الغرض من المعمودية
بالرجوع إلى الكتاب المقدس يتضح لنا أن الغرض الرئيسي من ممارسة المعمودية هو إشهار الإيمان بالمسيح. أو بالحري الاعتراف الرسمي بالموت معه والقيامة معه. فقد قال الرسول "مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ، الَّتِي فِيهَا أقِمْتُمْ أيضاً مَعَهُ بِإيمان عَمَلِ اللهِ، الَّذِي أقَامَهُ مِنَ الأموات" (كولوسي 2: 12)
وهذا الاعتراف يضعنا تحت التزام أن نعيش أمواتاً بالنسبة إلى الخطية وأحياء بالنسبة إلى الله "كَذَلِكَ أَنْتُمْ أيضاً احْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أمواتاً عَنِ الْخَطِيةِ وَلَـكِنْ أَحْياءً لِلَّهِ بِالْمَسـيحِ يَسُـوعَ رَبِّنَا" (رومية 6: 11)، ولكن هناك بعض المسيحيين يعتقدون أن الغرض من المعمودية هو خلاص من ينـزل فيها من الخطية، وولادته ولادة روحية من الله. وفيما يلي حججهم الخاصة بهذا الموضوع، مصحوبة بالرد عليها.
أولاً - الآيات الكتابية ومعناها الحقيقي:
1. قال المسيح لنيقوديموس "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إن كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أن يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ" (يوحنا 3: 5)
المعنـى (أ) أن حديث المسيح هذا ليس خاصاً بالمعمودية[1]، بل بولادة النفس من الله ولادة روحية، وذلك للأسباب الآتية: (الأول) أن المسيح لم يقل لنيقوديموس إن كان أحد لا يعتمد، بل قال له أن كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ، والولادة (أو بالحري الولادة الروحية من الله) تختلف كل الاختلاف عن العماد. فالأولى يراد بها الحصول بالإيمان الحقيقي على طبيعة روحية من الله تؤهل المرء للتوافق معه في صفاته الأدبية السامية[2]، أما العماد فيراد به النـزول في الماء والصعود منه باسم الآب والابن والروح القدس كعلامة رسمية للإيمان بالمسيح، أو بالحري للموت معه والقيامة معه (رومية 6: 4) كـمـا ذكرنـا، ومما تجدر الإشارة إليه أن حرف الجر (ب) في كلمة "اسم" في الأصل اليوناني بمعنى "إلى" [3] فهو يختلف عن حرف الجر المترجم "ب" في (يوحنا 5: 43، 10: 25، كولوسي 3: 17)، ومن ثم يكون العماد هو لله أو إلى الله، وذلك بالمقابلة مع العماد قديماً فإنه كان لموسى النبي (1كورنثوس 10: 2).
(الثاني) أن المسيح لم يقل لنيقوديموس إن كان أحد لا يولد بالماء والروح على نسق قول يوحنا لتلاميذه "أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ" (متى 3: 11)، بل قال له "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح "، وهناك فرق كبير بين حرفـي الجـر "ب "و "من ": فالأول يدل على العمل بواسطة خارجية، أما الثاني فيدل على التكون من كائن له وجود سابق ومن ثم فالأول يتناسب مع العماد، لأن ماء المعمودية يستعمل كواسطة خارجية، أما الثاني فيتناسب مع ولادة النفس من الله، لأن بهذه الولادة تتكون لدي النفس طبيعة روحية جديدة منه.
(الثالث) أن المسيح قال لنيقوديموس شرحاً لطريقة الولادة من الله "اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا لَكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إلى أَيْنَ تَذْهَبُ. هَكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ ". وهذا الشرح لا ينطبق على المعمودية، لأن المرء يمكن أن يعرف كل الترتيبات التي عملت أو تعمل أو ستعمل لعماده، أما الولادة من الله فتحدث دون أي ترتيب أو انتظار من أحد، لأنها من أولها إلى آخرها من عمل الله، فقد يواظب إنسان على سماع كلمة الخلاص سنوات كثيرة بل ويعظ بها الآخرين مرات متعددة، ومع ذلك لا تتأثر نفسه بها. بينما قد يسمع غيره هذه الكلمة مصادفة مرة واحدة، فتنفذ إلى أعماق قلبه، ومن ثم يسلم نفسه لله تسليماً كاملاً، ويولد منه ولادة روحية تؤهله للتوافق معه في صفاته الأدبية السامية في العالم الحاضر والآتي معاً.
(الرابع) أن المسيح وبخ نيقوديموس لعدم معرفته بمعنى الولادة من الله (1 يوحنا 3: 9-12) وبما أن المسيح لا يوبخ إنساناً إلا إذا كان لا يعرف أمراً سبق الله وأعلنه له، لذلك لا يمكن أن يكون حديث المسيح مع نيقوديموس عن الولادة من الله، خاصاً بالمعمودية المسيحية التي نمارسها الآن، لأن هذه المعمودية لم تؤسس إلا بعد موت المسيح وقيامتـه (متى 28: 19)[4] أما الولادة من الله فكان تعالى قد أعلنها في العهد القديم من قبل، فقد قال "وَأَرُشُّ عَلَيْكُمْ مَاءً طَاهِراً[5] فَتُطَهَّرُونَ. مِنْ كُلِّ نَجَاسَتِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَصْنَامِكُمْ أُطَهِّرُكُمْ. وَأُعْطِيكُمْ قَلْباً جَدِيداً, وَأَجْعَلُ رُوحاً جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ, وَأَنـزعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِكُمْ وَأُعْطِيكُمْ قَلْبَ لَحْمٍ[6] وَأَجْعَلُ رُوحِي فِي دَاخِلِكُمْ, وَأَجْعَلُكُمْ تَسْلُكُونَ فِي فَرَائضِي وَتَحْفَظُونَ أَحْكَـامِي وَتَعْمَلُونَ بِهَا" (حزقيال 36: 25-7). كما أن كل قديسي العهد القديم قد عرفوا هذه الولادة وتاقوا إليها بكل قلوبهم. فقد قال داود النبي (مثلاً) لله "قَلْباً نَقِياً اخْلُقْ فِيَّ يا اللهُ وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي" (مزمور 51: 10)، ومن ثم كان من المناسب أن يوبخ المسيح نيقوديموس لجهله إياها.
(ب) وإذا كان ذلك كذلك، فما المراد بكلمة "الماء" في قول المسيح لنيقوديموس "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح "، وفي قوله قديماً "وأرش عليكم ماء طاهرا "؟
الجواب: بالرجوع إلى (يعقوب 1: 18) و(1بطرس 1: 23) و(1كورنثوس 4: 15)، يتضح لنا أن الولادة من الله تكون بواسطة "كلمة الله" فمكتوب عن الله "شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه" ومكتوب عن المؤمنين أنهم "مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد" وأن الرسول ولد المؤمنين في كورنثوس بالإنجيل، أو بالحري "بكلمة الله".
وبالرجوع إلى (يوحنا 3: 6)، يتضح لنا أن الولادة من الله تكون أيضاً بواسطة "روح الله"، فمكتوب "المولود من الروح هو روح".
ومن هاتين المجموعتين من الآيات، يتضح لنا أن الولادة من الله تكون بواسطة كلمة الله وروح الله معاً. أو بالحري بواسطة مرافقة الروح القدس لكلمة الله في التأثير على نفوس الذين يقبلونها، تأثيرا يخلقها خلقاً جديداً، فيتحقق القول "هو ذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً" (2كورنثوس 5: 17). وبما أن الآية التي نحن بصددها تعلن أن الولادة من الله تكون من "الماء والروح "، إذاً يكون المراد بالماء هنا، هو كلمة الله، لأنه هو المقابـل للفظ "الكلمـة "في الآيـات: (يعقوب 1: 18) و(1بطرس 1: 23) و(1كورنثوس 4: 15) التي أشرنا إليها فيما سلف.
(ج) ومما يثبت هذه الحقيقة أيضاً الأدلة الآتية: (1) لا يمكن أن تكون هناك وسيلتان مختلفتان للولادة من الله، إحداهما من الماء والروح، والأخرى من الكلمة والروح (2) هناك شبه كبير بين تأثير كلمة الله وبين تأثير الماء، فكلمة الله تنقى القلب والماء ينقى الجسد (يوحنا 15: 3) (3) أن الماء المادي لا يبعث حياة روحية إلى النفس (أو بالحري لا يجعلها تولد من الله)، لأن الذي يقوم بهذه المهمة هو كلمة الله بسبب وجود هذه الحياة فيها، فمكتوب "لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إلى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ" (عبرانيين 5: 12) (4) أن روح الله لا يقترن في أي عمل من أعماله مع الماء المادي، لأنه (أي روح الله) ليس مادة حتى يقترن بالشيء المادي. ولكن نظراً لأن كلمة الله روحية يمكن أن يقترن بها روح الله ويعمل معهـا[7] (5) أن الولادة من "الماء والروح" وردت مرادفة للولادة من "فوق"، فقد قال المسيح لنيقوديموس "يَنْبَغِي أن تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ" (يوحنا 3: 7) وبما أن الماء من حيث هو مادي، لا وجود له في المجال المعبر عنه ب "فوق" أو بالحري حضرة الله نفسها، (لأن هذه الحضرة لا أثر للماء المادي فيها، إذ أن كل ما هناك روح في روح)، تكون الولادة من "فوق "أومن "الماء والروح"، هي الولادة من كلمة الله وروحه كما ذكرنا، لأنهما هما اللذان يمكن إسنادهما إلى فوق، حيـث الله في روحانيتـه المطلقة (6) إن "الولادة من الماء والروح "وردت أيضاً مرادفة للولادة من الروح وحده (كما يتضح من يوحنا 3: 6)، وبما أنه لو كان المراد بالماء هنا، الماء المادي، لما جاز أن تكون الولادة منه ومن الروح، هي ولادة من الروح وحده، لأنهما يكونان في هذه الحالة شيئين مختلفين لا شيئاً واحداً، إذاً فالمراد بالماء هنا، هو "كلمة الله"، لأنها تقترن مع روح الله كل الاقتران، وعمل أحدهما هو عمل الآخر تماماً[8] (7) كما أن "الكلمة" وردت في الكتاب المقدس بدلاً من "غسل الماء" فقد قال الوحي عن المسيح إنه يقدس الكنيسـة (أو بالحري المؤمنين الحقيقيين) مطهراً إياها بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ (أفسس 5: 26)[9]. (8) فضلاً عن كل ما تقدم فإن الماء ورد رمزاً لكلمة الله في العهد القديم الذي كان يحفظه نيقوديموس. فقد قال تعالى فيه "أَنَّهُ كَمَا يَنـزلُ الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ مِنَ السَّمَاءِ وَلاَ يَرْجِعَانِ إلى هُنَاكَ بَلْ يُرْوِيَانِ الأرض وَيَجْعَلاَنِهَا تَلِدُ وَتُنْبِتُ وَتُعْطِي زَرْعاً لِلزَّارِعِ وَخُبْزاً لِلآكِلِ هَكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لاَ تَرْجِعُ إِلَيَّ فَارِغَةً بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَه" (إشعياء 55: 10-11). وإذا كان ذلك كذلك، تكون الولادة من الماء والروح هي قطعاً الولادة من "كلمة الله وروح الله"، ويكون من المفروض في نيقوديموس أن يعرف هذه الحقيقة تماماً.[10]
(د) فضلاً عن ذلك، فإن الولادة من الله تختلف عن المعمودية من النواحي الآتية:
(1) الأولى يقوم بها الله وحده[11]، أما الثانية فيقوم بها الكارز بالإنجيل (2) والأولى تتم بواسطة تأثير كلمة الله وروحه في النفس[12]، أما الثانية فتتم بواسطة نـزول الإنسان بجسده في الماء والصعود منه[13] (3) والأولى تمنح المرء طبيعة روحية تؤهله للتوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية في العالم الحاضر والآتي معاً، ومن ثم لا يهلك على الإطلاق (ابطرس 1: 3-5) أما الثانية فلا تؤهل من يمارسها إلا للانضمام الظاهري إلى جماعة المسيحيين على الأرض. ولذلك فإن كثيرين من الذين اعتمدوا بالماء فحسب، أشخاص أشرار لا نصيب لهم إلا العذاب الأبدي، كما كانت الحال مع سيمون الساحر (أعمال 8: 21-30)
(4) والأولى كانت معروفة عند مؤمني العهد القديم ولذلك كانت لهم علاقة روحية مع الله وحياة أبدية معه، أما الثانية فلم يعرفها إلا مؤمنو العهد الجديد، لأنها مرتبطة بموت المسيح وقيامته (متى 28: 19).
(5) أن بولس الرسول لم يعمد من أهل كورنثوس إلا كريسبوس وغايس وبيت اسطفانوس (اكورنثوس 1: 14-16)، ومع ذلك يقول لجميع المؤمنين في كـورنثوس "لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإنجيل" (1كورنثوس 4: 15)، الأمر الذي يدل بوضوح على أن المعمودية شيء، وأن الولادة الروحية من الله شيء آخر.
(هـ) فإذا أضفنا إلى ما تقدم أنه لو كان حديث المسيح مع نيقوديموس خاصاً بالمعمودية، لكان نيقوديموس قد طلب من المسيح أن يعمده، كما طلب الحبشي من فيلبس المبشر فيما بعد (أعمال 8: 26-39)، أو على الأقل سأله إن كانت المعمودية المسيحية تشبه معمودية يوحنا أم تختلف عنها. اتضح لنا أن نيقوديموس لا بد أنه أدرك في النهاية أن حديث المسيح معه خاص بالولادة من الله التي تتم بالإيمان الحقيقي بشخصه. ومما يثبت هذه الحقيقة أن المسيح ختم حديثه مع نيقوديموس بالقول "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابنهُ الْوَحِيدَ لكي لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأبدية. لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابنهُ إلى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسم ابن اللَّهِ الْوَحِيدِ" (يوحنا 3: 16-21)
(و) هذا، وقد عرف المسيحيون منذ القديم أن الولادة من الله ليست هي المعمودية، بل هي التغيير الذي يحدث في النفس بواسطة تأثير كلمة الله وروحه عليها، ولذلك قالوا "إنه بمساعدة الولادة الجديدة، زالت عنا وصمة السنوات القديمة وأشرق علينا نور من العلاء. إنه نور صاف جميل اخترق أعماق قلوبنا. وهذه الولادة الجديدة هي التي جعلتنا ننطلق ونشرق بنور المسيح على الآخرين[14]". (الآباء في القرون الثلاثة الأولى ص: 75) كما قالوا "إن ولادة النفوس ولادة حقيقية من الروح القدس تقودها إلى ملكوت السموات. وإنه بدون الروح القدس تكون هذه الولادة غير ممكنة". وقالوا إن "ربنا يسوع المسيح أتى إلى العالم لكي يجدد النفوس التي فسدت بالأهو اء والشهو ات" (حياة الصلاة الأرثوذكسية ص 233 و239، والخريدة النفيسـة ج 1 ص 94) كما عرفوا أن ماء المعمودية هو فقط رمز للضمير الصالح، أو بالحري رمز لعمل كلمة الله في هذا الضمير، لأنها هي التي تطهره وتجعله صالحاً (تاريخ كنيسة أنطاكية ج 1 ص460)
وفي العصر الحديث نادى كثير من الأرثوذكس بأن الولادة من الله شيء غير المعمودية، فمثلاً جاء في (كتاب عصمة الكتاب المقدس ص 178، للواعظ الأرثوذكسي يسى منصور) أنه "عندما يتوب الإنسان ويؤمن بكفارة المسيح، يشعر بسلام تام لتمتعه بغفران خطاياه. وفي هذا الاختبار ينال التجديد (أي الولادة الروحية من الله) وينفصل عن ماضيه السيء ويتمتع بحياة جديدة مقدسة، ولا تسود عليه الخطية بعد، بل يكرهها، من كل قلبه. كما نادوا بأن "كلمة الله" هي التي تخلق المرء خلقاً جديداً وتلده مرة ثانية (كما ذكرنا). فقال الآب الفاضل متى المسكين ما ملخصه "كلمة الله هي قوته المرسلة إلى العالم كطاقة روحية خلاقة لتجدد الإنسان: إنها حياة منبعثة من الله تتفاعل بذهن الإنسان وروحه فتتحد به، ويصير الإنسان بواسطتهما حياً بالله وفي الله. فالكلمة مصدر الحياة الروحية للإنسان وواسطة اتحاد سري بالله. وهي البذرة التي تولد منها مرة ثانية" (كتاب كلمة الله ص 21، 60).
قال بولس الرسول "أَحَبَّ الْمَسِيحُ أيضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأجلهَا، لكي يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ" (أفسس 5: 25، 26). كما قال "لَكِنِ اغْتَسَلْتُمْ بَلْ تَقَدَّسْتُمْ بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِاسم الرَّبِّ يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلَهِنَا" (1كورنثوس 6: 11) وقال "لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الإيمان، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ" (عبرانيين 10: 22). وقال بطرس الرسول "مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إلى الأبد" (ابطرس 1: 23)، وهذه الكلمة هي الكلمة الفعالة في المعمودية، والتي بها ينحدر الروح القدس على الماء.
المعنى (أ) بالتأمل في الآية الأولى، يتضح لنا أن "الكلمة" مستعملة فيها بدلاً من "الماء"، ولا غرابة في ذلك، فأوجه الشبه بينهما كثيرة كما ذكرنا فيما سلف. ومن ثم يكون معنى الآية أن المسيح بعد ما بذل حياته من أجل المؤمنين لكي يقدسهم لنفسه، فإنه يطهر قلوبهم من وقت إلى آخر مما يعلق بها من شر، بواسطة كلمته (لأنها هي التي تقوم بهذه المهمة)، حتى يكونوا في كل حين في الحالة اللائقة بنسبتهم إليه.
(ب) وبالتأمل في الآية الاتية، يتضح لنا أن الاغتسال الوارد فيها ليس بماء المعمودية، بل باسم الرب يسوع وبروح إلهنا – وهذا الاغتسال (كما يتضح من الكتاب المقدس) قد تم مرة واحدة إلى الأبد. فقد قال يوحنا الرسول عـن المسيـح انـه "أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ، وَجَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلَّهِ أَبِيهِ" (رؤيا 1: 5). ومن ثم يراد بالاغتسال هنا المعنى المجازي لا الحرفي.
(ج) ومن جهة الآية الثالثة نقول: أن اغتسال الجسد لا يهيئنا للاقتراب إلى الله، بل الذي يهيئنا لذلك، هو اغتسال القلب. فمكتوب "طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ" (متى 5: 8) واغتسال القلب لا يكون بالماء بل بكلمة الله، ومن ثم يكون الرسول قد استعمل عبارة "الماء النقي" بدلاً من "كلمة الله" لأوجه الشبه الكثيرة بينهما، ويكون قد استعمل كلمة "الجسد" بدلاً من "القلب" من باب إطلاق اسم الكل على الجزء، للدلالة على وجوب تطهير الحياة بأسرها.
(د) أما الآية الأخيرة فإنها تقول صراحة أن الولادة الثانية هي بعمل كلمة الله، لأن هذه الكلمة لها فعاليتها الكفيلة بتوجيه القلب إلى الله، ومن ثم تلده منه مـرة ثانية. أما التعليق الوارد بعد هذه الآية، فلا أساس له في الكتاب المقدس، بل هي من رأي المعترض لتأييد اعتقاده بأن المعمودية هي التي تلد النفوس ولادة جديدة. والحال أن كلمة الله لا تفعل مع الماء لولادة النفوس من الله، ولا الروح القدس يعمل مع الماء لهذه الغاية، كما ذكرنا فيما سلف.
3 – قال المسيح "مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ" (مرقس16: 16) وقال الوحي عن يوحنا المعـمدان إنـه "يُعَمِّدُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِـرَةِ الْخَطَايَـــا" (مرقس 1: 4) وقال حـنانيا لشاول "قُمْ وَاعْتَمِدْ وَاغْسِلْ خَطَايَاكَ دَاعِياً بِاسم الرَّبِّ" (أعمال 22: 16)
المعنى: (أ) من جهة الآية الأولى نقول: أن الإيمان (أو بالحري الإيمان الحقيقـي) هو السبيـل الذي عيـنه الله لنـا للتمتـع بالخلاص والغفران[15]، ولذلك فالسبب في إضافة المعمودية إلى الإيمان هنا، يرجع إلى أن العماد هو إشهار الإيمان وإعلانه، أو بالحري الاعتراف الرسمى بالموت مع المسيح والقيامة كما ذكرنا[16] . وهذا الإشهار ضروري لإثبات صدق الإيمان، لأن كثيرين كانوا يؤمنون، لكنهم كانوا يرفضون العماد لئلا يتعرضوا للضيق والاضطهاد، ومن ثم فإن إيمانهم يكون باطلاً، ولا يكون لهم خلاص على الإطلاق.[17]
(ب) ومن جهة الآية الثانية نقول: أن يوحنا المعمدان كان ينادي للناس بالتوبة، وكان يعمد الذين يستجيبون حسب الظاهر له، ولذلك سميت معموديته معمودية التوبة[18]. والتوبة هي أول خطوة في سبيل التمتع بغفران الله، لأنه لا مجال للغفران على الإصرار عن السلوك في الخطية كما يتضح من (مرقس 1: 15، 2 بطرس 3: 9). لكن مما تجدر الإشارة إليه أن التوبة في حد ذاتها لا تغفر الخطايا (لأنها لا تستطيع التكفير عنها أو تأهيل التائب للتوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية) بل تهيىء فقط التائب للحصول على الغفران إذا وجد الفادي الذي يقوم بهذين العملين، كما ذكرنا بالتفصيل في كتاب قضية الغفران. ولذلك كان يوحنا يحرض الذين يعتمدون منه على الإيمان بالمسيح (أعمال 19: 6) ومن البديهي أن يكون الأمر كذلك، لأنه لو كانت المعمودية التي كان يوحنا ينادي بها، تغفر الخطايا وتؤهل للتوافق مع الله والتمتع به إلى الأبد، لما كان هناك داع لكفارة المسيح، بل ولما كان هناك داع لمجيئه إلى العالم.
(ج) ومن جهة الآية الثالثة نقول: أن غسل الخطية (أو بالحري التطهير منها) قد حققه المسيح لنا بموته الكفاري على الصليب عوضاً عنا، ونحصل عليه في الوقت الحاضر بواسطة الإيمان الحقيقي بشخصه. فقد قال الوحي عن المسيح، "إذ طَهَّرَ بِالإيمان قُلُوبَهُمْ" (أعمال 15: 9)، كما قال عنه إنه "صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا" (عبرانيين 1: 3)، "الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ" (رؤيا 1: 5)، ومن البديهي أن يكون الغسل أو التطهير هو بدم المسيح دون سواه، لأنه هو وحده الذي كفر عن خطايانا إلى الأبد، وأن يكون السبيل للحصول على هذا الغسل أو التطهير هو الإيمان الحقيقي فقط، لأن هذا الإيمان هو الذي يهيء القلب لقبول بركات الله وهباته كما ذكرنا. أما المعمودية فلا تطهر القلب على الإطلاق والدليل على ذلك أن كثيرين من الذين اعتمدوا أشخاص أشرار كما نعلم جميعاً.
وإذا كان ذلك كذلك، أدركنا أن قول حنانيا لشاول: "اعتمد واغسل خطاياك"، لا يراد به أن يغسل خطاياه من أمام الله، بل أن يغسلها من أمام المؤمنين الذين كان عتيداً أن ينضم إليهم، لأنه بالعماد (أو بالحري بإشهار الإيمان) يمحو شاول عن نفسه من أمامهم، عار خطاياه التي كان يقترفها باضطهاده للمسيح، ويعلن أنه أصبح على استعداد لأن يتحمل الاضطهاد، بل والموت أيضاً من أجله. كما أننا إذا وضعنا أمامنا أن غسل الخطايا من أمام الله، لا يسند إلى الإنسان مهما كان شأنه بل يسند إلى المسيح وحده (رؤيا 1: 5)، اتضح لنا أن غسل الخطايا المسند إلى شاول في الآية التي نحن بصددها، يراد به قيامه بمحوها من أمام المؤمنين كما ذكرنا.
4 – قال بطرس الرسول "تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسم يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الخطايا فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (أعمال 2: 38)
المعنى (ا) بالتأمل في هذه الآية يتضح لنا أن التوبة هي الخطوة الأولى للحصول على الغفران. أما الخطوة الثانية للحصول عليه فهي العماد باسم يسوع المسيح، أو بالحري الإيمان المشهر به، لأن الذي يؤمن بالمسيح دون أن يعتمد لا يكون مؤمناً حقيقياً، إذ يكون خائفاً من التعرض للاضطهاد. ومما يثبت أن الخلاص هو بالإيمان الحقيقي وحده، وليس بالإيمان والمعمودية معاً، أن بولس الرسول لم يعمد كل الذين كانوا يؤمنون بالمسيح، بل كان يترك أمر عمادهم للذين يأتون بعده[19] حتى يتفرغ هو للكرازة بإنجيل المسيح (1 كورنثوس 1: 14)، إذ أن الإنجيل (كما أعلن الرسول من قبل) هو قوة الله للخـلاص لكـل من يؤمن (رومية 1: 16)، وهذا دليل على أن العماد ليس عملاً مضافاً إلى الإيمان بالمسيح نحصل به على خلاص الله، بل إنه فقط إشهار الإيمان كما ذكرنا.
(ب) كمـا أن الإيمان وليس العماد هو الوسيلة التي يحل بها الروح القدس فيـنا، فقـد قال الرسـول للأفسسيين "إذ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ" (أفسس 1: 13) وقـال للغـلاطييــن "أَبِأعمال النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإيمان" (غلاطية 2: 2) وقال المسيح من قبل "مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ. قَالَ هَذَا عَنِ الرُّوحِ الَّذِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أن يَقْبَلُوهُ لأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ" (يوحنا 7: 38 – 39) ومما يثبت أيضاً أن الروح القدس يحل بواسطة الإيمان وليس بواسطة العماد، أنه لم يحل على سيمـون الساحر مع أنه اعتمـد (أعمال 8: 20)، بينما حل على كرينيليوس قبل أن يعتمد (أعمال 10: 44 – 47)، ذلك لأن الأول كان مؤمناً بالاسم، أما الثاني فكان مؤمناً بالحق.
(ج) وهنا يسأل سائل: إذا كان الروح القدس يحل بمجرد الإيمان الحقيقي، فلماذا جعل الرسول العماد في الآية التي نحن بصددها شرطاً للحصول على هذا الروح؟ وللرد على هذا السؤال نقول: أن هذه الآية وجهها الرسول إلى اليهود، وهؤلاء كانوا متمردين كما كانوا متقلبين، فهم الذين صلبوا المسيح بعد أيام قليلة من هتافهم أمامه "أوصنا لابن داود.مبارك الآتي باسم الرب.أوصنا في الأعالي" (متى 21: 9) ومن ثم كان من الواجب أن يشهروا إيمانهم علناً بالمعمودية حتى يتبين إخلاصهم وصدقهم، قبل أن يحل الروح القدس عليهم.
(د) أما القول (إن الروح القدس حل على المسيح بعد العماد، ومن ثم فإنه لا يحل على أحد من المؤمنين إلا بعد العماد أيضاً) فلا مجال له على الإطلاق، لأن حلول الروح القدس على المسيح بعد العماد، لم يكن الغرض منـه أن يسكن فيه كما هي الحـال معنـا (1 كورنثوس 6: 19)، كلا لأن المسيح كان مملوءاً به من قبل بسبب ولادته به (متى 1: 18) بل كان الغرض من حلوله عليه بعد العماد هو مسحه (أو بالحري تعيينه بصفة علنية) لمهمة الخلاص التي أتى إلى العالم لأجلها حتى يعرفه الناس ويؤمنوا به. ولذلك قال يوحنا المعمدان لليهود "إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ (أي على المسيح) وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لِأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ فَهَذَا هو الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أن هَذَا هو ابن اللَّهِ" (يوحنا 1: 32 – 34)
5 – قال بولس الرسول: "وَلَكِنْ حِينَ ظَهَرَ لُطْفُ مُخَلِّصِنَا اللهِ وَإِحْسَانُهُ - لاَ بِأعمال فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ- خَلَّصَنَا بِغَسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ (لنا)" (تيطس 3: 4)
المعنى (ا) أن الخلاص (كما يتضح من هذه الآية) هو بواسطة رحمة الله، وأن الله يعطينا إياه بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس وليس بواسطة أعمالنا التي ندعوها الصالحة – والكلمة المترجمة هنا ب "الميلاد الثاني "، لا يراد بها المعمودية أو الولادة الثانية، بل يراد بها، كما يتضح من الأصل اليوناني "التجديد" أو بالحري "الحالة الجديدة" وهذه الكلمة لا ترد في الكتاب المقدس إلا في هذا الموضع، وفي (متى 19: 28)، حـيـث قـال المسيــح "الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي فِي التَّجْدِيدِ مَتَى جَلَسَ ابن الإنسان عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أيضاً عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِياً تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إسرائيل الاِثْنَيْ عَشَرَ"– غير أن التجديـد الذي تحدث عنه المسيح يـراد به الملك الألفي (رؤيا 21)[20] الذي سيعده بإزالة المعاثر من وجه الأرض، ورد كل شيء إلى أصله الطيب (متى 13: 41، أعمال 3: 21) أما التجديد الذي تحدث عنه الرسول هنا، فيراد به الحالة المجيدة التي يتبوأها المؤمنون الحقيقيون أمام الله بنقلهم بواسطة الإيمان الحقيقي من الخليقة العتيقة إلى الخليقة الجديدة، أو بالحري من الوجود في آدم الساقط إلى الوجود في المسيح الكامل (اكورنثوس 15: 22)، وقد وصف الرسول هذه الحالة بشيء من التفصيل في (أفسس 1: 3-12). ولذلك فكلمة "غسل" في العبارة "غسل الميلاد الثاني" لا يراد بها طبعاً المعنى الحرفي بل المعنوي.
(ب) وهذا التجديد "لا يشمل فقط المقام الخارجي لهؤلاء المؤمنين أمام الله كما يظن بعض المسيحيين، بل يشمل أيضاً الحالة الباطنية لهم، لأن الروح القدس بواسطة عمله المستمر في نفوسهم يصرفهم عن الأهواء والشهوات ويقودهم من وقت إلى آخر للوجود بقلوبهم في السموات [فقد قال الرسول "لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ" (رومية 8: 3)، كما قال "فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي السماوات، الَّتِي مِنْهَا أيضاً نَنْتَظِرُ مخلصاً هو الرَّبُّ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، 21الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا (أو بالحري جسد الضعة الذي نعيش فيه في العالم الحاضر بسبب ما يكمن فيه من شر) لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ" (فيلبى 3: 20)] الأمر الذي يجعل حالة المؤمنين الباطنية ملائمة لمقامهم أمام الله في المسيح.
6 – قال بطرس الرسول "إذ كان الفلك يبنى الذي فيه خلص قليلون أي ثماني أنفـس بالمـاء (أو بالحري خلال الماء[21]) الـذي مثالـه يخلصنا نحن الآن (أي المعمودية[22] [لا إزالة وسخ الجسد بل سؤال ضمير صالح عن الله] بقيامة يسوع المسيح الذي هو عن يمين الله" (ابطرس 3: 2-22)
المعنى (ا) إذا تأملنا هذه الآيات بشيء من التدقيق، يتضح لنا أن العبارة التي وضعناها بين [ ] هي عبارة عرضية، يدفع بها الرسول، ما عساه أن يطرأ على أذهان السامعين من أن الغرض من المعمودية هو مجرد الاغتسال الجسدي كما كانت الحال مع الغسلات التي كان اليهود يمارسونها في العهد القديم[23].
ولذلك يكون مفهو م هذه الآيات أن الله يخلصنا نحن الآن بقيامة يسوع المسيح من الأموات. وهذا حق، لأن المسيح هو الذي أسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريـرنا (رومية 4: 25) وإذا كان الأمر كذلك يكون السبب في الإشارة إلى المعمودية هنا، هو كونها (كما يقول الوحي) مثالا للخلاص الذي يناله المؤمنون الحقيقيون بالمسيح في الوقت الحاضر، لأنه بالنـزول في المعمودية والصعود منها يعلنون أنهم اعتبروا أنهم ماتوا مع المسيح (أو بالحري حلت عليهم دينونة الخطية شرعاً، ولن تعود تحل عليهم فيما بعد)، وأنهم قاموا أيضاً معه بحياة روحية جديدة تؤهلهم للشركة الروحية معه إلى الأبد. فقد قال الرسول في موضع آخر "أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأموات بِمَجْدِ الآب هَكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أيضاً فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ" (رومية 6: 3، 4)
(ب) وأوجه الشبه التي أوردها الرسول بين الوسيلة التي خلص الله بها نوحاً وأسرته من الطوفان قديماً، وبين الوسيلة التي يخلصنا بها نحن من الدينونة في العهد الجديد، تثبت الحقيقة التي ذكرناها، كما يتضح مما يلي:
(1) أن الفلك كان رمزاً للمسيح، لأنه كما أن الأول أنقذ الاشخاص الذين كانوا فيه، فإن الثاني يخلص جميع الذين يلجئون إليه بالإيمان الحقيقي.
(2) أن الطوفان تهاطل على الفلك دون أن يمس الساكنين فيه، ودينونة الخطية حلت على المسيح وحده دون أن تمس شخصاً واحداً من المؤمنين الحقيقيين به.
(3) أن الفلك اجتاز بالذين فيه خلال ماء الطوفان، وبعد ذلك رسا بهم عالياً فوق جبل أراراط في سلام وأمان. والمسيح اجتاز بالمؤمنين الحقيقيين (وكأنهم في قلبه) وسط دينونة الخطية الرهيبة التي احتملها نيابة عنهم على الصليب، ثم رسا بهم بعد ذلك ليس على جبل أراراط، بل في السماء حيث الأمان الذي ليس بعده أمان. فمكتوب "وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأجلسَنَا مَعَهُ فِي السماويات فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (أفسس 2: 6) ومن ثم فإننا ندخل في المعمودية ونجتاز فيها، وبعد ذلك نخرج منها، للدلالة على أن الله أجازنا شرعاً وسط دينونة الخطية الرهيبة (المرموز لها بماء الطوفان)، ثم أخرجنا أحياء إلى الأبد بقيامة المسيح من بين الأموات.
(ج) إن الضمير الصالح الوارد في العبارة "سؤال ضمير صالح عن الله (أو بالحري من نحوالله)" لا يراد به (كما يتضح من القرينة) الضمير الذي يبكت المؤمنين على الخطايا التي تصدر منهم أحياناً، والذي أشار إليه بولس الرسول فـي قولـه "لِذَلِكَ أَنَا أيضاً أُدَرِّبُ نَفْسِي لِيَكُونَ لِي دَائماً ضَمِيرٌ بِلاَ عَثْرَةٍ مِنْ نَحْو اللهِ وَالنَّاسِ" (أعمال 24: 16)، بل يراد به الضمير المتحرر من الشعور بذنب الخطايا وجرمها أمام الله، بفضل موت المسيح وقيامته (اللذين يشير إليهما النـزول في المعمودية والصعود منها) وهذا الضمير هو الذي أشار إليه بولس الرسول في قوله "وَإِلاَّ، أَفَمَا زَالَتْ تُقَدَّمُ؟ مِنْ أجل أن الْخَادِمِينَ، وَهُمْ مُطَهَّرُونَ مَرَّةً، لاَ يَكُونُ لَهُمْ أيضاً ضَمِيرُ خَطَايَا" (عبرانيين 10: 2) أو بالحري لا يكون لديهم أي شك بينهم وبين أنفسهم من جهة غفران خطاياهم على أساس الكفارة التي كانوا يقدمونها، مع أنها لم تكن كما نعلم إلا كفارة رمزية[24] . غير أن المؤمنين الحقيقيين، وإن لم يكن لهم ضمير خطايا، لكنهم يتألمون في نفوسهم لأقل هفوة تصدر منهم ويجتهدون كل حين أن يكونوا بلا لوم في سلوكهم، كما أنهم بلا لوم في مقامهم أمام الله في المسيح.
(د) مما تقدم يتضح لنا أنه ليست هناك آية واحدة في الكتاب المقدس تدل على أن الغرض من المعمودية هو الحصول على الخلاص أوالغفران[25] فإذا أضفنا إلى ذلك (أولاً) أن مؤمني العهد القديم واللص الذي آمن بالمسيح على الصليب وكثيرين أيضاً من الشهداء المسيحيين، دخلوا السماء جميعاً دون أن يعتمدوا [26](ثانياً) أن القول بأن المعمودية تغفر الخطايا، يحول السبيل إلى الغفران من عمل باطني بالإيمان الحقيقي، إلى عمل سطحي لا يؤثر على القلب إطلاقاً، لا يبقى أمامنا مجال للشك في أن المعمودية هي فقط لإشهار الإيمان كما ذكرنا.
ثانياً – الآراء الطائفية، والرد عليها
1- [إن الرسول بعدما قال للسجان "آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ" عمده بالماء (أعمال 16: 31 – 35) – وهذا دليل على أن إيمانه لم يكن إلا الخطوة التمهيدية لخلاصه، وأن خلاصه لم يكن يتم إلا بالمعمودية. ومما يثبت ذلك أن الفعل "فتخلص" ورد في الأصل اليوناني في صيغة الاستقبال].
الرد: (أ) إن أساس الخلاف بين القائلين أن الخلاص هو بالإيمان، وبين القائلين إنه بالإيمان والمعمودية معاً، يرجع إلى اختلافهم من جهة مفهوم الإيمان. فالفريق الثاني يعتقد أن كل من يعترف بالمسيح يكون مؤمناً، أما الفريق الأول فيعتقد أن الاعتراف بالمسيح لا يجعل الإنسان مؤمناً به، إن لم يكن لهذا الاعتراف أثر واضح في قلبه، وذلك بناء على قول الرسول "لأَنَّكَ إن اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أن اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأموات خَلَصْتَ" (رومية10: 9). ومن ثم فالمؤمن (أو بالحري المؤمن الحقيقي) الذي له التمتع بخلاص الله (في نظر هذا الفريق) هو الذي ولدت نفسه من الله ولادة روحية حصل بها على الروح القدس وأصبح شريكا لله في طبيعته الأدبية، وذلك بناء على ما جاء في (يوحنا 1: 12، 1 بطرس 1: 3، 2 بطرس 1: 3-4)، ومن ثم فإن من لا يختبر هذا الاختبار الروحي لا يكون مؤمناً بالمسيح (حتى إذا اعترف به علناً، وحفظ الكثير من أقواله، ووعظ الناس عنه، وعمل أيضاً الكثير من الأعمال الصالحة ويكون مثله أمام الله مثل الوثني تماماً، وإن أردنا أن نميزه في نظر المجتمع عن الوثني، لا نستطيع أن نقول أكثر من أن إيمانه بالمسيح هو إيمان ميت أو إيمان اسمي فحسب، وإيمان مثل هذا لا يخلص صاحبه على الإطلاق[27].
(ب) فقول بولس الرسول للسجان "آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ" يراد به أنه إذا آمن (إيماناً حقيقياً) يخلص أمام الله من دينونة الخطيئة، ويكون سبباً لخلاص أهل بيته أيضاً منها. ومن ثم لا يبقى عليه بعد إلا أن يعتمد وأن يعتمدوا هم معه كذلك، لأن العماد هو إشهار الإيمان أو بالحري هو الاعتراف بالموت مع المسيح والقيامة معه والتطهر بدمه كما ذكرنا فيما سلف.
(ج) أما قوله "فتخلص" أو ستخلص" فلا يراد به أنه سيخلص عند المعمودية أوبعدها، بل أنه سيخلص إذا آمن، لأنه لم يكن قد آمن بعد عندما قال له الرسول العبارة التي نحن بصددها. ومما يثبت أن الخلاص يتم بمجرد الإيمان أن الأفعال الخاصة به ترد في صيغة الماضى أو الحاضر، فقد قال بولس الرسول "إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ. خَلَصْتَ" (رومية 10: 7) كما قال "وَنَحْنُ أموات بِالخطايا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ، وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأجلسَنَا مَعَهُ فِي السماويات فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (أفسس 2: 5 – 10) وقال يوحنا الرسول "نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّنَا قَدِ انْتَقَلْنَا مِنَ الْمَوْتِ إلى الْحَيَاةِ" (1 يوحنا 3: 14) و "أَنَّ اللهَ أَعْطَانَا حَيَاةً أبدية، وَهَذِهِ الْحَيَاةُ هِيَ فِي ابنهِ" (1 يوحنا 5: 11 – 13) وقال المسيح من قبل "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إن مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ (أي له الآن) حَيَاةٌ أبدية وَلاَ يَأْتِي إلى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إلى الْحَيَاةِ" (يوحنا 5: 24)
(و) ولكي لا ندع مجالاً للشك أمام أحد القراء مـن جهـة استعمـال الفعـل "تخلص" في صيغة الاستقبال في اللغة اليونانية نقول: إن استعمال فعل المستقبل هنا هو من ضروريات قواعد هذه اللغة. فليس من الجائر لغوياً أن يقال (آمن بالرب يسوع المسيح، خلصت، أوتخلص بصيغة المضارع) ولنا في الكتاب المقدس أكثر من دليل على هذه الحقيقة. ففي الآيات "«اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اطْلُبُوا تَجِدُوا. اقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ" (متى 7: 7-8) ترد أفعال جواب الأمر في الأصل اليوناني في صيغة الاستقبال، مع أن الله يستجيب صلاة المؤمنين في التو والحال. فقد قال "وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بَعْدُ أَنَا اسمعُ" (إشعياء 65: 24)
2 - [لا يمكن أن تكون المعمودية علامة ظاهرية، لأن مخلصنا لا تهمه العلامات الظاهرية، بل تهمة القلوب وما يحدث فيها من تغيير نتيجة لفعالية الروح القدس الذي يستدعى بالصلاة. فيحل في ماء المعمودية ويكسبه القدرة الخالقة على ولادة الإنسان الذي ينـزل فيه، بطريقة غير منظورة من فوق من غير نطفة، كما ولد ناسوت المسيح تماماً. كما يسكن الروح القدس في هذا الإنسان ويأخذ مما للمسيح ويعطيه – ومن ثم فالمعمودية تعطيه أيضاً استنارة روحية وتلقنه الإيمان بالروح القدس].
الرد: إننا نوافق كل الموافقة على أن الله لا تهمه المظاهر الخارجية بل تهمه القلوب وما يحدث فيها من تغيير نتيجة لفعالية الروح القدس فيها. ولكن نرجو أن نضع قبالتنا أن المسيحي الحقيقي لا يبني عقيدته الدينية على ما يسمعه من الناس أو يقرأه عنهم (لأن الناس مهما كان شأنهم ليسوا معصومين من الخطأ في التعليم أو السلوك)، كما أنه لا يبنيها على ما يراه صواباً بينه وبين نفسه (لأننا لسنا كاملين في ذواتنا، ومن ثم قد ينحرف تفكيرنا عن جادة الصواب دون أن ندري)، بل يبني عقيدته الدينية على كلمة الله وحدها. إذ فضلاً عن أن هذا المسيحي مولود من الله، والمولود من الله يعتمد على كلمة الله و يحبها مثل اعتماده على الله ومحبته له تماماً، فإن هذه الكلمة لا تزول وإن زالت السماء والأرض وكل ما فيهما، كما أنها هي الأساس الوحيد الذي يعاملنا الله على مقتضاه. ولذلك ففي ضوء كلمة الله وحدها نقول:
(أ) حقاً إن الله يستجيب الصلاة التي يرفعها إليه المؤمنون الحقيقيون، لكن على شرط أن تكون متفقة مع مشيئته (1 يوحنا 5: 14)، ولذلك طالما أنه لم يأمرنا أن نصلي لأجل حلول الروح القدس في ماء المعمودية لكي يخلص من ينـزل فيها ويولد ولادة روحية، تكون الصلاة لهذا الغرض مرفوضة رفضاً تاماً. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الروح القدس لا يستخدم كلمته لهذا الغرض، اتضح لنا أن هذا الرأي ليس بصواب.
(ب) فضلاً عما تقدم، فإن الروح القدس (كما نعلم ليس غازاً من الغازات التي يمكن أن تحل في الماء وتكسبه خاصية ليست من خصائصه الأصلية. ولو فرضنا جدلاً أنه يحل فيه ويكسبه خاصية ما، فإن هذه الخاصية تجعل الماء يؤثر على جسد الإنسان الذي ينـزل فيه دون نفسه، إذ أن النفس لا تتأثر تأثراً روحياً إلا إذا اتجهت إلى الله وخضعت له وقبلت كلمته وروحه في داخلها. وإذا كان ذلك كذلك، فالقول (إن الروح القدس بحلوله في ماء المعمودية يكسبه خاصية الخلق الروحي) هو قول شخص ترك الحقائق الروحية والعلمية والعقلية. ثم حلق في جو الخيال لإثبات عقيدة دينية لديه.
(ج) كما أن الرأي الذي نحن بصدده لا يصدر بكل أسف إلا من شخص مال بتفكيره نحو الجسدانية، أومن شخص لم يختبر بعد ما هي الولادة الروحية من الله، لأن هذه الولادة لا يترتب عليها تكوين جسد مادي في من يولد بها، حتى يقول سيادته أنها تتم بدون نطفة مثل ناسوت المسيح. إذ أن كل ما يترتب على الولادة المذكورة أنها تمد من يولد بها بطبيعة روحية أو بالحري بميول واتجاهات روحية تتوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية كما يدهشنا أنه وهو شخص يعيش كل حياته بين الطقوس والعلامات الدينية الخارجية يتنكر للقول [إن المعمودية علامة خارجية للدلالة على الموت مع المسيح والقيامة معه] لمجرد إثبات العقيدة الدينية التي يعتنقها. ولكن لو رجع إلى الكتاب المقدس، لوجد أن هذا القول هو الذي يعبر عن الآية "لأَنَّهُ أن كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ (في المعمودية) نَصِيرُ أيضاً بِقِيَامَتِهِ" (رومية 6: 5) فالمعمودية إذا هي علامة، لكن ليس مجرد علامـة (لأن الله لا يعطي علامة لكي تكون مجرد علامة)، بل علامة لها معناها الروحي الذي يؤثر فينا طوال وجودنا على الأرض[28] ومن ناحية أخرى فإننا مهما بحثنا في الكتاب المقدس لا نعثر على آية تثبت أن من ينـزل في المعمودية يخلص ويولد من الله ولادة روحية، الأمر الذي يدل على أن العماد هو علامة للموت مع المسيح والقيامة معه كما ذكرنا.
(د) أخيرا نقول إنه يؤلمنا أشد الألم أن الشخص المذكور في سبيل محاولته إثبات عقيدته الخاصة، يتجاهل الواقع تماماً. فأي شرير نـزل في المعمودية وخرج منها قديساً؟! وأي جاهل نـزل فيها وأصبح حكيماً؟! وأي شخص غير مؤمن نـزل فيها وخرج منها مؤمناً؟! وأي شخص بعيد عن الله نـزل فيها وخرج منها ملتصقاً به؟! ولكن الذي يغير حياة الناس وسلوكهم هو التوبة الصادقة عن الخطية، والإيمان الحقيقي بالمسيح، أو بالحري قبوله في النفس رباً وفادياً. وقد شهد بهذه الحقيقة القديسون القدماء، كما ذكرنا فيما سلف.
أما لو سلّمنا جدلاً بأن المعمودية تقوم بهذا التغيير، لكان عملها أقرب إلى السحر منه إلى عمل الله، ولكانت المسيحية ديانة ميكانيكية لا روحية، وشكلية لا حقيقية، وهذا ما لا يوافقنا عليه شخص فيه روح الله، أو حتى شخص لديه ذرة من التفكير السليم، وإذا كان الأمر كذلك، وكانت فكرة التغطيس في ماء مقدس أو أنهار مقدسة (لغسل الذنوب والتطهير والتقديس، أو للتجديد وكسب مناعة وحصانة خاصة) ليست أصلية في المسيحية بل هي من صميم العقائد اليهودية والوثنية، اتضح لنا أنه إذا لم يكن الرأي الذي نحن بصدده ناشئاً عن اعتبار الولادة من الله هي المعمودية بسبب عدم التمييز بينهما، فإنه يكون بكل أسف قد نقل إلى بعض المسيحيين في القرون الأولى بواسطة اليهود والوثنيين الذين اعتنقوا المسيحية وقتئذ، ثم امتزج لديهم بالعقيدتين المسيحيتين الخاصتين بالمعمودية والولادة من الله.
3. [إن الحكم صدر علينا بالموت بسبب خطايانا، ولذلك لابد أن نموت. لكن المسيح في رحمته الغنية مات عوضاً عنا، من ثم فالخلاص بدأ بالموت ويصل إلينا بواسطة موتنا مع المسيح وقيامتنا معه. فقد قال الرسول عن المسيح "لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبها بموته" وقد وضع المسيح المعمودية في كنيسته الطريق البديل الذي يتم به قضاء الله علينا بالموت فنشترك مع المسيح فعلاً في موته كما حكم الله، وذلك بطريقة جوهرية باطنية في المعمودية، ونحن مستترون في استحقاقات المسيح. فقد قال الرسول "أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ" (رومية 6: 3-4)، وموتنا مع المسيح هو الذي يجعلنا نشترك في قيامته، فقد قال الرسول "لأَنَّهُ أن كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ نَصِيرُ أيضاً بِقِيَامَتِهِ" (رومية 6: 5) ومن ثم نقوم في جدة الحياة لابسين بره.
ومن الواجب أن نشترك مع المسيح في موته حتى نكون مستحقين لموته، إذ لا يجوز أن نترك المسيح يموت وحده عنا، دون أن نشترك معه في موته، أو على الأقل بشبه موته، فالمعمودية إذا لازمة للخلاص لأنها شركة في موت المسيح الذي به لنا الحياة. ولذلك فالذين يقولون أن الخلاص يتم بالإيمان وحده لم يفهموا بعد ما هو الإيمان. لأن الإيمان هو أن نؤمن أن الخطية أجرتها الموت، ونؤمن أن المسيح قد مات عوضاً عنا، ونؤمن أنه يجب أن نموت معه لكي نحيا أيضاً معه].
الرد:
(أ) حقاً إن الخلاص من دينونة الخطية بدأ بموت المسيح، ولكنه لم يبدأ لكي نكمله نحن، بل إن المسيح قد أكمله، وذلك بقيامته من بين الأموات فقد قال الرسول عنه إنه "أُسْلِمَ مِنْ أجل خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأجل تَبْرِيرِنَا" (رومية 4: 25) وبما أن الخلاص قد أكمل، لذلك لا يتطلب الأمر منا إلا أن نقبله هبة مجانية من إلهنا الطيب، وذلك بالإيمان الحقيقي بالمسيح (رومية 6: 23، يوحنا 3: 16) والشكر العميق له (كولوسي 1: 18) فهو تبارك اسمه أعد الوليمة حسب كرمه الذي لا حد له، ومن ثم فليس على المدعوين إلا أن يأتوا إليه شاكرين لكي يتمتعوا بها أو بالحري لكي يتمتعوا به فيها (متى 22: 1-20) ومن ثم فالقول [إن الخلاص بدأ بالموت ويصل إلينا بموتنا مع المسيح وقيامتنا معه] لا نصيب له من الصواب. إلا إذا كان الغرض منه الإعلان بأننا بالإيمان الحقيقي بالمسيح اعتبرنا أننا متنا معه شرعاً وقمنا بعد ذلك معه بحياة جديدة. وإذا كان ذلك كذلك فالقول [إننا بالمعمودية نشترك مع المسيح فعلاً في موته كما حكم الله بطريقة جوهرية باطنية] صوابه [إننا بالمعمودية نعلن أننا متنا شرعاً مع المسيح، ومن ثم عبرت عنا الدينونة إلى الأبد]، لأننا لا نموت في المعمودية فعلياً بل شكلياً فقط.
(ب) كما أن العبارة [إن المسيح وضع في كنيسته الطريق البديل الذي يتم به قضاء الله علينا بالموت][29] ليست بصواب لأن البديل الذي تم فيه قضاء الله علينا هو ربنا يسوع المسيح نفسه، وباتخاذنا إياه نائباً عنا بالإيمان الحقيقي ننجو من هذا القضاء وننجو إلى الأبد (إشعياء 53: 4-6، يوحنا 3: 16)، ومن ثم فالقول الذي نحن بصدده ليس بصواب. فضلاً عن ذلك فإننا إذا وضعنا أمامنا أن أجرة الخطية هي عذاب أبدي (متى 5: 52) اتضح لنا أننا إذا أسلمنا أجسادنا لحريق النار لا نكون مستحقين للتمتع بخلاص الله (لأن الاحتراق بالنار الأرضية لا يوازي العذاب في جهنم إلى الأبد)، أو بالحري لا نكون مستحقين أن يموت المسيح نيابة عنا، ولكنه تبارك اسمه قام بهذا العمل تفضلاً منه علينا وإحسانا منه إلينا (هوشع 14: 4) ولذلك قال الرسول لنا "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإيمان، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هو عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أعمال كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ" (أفسس 2: 8) ومن ثم فالقول [يجب أن نموت، بمعنى: نغطس في ماء المعمودية، أو نموت عن الخطية لكي نكون مستحقين لموت المسيح] ليس بصواب أيضاً. لأننا مهما عملنا من بر فنحن عبيد بطالون (لوقا 7: 10)
(ج) أما العبارة [لا يجوز أن نترك المسيح يموت وحده عوضاً عنا دون أن نشترك معه في موته، أو على الأقل بشبه موته] فيستميل قائلها في الفقرة الأولى عواطف سامعيه إلى جانبه ليعتقدوا بما يعتقد من جهة المعمودية. أما في الفقرة الثانية فيعلن عدم إلمامه بالموضوع الذي يتحدث عنه، لأنه إذا كان من الواجب أن نشترك مع المسيح في موته، لا يكفى مطلقاً أن نتشبه بموته.
ولكن الحق الإلهي الواضح ليس أنه [لا يجوز أن نترك المسيح يموت وحده]، بل [يجب ألا نتركه يموت وحده]، ولكن ما هو هذا الموت؟ هو (طبعاً) الموت عن الخطية. فقد قال بطرس الرسول "نَمُوتَ عَنِ الخطايا فَنَحْياً لِلْبِرِّ" (1بطرس 2: 24)، وقال بولس الرسول "احْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أمواتاً عَنِ الْخَطِيَّةِ وَلَكِنْ أَحْيَاءً لِلَّهِ" (رومية 6: 11) وقال أيضاً "فَأَمِيتُوا أعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأرض: الزِّنَا، النَّجَاسَةَ، الْهوى، الشَّهوةَ الرَّدِيَّةَ، الطَّمَعَ" (كولوسي 3: 5).
إنما المسيح لا يريد مطلقاً أن نموت معه كما مات. فقد قال للجنود الذين أقبلوا للقبض عليه إنهم إذا كانوا يريدونه، فعليهم أن يتركوا تلاميذه يمضون في سبيلهم. فهو تبارك اسمه قدم نفسه كفارة عنا بمفرده (لأن في عمله هذا كل الكفاية لخلاصنا إلى الأبد) ولكن في قيامته أشركنا في كل نتائج كفارته، وهي التمتع بكل بركة روحية في السماويات (أفسس 1: 3)، وهذا ما يفعله كل أب بار بأولاده، فإنه يتحمل التضحية وحده، ولكن في المكسب يشركهم معه، وقد أعطانا المسيح المعمودية وسيلة إيضاح ملموسة لنضع هذا الحق الثمين أمام قلوبنا حتى نحفظ أنفسنا أمواتاً عن الخطية وأحياء له وحده.
(د) والعبارة [فنشترك مع المسيح فعلاً في موته.. ونحن مستترون في استحقاقات المسيح] لا تتوافق الفقرة الأخيرة منها مع الفقرة الأولى، أما إذا قلنا [إننا نمثل أمام الله بلا خجل أو لوم.. ونحن مستترون في استحقاقات المسيح] لاستقام المعنى، لأننا نحن الذين اعتمدنا باسم المسيح قد لبسنا المسيح (غلاطية 3: 27)، والمسيح لا عيب فيه على الإطـلاق. كمـا أن قـول الرسـول [لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبها بموته] ليس خاصاً بالخلاص من دينونة الخطية، إنما خاص بالسلوك في الحياة اليومية بعد التمتع بهذا الخلاص. فالرسول بعدما خلص بنعمة الله، أحس بجلال المسيح الذي لا حد له، ومن ثم تاقت نفسه إلى التعرف به واختبار قوة قيامته في حياته هو، لكي يسمو فوق التجارب والضيقات ويستطيع أن يشترك معه في تحمل الآلام لأجل خلاص الخطاة حتى النهاية، الأمر الذي لا يتوق إليه إلا كل عظيم في الإيمان، لكن الخاطىء الذي يريد الخلاص، فليس عليه إلا أن يتوب عن خطاياه وأن يقبل في نفسه المسيح رباً وفادياً، فيتمتع للتو بالخلاص الذي يريده كما ذكرنا.
(ه) أن التبرير أمام الله لا يكون بالعماد بل بالإيمان الحقيقي بالمسيح، فقد قــال الرسـول "مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ (أي بنعمـة الله) بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، (رومية 3: 24-28)، كما قال "وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ اللهِ بِالإيمان بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ إلى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ" (رومية 3: 21-22)، وقال "لَكِنِ اغْتَسَلْتُمْ بَلْ تَقَدَّسْتُمْ بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِاسم الرَّبِّ يَسُوعَ" (1كورنثوس 6: 11) وقال "لأَنَّ غَايَةَ النَّامُوسِ هِيَ: الْمَسِيحُ لِلْبِرِّ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ" (رومية 10: 4)، وقال أن "َبِهَذَا يَتَبَرَّرُ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ" (أعمال 13: 39)
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا التبرير كامل في ذاته كل الكمال، ولا يحتاج إلى عمل من جانبنا لكي يكون أكثر كمالاً، لأن الذي عمله لنا هو الله نفسه. ونظراً لأن هذا البر هو هبة مجانية لنا، يمكن أن يدعى البر الاكتسابي. وذلك تمييزاً له عن البر العملي الذي يجب أن نقوم به بتأثير الروح القدس في نفوسنا. والذي أشار إليه الرسول بالقول "لأَنَّ ثَمَرَ الرُّوحِ هو فِي كُلِّ صَلاَحٍ وَبِرٍّ وَحَقٍّ" (أفسس 5: 9) ولكن أساس قبولنا أمام الله ليس البر العملي بل البر الاكتسابي، لأن هذا البر هو الذي خلعه الله علينا في المسيح، أما البر العملي فالله يعطينا عنه جزاء خاصاً بجانب القبول الأبدي لنا في المسيح، كما يتضح من (اكورنثوس 3: 14).
أخيرا نقول أن إسناد صاحب هذا الرأي المعرفة إلى نفسه والجهل إلى الذين يعتمدون على كلمة الله وحدها، لا يضيرنا بشيء، بل يدعونا إلى الصلاة بلجاجة لأجله لكي يتقابل مع الرب أو يتقابل الرب معه، وحينئذ يعرف الحق، والحق يحرره من ذاته ومن آرائه الدينية الخاصة.
4. [المعمودية تدفن الإنسان العتيق وتعتق المعتمد من الخطية ومن سلطان إبليس، وتختن روحه وتمنحه طبيعة جديدة غير طبيعته الأولى التي تنـزع منه في المعمودية، كما تلبسه الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه وتجعله أهلاً للحصول على استحقاقات دم المسيح، وبذلك تغفر له كل خطاياه الأصلية والفعلية التي عملها لغاية المعمودية، بحيث يصير بعد خروجه منها معتقاً وطاهراً من جميع خطاياه ومحرراً من القصاص الذي كان يستحقه في الحياة الأخرى، ولذلك فليس الإيمان هو الذي يخلص، بل المعمودية هي التي تخلص].
(أ) المعمودية لا تدفن الإنسان العتيق، ولا تعتق المعتمد من الخطية ولا تختـن (أو بالحري لا تنتزع) روحه (منها)، كما أنها لا تمنحه طبيعة جديدة غير طبيعته الأولى، ولا تلبسه الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه، لأن المعمودية ليس لها في ذاتها تأثير على نفس من ينـزل فيها.
(ب) كما أن المعمودية ليست هي التي تغفر للمعتمد خطاياه، أو تحرره من القصاص الذي يستحقه عنها في الأبدية، أو تجعله أهلاً للحصول على استحقاقات دم المسيح، لأنه ليس لها أن تفي مطالب عدالة الله كما ذكرنا. ولكن الغفران والعتق من الخطية، يكونان بالتوبة والإيمان الحقيقي كما ذكرنا فيما سلف. إذ أننا بالتوبة نعلن كراهيتنا للخطية ورغبتنا في السير مع الله، وبالإيمان الحقيقي نعلن أن الله هو الذي خلصنا بمجـرد نعمتـه علينـا (أفسس 2: 8)، كما نهيء قلوبنا لسكنى الروح القدس فينا الذي يلدنا من الله ولادة ثانية (يوحنا 1: 12، أفسس 1: 13) نعتق بها من الخطية أمامه.
وقد شهد بهذه الحقيقة رجال الدين القدماء فقال بروصنيوفوس عن المؤمـن "وحينئذ تنفتح عينا قلبه وينظر النور الحقاني ويفهم أن يقول: إني بالنعمة تخلصت بالرب يسوع المسيح" (بستان الرهبان ص 181) وقال ذهبـي الفـم "لاشك إذاً فالخلاص يكون بالإيمان وليس بالأعمال" وقـال أوغسطيـنوس "بدون نعمة المسيح لا يمكن لصغير أو كبير أن يخلص. وهذه النعمة لا تعطى مقابل أي شيء صالح وإنما هي هبة مجانية، لهذا فهي تسمى نعمة: متبررين مجاناً بنعمته" (كتاب الخلاص للقمص زكريا بطرس).
(ج) فضلاً عن ذلك لو كانت المعمودية هي التي تغفر الخطايا وتحرر الإنسان من قصاصها وتجعله مقبولا أمام الله إلى الأبد، لكان من الأفضل لكل المسيحيين أن يؤجلوا عمادهم إلى أواخر حياتهم على الأرض حتى يضمنوا التمتع بهذه البركات، وهذا لا يتفق مع الوحي أو العقل على الإطلاق.
أما الحقيقة التي أعلنها الوحي من جهة دفن الإنسان العتيق والعتق من الخطية وليس الإنسان الجديد والتحرر من القصاص الأبدي، فهاك بيانها:
(أ) إننا وإن كنا لم نشترك مع المسيح في صلبه فعلاً، لكن بسبب اتخاذنا إياه نائباً عنا بالإيمان الحقيقي بشخصه (كما طلب الله منا)، يعتبر الصلب الذي وقع على المسيح فعلاً أنه وقع شرعاً علينا، أو بالحري على الإنسان العتيق أو الجسد أو الخطية الساكنة فينا، ومن ثم لا ندان بعد بسبب خطايانا.
فقد قال الرسول "عَالِمِينَ هَذَا: أن إنساننَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ" من أمـام الله (رومية 6: 6) كما قال "وَبِهِ (أي المسيح) أيضاً خُتِنْتُمْ خِتَاناً غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خطايا الْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ الْمَسِيحِ" (كولوسي 2: 12)، أي أن طبيعتنا العتيقة قد قطعت (أو خلعت) شرعاً من أمام الله ولم يعد لها وجود أمامه في صليب المسيح. وقال "إذ خَلَعْتُمُ الإنسان الْعَتِيقَ مَعَ أعمالهِ، وَلَبِسْتُمُ الْجَدِيدَ الَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ" (كولوسي 3: 9-10)، وقال أن الله "أَرْسَلَ ابنهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ وَلأجل الْخَطِيَّةِ دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ" (رومية 8: 3)، أي قضى عليها نهائياً بالموت ونجانا منها ومن قصاصها.
(ب) فبقاء الإنسان العتيق (أو الجسد أو الخطية الساكنة فينا) بعد الإيمان الحقيقي بالمسيح لا يجعلنا في مقام خطاة ولا يسلبنا مقامنا كأشخاص مخلصين أمام الله، لأنه تعالى نـزع هذا الإنسان من أمامه بموت المسيح الكفاري نيابة عنا، ولا يعود ينظر إليه كأنه فينا، ولذلك يطلب منا أن نحسب أنفسنا أيضاً أمواتا عنه. فقال الرسول: "كَذَلِكَ أَنْتُمْ أيضاً احْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أمواتاً عَنِ الْخَطِيَّةِ وَلَكِنْ أَحْيَاءً لِلَّهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا" (رومية 6: 11)، "أَيْ أن اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ" (2كورنثوس 5: 19).
(ج) فمسألة الخطية ليست بين الله وبيننا بل إنها بين الله وبين المسيح، والمسيح حقق مطالب عدالة الله بل وأكثر من مطالبه، ولا غرابة في ذلك فهذه العدالة كانت تطلب طرح جميع الأشرار في جهنم، وطرحهم في جهنم لا يعيد إلى الله حقوقه المسلوبة تماماً [إذ يكون (إن جاز التشبيه) مثل ثري سُرِقَتْ كلُّ ثروته، وبالقبض على السارق لم يوجد معه شيء من هذه الثروة. فعوقب بالطرح في السجن، ولكنه لم يرد الثروة إلى صاحبها]، ولكن بتحمل المسيح دينونة الخطية عوضاً عنا مجَّدَ الله وأكرمه، كما أتى بنا نحن الخطاة أبراراً مقدسين في شخصه، ومن ثم لنا أن نطمئن كل الاطمئنان ونستريح كل الراحة من جهة قبولنا الأبدي أمام الله في ربنا يسوع المسيح.
(د) فقبولنا الأبدي أمام الله في المسيح متوقف إذاً على عمل المسيح لأجلنا وليس على (أعمالنا لأجله) ومن ثم يجب أن نتخلص من المشغولية بطبيعتنا العتيقة وثمارها، كما نكف عن مجهوداتنا ومحاولاتنا البشرية التي نرمى بها إلى تحسين مركزنا أمام الله، وكأن عمل المسيح ناقص يحتاج إلى تكملة منا. والحال أنه كامل وكامل حسب مقاييس الله، التي تفوق عقولنا ومداركنا. كما أن المسيح بعد ما أكمل الكفارة جلس عن يمين العظمة في الأعالي ليمثلنا أمام الله، أو بالحري لكي نكون نحن ممثَّلين في شخصه أمامه تعالى. فقد قال الرسول عن المسيح "وَأَمَّا هَذَا فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ الخطايا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إلى الأبد عَنْ يَمِينِ اللهِ، لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إلى الأبد الْمُقَدَّسِينَ" (عبرانيين 10: 12-14) ولذلك نكون بلا لوم أمام الله في المسيح.
(ه) ومن ثم فمن الخطأ أن يظن البعض أن الله يطلب منا خلع الإنسان العتيق الذي فينا بالزهد والتقشف، لأن هذا الإنسان نـزعه الله من أمامه شرعاً في صليب المسيح. كما أنه لا سبيل إلى نـزعه فعلاً منا طالما نحن على الأرض لسبب ارتباطه بكياننا كل الارتباط أما ما يطلبه الله منا فهو أن نميت أعمال هذا الإنسان فقد قال الرسول "فَأَمِيتُوا أعضاءكم الَّتِي عَلَى الأرض: الزِّنَا، النَّجَاسَةَ، الْهوى، الشَّهوةَ الرَّدِيَّةَ، الطَّمَعَ الَّذِي هو عِبَادَةُ الأوثان" (كولوسي 3: 5)، وهذه الإماتة ميسورة لكل من يعيش حسب مقامه في المسيح كشخص مقبول أمام الله وساكن فيه روحه القدوس، لأن هذا الروح كفيل بأن يعتقنا من ناموس الخطية والموت (رومية 8: 3)
(و) ولما كانت المعمودية هي مثال لموتنا مع المسيح وقيامتنا معه، أو بالحري مثال لخلاصنا من الإنسان العتيق والجسد والخطية الساكنة فينا إلى الأبد، ووجودنا في حالة القبول الأبدي أمام الله في المسيح لذلك قال الرسول "مدفونين معه في المعمودية التي فيها أقمتم أيضاً معه إيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات. وإذ كنتم أموتاً في الخطايا وغلف جسدكم أحياكم معه مسامحاً لكم بجميع الخطايا" (كولوسي 2: 12-13) كما قال "أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته فدفنا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة. لأنه أن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته، عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية كي لا نعود نستعبد أيضاً للخطية، لأن الذي مات (أو بالحري اعتبر أنه مات) قد تبرأ من الخطية، فإن كنا قد متنا مع المسيح (شرعاً) نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه (فعلاً) (رومية 6: 3-8) وقال "لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ. (أمام الله) لأَنَّكُمْ جميعاً وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (غلاطية 3: 27)، أي أنكم جميعاً ظاهرون أمام الله في شخصه. وهذا هو الكمال الذي ليس بعده كمال.
(ز) وهذا المقام السامي الذي أصبح لنا في المسيح يضعنا تحت التزام أن نسلك بالقداسة في العالم الحاضر، فنخلع من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور (أفسس 4: 22)، وأن نلبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق (أفسس 4: 24) "فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللهِ الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ أحشاء رَأْفَاتٍ، وَلُطْفاً، وَتَوَاضُعاً، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أناة، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً" (كولوسي 3: 12)، وبالاختصار أن نلبس الرب يسوع المسيح ولا نصنع تدبيراً للجسد لأجل الشهوات (رومية 13: 13)، وذلك ليس طمعاً في خلاص لأن الخلاص قد تم بالمسيح إلى الأبد، ولا خوفاً من دينونة في العالم الآخر، لأن هذه قد حملها المسيح إلى الأبد أيضاً، بل إكراماً لله الذي أحبنا وأكرمنا ونحن لا نستحق محبة أو إكراماً.
(ح) أخيراً نقول: إن كنا بالولادة من الله نحصل على طبيعة روحية جديدة، وتنـزع الطبيعة العتيقة عنا من أمامه شرعاً، لكن هذه الطبيعة تبقى في نفوسنا كما ذكرنا، وبقاؤها فينا لا يقلل من مسئوليتنا إزاء السقوط في الخطية، لأنه مطلوب منا أن نقاوم حتى الدم ضدها (عبرانيين 13) وأن نسلك بالروح لئلا نكمـل شهوة الجسـد (غلاطية 5: 16) وإن قصرنا في السلوك بالروح مرة وعملنا خطية ما، نجلب على أنفسنا تأديب الله في العالم الحاضر. فقد قال الرسول "لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابن يَقْبَلُهُ" (عبرانيين 12: 4-6)
ولكن إن كان الله يؤدبنا في هذا العالم، فإنما لكي لا ندان في الأبدية. فقد قال الرسول "لأَنَّنَا لَو كُنَّا حَكَمْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا لَمَا حُكِمَ عَلَيْنَا وَلَكِنْ إذ قَدْ حُكِمَ عَلَيْنَا نُؤَدَّبُ مِنَ الرَّبِّ لكي لاَ نُدَانَ مَعَ الْعَالَمِ" (اكورنثوس 11: 32، 33)، لأن دينونة الخطية قد حملها المسيح عن المؤمنين الحقيقيين إلى الأبد.
5. [كل من يموت دون أن يعتمد، لا يمكن أن يدخل الفردوس، حتى لو كان من الأتقياء أومن الأطفال الذين لم يبلغوا من العمر إلا يوماً واحداً، وكل من يقول بدخول الأطفال غير المعمدين إلى الفردوس، يهدم عمل الفداء الذي قام به مخلصاً].
الرد: ذكرنا فيما سلف أن الخلاص هو بكفارة المسيح وحدها، لأنها هي التي وفت جميع مطالب العدل الإلهي من نحونا، ونحصل نحن على هذا الخلاص بشخصه بواسطة الإيمان الحقيقي. أما من جهة الأطفال فنقول:
(أ) أن المسؤولية، كما نعلم، لا تقع إلا على الذين يميزون بين الخير والشر. وبما أن الأطفال عامة لا يميزون بين هذا وذاك، لذلك لا تقع عليهم مسئولية شخصية أمام الله، وبالتبعية لا يعتبرون مذنبين أمامه، حتى إذا كانوا قد عملوا بالغريزة ما ندعوه "خطية".
لكن من جهة اعتبارهم خطاة شرعاً أمام الله (مثل غيرهم من الناس) بسبب تناسلهم من آدم، فنقول: نظراً لعدم إدراك الأطفال ماهية الخير والشر، فإن الله لا يسمح بأن يضاروا بخطية آدم الأول، وألا يفيدوا من خلاص آدم الأخير الذي هو المسيح (1كورنثوس 15: 45) فقد قال الوحي "ولكن ليس كالخطية هكذا أيضاً الهبة (أي أن هبة الخلاص بالمسيح لا يمكن أن تقل في آثارها عن نتائج خطية آدم)، لأنه إن كان بخطية واحد (الذي هو آدم الأول) مات الكثيرون، فبالأولى كثيراً نعمة الله والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين" (رومية 5: 15-20)، فإذا أضفنا إلى ذلك أن المسيح قال عن الأطفال أن "لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللَّهِ" (مرقس 10: 3-15) لا يبقى لدينا شك في أن الأطفال عامة لا يهلكون بفضل كفارة المسيح.
غير أنهم وإن كانوا لا يهلكون، إنما مكانتهم في الأبدية لا تكون (كما أعتقد) مثل مكانة المؤمنين الذين نما إيمانهم كثيراً وقدموا لله خدمات جليلة، بل تكون مكانتهم مثل مكانة المؤمنين العاديين الذين يخلصون بالنعمة فقط دون مكافأة ما (1كورنثوس 3: 25)
(ب) أما الاعتراض [وأي خطأ ارتكبه الأطفال حتى يحرموا من المكافأة، ولم تكن لهم الفرصة للنمو في الإيمان والقيام بشيء من الأعمال الصالحة؟] فلا يجوز الأخذ به، لأننا لا نستطيع أن نتكهن بما كان سيفعله هؤلاء الأطفال، لو كانوا قد أصبحوا رجالاً، إذ ربما كانوا يرفضون خلاص الله، وتكون نهايتهم تبعاً لذلك العذاب الأبدي. ومن ثم فإن الرأي الذي ذكرناه صواب أو قريب من الصواب.
وإذا كان ذلك كذلك، فكل من يقول بدخول الأطفال الذين لم يعتمدوا إلى الفردوس، لا يهدم عمل الفداء الذي قام به المسيح (كما يقال)، بل يحفظ لهذا العمل مكانته وقدره أمام الناس، وفي الوقت نفسه يعظم نعمة الله الغنية التي امتدت وامتدت وامتدت حتى شملت جميع البؤساء والمساكين الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم.
[1] كلمة "المعمودية" معربة من الكلمة السريانية "معموديتو"، ومعناها "الغسل لأجل التطهير" ، وهي نفس الكلمة المترجمة "غسل" في (مرقس 7: 1- 5) و(لوقا 11: 37 - 39) و(عبرانيين 9: 10) ومن كلمة المعمودية اشتقت كلمتا "اعتمد" و"عماد" وغيرهما. ومما تجدر الإشارة إليه أن جماعة السينيين من اليهود كانوا يعمدون بالماء كل وثني يتهود (للدلالة على تخلصه من وزر الوثنية)، وذلك قبل ظهور يوحنا المعمدان ببضع سنوات.
[3] : ولذلك نرى في الترجمة الإنجليزية (مثلاً) أن الحرف الأول هو (with) أما الثاني فهو (of).
[4] : أما المعمودية التي كان تلاميذ المسيح يقومون بها في بدء خدمته على الأرض، (يوحنا 4: 1)، فكان مثلها مثل معمودية يوحنا المعمدان، إذ كان الغرض منها إعداد التائبين في إسرائيل لقبول ملكوت السموات على الأرض، أو بالحري قبول المسيح ملكاً عليهم فيها كما يتضح من الكتاب المقدس.
[5] : "الماء العادي "لا يوصف بأنه طاهر أو نجس، لأن الطهارة هي الخلو من الخطية، والنجاسة هي التلوث بها، والماء لا يخطىء ولا يبتعد عن الخطية. ولذلك فإن "الماء الطاهر "المذكور أعلاه هو إشارة إلى شيء يطهر، أو بالحري يطهر القلب. وهذا الشيء (كما سيتضح فيما يلي) هو "كلمة الله "، لأنها هي التي تقوم بهذا العمل.
[6] : عبارة مجازية يراد بها نـزع القساوة من نفوسهم، وغرس روح الطاعة فيها.
[7] : حقاً إن روح الله هو الذي بعث الحياة داخل الماء في أول الأمر، فتكونت فيه الكائنات الحية، لكنه لم يقترن بالماء أو يتحد به. فضلاً عن ذلك فهناك فرق لا حد له بين بعث الروح القدس للحياة أو الحركة في الماء، والذي لم يكن يتطلب أكثر من الرفرفة الخارجية عليه (تكوين 1: 2)، وبين بعث الحياة الروحية في النفوس العاقلة، والذي يتطلب سكنى الروح القدس فيها، حتى تصبح أهلاً للتوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية.
[8] : فالخلق (مثلاً) يسند إلى كلمة الله، كما يسند إلى روح الله، فقد قال داود النبي "بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السماوات وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ (أي روحه) كُلُّ جُنُودِهَا" (مزمور 33: 6)
:[9] وإذا كان ذلك كذلك، أدركنا أن غسل الأرجل الذي قام به المسيح لتلاميذه، هو مثال لغسل القلوب مما يعلق بها من شر، وذلك بوضعها تحت تأثير كلمة الله الفعالة. والدليل على ذلك أن المسيح قال لبطرس "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ" (يوحنا 13: 8)، والذي يحرم المؤمن من أن يكون له نصيب مع المسيح، ليس عدم غسل رجليه بل عدم نقاوة قلبه. وقس على ذلك قول النبي "أَغْسِلُ يَدَيَّ فِي النقاوة" (مزمور 26: 6)، فإنه يراد بالغسل الوارد فيه، الغسل بالكلمة، لأنها هي التي تنقى الإنسان وتؤهله للوجود مع الله، لاسيما وأن النبي لـم يقـل (أغسل يدي بالماء)، بل قال "اغسل يدي بالنقاوة". والنقاوة أمر معنوي لا مادي.
[10] : ولكن مما يؤسف له أن نيقوديموس بمعلوماته الناموسية الضخمة، لم تكن له فطنة روحية أكثر من السامرية وعامة اليهود. فالسامرية ظنت أن الماء الذي وعدها المسيح به هو الماء المادي (يوحنا 4) وبعض عامة اليهود ظنوا أن المسيح سيقدم لهم جسده ليأكلوه بأفواههم (يوحنا 6)، وهكذا الحال من جهة التلاميذ أنفسهم، فقد ظنوا أن الخمير الذي حذرهم المسيح منه هو الخبز العادي (متى 16: 6)، وأن السيف الذي طلب من كل منهم أن يشتريه هو السيف المادي (لوقا 22: 38).
[11] : فقد قال بطرس الرسول أيضاً "مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأموات" (ابطرس 1: 3).
[12] : وقد أشار يوحنا المعمدان قديماً إلى هذه الحقيقة فقال لليهود "أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ وَلَكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هو أَقْوَى مِنِّي الَّذِي لَسْتُ أهلاً أن أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هو سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ" (متى 3: 11)، ومن ثم يكون عماد القلب بالروح القدس (أو بالحري ولادة الإنسان من الله ولادة ثانية) هو العماد الأساسي الذي يحتاج إليه الناس قبل كل شيء آخر، لأنه هو الذي يؤهلهم للتوافق مع الله والتمتع به إلى الأبد.
[13] : مما تجدر الإشارة إليه في هذه المناسبة أنه جاء في كتاب "الذيذياخي "الذي يرجع تاريخه إلى القرن الثاني (كما يقال): "إن المعمودية تكون في ماء حي (أو بالحري ماء جار مثل ماء الأنهار) فإن لم يكن عندك ماء حي، عمد في ماء آخر. وإن لم تستطع في ماء بارد، ففي ماء دافيء. وإن لم يكن لديك كلاهما، فصب الماء على الرأس ثلاثاً باسم الآب والابن والروح القدس" (الآباء في القرون الثلاثة الأولى ص 51)، ولعل هذا هو السبب في أن بعض الطوائف المسيحية في الوقت الحاضر تعمد بواسطة الرش في بعض الأحـيان، وإن كانت القاعدة الكتـابية هي النـزول في الماء والصعود منه.
[14] : ظن بعض المؤرخين أن هذه العبارة هي عن المعمودية بالماء، ولكنها في الواقع عن معمودية الروح القدس (أو بالحري الولادة الثانية من الله)، لأنها هي وحدها التي لها الأثر المذكور أعلاه.
[15] : فقد قال الوحي "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإيمان، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هو عَطِيَّةُ اللهِ" (أفسس 2: 8) كما قال "آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ" (أعمال 16: 31)، وقال "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ (أي بالمسيح) لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ" (يوحنا 3: 18) وقال "لأَنَّكَ أن اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أن اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأموات خَلَصْتَ" (رومية 10: 9) وقال "نَائلِينَ غَايَةَ إيمانكُمْ خَلاَصَ النُّفُوسِ (أو بالحري نفوسكم أنتم)" (1 بطرس 1: 9) وقال "أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ (أي بالمسيح) يَنَالُ بِاسمهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا" (أعمال 10: 43) وقال "حَتَّى يَنَالُوا بِالإيمان بِي غُفْرَانَ الْخَطَايَا" (أعمال 26: 18) – أي غفراناً عن كل الخطايا، وليس عن خطية آدم وحدها، كنا يظن بعض المسيحيين.
أما السبب في أن الخلاص والغفران هما بالإيمان (أو بالحري بالإيمان الحقيقي)، فيرجع إلى أن المسيح بموته على الصليب كفر عن كل خطايا المؤمنين الحقيقيين وحقق كل مطالب عدالة الله وقداسته مـن نحـوهم (عبرانيين 9: 12)، ومن ثم أكملهم إلى الأبد (عبرانيين 10: 14) وإذا كان ذلك كذلك، لا يكون المسيح قد ترك لهم عملاً يقومون به للحصول على الخلاص والقبول أمام الله، سوى الإيمان الحقيقي به – وهذا الإيمان (كما يتضح من الكتاب المقدس) ليس مجرد الاعتراف بالمسيح، بل هو قبوله في النفس قبولاً تولد به من الله ولادة ثانية تجعلها أهلاً للتوافق معه في صفاته الأدبية السامية.
[16] : فضلاً عن ذلك، فالمعمودية دليل على الانتساب إلى المسيح (غلاطية 4: 27) والتطهر القلبي بدمه الكريم (رؤيا 1: 5) وهبوط خطايانا في الأعماق وعدم امكانية ظهو رها بعد أمام الله (ميخا 7: 19، عبرانيين 8: 12) كما كانت الحال مع فرعون وجيوشه قديماً. كما أن المعمودية بوصفها قد حلت محل الختان القديم، هي علامة لختان القلب والتحرر من الجسد (أعمال 7: 51، تثنية 10: 16)، والختم الظاهري على أن المؤمن أصبح ملكاً لله (رومية 4: 12) وبالإضافة إلى ذلك فإنها اعتراف بأن الله هو الآب والابن والروح القدس (متى 28: 19)، وبأن للمؤمن امتياز التمتع بكل بركـات الله فـي المسيـح (أفسس 1: 3 – 6) ومن ثم فالإيمان هو الجوهر والمعمودية هي المظهر (أو كما قال أحدهم: أن الإيمان مثل اللحن الكامن في نفس الموسيقى، والمعمودية مثل توقيع هذا اللحن في الخارج) لكن كما أن الختان لم ينفع اليهود بشيء إلا مع حفظ الناموس (رومية 2: 25) هكذا الحال من جهة المعمودية، فإنها لا تجدي على المرء خيراً أن لم يكن مؤمناً حقيقاً.
أخيرا نقول: إذ تأملنا الآيات "جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا دُعِيتُمْ أيضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ الْوَاحِدِ. رَبٌّ وَاحِدٌ، إيمان وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، إِلَهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، الَّذِي عَلَى الْكُلِّ وَبِالْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ" (أفسس 4: 4 – 6)، اتضح لنا أن المعمودية هي أيضاً (إحدى الروابط الهامة التي تربط جميع المسيحيين وتجمعـهم معاً (على الرغم من اختلاف طوائفهم) تحت علم واحد هو علم المسيح.
: [17] هذا مع ملاحظة أنه ليس كل من يعتمد يكون مؤمناً حقيقياً، لأن العماد شيء والإيمان شيء آخر، والدليل على ذلك أن كثيرين من المعتمدين يعيشون بعيداً عن الله، الأمر الذي لا يتوافق مع الإيمان الحقيقي، ومن ثم فإنهم سيهلكون إلى الأبد على الرغم من عمادهم.
[18] : فمعمودية يوحنا تختلف إذاً عن المعمودية المسيحية اختلافاً كبيراً. فالأولى كانت للدلالة على تهيئة المعتمدين التائبين لقبول ملكوت السموات على الأرض أو بالحري لقبول المسيح ملكاً عليهم فيها (متى 3: 1 – 2)، أما المعمودية المسيحية فللدلالة على أنه كما يغسل الماء الجسد يطهر دم المسيح القلب، كما أنها للاعتراف بأن الله هو الآب والابن والروح القدس و... و. ..كما ذكرنا فيما سلف. ولذلك فالذين اعتمدوا مرة بمعمودية يوحنا، اعتمدوا مرة ثانية بالمعمودية المسيحية عندما آمنوا بالمسيح (أعمال 19: 5).
[19] : مما تجدر الإشارة إليه في هذه المناسبة أن الشمامسة، أو بالحري الأشخاص الذين كانوا يقامون لرعاية الأرامل والأيتام في القرون الأولى (أعمال6: 1 –6)، كانوا هم الذين يعمدون الداخلين إلى المسيحية، كما كانوا هم الذين يقدمون العشاء الرباني لهم وللمؤمنين عامة (الخريدة النفيسة ج1 ص 147–156 وآباء الكنيسة في القرون الثلاثة الأولى ص 32) الأمر الذي يدل على أن المسيحيين القدماء كانوا لا يعتقدون أن المعمودية والعشاء الرباني سران إلهيان، لأنهم لو كان يعتقدون أنهما كذلك، لكانوا قد أسندوا القيام بهما، إلى الأشخاص الذين أقاموهم كهنة فحسب.
[20] : وقد نادى بهذا الملك أعظم علماء الدين في القرون الثلاثة الأولى مثل بابياس ويوستينوس وايريناوس. كما نادى به كثيرون من الإنجيليين والأرثوذكس في العصر الحديث. نذكر من الفريق الثاني ابن كاتب قيصر (قانون الأرثوذكسية ص 180- 183) وعريان مفتاح (الدرة البهية ص 62) – وقد تحدثنا عن هذا الموضوع بشيء من التفصيل في كتاب "الإيمان والأعمال"، ولذلك نكتفي هنا بهذه الإشارة.
[21] : ولذلك وردت في النسخ الإنجليزية (مثلاً) through.
[22] الترجمة الكاثوليكية لهذه الآية هي "... .بالماء الذي المرموز إليه به أي المعمودية المراد بها لا إزالة القذر عن الجسد بل اختبار الضمير الصالح لدى الله، يخلصكم الآن بقيامة يسوع المسيح"– ومن هذه الترجمة يتضح لنا أن ماء الطوفان هو رمز أو مثال لماء المعمودية، وأن الخلاص هو بقيامة المسيح وليس بالمعمودية، كما سنذكر أعلاه.
[23] : ففقد كانت هناك المرحضة أمام القدس والماء الممزوج برماد البقرة الحمراء (عدد 19: 1-9) لكي يتطهر به الذين يتنجسون، كما كانت هناك أجران الماء في البيوت (يوحنا 3: 6)، لكي يغتسل الناس بعد عودتهم من أعمالهم ومن معاملاتهم مع الآخرين.
[24] : وإذا كان ذلك كذلك، فأي راحة يجب أن تكون لنا في ضمائرنا نحن الذين نعتمد ليس على ذبائح حيوانية، بل على ذبيحة المسيح نفسها، هذه الذبيحة التي وفت جميع مطالب عدالة الله إلى الأبد.
[25] : إننا لا ننكر أن بعض المسيحيين القدماء كانوا يقولون أن المعمودية واسطة للحصول على الغفران. ولكننا لسنا تحت التزام أن نعتقد بما كانوا يعتقدون، لأننا لا نبني إيماننا على أقوال البشر، بل على كلمة الله وحدها. إذ أن البشر مهما كانت تقواهم ليسوا معصومين من الخطأ سواء في السلوك أم في التعليم. وعلى كل، فالاعتقاد بأن المعمودية واسطة لغفران الخطايا لم يظهر إلا في النصف الأخير من القرن الرابع، لأن نص هذا الاعتقاد لم يضم إلى القانون المسمى "قانون الإيمان" إلا بواسطة مجمع القسطنطينية سنة 381م. وفي هذا الوقت (كما نعلم من تاريخ الكنيسة) كان قد اختفى عند الكثيرين التعليم الكتابي بأن الغفران هو بالإيمان الحقيقي بالمسيح، وحل محله أن هذا الغفران يكون بالصوم والصلاة أو بالصدقة وشفاعة القديسين، أو بالاعتراف لرجال الدين والتناول من العشاء الرباني، الأمر الذي يدل على أن كل فريق من المسيحيين كان يسير وقتئذ وراء آراءه الشخصية وليس وراء كلمة الله.
[26] : أما القول (إن مؤمني العهد القديم دخلوا السماء لأن المسيح كرز لهم في الهاوية بعد صلبه)، ففضلاً عن أنه لا نصيب له من الصواب كما يتضح من الفصل الرابع فهو شهادة من أصحابه على أن قبول الكرازة وليس ممارسة المعمودية، هو السبيل للتمتع بالله في سماءه. كما أن القول (بأن اللص خلص لأنه بموته على الصليب قد اعتمد بمعمودية الدم، وهذه المعمودية تحل محله معمودية الماء)، هو تأليف بشري لتبرير الاعتقاد بأن الخلاص يكون بالمعمودية، إذ أن الكتاب المقدس يعلن لنا أن اللص المذكور قد خلص لشعوره بخطيته واعترافه باستحقاقه للموت بسببها، وإيمانه بعد ذلك بالمسيح إيماناً حقيقياً. وهكذا الحال من جهة الشهداء القديسين (الذين لم يعتمدوا)، فهم خلصوا ليس لأنهم سفكوا دماهم من أجل المسيح، بل لأنهم آمنوا بالمسيح الذي سفك دمه لأجلهم.
[27] : مما تجدر الإشارة إليه في هذه المناسبة أن الناس في بعض البلاد المسيحية يفرقون بين المؤمن الحقيقي وبين المؤمن بالاسم بكل سهولة، فإذا قابلت شخصاً من عائلة مسيحية، يواظب على الذهاب إلى الكنيسة دون أن يكون مولوداً من الله وسألته: "هل أنت مسيحي؟" أو "هل أنت مؤمن؟" يجيبك على الفور "لا!" أو "أتمنى!".
[28] كما أننا إذا تطلعنا إلى الكتاب المقدس نرى أنه أشار إلى علامات خارجية تدل على معان روحية فمثلاً: رفع الأيدي أثناء الصلاة (1تيموثاوس 2: 8) علامة لرفع القلب إلى الله. والسجود أمامـه (يوحنا 4: 21) علامة لسكب القلب بالحب والولاء له، فهل نبطل استعمال هاتين العلامتين لأنهما مجرد علامتين، أم ندعي أنهما حقيقتان روحيتان لا تستجاب الصلاة إلا بواسطتهما، كما يقول الأرثوذكس والكاثوليك من جهة المعمودية إنه لا خلاص بدونها؟!
[29] - مما تجدر الاشارة إليه أن هذا القول يشبه قولهم عن العشاء الرباني (إن المسيح ضحى بجسده ودمه بطريقة سرية في الخبز والخمر اللذين أعطاهما لتلاميذه قبل صلبه، حتى أن كل من يتناول منهما تكون قد حلت عليه الدينونة التي يستحقها بسبب خطاياه، وبذلك تغفر له)، ونظراً لأننا تحدثنا عن هذا الموضوع بإسهاب في كتاب العشاء الرباني، لا نجد داعياً لإعادة ما كتبناه الآن عنه.
- عدد الزيارات: 15859