعاً التقيد بما أعطاهم الله من وصايا في الكتاب المقدس، دون أن يزيدوا عليها أو يحذفوا منها (رؤيا 22: 18-19).

[6] - ولكي يقوم المؤمنون بهذا العمل يجب أن يحاولوا أولاً إصلاح المخطيء بروح الوداعة (غلاطية 6: 1) مرة ومرتين (تيطس 3: 10) وإن أصر بعد ذلك على الاستمرار في خطبته، اجتمعوا باسم الرب لينظروا في أمره. واجتماع مثل هذا له خطورته، إذ أنه يتطلب منهم أن يكونوا تحت تأثير الرب دون سواه. كما يجب أن يضعوا أمام عيونهم أثناء قيامهم بهذا العمل، أنهم أنفسهم معرضون للخطأ مثل هذا الشخص (غلاطية 6: 1) حتى لا يكونوا مغالين في حكمهم عليه.

[7] - لكن لما وجد أنه حزن حزناً مفرطاً، رفع التأديب عنه وأوصى المؤمنين أن يقبلوه في الشركة معهم (2كورنثوس 5: 5-11).

[8] - ريحانة النفوس ص 136- 144.

  • عدد الزيارات: 10159