Skip to main content

شروط حلول الروح القدس

إن حلول الروح القدس في المؤمنين، كما اتضح لنا مما سلف، مرتبط بخلاصهم كل الارتباط، وقد ذهب فريق من الإنجيليين إلى أن هذا الروح لا يحل إلا على الأتقياء من هؤلاء المؤمنين. وذهب فريق آخر منهم إلى أنه لا يحل إلا مصحوباً بالتكلم بالألسن والفرح العظيم. أما الأرثوذكس والكاثوليك فذهبوا إلى أن الروح القدس لا يحل على أحد إلا بواسطة المسح بالميرون. وفيما يلي الحجج الخاصة بكل فريق مصحوبة بالرد عليها:

أولاً: حلول الروح القدس والتقوى:

1. [ليس من المعقول أن يعطي الله الروح القدس للمؤمنين بمجرد إيمانهم، بل المعقول أنه يعطيهم إياه عندما تسمو حياتهم الروحية، ولذلك فإن حلول الروح القدس هو بركة إضافية منفصلة عن الخلاص بالإيمان، ينالها المؤمنون بعد الإيمان بفترة من الزمن].

الرد: إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نرى أن الروح القدس يحل فينا بمجرد الإيمان الحقيقي. فقد قال المسيح عن الروح القدس "مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الْكِتَابُ تَجْرِي (أي تجري في الحال) مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ" (يوحنا 7: 38-39) وقال بولس الرسول لأهل أفسس "إذ آمَنْتُمْ (أي بمجرد أن آمنتم) خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ" (أفسس 1: 14) وقال للغلاطيين مستنكراً اعتقادهم بأن الخلاص يكون بأعمال الناموس "أَبِأعمال النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإيمان؟ فَالَّذِي يَمْنَحُكُمُ الرُّوحَ، وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ أَبِأعمال النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإيمان؟" (غلاطية 3: 2) ثم أعلن لهم بعد ذلك الحقيقة التي كانوا يجهلونها، فقال إننا "لِنَنَالَ بِالإيمان (وليس بالتقـوى والأعمال) مَوْعِدَ الرُّوحِ" (غلاطية 3: 14) وقال بطرس الرسول لليهود "تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسم يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الخطايا فَتَقْبَلُوا (أي تقبلوا في الحال) عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ"[1] (أعمال 2: 38-39). فإذا أضفنا إلى ذلك أن الرسول بولس قال لبعض الأفسيين "هَلْ قَبِلْتُمُ الرُّوحَ الْقُدُسَ لَمَّا آمَنْتُمْ؟" (أعمال 19: 2)، وأنه قال للكورنثوسيين جميعاً "أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟" (1 كورنثوس 3: 16)، اتضح لنا بدليل ليس بعده دليل أن الروح القدس يحل بمجرد الإيمان، أو بالحري الإيمان الحقيقي.

(ب) فضلاً عما تقدم، فإن الوحي يعلن لنا أن المؤمنين الحقيقيين يولدون الولادة الثانية التي يبدأون بها علاقتهم الروحية مع الله، بواسطة الروح القـدس (يوحنا 3: 6)، وأن هذا الروح هو العربون الذي يؤكد لهم الحصول على الحياة الأبدية (2كورنثوس 1: 22، 5: 5)، وأن الله أرسله إلى قلوبهم لكي يشهد لهم أنهم أولاده (غلاطية 4: 6، رومية 8: 15، يوحنا 5: 6)، ولكي يستطيعوا أن يعبدوه ويرفعوا إليه الصلاة التي تتفق مع مشيئته (روميه 7: 6، يوحنا 4: 23)، ويستطيعوا أيضاً أن يميتوا أعمال الجسد وأهواءه (غلاطية 5: 16، رومية 8: 13)، ونظراً لأن هذه الآيات لم تكتب لبعض المؤمنين الحقيقيين دون البعض الآخر بل كتبت لهم جميعاً، لذلك لا ندحة من التسليم بأن الروح القدس يحل فيهم جميعاً بمجرد إيمانهم كما ذكرنا.

(ج) فـإذا أضفنـا إلى ذلك (أولاً) أن تأخير سكنى الروح القدس في المؤمنين الحقيقيين إلى ما بعد الإيمان بفترة من الزمن، بجعل سكناه فيهم متوقفاً ليس على استحقاق كفارة المسيح بل على استحقاقهم الشخصي الأمر الذي يتعارض مع الحق كل التعارض، إذ أن البشر مهما سمت حياتهم الروحية لا يكونون من تلقاء أنفسهم أهلاً للشركة مع الله. أو بالحري لسكنى الروح القدس فيهم.

(ثانياً) أن الروح القدس، كما اتضح من الآيات التي ذكرناها فيما سلف هو الذي يكون في نفوس المؤمنين الطبيعة الروحية الجديدة، وهو الذي يخلصهم من سلطة الخطية ومتاعبها، وهو الذي يجعلهم أبناء لله ويقودهم للسجود والصلاة له.

(ثالثاً) أن الرسول أعلن بكل وضوح أن الذين ليس لهم روح المسيح (أو بالحري الروح القدس) لا يكونون من أتباع المسيح (رومية 8: 9)، أو بالحري يكونون بعيداً عنه ولا علاقة لهم به، أدركنا أن وجود الروح القدس في المؤمنين لابد أن يكون سابقاً لكل ما يظهر فيهم من تقوى، وليس لاحقاً لما يظهر فيهم منها، كما أدركنا أن من لا يسكن فيه الروح القدس لا يكون مؤمناً حقيقياً، وأن كل مؤمن حقيقي لابد أن يكون الروح القدس ساكناً فيه.

وإذا كان ذلك كذلك، يجب ألا يشك أي مؤمن حقيقي من جهة سكنى الروح القدس في نفسه، أو ينتظر رؤيا أو حلماً أو علامة تؤكد له أن هذا الروح قد سكن فيها (لأن الشك هو العقبة التي تحول بين المؤمنين الحقيقيين، وبين التمتع بالبركات الروحية التي وهبها الله لهم)، بل أن يؤمن إيماناً كاملاً (بناء على شهادة الوحي) أن الروح القدس قد حل فعلاً في نفسه بمجرد أن آمن إيماناً حقيقياً[2] وأن ينتظر إرشاده في كل حين، في العبادة والخدمة والتصرف في العالم الحاضر، فيختبر عمل هذا الروح في نفسه بصورة واضحة جلية.

2. [إن الكتاب المقدس لم يسجل أن كل شخص آمن بالمسيح إيماناً حقيقياً، قد حل فيه الروح القدس بمجرد إيمانه].

الرد: وإن كان الكتاب المقدس لم يسجل ذلك حرفياً، لكن يكفينا أن نعلم:

(أولاً) أن الروح القدس حل على كرنيليوس وأقربائه وأصدقائه بمجرد إيمانهم بالمسيح (أعمال 10: 44).

(ثانياً) أن كل القرائن بجانب الأدلة الكتابية السابق ذكرها تدل على أن الروح القدس كان يحل في المؤمنين الحقيقيين بمجرد إيمانهم، لأن كل ثماره الواردة في (غلاطية 5: 32) كانت تظهر بكل وضوح فيهم، كما كانت الحال مع السجان (أعمال 16: 5) وليديه (أعمال 16: 34) والحبشي (أعمال 8: 39)، والذين آمنوا بواسطة خدمة بطرس الرسول في أورشليم (أعمال 2: 41)، وخدمة بولس الرسول في كورنثوس (أعمال 19: 19)

وإذا كان ذلك كذلك، أدركنا أن عدم تسجيل الكتاب المقدس عن كل شخص آمن بالمسيح إيماناً حقيقياً أن الروح القدس حل فيه بمجرد إيمانه، يرجع إلى أن هذه الحقيقة كانت معروفة كل المعرفة لدى المؤمنين جميعاً، وأنه لم يكن هناك شك لدى أحد من جهتها على الإطلاق.

3. [إن معظم المؤمنين الحقيقيين يحيون حياة الضعف، ولا تظهر فيهم ثمار الروح القدس الخاصة بالقداسة التامة والغيرة الحارة على خدمة الرب. ومن تظهر فيهم هذه الثمار يكون قد مضى على إيمانهم فترة طويلة من الزمن، وهذا دليل على أن الروح القدس لا يسكن في المؤمنين الحقيقيين بمجرد إيمانهم]

الرد: أن ما يبلغه المؤمنون من حياة روحية ممتازة، لا يكون في الغالب نتيجة لسكنى الروح القدس فيهم، بل نتيجة للامتلاء من هذا الروح. وهذا الامتلاء قد يكون بمجرد الإيمان الحقيقي، وقد يكون بعد هذا الإيمان بفترة من الزمن. إذ أنه يتطلب الشركة العميقة مع الله والتكريس الكلي له، كما يتطلب الطاعة التامة لشخصه، والاتجاه الكامل نحو خدمته وإكرامه، وهذا الامتلاء (كما نعلم بالاختبار) يسبي النفس في محبة الله والشوق إليه، ويأخذها لتمتع أعظم بالسماويات، ويبعث إليها بفيض من الأفراح والتعزيات، ويمدها بقدرة فائقة على خدمة الرب وإكرامه، ويحيطها بجو كله قداسة وطهارة، كما يساعدها على فهم مشيئة الله في كل ناحية من نواحي الحياة، ولذلك إذا شبهنا سكنى الروح القدس في المؤمن الحقيقي بمياه النهر العادية، يكون الامتلاء به هو الفيضان بعينه. ونظراً لأهمية هذا الامتلاء، قال الوحي لمن سكن فيهم الروح القدس "امْتَلِأوا بِالرُّوحِ" (أفسس 5: 18) ومع كل فإن المؤمنين الحقيقيين الذين لم يبلغوا درجة الملء من الروح القدس، لا يعيشون في الشر على الإطلاق، بل إذا سقطوا فيه مرة سعوا بكل قوتهم للنهوض منه حالاً، وذلك بسبب الطبيعة الروحية التي نالوها من الله بالإيمان الحقيقي، وإذا كان ذلك كذلك، اتضح لنا أن أصحاب الحجة التي نحن بصددها لم يبنوها إلا على بعض مشاهداتهم في المؤمنين بالاسم، أو المؤمنين الحقيقيين المهملين في سلوكهم والواقعين تحت تأديب الله وقضائه في العالم الحاضر، وهؤلاء وأولئك ليسوا أساساً نبني عليه إيماننا بالحقائق الإلهية، لأن الأساس الوحيد لإيماننا بهذه الحقائق، هو الكتاب المقدس دون سواه.

4. [إن الرسل كانوا قد آمنوا بالمسيح بمجرد أن دعاهم إليه، ومع ذلك لم يحل الروح القدس عليهم إلا بعد خمسين يوماً من قيامته من بين الأموات].

الرد: بالرجوع إلى الكتاب المقدس يتضح لنا أن الروح القدس كان يرافق رسل المسيح منذ إيمانهم به (يوحنا 14: 17) ولكنه لم يسكن في واحد منهم إلا بعد صعود المسيح إلى السماء، وقد كشف الوحي لنا عن السبب في ذلك فقال: "لأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ (أي أثناء وجود المسيح على الأرض) لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ" (يوحنا 7: 39) ولما تمجد المسيح، أو بالحري أكمل الكفارة وصعد إلى السماء (للدلالة على قبولها الأبدي أمام الله) انتظر الرسل حلول الروح القدس عليهم بالصلاة بناء على وعد المسيح السابق لهم (يوحنا13: 16- 26، 16: 13 وأعمال 1: 8)، فحل عليهم وعلى غيرهم في يوم الخمسين (أعمال 2: 1، 33) ومنذ حلوله هذا، يحل ويسكن في كل من يؤمن إيماناً حقيقياً كما ذكرنا فيما سلف، بفضل كفارة المسيح الكاملة.

ثانياً: حلول الروح القدس والتكلم بالسنة:

[إن حلول الروح القدس يكون مصحوباً بالتكلم بألسنة كما يتضح من (أعمال 19: 6)، ولذلك فكل من لا يتكلم بها لا يكون الروح القدس قد سكن فيه].

الرد: (أ) بالرجوع إلى الكتاب المقدس يتضح لنا أن الروح القدس بحلوله في المؤمنين الحقيقيين كان يمنحهم مواهب متعددة، حتى يتعاون أحدهم مع الآخر ويفيد منه، كما يتعاون أعضاء الجسد الواحد في خدمة هذا الجسد. ولذلك قال الرسول عن الله "وَلَكِنَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ يُعْطَى إِظْهَارُ الرُّوحِ لِلْمَنْفَعَةِ. فَإِنَّهُ لِوَاحِدٍ يُعْطَى بِالرُّوحِ كَلاَمُ حِكْمَةٍ. وَلِآخَرَ كَلاَمُ عِلْمٍ بِحَسَبِ الرُّوحِ الْوَاحِدِ. وَلِآخَرَ إيمان بِالرُّوحِ الْوَاحِدِ. وَلِآخَرَ مَوَاهِبُ شِفَاءٍ بِالرُّوحِ الْوَاحِدِ. وَلِآخَرَ عَمَلُ قُوَّاتٍ وَلِآخَرَ نُبُوَّةٌ وَلِآخَرَ تَمْيِيزُ الأرواح وَلِآخَرَ أَنْوَاعُ أَلْسِنَةٍ وَلِآخَرَ تَرْجَمَةُ أَلْسِنَةٍ" (1كورنثوس 12: 7-10) ومن ثم لا مجال للقول أن كل من يحل فيه الروح القدس يحب أن تكون له موهبة الألسنة.

(ب) فإذا أضفنا إلى ما تقدم (أولاً) أن موهبة الألسنة ليست أول المواهب بل آخرها، وأن الرسول فضل المحبة والتعليم عليها كثيراً. فقال "إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ النَّاسِ وَالْمَلاَئكَةِ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَقَدْ صِرْتُ نُحَاساً يَطنُّ أو صَنْجاً يَرِنُّ" (1كورنثوس 13: 1) كما يقال "وَلَكِنْ فِي كَنِيسَةٍ أُرِيدُ أن أَتَكَلَّمَ خَمْسَ كَلِمَاتٍ بِذِهْنِي لكي أُعَلِّمَ آخَرِينَ أيضاً أَكْثَرَ مِنْ عَشْرَةِ آلاَفِ كَلِمَةٍ بِلِسَانٍ" (1كورنثوس 14: 9)

(ثانياً) أن الوحي يعلن لنا أن التكلم بألسنة هو آية ليس للمؤمنين بل لغير المؤمنين (1كورنثوس 14: 12)، أو بالحري لليهود والوثنيين والملحدين، الأمر الذي لا يدع مجالاً لممارسة هذه الموهبة في اجتماعاتنا في الوقت الحاضر لعدم وجود هؤلاء الأشخاص بيننا، اتضح لنا أن القول [بأن الذي لا يتكلم بألسنة لا يسكن فيه الروح القدس] ليس بصواب.

2. [إن العلامة الملازمة لحلول الروح القدس هي الفرح كما يتضح من (أعمال 16: 34)، ومن ثم فإن المؤمنين الذين لا يحيون حياة الفرح، لا يكون الروح القدس قد سكن فيهم بعد].

الرد: لا شك أن المؤمن الحقيقي يفرح في الرب، ويفرح فيه في كل حين (فيلبى 4: 4)، غير أنه يجب أن نفرق بين الفرح السطحي وبين الفرح القلبي. فالأشخاص الذين تشبه قلوبهم الأرض التي تكمن فيها الأحجار يفرحون عندما يسمعـون كلمـة الله (متى 13: 20)، ولكنهم لا يأتون بثمرها: ومن ثم يزول فرحهم بعد حين. أما الفرح الحقيقي فهو الذي يلازم المؤمنين الحقيقيين حتى في أشـد التجـارب والضيقـات (يعقوب 1: 2)، كما يكون مقترناً بالشركة الروحية مع الله والقداسة العملية أمامه، نعم قد لا يظهر هذا الفرح في الخارج ولكنه يملأ جوانب القلب سلاماَ وابتهاجاَ. وداود النبي الذي اختبر هذا الفرح قال لله "جَعَلْتَ سُرُوراً فِي قَلْبِي أَعْظَمَ مِنْ سُرُورِهِمْ" (مزمور 4: 7)، على الرغم من أن موارد رزقه كانت اقل من موارد رزقهم كثيراً. وقال غيره "فَمَعَ أَنَّهُ لاَ يُزْهِرُ التِّينُ وَلاَ يَكُونُ حَمْلٌ فِي الْكُرُومِ يَكْذِبُ عَمَلُ الزَّيْتُونَةِ وَالْحُقُولُ لاَ تَصْنَعُ طَعَاماً. يَنْقَطِعُ الْغَنَمُ مِنَ الْحَظِيرَةِ وَلاَ بَقَرَ فِي الْمَذَاودِ فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلَهِ خَلاَصِي" (حبقوق 3: 17)

ثالثاً: حلول الروح القدس وزيت الميرون[3]

1-[إن الله كان قد أمر موسى النبي أن يأخذ أفخر الأطياب ويمزجها بزيت الزيتون لتكون دهناً مقدساً يمسح به أواني الخدمة وخيمة الاجتماع، كما يمسح به هرون وبنيه حتى يكونوا مقدسين (خروج 30)، الأمر الذي يدل على أنه ليس هناك تقديس (أو اقتراب إلى الله) إلا بواسطة الميرون الذي هو دهن المسحة المقدسة].

الرد: أن العهد القديم هو عهد الرموز، ولا يتسع المجال أمامنا لسرد كل رمز منها وبيان ما كان يدل عليه من معان روحية في العهد الجديد. ولذلك نكتفي بالقول أن الذبائح الحيوانية كانت رمزاً لكفارة المسيح، وضوء السرج كان رمزاً للمسيح بوصفه نور العالم (يوحنا 8: 12)، والبخور كان رمزاً للصلاة التي ينشئها الروح القدس في نفوس المؤمنين الحقيقيين، ومن ثم تصعد إلى الله وتنال القبول أمامه (رؤيا 5: 8) وهكذا الحال من جهة دهن المسح، فإنه كان رمزاً للروح القدس الذي بحلوله في النفس يقدسها ويكسبها صفات سماوية عطرة للغاية. وبما أن الروح القدس قد حل في اليوم الخمسين من قيامة المسيح، ويحل لغاية الآن في كل من يؤمن إيماناً حقيقياً، لذلك ليس هناك مجال لاستعمال هذا الدهن في العهد الجديد، لاسيما وليست هناك أية وصية لاستعماله في هذا العهد.

2. [إن يوحنا الرسول قال لنا "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَالْمَسْحَةُ الَّتِي أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ (أي من الله) ثَابِتَةٌ فِيكُمْ، وَلاَ حَاجَةَ بِكُمْ إلى أن يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ، بَلْ كَمَا تُعَلِّمُكُمْ هَذِهِ الْمَسْحَةُ عَيْنُهَا" (1يوحنا 2: 26، 27) وهذا دليل على أن زيت المسحة لم يبطل استعماله في العهد الجديد].

الرد: (أ) فضلاً عن أن الكتاب المقدس يشهد أن الروح القدس يحل بمجرد الإيمان الحقيقي كما ذكرنا فيما سلف، وفضلاً عن أن الآية التي أمامنا لا تـدل على أن الروح القدس يحـل على المؤمنين بواسطة دهنهـم بزيت ما، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذه الحجة، نقول: أن كلمة "المسحة" الواردة في الآية التي نحن بصددها لا يراد بها زيت من الزيوت، بل إنها مستعملة هنا بالمعنى المجازي للدلالة على الروح القدس نفسه، والدليل على ذلك أن الرسول يسند التعليم إليها، مع أنها في ذاتها لا تعلم، إذ أن الذي يعلم هو الروح القدس، فقد قال المسيح عنه للتلاميذ إنـه "يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ" (يوحنا 14: 26)

(ب) أما السبب في استعمال كلمة "المسحة" بدلاً من كلمة الروح القدس، فهو من باب إطلاق الاسم القديم على الاسم الجديد [كما هي الحال في إطلاق كلمة الفصح على المسيح (1كورنثوس 5: 7)، وكلمة الاغتسال على تنقيـة القلـب (أفسس 5: 26)، وكلمة النور على معرفة الخلاص (2كورنثوس 4: 6)، وكلمة البخور على الصلاة (رؤيا 5: 8)]، وذلك لوحدة الوحي الإلهي. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن تلاميذ المسيح لم يمسحوا بزيت ما عندما حل الروح القدس عليهم، أو مسحوا أحداَ بهذا الزيت لكي يحل عليه هذا الروح: كما أن المسيح عندما حل عليه الروح القدس لم يمسح بزيت، إذا أن قول الوحي عن الله إنه مسح المسيح بالروح القدس (أعمال 10: 38)، معناه أن الروح القدس حل عليه لا أكثر ولا أقل، اتضح لنا أن كلمة المسحة لا تستعمل في العهد الجديد إلا بالمعنى المجازي فحسب كما ذكرنا.

3. [إن الرسول بولس قال: "وَلَكِنَّ الَّذِي يُثَبِّتُنَا مَعَكُمْ فِي الْمَسِيحِ، وَقَدْ مَسَحَنَا، هو اللهُ الَّذِي خَتَمَنَا أيضاً، وَأَعْطَى عَرْبُونَ الرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا" (2كورنثوس 1: 21، 22)].

الرد: يتضح من هذه العبارة أن الله نفسه هو الذي مسح بولس وإيانا، وأنه أيضاً هو الذي ختمه وإيانا، والله عندما قام بهذين العملين لم يستعمل زيتاً ما، ومن ثم فإن المسح والختم هنا مستعملان بالمعنى المجازي. أما هذه الآية فتدل على أمرين هامين:

(أ) أن الله لا يترك المؤمنين لأنفسهم أو جهادهم، بل إنه نفسه هو الذي يثبتهم في المسيح، ومن ثم يضمن سلامتهم إلى الأبد. وإننا لنشكر الله كل الشكر من أجل عمله هذا، لأنه لو كان أمر ثباتنا في المسيح منوطاً بنا لزحزحتنا التجارب عنه، وفقدنا الخلاص الذي منحه لنا بالمسيح، وهذا هو الفرق الجوهري بين عمل النعمة وبين عمل الناموس، فالناموس كان يترك الناس لقدرتهم الذاتية، ومن ثم فشلوا جميعاً، أما النعمة فتقوم بتثبيتنا في المسيح، ولذلك تضمن سلامتنا إلى الأبد.

(ب) ومن نعمة الله علينا أيضاً أنه أعطانا الروح القدس في نفوسنا، لكي يحفظنا من ضعفنا الطبيعي ويرشدنا ويعلمنا طالما نحن في العالم الحاضر. كما أن هذا الروح هو ختم الله علينا، للدلالة على أننا أصبحنا خاصته التي يعتز بها، وهو كذلك العربون (أو بالحري الدليل الأكيد) الذي أعطاه مقدماً لنا لكي نثق كل الثقة أن لنا في المسيح، منذ الآن، حق التمتع بالمجد الأبدي، لاسيما وأن قيمة الروح القدس تفوق قيمة هذا المجد كثيراً، وهذا الحق الثمين عندما يتغلغل في قلوبنا يبعث فينا كل حب وإخلاص لله، كما يقودنا للسلوك بالطاعة والتدقيق أمامه.

4. [إن زيت المسحة كان يستعمل في الكنيسة منذ نشأتها كواسطة لحلول الروح القدس، ولذلك يكون الرسل أنفسهم هم الذين أمروا باستعماله لهذا الغرض، ثم انتقل إلينا منهم عن طريق التقليد].

الرد: فضلاً عن أن الإيمان المسيحي بأسره قد سلم إلينا بواسطة الرسل مرة واحدة (يهوذا 1: 3) على صفحات الكتاب المقدس، حتى أن الرسول بولس قال للمؤمنين "وَلَكِنْ أن بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أو مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»" (أو محروماً)" (غلاطية 1: 8)، الأمر الذي لا يدع مجالاً للاعتقاد بوجود أي تقليد تسلمه الخلف من السلف، يختلف عما جاء في هذا الكتاب، نقول: أن الدليل الذي يثبت أن تقليداَ ما يرجع إلى الرسل، هو أن تكون هناك إشارة إليه في الكتاب المقدس. وبما أنه ليست هناك إشارة في هذا الكتاب يستنتج منها أن الرسل كانوا يستعملون زيتاَ ما كواسطة لحلول الروح القدس على المؤمنين، إذاَ لا يمكن أن يكون استعماله لهذا الغرض راجعاَ إليهم بأي حال من الأحوال. ولكن بالرجوع إلى التاريخ[4] يتضح لنا ما يأتي:

(أ) استحسن فريق من الأساقفة في القرن الثاني أن يمسحوا المؤمنين الذين يقبلون المعمودية بزيت الزيتون العادي، لأنهم وجدوا أن كلمة "المسحة" هي التي يشتق منها اسم المسيح، وكان غرضهم من هذا العمل أن يعلنوا أن المؤمنين المذكورين أصبحوا مسيحيين.

واستحسن فريق آخر من الأساقفة أن يمسحوا مثل هؤلاء المؤمنين بالزيت المذكور، لأنهم وجدوا أنه كان يستعمل في العهد القديم عند تعيين الملوك والكهنة في وظائفهم رمزاً لحلول الروح القدس عليهم، ولذلك كان غرض هذا الفريق من الأساقفة من مسح المؤمنين بالزيت، أن يعلنوا أن الروح القدس قد حل عليهم، وأنهم أصبحوا تبعاً لذلك ملوكاً وكهنة بالمعنى الروحي، كما جاء في (رؤيا 1: 5) ومن ثم كان المسح بالزيت لديهم مجرد رمز أو إشارة لحلول الروح القدس. وقد أشار إلى هذه الحقيقة كيرلس الاسكندري فقال "إن الميرون يشير حسناً إلى مسحة الروح القدس" (أسرار الكنيسة السبعة ص 56)، أي أنه ليس هو الروح القدس، أو حتى الواسطة لحلوله.

وبعد ذلك أخذ الاعتقاد بشأن هذا الزيت يتطور شيئاً فشيئاً، حتى ذهب كثير من الأساقفة في القرن الرابع إلى أنه هو الواسطة الوحيدة التي يحل بها الروح القدس. ومن ثم أخذوا يعدونه بتلاوة صلاة خاصة وقراءة بعض فصول من الكتاب المقدس، بعد أن يمزجوا هذا الزيت بثلاثين صنفاً من العطور ولكي يبرروا تصرفهم هذا، قالوا أن الرسل أخذوا الأطياب أو بالحري العطور (التي وضعها نيقوديموس على جسد المسيح بعد موته)، ومزجوها بزيت الزيتون كما قالوا أن الرسل أنفسهم هم الذين قاموا بتوزيع هذا المزيج على الكنائس التي كانت في أيامهم، وأوصوها بأنه إذا أوشك على النفاد من عندها، يجب أن تضيف إلى ما يتبقى منه شيئاً من زيت الزيتون مع العطور المذكورة، وأن ترفع لله صلوات خاصة عند قيامها بهذا العمل، لكي يقدس الزيت الذي تعمله.

وفي القرن التاسع ذهب بعض الأساقفة إلى أنه كما أن الخبز والخمر المستعملين في العشاء الرباني يتحولان بالقداس (حسب اعتقادهم في هذا القرن) إلى ذات جسد المسيح ودمه[5]، فإن زيت المسحة لا يبقى أيضاً بعـد صلاتهم علـيه زيتا عـادياً بل يصبح "موهبة المسيح وحضور الروح القدس، وفاعلاً أيضاً فعل الموهبة"[6] .

ولذلك سمى "موهبة الروح القدس" نفسها[7] وبناء على ذلك أمر مجمع بافيا سنة 950م باستعمال هذا الزيت في الكنائس اللاتينية لتقديس المؤمنين وتثبيتهم في الله. أما عند الأرمن فلم يستعمل الزيت المذكور إلا في القرن الرابع عشر، أي بعد انتقال عقيدة الاستحالة إليهم بقرن من الزمان.

(ب) مما تقدم يتضح لنا أن عقيدة حلول الروح القدس بواسطة الميرون، فضلاً عن أنها بنيت على فهم بعض الآيات الكتابية فهماَ يختلف عن المقصود منها، فهي تجعل الواسطة لحلول الروح القدس واسطة مادية خارجية، لا علاقة لها بالتوبة والإيمان الحقيقي أو الصلة الروحية بالله. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الذين يمسحون بهذا الزيت مرات متعددة، لا تظهر فيهم ثمار الروح القدس [التي هي الصلاح والبر والحق والسلام وطول الأناة واللطف والوداعة والتعفف (أفسس 9: 10) و(غلاطية 5: 22)]، إلا إذا كانوا آمنوا من قبل إيماناً حقيقياً، وسكن فيهم الروح القدس نفسه على أثر إيمانهم هذا، اتضح لنا أن الاعتقاد [بتوقف حلول الروح القدس على المسح بالميرون، أو أن هذا الميرون يثبت الذين يمسحون به في الله] لا يؤيده وحي أو اختبار، بل هو تنكر للإيمان الحقيقي الذي يحل بواسطة الروح القدس في النفس، وعودة أيضاً إلى الطقوس اليهودية التي لا تجدي ولا تفيد.

(ج) أما الاعتراض بأن [الكتاب المقدس لم يسجل أن الروح القدس يحل بواسطة زيت المسحة، لأنه (أي الكتاب المقدس) لم يذكر كل شيء عمله المسيـح أو رسله]، فلا يجوز الأخذ به، لأن الأمور التي لم يذكرها الكتاب المقدس هي بعض المعجزات التي عملها المسيح، ويرجع السبب في عدم ذكرها إلى أن ما سجل منها كاف لإثبات شخصيته. فقد قال الرسول "وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أن يَسُوعَ هو الْمَسِيحُ ابن اللَّهِ وَلكي تَكُونَ لَكُمْ إذا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسمهِ" (يوحنا 20: 30، 31) أما لو كان الروح القدس لا يحل إلا بالميرون، لكان الوحي قد تحدث عنه وعن كيفية صناعته وطريقة ممارسته، وغير ذلك من الأمور التي تتعلق به، لأنه يكون من أهم الموضوعات الدينية التي يجب على المؤمنين معرفتها في كل جيل من الأجيال.

ربما أن الكتاب المقدس يعلن لنا أن الوسيلة الوحيدة لحلول الروح القدس هي الإيمان الحقيقي بالمسيح، وأنه بحلوله في النفس يسمو بها إلى حالة التوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية كما ذكرنا فيما سلف. فليس هناك إذاَ أي مبرر بعد للقول أن هذا الروح يحل بواسطة المسح بالزيت المذكور.

4. [الروح القدس لا يحل إلا بوضع الأيدي، كما حدث في أفسس والسامرة، ووضع الأيدي هو اسم آخر لزيت المسحة].

الرد: فضلاً عن أن الروح القدس يحل بمجرد الإيمان الحقيقي كما ذكرنا، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذه الحجة، فإن اعتبار وضع الأيدي اسماَ آخر لزيت المسحة، لا يؤثر على البحث الذي نقوم به في قليل أو كثير، لأنه ليس له أساس في الكتاب المقدس على الإطلاق، بل هو محاولة فاشلة للحصول على سند كتابي يؤيد حلول الروح القدس على الإطلاق، بل هو محاولة فاشلة للحصول على سند كتابي يؤيد حلول الروح القدس بواسطة مادية، بدلاً من الميرون الذي يقولون به إذاً من الواضح أنه لو كان الميرون هو نفسه موهبة الروح القدس كما يقولون، لما كان من الممكن أن يحل الروح القدس بواسطة وضع الأيدي، بناء على ما حدث في السامرة وأفسس، فنقول:

(أ) أن التلاميذ الذين كانوا في أفسس لم يكونوا، كما يتضح من (أعمال 19: 3، 4)، مؤمنين بالمسيح من جهة كونه ابن الله الذي أسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا، بل كانوا مؤمنين برسالة يوحنا المعمدان الذي كان ينادي بالمسيح من جهة كونه فقط الملك الآتي إلى العالم (متى 3: 2)، ولذلك كانوا معتمدين بمعمودية يوحنا وحدها، وغير عارفين بشيء عن الروح القدس تبعاَ لذلك، ومن ثم كان أمراَ بديهياَ، ألا يحل عليهم هذا الروح وهم في هذه الحالة. ولما آمنوا بالمسيح بواسطة كرازة بولس الرسول كان من الممكن أن يحل عليهم الروح القدس في الحال أسوة بغيرهم من المؤمنين (أعمال 10: 42). لكن لو حدث ذلك لكان من المحتمل أن يظل يوحنا مالكاَ على قلوبهم، إذ أنهم كانوا يغارون على سمعته ويفضلونه على المسيح كثيراً (يوحنا 3: 26) إنما بقبولهم وضع يدي بولس الرسول عليهم، أثبتوا أنهم انفصلوا عن يوحنا، وأرادوا أن يتصلوا بالمسيح في شخص رسوله المذكور، ولذلك حل الروح القدس عليهم مثل غيرهم من المؤمنين.

(ب) أما تلاميذ السامرة، فكانوا لا يعاملون المسيحيين الذين في أورشليم، ولو كان الروح القدس حل عليهم بمجرد إيمانهم بالمسيح بواسطة كرازة فيلبس كما كان يحل على غيرهم، لكان من المحتمل أن يظلوا في عزلة عن المسيحيين الذين في هذه البلدة، وأن يتخذوا من فيلبس المذكور زعيماً دينياً لهم، لاسيما وأنه لم يكن من أورشليم بل كان من قيصرية التي هي أقرب البلاد للسامرة بلدتهم ولكن عندما أحنوا رؤوسهم تحت يدي بطرس الرسول ورفيقه يوحنا اللذين من أورشليم، أعلنوا أنهم يقبلون الانضمام إلى كنيسة المسيح ولا يقيمون لأنفسهم شيعة خاصة، ولذلك حل عليهم الروح القدس كما حل على تلاميذ أفسس.

فإذا أضفنا إلى ذلك أن الرسولين المذكورين كانا، قبل ذهابهما إلى تلاميذ السامرة، يصلّيان لا لكي يعطيهم الله الروح القدس، بل لكي يقبلوا هم الروح القدس (أعمال 8: 14، 15)، اتضح لنا أن السبب في عدم حلوله عليهم عند إيمانهم بالمسيح مباشرة، هو العداوة التي كانت في نفوسهم من جهة المؤمنين الذين في أورشليم كما ذكرنا.

6. [إن السبب في عدم حلول الروح القدس على أهل السامرة، يرجع إلى أنهم آمنوا بالمسيح بواسطة فيلبس، وفيلبس هذا كان مبشراَ لا يملك سلطة وضع اليد التي يحل بها الروح القدس، وهذا دليل على أن الروح القدس لم يكن يحل إلا بواسطة وضع أيدي الرسل أوخلفائهم من بعدهم].

الرد: (أ) أن الروح القدس حل على الرسل دون أن يضع أحد عليهم الأيدي، كما أن المسيح لم يأمرهم بوضع أيديهم على المؤمنين لكي يحل عليهم هذا الروح، ولذلك نرى أنه عندما كان بطرس يتحدث في بيت كرنيليوس عن موت المسيح وقيامته، حل الروح القدس على كل الذين كانوا يسمعونه (أعمال 10: 42)، الأمر الذي يدل على أنه يحل بمجرد قبول الكرازة بالمسيح، أو بالحري الإيمان الحقيقي بشخصه، وليس بواسطة وضع أيدي فريق من الناس مهما كان شأنهم. كما أننا إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس لا نجد أن الروح القدس حل بواسطة وضع الأيدي إلا في الحالتين السابقتين، وذلك للأسباب التي ذكرناها فيما سلف، ومن ثم لا مجال للحجة المعروضة أمامنا مجال.

(ب) أخيرا نقول إذا وضعنا أمامنا (أولاً) أن فيلبس هذا بشّر أحد أتباع ملكة الحبشة بالمسيح (أعمال 8: 39)، ولما آمن به واعتمد باسمه ظهرت عليه في الحال علامات سكنى الروح القدس فيه إذ سجل الوحي عنه أنه فرح بالخلاص. والفرح بالخلاص هو أحد نتائج حلول الروح القدس (1تسالونيكي 1: 6).

(ثانياً) أنه كان ذاهباَ إلى بلاد بعيدة ليس بها رسول يمكن أن يكون واسطة لحلول الروح القدس عليه هناك، أن كان الروح القدس لا يحل إلا بوضع أيدي الرسل أو خلفاء الرسل (إن كان لهم خلفاء) كما يقال، اتضح لنا أن الروح القدس لا بد أنه حل على هذا الرجل بمجرد إيمانه بواسطة فيلبس.

(ج) هذا وقد عرف القديسون القدماء أن الروح القس يحل على المؤمن بالصلاة من الله مباشرة (أي بدون زيت الميرون)، فقـال أناتوليوس "جاهدوا حتـى الـدم،

فتنالوا عطية الروح" وقال أغناطيوس "حينما يسكن الروح القدس في إنسان "فإنه يشفع فيه بأنات لا ينطق بها. وما معنى أنات؟ معناها التنهدات والبكاء من أجلنا.. فكم بالحري يجب أن نبكي نحن على أنفسنا حتى نصير أهلاً لحول ذلك الزائر العظيم[8] الذي هو الروح القدس "وقال أوغسطينوس عن عمل الروح القدس في القلب "إنه ينشيء سروراَ خفياً في الداخل وفرحاَ وطرباً في القلب، واشتياقاَ ملتهباَ نحو الله وتهليلا داخل النفس لا ينقطع" وقال القديس أنطونيوس "وعندما يسكن روح الله فيهم فإنه يريحهم في جميع أعمالهم. فيحلو لهم حمل نير المسيح بلا تعب، سواء في عمل الفضائل أم في الخدمة" وقال أيضاً "هكذا القديسون عندما وجدوا هذا الروح وسكن فيهم، رفعوا إلى الرب شكراَ، لأنه لا يسكن إلا في نفوس الطوبانيين ليكشف لهم أسرارا عظيمة "، وأيضاً "ذلك الروح الناري العظيم الذي قبلته أنا، اقبلوه أنتم أيضاً. اطلبوا باستقامة قلب هذا الروح الناري وحينئذ يعطى لكم بالصلاة. وهو يكشف لكم الأسرار العلوية وأشياء أخرى أمسك عن قولها، كما يكون لكم بسببه فرح سماوي ليلا ونهارا" (حياة الصلاة الأرثوذكسية ص 24، 190، 178، 182، 470، 482)

وأخيراً قال الآب متى المسكين "الروح القدس يحمل كلمة الله من الله إلى روح الإنسان. وهو لا يفارق الكلمة قط، كما أنه يفتح ذهن القارئ فيفهم الكلمة. فضلاً عن ذلك فإنه يؤسس فيه بواسطتها وعياً روحياً فائقاً يسمو فوق كل حقائق العالم. غير أنه يتطلب من الإنسان القلب الوديع الذي يتوسل بإيمان" (كلمة الله ص 49، 51، 53، 76).


30 : إن الحث على التوبة والعماد لقبول الروح القدس يرجع إلى أن العماد هو "إشهار الإيمان" لأن هذا الروح كما اتضح لنا مما سلف يحل على البشر بمجرد أن يؤمنوا إيماناً حقيقياً أي قبل أن يعتمدوا بالماء. وحلول الروح القدس على كرنيليوس قبل أن يعتمد دليل على هذه الحقيقة (أعمال 10: 44)، كما ذكرنا في الفصل الأول.

32: يعتقد البعض أن القول (بحلول الروح القدس بالإيمان) يجعل حلوله بالإيحاء السيكولوجي. ولكن فضلاً عن أن هذا القول، هو قول الوحي الإلهي نفسه كما ذكرنا فيما سلف، الأمر الذي لا يدع مجالاً للاعتراض عليه، فإن هناك فرقاً عظيماً بين الإيحاء السيكولوجي وبين الإيمان الحقيقي. فالأول هو الاعتماد على قوى النفس، قوى النفس محدودة في ذاتها. أما الثاني فهو الاعتماد على قوة الله، وقوة الله لا حد لها على الإطلاق. ولذلك جعل المسيح الإيمان هو السبيل إلى الخلاص والحصول على الروح القدس، كما جعله السبيل للحصول على الشفاء وما تحتاج إليه من أمور، كما يتضح بكل جلاء على كل صفحة من صفحات الوحي.

32-"الميرون" كما يقال، كلمة يونانية معناه "الطيب".

33- عن ريحانة النفوس في أصل المعتقدات والطقوس، وتاريخ الكنيسة لموسهيم (للإنجيليين)، وأسرار الكنيسة السبعة، واللآليء النفيسة في شرح طقوس ومعتقدات الكنيسة (للأرثوذكس).

34- أقرأ شيئاً عن تاريخ الاستحالة في كتاب "العشاء الرباني".

35- وهنا نتساءل: إذا كان الميرون هو موهبة الروح القدس نفسه، فلماذا لا يرشم الكاهن (لدى القائلين بالإستحالة) العشاء الرباني بالميرون، بدلاً من أن يطلب من الله أن يحل بالروح القدس عليه ليطهره ويجعله جسد المسيح ودمه؟ أليست هذه الصلاة تدل على أن الكاهن المذكور لا يؤمن في قرارة نفسه أن الميرون هو موهبة الروح القدس نفسه؟

36- وبذلك جسموا الروح القدس في زيت الميرون، كما أودعوه بعد ذلك في كل أيقونة وعلامة للصليب يكرسها الأسقف، ومن ثم سجدوا لهذه وتلك، ورفعوا إليهما البخور، كما أسندوا إليهما عمل المعجزات (حياة الصلاة الأرثوذكسية 552/ 556/ 561).

[37] - مما تجدر الإشارة إليه أن الروح القدس ليس زائراً أو ضيفاً لدى قلوبنا، بل إنه المالك لها، ونحن ضيوف لديه، ومن ثم يجب أن نسلم حياتنا له تسليماً مطلقاً.

  • عدد الزيارات: 14451