الغرض من العشاء الرباني
بالرجوع إلى الكتاب المقدس يتضح لنا أن الغرض من ممارسة العشاء الرباني هو تذكر الآلام المبرحة التي قاساها المسيح على الصليب في سبيل خلاصنا، حتى تظل قلوبنا في حالة التعلق به والسير في سبيله إلى آخر نسمة من حياتنا. فقد قال المسيح لتلاميذه عند تأسيس هذا العشاء "اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي" (لوقا 22: 19) وقال بولس الرسول بناء على إعلان شخصي تلقـاه من الله "إِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْلِمَ فِيهَا أَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ فَكَسَّرَ وَقَالَ: خُذُوا كُلُوا هَذَا هو جَسَدِي الْمَكْسُورُ لأجلكُمُ. اصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي كَذَلِكَ الْكَأْسَ أيضاً بَعْدَمَا تَعَشَّوْا قائلاً: «هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي. اصْنَعُوا هَذَا كُلَّمَا شَرِبْتُمْ لِذِكْرِي" (1كونثوس 11: 23-25) أما الحجج القائلة بأن العشاء الرباني يفغر الخطايا ويعطي حياة أبدية ففيما يلي نصها والرد عليه:
أولاً: الآيات الكتابية، ومعناها الحقيقي:
1. قال المسيح لليهود "أَنَا هو الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نـزلَ مِنَ السَّمَاءِ. أن أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ يَحْياً إلى الأبد.. إن لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابن الإنسان وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ.مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أبدية وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأخير" (يوحنا 6: 50-54)
المعنى: (أ) بما أن السبيل إلى الحياة الأبدية الذي لا يقبل تأويلاً ما، والذي يعلنه الوحي في كل سفر من أسفاره بكل وضوح وجـلاء، هو الإيمان الحقيقي بالمسيح. فقد قال "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابنهُ الْوَحِيدَ لكي لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأبدية" (يوحنا 3: 16) وقال "أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الابن وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أبدية وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأخير" (يوحنا 6: 40). وبما أنه لا يمكن أن يكون هناك سبيلان مختلفان للحصول على الحياة الأبدية الواحدة: أحدهما بواسطة الإيمان الحقيقي بالمسيح، والثاني بواسطة الأكل من جسده والشرب من دمه بالفم. إذاً فالأكل من جسد المسيح والشرب من دمه الوارد في الآيات التي نحن يصددها، هو بعينه الإيمان الحقيقي بشخصه، إنما بأسلوب مجازي. وذلك للدلالة على وجوب قبول المسيح في النفس رباً ومخلصاً لإحيائها، مثل قبول الطعام في الجوف للإبقاء على حياة الجسد.
ولا غرابة في ذلك على الإطلاق، فالاختبار العملي إلى جانب الآيتين اللتين ذكرناهما، يدل على أن الحياة الأبدية هي فقط بواسطة الإيمان الحقيقي، لأننا نرى كثيرين من الذين يواظبون على التناول من العشاء الرباني كل يوم أوكل أسبوع، يحيون حياة بعيدة عن الله كل البعد، الأمر الذي يدل على أنه لا نصيب لهم في الحياة الأبدية على الإطلاق. بينما نرى المؤمنين الحقيقيين في كل الطوائف المسيحية دون استثناء، يحيون حياة التقوى والقداسة، الأمر الذي يدل على أنهم من أتباع الله، وأن لهم حياة أبدية معه.
(ب) فضلاً عن ذلك، فإن المسيح لم يكن يتحدث قبل الآيات التي نحن يصددها عن العشاء الرباني بل عن الإيمان بشخصه، فقد قال قبلها "هَذَا هو عَمَلُ اللَّهِ: أن تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هو أَرْسَلَهُ "، كما قال "أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الابن وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أبدية وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأخير" (يوحنا 6: 29، 40): فإذا أضفنا إلى ذلك:
(أولاً) أن المسيح نطق بهذه الآيات في أوائل خدمته بين الناس، بينما أقام العشاء الرباني قبيل صلبه بساعات، وليس من المعقول أنه كان يتحدث مع الناس في أوائل خدمته عن موضوع لم يكن قد أعلن لهم شيئاً عنه بعد: لكن من المعقول أنه كان يتحدث معهم وقتئذ عن وجوب الإيمان به، لأن هذا الموضوع هو الذي يتناسب مع أوائل خدمته بينهم (ثانياً) أن معظم الذين وجه المسيح إليهم هذه الآيات، كانوا غير مؤمنين أو مؤمنين بالاسم (يوحنا 6: 13، 41-42)، وأمثال هؤلاء لا يتحدث المسيح معهم عن العشاء الرباني بل عن الإيمان بشخصه، لأن ممارسة هذا العشاء خاصة بالمؤمنين الحقيقيين، إذ أن هؤلاء وحدهم هم الذين يقدرون عظمة كفارة المسيح ويعرفون فوائدها المتعددة، اتضح لنا بكل جلاء أن الآيات المذكورة خاصة بطلب الإيمان بالمسيح، أو بالحري قبول شخصه رباً ومخلصاً في النفس لإحيائها، مثل قبول الطعام في الجوف للإبقاء على حياة الجسد كما ذكرنا.
(ج) كما أننا إذا وضعنا أمامنا: (أولاً) أن المسيح ختم حديثه عن الأكل من جسده والشرب من دمه بالقول "وَلَكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ"، وتحدث البشير عن هذه الآية فقال "لأَنَّ يَسُوعَ مِنَ الْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ هو الَّذِي يُسَلِّمُهُ" (6: 64-65)، وليس: لأن يسوع علم من البدء من هم الذين يقبلون الأكل من جسده والشرب من دمه، ومن هو الذي يرفض (ثانياً) أن المسيح عندما وجد تلاميذه ينصرفون من حوله تركهم وشأنهم، وتصرفه هذا لا يعلل إلا بأنهم رفضوا الإيمان به رباً وفادياً لهم، إذ لو كان سبب انصرافهم عنه راجعاً إلى اعتقادهم أنه كان يطلب منهم الأكل من جسده والشرب من دمه بالمعنى الحرفي، لكان قد أعلن لهم أن ذلك سيكون تحت شكلي الخبز والخمر. (كما يقول المؤمنون بالاستحالة) حتى يظلوا معه ويفيدوا منه (ثالثاً) أن بطرس الرسول عندما قال للمسيح "يا رَبُّ إلى مَنْ نَذْهَبُ؟ كلاَمُ الْحَيَاةِ الأبدية عِنْدَكَ وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابن اللَّهِ الْحَيِّ" (6: 69)، اكتفى المسيح بإجابته، بينما لو كان حديثه السابق عن الأكل من جسده والشرب من دمه يراد به المعنى الحرفي، لرفض إجابة بطرس، إذ تكون خارجة عن الموضوع بل وتكون تهرباً من الاستجابة لما كان المسيح يطلبه منه ومن غيره وقتئذ، اتضح لنا بدليل ليس بعده دليل أن المسيح كان يقصد بالأكل من جسده والشرب من دمه وقتئذ، اتخاذه في النفس، رباً وفادياً كما ذكرنا.
(د) هذا وقد أدرك علماء المسيحيين في القرون الأولى أن حديث المسيح عن التغذي بجسده ودمه الوارد في (يوحنا 6) يراد به المعنى المجازي أو بالحري الإيمان القلبي بشخصه. فمن المأثور عن يوسابيوس القيصري أنه قال في شرحه للآية "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة"، كأن المسيح يقول لتلاميذه: لا تظنوا أني أتكلم معكم عن الجسد الذي أنا حامله كأن هذا يجب أن يؤكل، ولا تظنوا إني أقدم لكم دمي الطبيعي لكي تشربوه. ولكن اعلموا أن الكلمات نفسها التي كلمتكم بها هي روح وحياة. حتى أن ذات كلامي هو لحم ودم، والذي يخصصه لنفسه كأنه يقتات كما بطعام سماوي، ويكون شريكاً في الحياة السماوية" ومن المأثور عن أوغسطينوس أنه قال "إن حديث المسيح عن الأكل من جسده والشرب من دمه لا يجوز فهمه حرفياً لأن نعمته لا تقبل بالأسنان" وعن أثناسيوس الرسولي أنه قال "إن التناول من جسد المسيح ودمه لا يكون إلا روحياً" أي أن هذا التناول لا يكون بالفم مع الاعتقاد في النفس بأن الخبز والخمر هما ذات جسد المسيح ودمه (كما يقول بعض المؤمنين بالاستحالة)، بل أن التناول المذكور يكون روحياً، أي باستقبال النفس (وليس الفم) له، (اقرأ: "نظام التعليـم" ص 445، وريحانـة النفـوس ص 87، وشرح كلمة (Eucharist) في المراجع الإنجليزية العامة.
فضلاً عن ذلك فإن أحرار الفكر من رجال الدين عند الكاثوليك عرفوا "أن الأكل من جسد المسيح والشرب من دمه الوارد في (يوحنا 6) خاص بالإيمان بالمسيح، فقد قال البرتينوس (مثلاً) في كتابه "D’Euchariste" أن اثنين من الباباوات، وأربعة من الكرادلة، وخمسة من الأساقفة، وبعض علماء اللاهوت الذين ظهروا لغاية العصر الذي عاش فيه، قد نادوا بأن حديث المسيح الوارد في (يوحنا 6) خاص بالإيمان بشخصه.
2. أن المسيح قال لتلاميذه عن خبز العشاء الرباني "خذوا كلوا منه كلكم، لأن هذا هو جسدي الذي يقسم عنكم وعن كثيرين، يعطى لمغفرة الخطايا. اصنعوا هذا لذكري"، كما قال لهم عن الخمر "خذوا اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك عنكم وعن كثيرين يعطى لغفران الخطايا".
الرد (أ) إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نرى أن هذه العبارة غير صحيحة، فقد سجل لوقا البشير عن المسيح، أنه أخذ خبزاً وشكر وكسر وأعطى تلاميذه، ثم قال لهم "هَذَا هو جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي" (لوقا 22: 19) وسجل متى أن المسيح أخذ الكأس وشكر وأعطاهم ثم قال لهم "اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ لأَنَّ هَذَا هو دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أجل كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا" (متى 26: 27). ومعنى هاتين الآيتين، كما هو واضح أمامنا، أن جسد المسيح يبذل على الصليب كفارة وأن دمه يسفك عليه لغفران الخطايا.
أما العبارة التي نحن بصددها فمقتبسة من القداس، وقد أضاف كاتبه إلى الآيات الواردة في الإنجيل كلمة "يعطى" مرتين من عندياته، فأصبح المعنى أن التناول من الخبز والخمر هو الذي يغفر الخطايا، وذلك لكي يؤيد الاعتقاد السائد لديه [إن العشاء الرباني يغفر الخطايا]، وتصرف مثل هذا هو اعتداء على قدسية الوحي الإلهي واستهانة بالوعيد الخاص بإضافة كلمة إليه (رؤيا 22: 18)، كما أنه تحويل للناس عن أقوال الله إلى أقوال البشر.
(ب) أما السبيل الوحيد لغفران الخطايا الذي أعلنه الكتاب المقدس، فهو الإيمان الحقيقي بالمسيح، فقد قال الوحي عنه "أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِاسمهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا" (أعمال 10: 43)، كما قال "حَتَّى يَنَالُوا بِالإيمان بِي غُفْرَانَ الخطايا وَنَصِيباً مَعَ الْمُقَدَّسِينَ" (أعمال 26: 18). ويرجع السبب في ذلك إلى أن المسيح بكفارته قد وفى حقوق عدالة الله التي لا حد لها إلى الأبد، وأن الإيمان الحقيقي هو الذي يهيء القلب للاتصال بالله والإفادة من هذه الكفارة. ولكن جعل التناول من العشاء الرباني هو السبيل للحصول على الغفران فضلاً عن مخالفته للوحي الإلهي كما ذكرنا، فإنه يحول السبيل إلى الغفران من عمل روحاني في القلب بالإيمان الحقيقي بكفاية كفارة المسيح، إلى عمل مادي يتم بالأسنان والفم، الأمر الذي يتعارض كل التعارض مع مباديء المسيحية جميعاً.
ثانياً: الآراء الطائفية، والرد عليها
1. [إن المسيح بموته على الصليب كفر عن خطية آدم أو بالحري الخطية الأصلية أما الخطايا التي نعملها نحن، فلا سبيل إلى غفرانها إلا بذبيحة العشاء الرباني].
الرد: فضلاً عن أن الغرض من ممارسة العشاء الرباني هو تذكر الآم المسيح وليس الحصول على الغفران، كما ذكرنا فيما سلف. وفضلاً عن أن الكتاب المقدس لا ينص على أن العشاء الرباني هو ذبيحة، بل بالعكس ينفي وجود أي قربان (أو ذبيحة) بعد كفارة المسيح، إذ قـال "إِنَّمَا حَيْثُ تَكُونُ مَغْفِرَةٌ لِهذِهِ لاَ يَكُونُ بَعْدُ قُرْبَانٌ عَنِ الْخَطِيَّةِ" (عبرانيين 10: 18)، لأن كفارة المسيح قد وفت جميع حقوق عدالة الله إلى الأبد، نقول: أن المسيح لم يكفر بموته على الصليب عن خطية آدم وحده، بل وكفر أيضاً عن كل خطايا المؤمنين الشخصية. فمن جهة تكفيره عن خطية آدم، قال الوحي عن المسيح إنــه "الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ" (يوحنا 1: 29)، وإنه "حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ" (إشعياء 53: 12). ومن جهة تكفيره عن خطايا المؤمنين الشخصية، قال الوحي عن المسيح إنه "أُسْلِمَ مِنْ أجل خَطَايَانَا" (روميـة 4: 25)، وإنــه "مَاتَ مِنْ أجل خَطَايَانَا" (1كورنثوس 15: 3)، وإنه "بذَلَ نَفْسَهُ لأجل خَطَايَانَا" (غلاطيـــة 1: 4)، وإنه "صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا" (عبرانيين 1: 13)، وإنه "حَمَلَ هو نَفْسُهُ خَطَايَانَا" (1بطرس 2: 24)، وإنه "كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا" (1يوحنا 2: 2)، وإنه "تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أجل الْخَطَايَا" (1 بطرس 3: 18) وقال للناس "تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسم يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا" (أعمال 2: 38)، وإن "أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِاسمهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا" (أعمال 10: 43)، وإنــه "غُفِرَتْ لَكُمُ الخطايا مِنْ أجل اسمهِ" (1يوحنــا 2: 12)، وإن الله سامحكــم "بِجَمِيعِ الْخَطَايَا" (كولوسي 2: 13)، وإنه "يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" "يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ" (1يوحنا 1: 7-10)، وكلمات "الخطايا" بالجمع، و "كل خطية" و "كل إثم" بدون حد ما، الواردة في هذه الآيات، لا يراد بها طبعاً خطية آدم، بل خطايانا نحن. ومما يثبت هذه الحقيقية الأدلة الآتية:
(الأول) استحالة تكرار كفارة المسيح: لو فرضنا أن المسيح مات نيابة عن آدم وحده، بسبب الخطية الواحدة التي أتاها، يكون من الضروري أن يموت كذلك نيابة عن كل واحد منا مرات بعدد الخطايا التي تصدر منه، حتى تغفر له هذه الخطايا. ولكن المسيح لن يقدم نفسه كفارة بعد الصليب بأي شكل من الأشكال، فقد قال الرسول عنه انه دخل إلى الأقداس "لاَ لِيُقَدِّمَ نَفْسَهُ مِرَاراً كَثِيرَةً، كَمَا يَدْخُلُ رَئيسُ الْكَهَنَةِ.. فَإذ ذَاكَ كَانَ يجب أن يَتَأَلَّمَ مِرَاراً كَثِيرَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلَكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً (واحدة) عِنْدَ انْقِضَاءِ الدهور لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ (أو بالحري يمحوهـا عن المؤمنيـن الحقيقييـن مـن أمـام الله) بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ" (عبرانيين 9: 24-26)
ولذلك إن كان هناك مجال لغفران خطايانا الشخصية، يكون هذا الغفران هو بذات الكفارة التي قدمها المسيح مرة على الصليب، وذلك لسببين. (أ) أن الله لا يحب آدم وحده بل ويحبنا نحن أيضاً. فمكتوب "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ (أجمع) حَتَّى بَذَلَ ابنهُ الْوَحِيدَ لكي لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأبدية" (يوحنا 3: 16) (ب) أن كفارة المسيح على الصليب لعظمتها التي لا حد لها، لا تكفي فقط للتكفير عن آدم، بل وعن جميع الناس كذلك. فمكتوب عن المسيح "وَهو كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخطايا كُلِّ الْعَالَمِ أيضاً" (1يوحنا 2: 2)
(الثاني) تكفير المسيح عن نفوسنا، وليس عن خطايانا فحسب "إن المسيح لم يكفر عن خطايانا بالانفصال عن نفوسنا، بل كفر عن نفوسنا بذاتها، لأنها هي التي تستحق القصاص بسبب معاصيها. فقد قال الوحي "فَإِنَّ الْمَسِيحَ أيضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أجل الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أجل الأَثَمَةِ" (1بطـرس 3: 8)،كما قال "الرَّبُّ فَادِي نُفُوسِ عَبِيدِه" (مزمور 34: 22) أي أنه كفر عنهم أو بالحري عن نفوسهم. وبما أن المسيح كفر عن نفوسنا، فهو لم يكفر عن أجزاء منها تحتوى على عدد خاص من الخطايا، بل كفر عنها بكل ما فيها من خطايا، لأن النفس لا تتجزأ بأي حال من الأحوال.
(الثالث) عدم إفادتنا من كفارة المسيح بشيء، أن كانت عن آدم وحده: لو كانت كفارة المسيح هي عن خطية آدم وحده، لما كانت تعود على واحد من نسله بفائدة ما، ولهلك تبعاً لذلك جميع الناس بما فيهم الرسل والأنبياء، لأنهم خطاة مثلهم، وليس في وسع واحد منهم أن يكفر عن خطية واحدة من خطاياه، مهما عمل من أعمال صالحة كما ذكرنا فيما سلف. ويكون مثل كفارة المسيح في هذه الحالة، مثل خدمة خلّصت بعض الناس من خطر الموت في منطقة واحدة ثم تركتهم لمثل هذا الخطر في آلاف المناطق، فإنها لا تكون قد خلصتهم أو أبقت على حياتهم. وبما أن الأمر لا يمكن أن يكون كذلك من جهة كفارة المسيح، لأن الوحي يعلن لنا أن كل من يؤمن بالمسيح إيماناً حقيقياً تكون له الحياة الأبدية (يوحنا 3: 16)، إذاً لا بد أن يكون المسيح قد كفر عن خطايا البشر جميعاً، أو بالحري عن نفوسهم جميعاً، وأن كل من يؤمن به إيماناً حقيقياً، تكون له الحياة الأبدية كما أعلن الوحي، كما ذكرنا فيما سلف.
2. [ليس من المعقول أن تكون كفارة المسيح التي قدمها على الصليب هي عن خطايا الذين أتوا ويأتون بعده، لأن خطاياهم عملت وتعمل بعد هذه الكفارة، والكفارة تكون بعد إتيان الخطية وليس قبل إتيانها. وإذ كان الأمر كذلك، فإن السبيل الوحيد لغفران الخطايا التي تعمل بعد كفارة المسيح، هو التناول من ذبيحة العشاء الرباني].
الرد: فضلاً عن أنه ليست هناك آية واحدة تدل على أن العشاء الرباني هو ذبيحة، أو أن التناول منه يجلب الصفح والغفران، كما ذكرنا فيما سلف، وفضلاً عن أنه ليست هناك أيضاً آية واحدة تدل على أن كفارة المسيح كانت عن خطايا الذين أتوا قبله، دون الذين أتوا ويأتون بعده، إذ أن كل الآيات الخاصة بهذا الموضوع تدل على أن كفارته هي عن خطايا كل الناس في كل العصور. وفضلاً عن أنه لو كانت هذه الكفارة هي عن خطايا الذين أتوا قبل المسيح فحسب، لكان مؤمنو العهد القديم أحسن حالاً من مؤمني العهد الجديد (لأن كل خطاياهم تكون قد غفرت دون هؤلاء)، الأمر الذي لا يتفق مع الوحي أو العقل على الإطلاق، نقول:
بما أن الله يحب جميع الناس في كل العصور دون استثناء، كما يعلم منذ الأزل أنهم لا يستطيعون أن يكفروا عن خطية واحدة من خطاياهم. ومن ناحية أخرى بما أن كفارة المسيح كافية للتعويض ليس عن خطايا كل الذين سبقوه فحسب، بل وعن خطايا كل الذين أتوا ويأتون بعده أيضاً لأن كفايتها لا حد لها، لذلك تكون كفارته ليس عن خطايا الذين عاشوا في العهد القديم فقط، بل وعن خطايا الذين أتوا ويأتون في العهد الجديد أيضاً، كما أعلن الوحي.
3. [إن كانت كفارة المسيح يمتد تأثيرها إلى مؤمني العهد الجديد، فإنها تكفر فقط عن خطاياهم التي يفعلونها قبل التوبة والمعمودية فقط. فقد قال الرسول "متبررين مجانا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه، لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفـة بإمهـال الله" (رومية 3: 24-25)، ومن ثم فإن غفران الخطايا التي يعملونها بعد التوبة والمعمودية يكون بالتناول من العشاء الرباني].
الرد (أ) فضلاً عن أن الغرض من العشاء الرباني هو تذكر موت المسيح وليس غفران الخطايا كما ذكرنا فيما سلف، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذا الرأي أيضاً نقول: لو كان المسيح كفر لمؤمني العهد الجديد عن الخطايا التي يفعلونها قبل التوبة والمعمودية فقط، لما خلص واحد منهم مهما كانت تقواه (لأنه لا يوجد بينهم من هو معصوم من الخطية، أومن هو قادر في ذاته على التكفير عنها كما ذكرنا ولأصبح أيضاً الذين يتوبون ويعتمدون في نهاية حياتهم على الأرض، أحسن حظاً من الذين يتوبون ويعتمدون وهم في مقتبل العمر.
وبما أن الأمر لا يمكن أن يكون كذلك على الإطلاق، لأن الوحي يعلن أن المؤمنين الحقيقيين لهم جميعاً حياة أبدية، ولأنه ليس من المعقول أيضاً أن الذين يتوبون في آخر حياتهم يكونون أفضل حالاً من الذين يتوبون في عنفوان الشباب، إذاً فكفارة المسيح هي عن الخطايا السابقة للتوبة والمعمودية واللاحقة لهما كما ذكرنا، لاسيما وأن المسيح لم يكفر عن الخطايا بغض النظر عن النفوس، بل كفر عن النفوس ذاتها كما ذكرنا، وتكفيره عنها هو تكفير عن خطاياها جميعاً، لأن النفس لا تتجزأ.
(ب) أما من جهة الآية التي نحن بصددها، فلا يقصد بعبارة "الخطايا السالفة" الواردة فيها، "الخطايا السالفة للتوبة والإيمان في العهد الجديد"، بل الخطايا التي عملت في العهد القديم، لأنها هي التي كانت في حكم السالفة عندما كتب الرسول هذه الآية. ومن ثم فالله بواسطة كفارة المسيح التي أعلنها منذ ألفي سنة تقريباً، أظهر بره ليس فقط في الصفح عن خطايا المؤمنين في العهد الجديد (كما كان يظن بعض المؤمنين في العصر الرسولي، ولذلك كانوا يحزنون على الأتقياء الذين ماتوا قبل أن يسمعوا عن المسيح)، بل وأيضاً عن الخطايا السالفة التي عملها المؤمنون الحقيقيون الذين عاشوا في العهد القديم قبل مجيء المسيح، والتي كان الله متمهلاً إزاءها، فلم يهلك واحداً منهم بل رحمهم وفتح الفردوس لهم بناء على كفارة المسيح، التي وإن كانت قد استعلنت بعد انتقالهم من هذا العالم بمئات السنين غير أنها كانت معروفة لديه تعالى منذ الأزل الذي لا بدء له (1 بطرس 1: 18)
(ج) أخيراً نقول: فضلاً عن أنه لا توجد في الكتاب المقدس آية واحدة تدل على أن العشاء الرباني يغفر الخطايا أو يتحول إلى لاهوت المسيح وناسوته، فإن معظم القديسين الذين عاشوا في القرون الأولى لم يكن يخطر ببالهم هذان الخاطرين على الإطلاق فقد قال اكليمنضس الإسكندري "إن الكلمة (أو بالحري المسيح) يعبر عنه مجازاً بأسماء كثيرة: مثل لحم وجسد وغذاء وخبز ودم.. ومن ثم يكون العصير المقدس المفرح رمزاً مجازياً للكلمة، الذي سكب نفسه عن كثيرين لمغفرة الخطايا" وقال ترتوليانوس "المسيح دعا الخبز جسده، لكي تفهموا من ذلك كيف جعل الخبز رمزاً لجسده". وقال كبريانوس "يجب أن نلاحظ أنه بواسطة الخمر يشار إلى دم المسيح" وقال يوسابيوس "إن عشاء الرب هو تذكار ذبيحة المسيح، بواسطة رمزي الخبز والخمر "وقال غريغوريوس النـزيزي أن عنصري الإفخارستيا رمزان لجسد المسيح ودمه" وقال يوحنا ذهبي الفم "إن الخبز المقدس يستحق أن يسمى جسد الرب، مع أنه لم يزل على حقيقته"، وقال ثاودوريتوس "إن العنصرين إنما هما رمزان سريان لجسد المسيح ودمه" وقال جلاسيوس "إن جوهر الخبز والخمر لا يزال فيهما. وإننا نحتفل في الأسرار المقدسة بصورة جسد المسيح ودمه" وقال أوريجانوس "التناول من العشاء الرباني ليست له علاقة بالحياة الأبدية" ولزيادة الإيضاح، اقرأ (كتاب العشاء الرباني).
- عدد الزيارات: 6547