Skip to main content

الاعتقاد بإمكانية خلاص الخطاة بعد موتهم

إن الفرصة التي يمكن أن يتمتع بها الإنسان بالخلاص، هي فرصة وجوده في العالم الحاضر، لأنه يستطيع في هذا العالم أن يتوب عن الخطية على الرغم من مغرياتها الكثيرة. كما يستطيع أن يؤمن إيماناً حقيقياً يولد به من الله ولادة روحية تجعله أهلاً للتوافق معه في صفاته الأدبية السامية، ومن ثم فالقول بوجود فرصة لخلاص الخطاة بعد موتهم، بواسطة صلاة رجال الدين لأجلهم كما يقول الأرثوذكس والكاثوليك، لا نصيب له من الصواب كما يتضح مما يلي:

أولاً: أساس الاعتقاد بإمكانية خلاص الخطاة بعد موتهم:

1. [نظراً لأنه ليس هناك مجال للتمتع بالسماء إلا على أساس كفارة المسيح، فإن جميع مؤمني العهد القديم مثل إبراهيم وإسحق ويعقوب ظلوا في الجحيم بسبب خطاياهم، حتى نـزل المسيح إليهم بعد موته الكفاري على الصليب وخلصهم].

الرد: (أ) فضلاً عن أنه ليست هناك آية في الكتاب المقدس تدل على أن المسيح نـزل إلى الجحيم بعد موته الكفاري على الصليب، وفضلاً عن أن الفرصة التي يمكن للمرء أن يتمتع فيها بالخلاص هي فرصة الحياة الحاضرة، لأنها هي الفرصة التي يستطيع فيها أن يتوب عن الخطية ويؤمن بالمسيح إيماناً حقيقياً يولد به من الله ولادة روحية، تجعله أهلاً للتوافق معه في صفاته السامية كما ذكرنا نقول:

(أ) ليست هناك آية في الكتاب المقدس تدل على أن إبراهيم وإسحق ويعقوب قد ذهبوا إلى الجحيم بعد انطلاقهم من العالم الحاضر. لأن المسيح وإن كان قد قدم نفسه كفارة على الصليب بعد موت هؤلاء المؤمنين بمئات السنين، لكن كفارته كانت معروفة لدى الله قبل إنشاء العالم. فقد قال الوحي عن المسيح "الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ" (عبرانيين 9: 14) وقال للمؤمنين "عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أو ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ" (ابطرس 1: 18-20) ومن البديهي أن يكون الأمر كذلك لأن الله يتصف بالمحبة أزلاً، والفداء لا يخرج عن كونه مظهراً من مظاهر المحبة، ومن ثم فإن روح الفداء ليس دخيلاً على الله بل أصلي فيه، مثل صفاته الذاتية الأخرى. ومن ثم فالله (بلغة الفلاسفة) فاد بالقوة في الازل وفاد بالفعل في الزمن.

(ب) ولذلك إذا رجعنا إلى العهد القديم، نرى أن الله كان يدعو القدماء إلى التوبة عن خطاياهم، وتقديم الذبائح الكفارية عن نفوسهم، وكانوا عندما يقومون بهذين العملين يعلن لهم الصفح والغفران (لاويين 6: 6-7)، ليس لأن التوبة والذبيحة الحيوانية كانتا كافيتين للتكفير عن الخطية، بل لأن الأولى كانت الدليل على الرغبة في الخلاص من الخطية، وأن الثانية كانت رمزاً للمسيح الذي يستطيع التكفير عنها. فكفارة المسيح لا تمتد فقط إلى المستقبل لكي تخلص الذين أتوا ويأتون بعدها من المؤمنين الحقيقيين، بل امتدت أيضاً إلى الماضي وخلصت كل المؤمنين الحقيقيين الذين عاشوا قبل الصليب، مرموزاً اليها بالذبائح الطاهرة التي أمرهم الله بتقديمها عوضاً عن نفوسهم. ومما يثبت ذلك أن أخنوخ وايليا الذين صعدا إلى السماء دون أن يريا الموت، وإبراهيم وموسى وغيرهما من مؤمني العهد القديم الذين ماتوا قبل مجيء المسيح إلى الأرض، قد دخلوا جميعاً إلى المجد بعد انتقالهم من العالم الحاضر مباشرة، كما يتضح من (عبرانيين 11: 15، لوقا 1: 22، متى 17: 3)، وقد أشار الوحي إلى معرفة هؤلاء المؤمنيـن بالمسيح (أو بالحري بكفارته) قبـل مجيئـه إلى الأرض، فسجـل عن إبراهيم أنه رأى بالإيمان يوم المسيح (أو بالحري يوم خلاصه للبشرية) فتهلل وفرح (يوحنا 8: 56) وسجل عن موسى أنه رأى بالإيمان صليب المسيح وخلاصه للبشرية، ولذلك احتقر قصر فرعون وازدراه (عبرانيين 11: 6)

2. [إن الله قال للمسيح قبل تجسده "أَنَا الرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ وَنُوراً لِلأُمَمِ لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ" (إشعياء 42: 6-7) وهذا دليل على أن المسيح كرز للذين انطلقوا إلى السجن بعد موتهم، فخرجوا منه].

الرد: (أ) بالتأمل في هذه الآيات يتضح لنا أن الخدمة الواردة بها، هي خدمة المسيح التي قام بها عندما كان على الأرض. وذلك للأسباب الآتية:

(1) لو كان المسيح قد قام بالخدمة المذكورة للأرواح التي في السجن، لما كانت تقابل بالمقاومة منهم، ولما كان الأمر يتطلب أن يعضد الله المسيح على أدائها، إذ أن جميع الأرواح كانت تقبل خدمته بسرعة لكي تخلص من السجن وآلامه. أما خدمته في العالم (كما يتضح من الكتاب المقدس)، فكانت تقابل بمقاومة عنيفة من وقت إلى آخر، ولذلك كانت تتطلب تعضيد الله له في إدائها، لأنه من الناحية الإنسانية كان يحتاج إلى التعضيد (2) إن جعل المسيح عهداً للشعب (أو بالحري لليهود) ونوراً للأمم (أو بالحري للأمم الوثنية) كما هو وارد في الآيات التي نحن بصددها، لا يمكن تطبيقه إلا على خدمته في العالم الحاضر، لأن السجن (أو الهاوية) ليس به يهود وأمم، إذ أن الكل هناك أرواح مجردة لا فرق في ذلك بين جنس وآخر على الإطلاق

(3) أخيراً نقول أن المسيح نفسه اقتبس هذه الآيات عندما كان في العالم للتعبير عن خدمته فيه، فقد قال "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي لْحُرِّيَّةِ" (لوقا 4: 18)، ولذلك ليس هناك مجال للظن بأن الآيات المذكورة يراد بها أن المسيح قام بالكرازة للأرواح التي في السجن أو الهاوية.

(ب) وإذا كان ذلك كذلك، علمنا أن كلمة "الحبس" أو السجن" مستعملة هنا مجازاً للتعبيـر عن الدائرة الضيقـة التعسة التي يزج الخطـاة أنفسهم فيها. وأن كلمة "المأسورين" مستعملة مجازاً للتعبير عن الخطاة، من جهة كونهم عبيداً للخطية وأسرى لها. وأن كلمة "الظلمة" مستعملة مجازاً للتعبير عن الجهل المطبق الذي يعيش فيه هؤلاء الخطاة، ومما يثبت ذلك أن الوحي الإلهي أعلن لنا أن من يفعل الخطية هو عبد للخطية (يوحنا 8: 34)، وأن إبليس اقتنص الخطاة لإرادته (2تيموثاوس 3: 25)، كما أعمى أذهانهم عن معرفة الله (3كورنثوس 3: 4) ومن الناحية الأخرى أعلن لنا أن المسيح هو الذي يحرر الخطاة من خطاياهم (يوحنا 8: 36)، كما أنه هو النور الذي يضيء لهم السبيل في العالم الحاضر (يوحنا 8: 12)

3. [إن الرسـول بولس قـال عن مؤمني العهـد القديـم: "فَهَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ، مَشْهوداً لَهُمْ بِالإيمان، لَمْ يَنَالُوا الْمَوْعِدَ، إذ سَبَقَ اللهُ فَنَظَرَ لَنَا شيئاً أَفْضَلَ، لكي لاَ يُكْمَلُوا بِدُونِنَا" (عبرانيين 11: 39-40)، وهذا دليل على أن المسيح كرز لهم بعد موته لكي ينالوا المواعيد ويصبحوا كاملين].

الرد: (أ) إن قول الرسول عن هؤلاء المؤمنين أنهم لم ينالوا المواعيد وأنهم لا يكملون بدوننا، لا يستنتج منه أن المسيح ذهب بعد الصليب وكرز لهم بالإنجيل، لأنه لو كان قد فعل ذلك، لكانوا قد قبلوه، ولكانوا تبعاً لذلك قد نالوا المواعيد وبلغوا الكمال الذي أعده الله لهم. ولكنهم (كما يتضح من هذه الآيات) لم ينالوا المواعيد بعد، أو بالحري لم يبلغوا بعد الكمال الذي أعده الله لهم ولنا معاً.

(ب) وإذا كان ذلك كذلك، أدركنا أن عدم تكميل مؤمني العهد القديم بدوننا (أو بالحري بدون تكميلنا نحن) يراد به أنهم لن يلبسوا الأجساد الممجدة (التي تشبه جسد المسيح الممجد في السماء (لأن هذا هو الكمال الذي يتوقعه كل المؤمنين في كل زمان ومكان) طالما نحن لا نـزال في العالم الحاضر. بل تظل أرواحهم كما هي أرواحاً مجردة حتى يأتي المسيح في المرة الثانية، وحينئذ يحضرها مع أرواح مؤمني العهد الجديد (الذين يكونون قد رقدوا وقتئذ) لكي تلبس كل هذه الأرواح معاً الأجساد الممجدة. وبعد ذلك مباشرة يغير أجساد المؤمنين الذين يكونون أحياء على الأرض وقتئذ إلى مثل هذه الأجساد، ويأخذ الفريقين معاً إلى مجده الأبدي. فمكتوب "كَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ التُّرَابِيِّ (أدم) سَنَلْبَسُ أيضاً صُورَةَ (المسيح) السماوي. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ فَيُقَامُ الأموات (أي المؤمنون الحقيقيون الذين يكونون قد ماتوا وقتئذ) عَدِيمِي فَسَادٍ (أي بأجساد ممجدة غير قابلة للفساد) وَنَحْنُ (أي المؤمنون الحقيقيون الذين يكونون أحياء على الأرض عند مجيئه) نَتَغَيَّرُ" (1كورنثوس 15: 42- 48)، أي نتغير إلى "صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ" (فليبى 3: 21)

4. [إن المسيح قال على لسان داود النبي "لِذَلِكَ فَرِحَ قَلْبِي وَابْتَهَجَتْ رُوحِي. جَسَدِي أيضاً يَسْكُنُ مُطْمَئنّاً. لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الهاوية. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَاداً" (مزمور 16: 9-10) وهذا دليل على أن روح المسيح ذهبت إلى الهاوية بعد الصليب، لكي تكرز للأرواح التي كانت فيها].

الرد: لا يستنتج من هذه الآيات أن المسيح ذهب بالروح إلى الهاوية للكرازة وذلك لسببين (الأول) أن المسيح فرح وابتهج لأن الله لم يترك نفسه في الهاوية، والكرازه ليست بالأمر المحزن الذي يفرح المسيح ويبهج عندما يتركه (الثاني) لو كان المسيح ذهب بالروح إلى الهاوية للكرازة، لكان يغادر الهاوية من تلقاء ذاته عند انتهاء الكرازة، ولم يكن هناك داع لأن يخاطب الله بالقول "لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الهاوية. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَاداً "وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الهاوية، وما الغرض من ذهاب المسيح إليها؟ للإجابة عن هذين السؤالين نقول:

(أ) إن الهاوية لا يراد بها مقر عذاب الاشرار الأبدي المعروف بجهنم[1] والتي وصفها الوحي بأن نارها لا تطفأ ودودها لا يموت (مرقس 9: 46)، بل يراد بها القبر كما جاء في (تكوين 42: 38، وأيوب 14: 13، ومزمور 98: 43، واكورنثوس 15: 55)، كما يراد بها أيضاً العالم غير المنظور الذي تذهب إليه الأرواح بعد انطلاقها من أجسادها، وتمكث فيه حتى يتقرر مصيرها الأبدي كما جاء في (لوقا 16: 23، ومزمور 9: 17) وبالرجوع إلى العهد القديم لا نعثر على كلمة خاصة يعبر بها عن المكان الذي تنتقل إليه أرواح المؤمنين الحقيقيين أوكلمة أخرى يعبر بها عن المكان الذي تنتقل إليه أرواح غيرهم من الناس، ولذلك كان يقال عن جميع الأرواح إنها تذهب إلى الهاوية [2]بعد مغادرتها لأجسادها.

(ب) أما في العهد الجديد فقد رفع الوحي الستار عن المكان الذي تذهب إليه الأرواح بعد انطلاقها من أجسادها، فأعلن أن أرواح المؤمنين الحقيقيين تنطلق إلى الفردوس أو السماء الثالثة (2كورنثوس 12: 1-4) وأن أرواح غيرهم من الناس تنحدر إلى السجن أو الهاوية. فعن المكان الأول قال المسيح للص الذي آمن به عندما كان معلقاً على الصليب "إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ" (لوقا 23: 43)، ومن جهة المكان الثاني قال المسيح عن الغني الذي لم تكن له علاقة بالله، "فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الهاوية" (لوقا 16: 22)، أو "وهو في السجن" بحسب تعبير بطرس الرسول.

وغني عن البيان أن أرواح الابرار بمجرد دخولها إلى الفردوس يشع عليها المجد الأبدي الذي ستنتقل إليه عند مجىء المسيح في المرة الثانية فتفرح وتبتهج، ولذلك قال بولس الرسول "لِيَ اشْتِهَاءٌ أن أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً" (فيلبى 1: 23)، وإن أرواح الاشرار بمجرد دخولها إلى السجن أو الهاوية تشعر بنار جهنم التي ستنتقل إليها بعد دينونة الأموات أمام العرش العظيم الأبيض. فتحزن وتولول. ولذلك قيل عن الغني السابق ذكره أنه "رَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الهاوية وَهو فِي الْعَذَابِ"، وإذا كان ذلك كذلك، أدركنا أنه لوكان داود النبي الذي نطق بالآيات التي نحن بصددها، قد استعمل لغة العهد الجديد، لكان قد قال بلسان المسيح "لن تترك نفسي في الفردوس"، لأن نفس المسيح ذهبت إلى الفردوس بعد موته على الصليب (لوقا 23: 43)

(ج) مما تقدم يتضح لنا أن معنى الآيات التي نحن بصددها، ينحصر في أن الله لم يكن ليترك روح المسيح الإنسانية في الهاوية (أو بالحري في الفردوس) إلى يوم القيامة، مثل أرواح القديسين الذين ماتوا من قبل، لأن المسيح لم يكن إنساناً عادياً ولا كان موته موتاً عادياً، حتى تبقى روحه مع أرواحهم هناك إلى هذا اليوم، بل كان هو ابن الله الوحيد، كما أن موته كان موتاً كفارياً لتحقيق مطالب عدالة الله وقداسته، الأمر الذي لا يشاركه فيه كائن ما. ولذلك لم تمر على موته المدة التي يحسب على أساسها الموت موتاً (وهي ثلاثة أيام شرعية) حتى أعاد الله روحه إلى جسده وأقامه ظافراً. وقد أشار الوحي في موضع آخر إلى هذه الحقيقة، فسجل أن المسيح قال منذ القديم "وَلاَ تُطْبِقِ الهاوية عَلَيَّ فَاهَا" (مزمور 69: 15)، أي لا تكون لها سلطة عليه كما لها على الناس جميعاً.

5. [ليس من المعقول أن روح المسيح كانت بلا عمل من وقت موته إلى قيامته، ومن ثم لابد أنها كانت تكرز لأرواح الذين في الهاوية].

الرد: فضلاً عن أنه ليس لنا أن نستنتج استنتاجاً لم يشر إليه الكتاب المقدس، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذه الحجة نقول: إن المسيح قال قبل موته على الصليب للص الذي تاب وآمن به "اليوم تكون معي في الفردوس" ثم قال بعد ذلك للآب "يا أبتاه في يدك أستودع روحي"، وقوله هذا وذاك دليل على أن روحه الإنسانية[3] لم تذهب إلى الهاوية لكي تكرز بالإنجيل لأرواح أي فريق من الناس، بل ذهبت إلى الفردوس لكي تكون مع الآب. ووجودها معه هناك، وإن لم يعد بفائدة على الذين كانوا في الهاوية[4]، كما لم يعد بفائدة على الذين ظلوا في شرورهم عندما كان المسيح على الأرض، لكن مما لا شك فيه أن روح المسيح أدخلت سرورا عظيما إلى النفوس التي كانت في الفردوس، كما فعلت من قبل عندما كان المسيح على الأرض، في نفوس المؤمنين الذين كانوا عليها (لوقا 2: 38)

6. [إن بطرس الرسول قال للمؤمنين "فَإِنَّ الْمَسِيحَ أيضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أجل الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أجل الأَثَمَةِ، لكي يُقَرِّبَنَا إلى اللهِ، مُمَاتاً فِي الْجَسَدِ وَلَكِنْ مُحْيىً فِي الرُّوحِ، الَّذِي فِيهِ أيضاً ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأرواح الَّتِي فِي السِّجْنِ، إذ عَصَتْ قَدِيماً، حِينَ كَانَتْ أَنَاةُ اللهِ تَنْتَظِرُ مَرَّةً فِي أيام نُوحٍ" (1بطرس 3: 18-20)، وهذا دليل على أن المسيح كرز في الروح لأرواح الذين سبقوه، لكي تخلص من السجن].

الرد: إذا تأملنا هذه الآيات بمفردها نرى أنها لا تدل على أن المسيح كرز في الروح لمؤمنين عاشوا في العهد القديم، بل كرز لعصاة عاشوا في عصر نوح فحسب. ولكن إذا تأملناها في ضوء الوحي الإلهي عامة، نرى انه لا يمكن أن يكون المراد بها أن المسيح ذهب في الروح لكي يكرز لهؤلاء العصاة، لأنهم كانوا قد سمعوا الكرازة من نوح زهاء ما)ة عام دون أن يتوبوا، وليس من العدالة في شيء أن يذهب المسيح بعد ذلك إليهم ليكرز لهم في السجن، دون الموتى الذين لم تكن لديهم فرصة طويلة لسماع الكرازة مثلهم.

وإذا كان ذلك كذلك، فمن هو الذي قام بالكرازة الوارد ذكرها في الآيات التي نحن بصددها، ولمن ومتى قام بها؟ (الجواب) بما أن هذه الآيات تنص على أن الكرازة حدثت حين كانت أناة الله تنتظر مرة في أيام نوح، وبما أن الوحي يسجل لنا في موضع آخر أن نوحاً كان كارزاً للبر (2 بطرس 2: 5)، إذاً يكون هو الذي قام بهذه الكرازة للعصاة الذين كانوا في عصره، وذلك أثناء المدة الطويلة التي كان يبني فيها الفلك، والتي كان الله يظهر فيها طول أناته عليهم.

وإزاء هذه الحقيقة يعترض البعض بالقول [إن الآيات السابق ذكرها تنص على أن روح المسيح هو الذي كرز، وأنه كرز ليس لأشخاص في الجسد بل لأرواح، وأنه كرز لها ليس على الأرض بل في السجن، ومن ثم لا يمكن أن يكون المراد بهذه الآيات أن نوحاً هو الذي كرز للعصاة الذين كانوا في عصره], وللرد على ذلك نقول:

(أ) إن الكتاب المقدس يعلن لنا أن روح المسيح هو بعينه الروح القدس الذي كان يتكلم في الأنبياء قديما، وقد سمي بهذا الاسم لأنه كان يشهد على ألسنتهم عن المسيح. فقد قال بطرس الرسول (الذي سجل الآيات التي نحن بصددها) للمؤمنين عن الخلاص، "الْخَلاَصَ الَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ (العهد القديم)، الَّذِينَ تَنَبَّأوا عَنِ النِّعْمَةِ الَّتِي لأجلكُمْ، بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أو مَا الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الْمَسِيحِ الَّذِي فِيهِمْ" (1بطرس 1: 11)، ولذلك لا مجال للاعتراض على التفسير أن نوحاً هو الذي قام بالكرازة المذكورة، لأنه كان الواسطة المنظورة التي استخدمها روح المسيح (أو الروح القدس) للقيام بهذه الكرازة.

(ب) أن العصاة الذين كرز لهم نوح، كانوا أرواحاً عندما كتب بطرس الرسول الآيات التي نحن بصددها، ومن ثم كان من البديهي أن يتحدث الرسول عنهم في هذه الآيات كأرواح، وذلك باعتبار ما كانوا وقتئذ. وإذا كان الأمر كذلك فلا مجال للاعتراض على التفسير أن الكرازة كانت للأرواح، لأنها كانت لهذه الأرواح عندما كانت في أجسادها على الأرض.

(ج) كما أننا إذا تأملنا الآيات المذكورة بشيء من التدقيق، يتضح لنا أنها لا تقول عن المسيح إنه ذهب في الروح إلى السجن ليكرز للأرواح التي فيه، بل تقول "كرز للأرواح التي في السجن "ومن ثم فليست الكرازة هي التي كانت في السجن، بل هذه الأرواح هي التي كانت فيه. وإذا كان ذلك كذلك، يكون الوحي قد قصد بهذه الآيات أن يعلن لنا أن العصاة الذين رفضوا كرازة نوح لهم، عندما كانوا في أجسادهم على الأرض، توجد أرواحهم الآن في السجن وذلك لكيلا يعصى الآن أحد من البشر صوت الله مثلهم، فيكون مآله مآلهم.

(د) فإذا أضفنا إلى ذلك (أولاً) أنه ليس هناك مجال للكرازة للأرواح بعد انطلاقها من أجسادها، فقد قال الوحي "وُضِعَ لِلنَّاسِ أن يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّيْنُونَةُ" (عبرانين 9: 27) (ثانياً) أن أرواح الأشرار لا يمكن أن تنتقل من الهاوية إلى السماء، لأن بينها وبين السماء هوة عظيمة لا يستطاع عبورها مهما كانت الظروف والأحوال (لوقا 16: 26) (ثالثاً) أن الكرازة لا يمكن أنها كانت لأرواح العصاة الذين كانوا في أيام نوح دون غيرهم من العصاة. لايبقى لدينا شك في أن الكرازة المذكورة حدثت على الأرض بواسطة نوح كما ذكرنا[5]

7. [إن بطرس الرسول قال في موضع آخر "فَإِنَّهُ لأجل هَذَا بُشِّرَ الْمَوْتَى أيضاً، لكي يُدَانُوا حَسَبَ النَّاسِ بِالْجَسَدِ، وَلَكِنْ لِيَحْيُوا حَسَبَ اللهِ بِالرُّوحِ" (1بطرس 4: 6)،

وهذا دليل على أن البشارة كانت موجهة لموتى في الهاوية وليس لأشخاص أحياء على الأرض].

الرد: (أ) بالرجوع إلى الكتاب المقدس في الأصل اليوناني واللغات الأجنبية، يتضح لنا أن الفعل "بشر" يرد في صيغة الماضي، وأن المراد بالموتى ليس أشخاصاً كانوا قد ماتوا قبل حدوث البشارة (had died)، بل أشخاصاً موتى في الزمن الحاضر (are dead)، لذلك تكون البشارة قد وجهت إلى هؤلاء الأشخاص ليس بعد موتهم بل قبل موتهم، كما وجهت الكرازة التي تحدثنا عنها فيما سلف للأرواح قبل دخولها إلى السجن وليس بعد دخولها إليه. ومما يؤيد هذه الحقيقة أن الرسول لم يقل عن الموتى المذكورين (لكي يحيوا حسب الله بالروح) فقط، بل قال أيضاً "لكي يدانوا حسب الناس بالجسد"، وتوقيع الدينونة عليهم حسب الناس بالجسد يقتضي وجودهم في العالم الحاضر أثناء توقيعها عليهم، لأنه ليس هناك مجال لذلك إلا في هذا العالم. ومن ثم تكون البشارة الواردة في الآية التي نحن بصددها قد وجهت حتماً إليهم عندما كانوا في أجسادهم على الأرض.

(ب) فضلاً عن ذلك، لو فرضنا أن المسيح ذهب بالروح لكي يكرز لأرواح الموتى الذين سبقوه، لكانت هذه الأرواح جميعاً (بما فيها أرواح أهل سدوم وعمورة) قد قبلت كرازته وانتقلت إلى الفردوس، وأصبحت تبعاً لذلك أحسن حالاً من أرواح غير المؤمنين والمؤمنين بالاسم الذين أتوا ويأتون بعد المسيح، مع أنه يوجد بين أولئك وهؤلاء أشخاص أفضل من سكان سدوم وعموره كثيراً، كما يتضح من كتب التاريخ. وبما أن هذا الوضع لا يتفق مع العدالة على الإطلاق، أضف إلى ذلك أنه توجد آيات كثيرة تنص على أن أشرار العهد القديم (مثل أشرار العهد الجديد) سيكونون جميعاً في جهنم إلى الأبد (يهوذا 7)، إذاً فلا مجال للظن بأن البشارة الوارد ذكرها في الآيات التي نحن بصددها، كانت موجهة لأي فريق من الناس بعد موتهم.

8.[إن بولس الرسول قال عن المسيح "وَأَمَّا أَنَّهُ صَعِدَ، فَمَا هو إِلاَّ إِنَّهُ نـزلَ أيضاً أولاً إلى أَقْسَامِ الأرض السُّفْلَى. اَلَّذِي نـزلَ هو الَّذِي صَعِدَ أيضاً فَوْقَ جَمِيعِ السماوات، لكي يَمْلأَ الْكُلَّ" (أفسس 4: 9- 10)، وأقسام الأرض السفلى هي الهاوية، ونـزول المسيح إليها دليل على أنه كرز للأرواح التي فيها حتى تخلص وتنتقل إلى الفردوس[.

الرد: لا يستنتج من هذه الآيات أن روح المسيح الإنسانية ذهبت إلى الهاوية لكي تكرز بالإنجيل لمن فيها من أرواح أياً كان نوعها، لأن غرض الرسول من العبارة المذكورة كما يتضح لنا من سياق الحديث، هو المقارنة بين الحضيض الذي نـزل إليه المسيح، وبين المجد الرفيع الذي صعد إليه بعد ذلك. والكرازة بالإنجيل (على فرض أنها حدثت في الهاوية كما يعتقد بعض المسيحيين) ليس فيها شيء من الحضيض على الإطلاق، حتى يمكن أن تقارن بالصعود إلى السماوات. وإذا كان الأمر كذلك، فما المراد بأقسام الأرض السفلى؟

للإجابة على ذلك نقول:

(أ) بالرجوع إلى الكتاب المقدس يتضح لنا أن الهاوية (بقسميها الفردوس والسجن) ليست في باطن الأرض بل خارج الأرض. فقد قال بولس الرسول عن انطلاقه إلى الفردوس "إنَّهُ اخْتُطِفَ إلى الْفِرْدَوْسِ" (2كورنثوس 12: 4) وقال المسيح عن ذهاب الأشرار إلى الهاوية: "فَيُطْرَحُونَ إلى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ" (متى 8: 12). وإذا كان ذلك كذلك فالاصطلاح "أقسام الأرض السفلى" لا يقصد به إلا القبر الذي دُفن فيه جسد المسيح بعد موته. ومما يثبت هذه الحقيقة أن المسيح بعد نـزوله بجسده إلى القبر، صعد بجسده هذا فوق جميع السماوات لكي يملأ الكل (كما هو وارد في الآية التي نحن بصددها)، وصعود المسيح لكي يملأ الكل، هو النتيجة الطبيعية لكفارته التي انتهت به إلى القبر، وليس للكرازة في عالم الأرواح، إن كان قد قام بمثل هذه الكرازة، كما يقال.

(ب) مما تقدم يتضح لنا أن هذه الآيات مرادفة لقول الرسول في موضع آخر عن المسيح "الَّذِي إذ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أن يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإذ وُجِدَ فِي إلهيئةِ كَإنسان، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ" (فيلبى 2: 6-8) "ولِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أيضاً (أي رفعه من الناحية الإنسانية)، وَأَعْطَاهُ اسماً فَوْقَ كُلِّ اسم لكي تَجْثُو بِاسم يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأرض وَمَنْ تَحْتَ الأرض[6]، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أن يَسُوعَ الْمَسِيحَ هو رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآب " (فليبى 2: 9-11)

ومن ثم فان الآيات التي نحن بصددها، مثل غيرها من الآيات السابقة، لا تدل مطلقاً على أن روح المسيح ذهبت إلى الهاوية للكرازة كما يقال وإذا كان ذلك كذلك، فالقول أن المسيح "نـزل إلى الجحيم من قبل الصليب" الوارد في القداس، ليس بصواب، اللهم إلا إذا كان المقصود منه أن المسيح احتمل على الصليب عوضاً عنا عذاب الجحيم، الذي كنا نستحقه إلى الأبد بسبب خطايانا.

9. [إن الاعتقاد بنـزول المسيح إلى الجحيم بعد الصليب موجود في الكنيسة منذ القرون الأولى للمسيحية، ومن ثم يكون من تعليم الرسل أنفسهم].

الرد: إن صدق أي عقيدة لا يتوقف على قدمها أو على مكانة الاشخاص الذين يتمسكون بها، بل على ما جاء في الكتاب المقدس بشأنها كما ذكرنا وبما أن العقيدة المذكورة فضلاً عن أنه ليس لها أساس في هذا الكتاب، تتعارض كل التعارض مع عدالة الله وقداسته. لذلك لا يجوز التمسك بها بحال.

ومع كل فبالرجوع إلى التاريخ يتضح لنا أن هذه العقيدة لم تظهر إلا في أوائل القرن الثالث. ولعل أول من أشار إليها هو الإنجيل المزيف المنسوب إلى نيقوديموس، والذي ظهر في هذا الوقت مع غيره من الأناجيل المزيفة.

(مدخل إلى حياة المسيح:Introduction to the Life of Christ ، ص 53).

ثانياً: الحجج الخاصة بجواز خلاص الخطاة بعد موتهم، والرد عليها:

3. [إن بولس الرسول صلى مرة لأجل انيسيفوروس بعد موته لكي يعطيه الرب رحمة في ذلك اليوم (2تيموثاوس 1: 18)، فكيف لا يجوز لنا أن نصلي لأجل الموتى؟].

الرد:

(1) إن صلاة بولس هذه، لا يستنتج منها أن صلاة الأحياء لأجل الموتى تنقلهم من السجن إلى الفردوس (على فرض أن انيسيفوروس كان قد مات وقتئذ)[7]، لأنه لا مجال لذلك على الإطلاق كما ذكرنا فيما سلف. ولذلك فإن صلاة بولس الرسول إلى الله كانت لكي يعطي أنيسيفوروس أن يجد فقط رحمة، وهذه الرحمة بعينها هي التي طلبها لأهله الذين كانوا أحياء على الأرض (عدد 16)، الأمر الذي يدل على أن الرحمة التي طلبها له ليست هي النقل من السجن إلى الفردوس (كما يعتقد أصحاب هذه الحجة)، بل هي اللطف والسعة والجود، أو بالحري المكافأة الطيبة عن أعمال المحبة التي كان يقوم بها أنيسيفوروس نحو الرسول (عدد 16-17).

ومن البديهي أن يكون الأمر كذلك، لأن هذه الأعمال وإن كانت لا تستطيع أن تكفر عن الخطية أو تمنح فاعلها طبيعة روحية جديدة تؤهله للتوافق مع الله في صفاته السامية، لكن لها مكافأتها كما ذكرنا فيما سلف. وهذه المكافأة أساسها في الواقع رحمة الله أيضاً [لأنه فضلاً عن اننا مهما عملنا من بر، فنحن عبيد بطالون لا نستحق جزاء ما" (لوقا 17: 10)، فإنه لولا عمل نعمة الله في نفوسنا لما استطعنا القيام بأي عمل صالح في نظره تعالى]. ولذلك فالرسول بصلاته المذكورة، لا يرجو لانيسيفوروس شيئاً يتعارض مع مشيئة الله بل يتوافق معها كل التوافق.

2. [إن كل الناس، بما فيهم أعظم القديسيين، يموتون بخطايا كثيرة يعرفون بعضها ولا يعرفون البعض الآخر لذلك إذا كنا لا نصلي لأجل كل الناس بعد موتهم، لا يمكن أن يدخل واحد منهم إلى الفردوس].

الرد: إذا كان الموتى مؤمنين حقيقيين قد فعلوا في حياتهم خطية ما، فإن الله يكون قد قادهم للتوبة عنها، كما يكون قد أدبهم بسببها أثناء وجودهم على الأرض لكي لا يدانوا مع العالم (1كورنثوس 11: 32)، ولذلك يكونون قد دخلوا إلى الفردوس بمجرد انتقالهم إلى العالم الآخر مثل اللص الذي آمن على الصليب، ومن ثم لا يكونون في حاجة إلى أن يصلي أحد عليهم أو لأجلهم بعد موتهم.

وإذا كانوا مؤمنين بالاسم أو غير مؤمنين، فإنهم يكونون قد انتقلوا إلى الهاوية ليبقوا فيها حتى يوم الدينونة، وحينئذ سوف يطرحون في جهنم إلى الأبد، ومن ثم فإن الصلاة لأجلهم أو عليهم لا تفيدهم بشيء. لأن التمتع بالسماء يتوقف على توافق النفس مع الله في صفاته السامية، وليس على صلاة الآخرين لأجلها. وتوافق النفس مع الله يبدأ في العالم الحاضر، لأن في هذا العالم يمكن للنفس أن تتوب عن الخطية وتؤمن إيماناً حقيقياً، تولد به من الله ولادة روحية تجعلها أهلاً للتوافق معه كما ذكرنا.

3. [طالما أن الحكم بالدينونة لم يصدر بعد، وطالما أن الله يسمع الصلاة ويستجيبها، لذلك لاشك أنه يستجيب الصلاة لأجل الموتى في الوقت الحاضر، فينقلهم من السجن إلى الفردوس، وهذا ما يشجعنا على الصلاة لأجلهم مرات كثيرة].

الرد (أ) حقاً أن الله يستجيب الصلاة، ولكن على شرط أن تكون متفقة مع مشيئته، فقد قال الرسول "وَهَذِهِ هِيَ الثِّقَةُ الَّتِي لَنَا عِنْدَهُ: أَنَّهُ أن طَلَبْنَا شيئاً حَسَبَ مشيئته يَسْمَعُ لَنَا" (1يوحنا 5: 14) وبما أن الصلاة لأجل نقل أشخاص من السجن إلى الفردوس تتعارض كل التعارض مع حق الله، لأنه لا يدخل إلى الفردوس إلا من تاب بمحض رغبته عن الخطية، وآمن بالمسيح إيماناً حقيقياً نال بواسطته طبيعة روحية جديدة من الله تؤهله للتوافق معه، لذلك لا مجال لاستجابة الصلاة المذكورة.

(ب) كما أننا إذا وضعنا أمامنا أن الذين يصلون لأجل الموتى مرات كثيرة يطلبون من الله في كل مرة أن يغفر لهم خطاياهم وأن يفتح باب الفردوس أمامهم اتضح لنا إما أنهم لا يفهمون ما يقولونه بأفواههم، أو أنهم لا يعتقدون في قرارة نفوسهم أن الله استجاب صلاتهم من أجل الموتى في المرة أو المرات السابقة. فإن كانوا لا يفهمون ما يقولونه بأفواههم لا يجوز أن نعتمد عليهم، وإن كانوا لا يثقون أن الله يستجيب صلاتهم، فلماذا نطلب منهم أن يصلوا من أجل الأموات أو الأحياء؟

4. [إن الصلاة على الموتى المنتشرة في كل الأديان دون استثناء، دليل على أن هناك فرصة لخلاص الخطاة بعد موتهم].

الرد (أ) إننا لا نبني إيماننا على ما يعتقد الناس، حتى إذا كان مؤسساً على أسباب معقولة لديهم، بل نبني إيماننا على ما ورد في الكتاب المقدس دون سواه، وبما أنه لا توجد آية واحدة في هذا الكتاب تطلب منا الصلاة لأجل الموتى، تكون الصلاة لأجلهم أمراً بعيدا عن حق الله كل البعد. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن الصلاة لأجل الموتى كانت منتشرة بين الوثنيين الأشرار. كما يتضح من كتبهم وآثارهم، اتضح لنا أنه ليس هناك مجال للحجة التي أمامنا بحال.

5. [إن الاستشفاع بالقديسين الموجودين الآن مع الله في المجد، لكي يتوسطوا له لأجل الذين في الهاوية، يعود عليهم بفائدة كبيرة، لاسيما وأن هذا الاستشفاع قديم في الكنيسة، الأمر الذي يدل على أنه قام على حق إلهي].

الرد (أ) إن القديسـين بعد انتقالهـم من العالم الحاضر يصبحون تحت تأثير مجد الله دون سواه. وقد أشار بعض الأرثوذكس الأفاضل إلى هذه الحقيقة فقالوا "إن أرواح الطاهرين في الأبدية لا تتصور شيئاً من الخلائق أو ترتبط به، لأن الله يكون لها هو الكل في الكل". كما قالوا "القديسون في العالم الآتي لا يصلون لأن عقولهم قد ابتلعت منهم بالروح وهم يسكنون في الدهس (أو بالحري الاستغراق الكلي) في ذلك المجد الأبدي" وقالوا أن دخول العقل (أو النفس) خلف حجاب قدس الأقداس لا يعطيه الله لإنسان حتى لو قامت الخليقة كلها تتوسل نيابة عنه. أما استحقاق هذا الدخول فهو طهارة نفسه، أو بالحري إيمانه الحقيقي بالمسيح. (حياة الصلاة الأرثوذكسية ص 83، 120، 279) فضلاً عن ذلك فإن القديسين محدودون في معرفتهم وقدرتهم، كما أنهم لا يستطيعون أن يكفروا عن خطية إنسان أو يمنحوه طبيعة روحية تؤهله للتوافق مع الله (لأن هذا هو عمل المسيح دون سواه، وذلك للذين يؤمنون به إيماناً حقيقياً في العالم الحاضر كما ذكرنا فيما سلف)، ومن ثم فإن شفاعة القديسين، إن كانت لهم شفاعة، لا تنقل أحداً من الهاوية إلى الفردوس على الإطلاق.

(ب) وهكذا الحال من جهة القول [بوجود الاستشفاع بالقديسين في الكنيسة منذ القديم]، فليس بصواب، وكل ما في الأمر أن بعض الوعاظ في القرون الأولى اعتادوا في خطبهم التي كانوا يلقونها أمام الشعب، أن يناجوا الشهـداء (كما يفعل الساسة أثناء خطبهم الحماسية في كل زمان ومكان من جهة شهداء المعارك والحروب) لكي يثيروا عواطف الأحياء ويدفعوهم للاقتداء بهم في الإيمان والشجاعة. فلما قرأ هذه الخطب بعض المتأخرين خيل إليهم أن الوعاظ المذكورين كانوا يخاطبون القديسين الذين انتقلوا إلى العالم الآخر، لكي يصلوا لأجلهم ويمدوا إليهم يد العون والمساعدة.

(ج) فإذا أضفنا إلى ذلك أن الله أعلن لنا أنه إذا أخطأت إليه أرض وخانت خيانة، فمد يده عليها وكسر لها قوام الخبز وكان فيها هؤلاء الرجال الثلاثة نوح ودانيال وأيوب. فإنهم إنما يخلصون أنفسهم فقط ببرهم (حزقيال 4: 12-24)، لتتضح لنا أنه إذا كان الله يرفض شفاعة أصفيائه من جهة رفع كوارث أرضية بسيطة عن الخطاة، فلا شك أنه يرفض شفاعتهم (إن كانت لهم شفاعة)، من جهة رفع القصاص الأبدي عن هؤلاء الخطاة. لأن رفع القصاص عنهم وتأهيلهم للوجود مع الله لا يتمتع به إلا الذين تابوا بإرادتهم عن الخطية في العالم الحاضر وآمنوا إيماناً حقيقياً حصلوا به على طبيعة روحية تتوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية كما ذكرنا.

(د) أما الدعوى [بأن توسل الغني بعد موته لأجل أقربائه لدى إبراهيم خليل الله، يدل على أن الموتى يصلون لأجل الأحياء] فلا يجوز الأخذ بها، إذ فضلاً عن أن توسل الغني لم يجد على أقربائه خيراً (لوقا 16)، فإن الوحي قصد بهذا الحديث أن يعلن لنا أن فرصة الحصول على الخلاص هي في الوقت الحاضر فحسب، وأنه إذا انتقل الإنسان من هذا العالم دون أن يحصل على هذا الخلاص، لا يمكن أن يحصل عليه في الأبدية بحال.

كما أننا إذا وضعنا أملنا أنه لو كانت الصلاة تفيد الموتى، لما أفادت إلا الأغنياء والعظماء، لأن هؤلاء هم الذين يستطيع ذووهم أن يجزلوا العطاء لرجال الدين، حتى يصلوا لأجلهم بعد موتهم، اتضح لنا أن الصلاة لأجل الموتى لا تتفق مع الحق الإلهي من أية ناحية من النواحي.

6. [إن كل الناس حتى أفضل القديسين يموتون بخطايا كثيرة، ولذلك يجب أن يمروا بعد موتهم في نار المطهر، حتى يتطهروا من خطاياهم ويصبحوا أهلاً للتمتع بالسماء. وقد أشار الرسول إلى هذه الحقيقة فقال "وَسَتَمْتَحِنُ النَّارُ عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مَا هو. إن بَقِيَ عَمَلُ أَحَدٍ قَدْ بَنَاهُ عَلَيْهِ فَسَيَأْخُذُ أُجْرَةً. أن احْتَرَقَ عَمَلُ أَحَدٍ فَسَيَخْسَرُ وَأَمَّا هو فَسَيَخْلُصُ وَلَكِنْ كَمَا بِنَارٍ" (1كورنثوس 3: 14-15)

الرد (أ) إن النار المذكـورة في هاتين الآيتين ليسـت (كما يتضـح لنا) للتنقـة والتطهير بل هي للفحص والامتحـان. وهي مستعمـلة هنا بالمعنـى المجازي بوصف النار هي التي يمتحن بها الذهب لتتضح مقدار نقاوته، إذ أنها تحـرق كل زغل فيه، دون أن تؤثر عليه هو. فالمراد بالآيتـين المذكورتين إذاً أن المؤمنين الحقيقيين الذين خدمـوا الرب بإخلاص في العالم الحاضر، سـوف يأخذون أجرة (أو بالحري أكاليل) بالإضافة إلى تمتعهم بالسماء، لأن هذا التمتع هو هبة لهم بفضل كفارة المسيح (رومية 6: 23)

أما المؤمنون الحقيقيون الذين لم يخدموا الرب بإخلاص فسيخسرون الأجرة (أو بالحري الأكاليل)، ولكنهم سيخلصون من العذاب الأبدي بفضل كفارة المسيح (يوحنا 3: 16)، إنما كما بنار، أي كأشخاص شبت النار في بيوتهم فأحرقت كل ما لديهم، أما هم فقد خلصوا بمفردهم (أو بجلدهم كما يقولون)، كما كانت الحال مع لوط قديماً (تكوين 19).

(ب) فضلاً عن ذلك، فان الأسس التي قامت عليها فكرة المطهر لا تتفق مع الكتاب المقدس للأسباب الاتية:

(1) أن الغفران والحصول على حياة روحية تتوافق مع الله في صفاته السامية، مرتبطان كل الارتباط بالتوبة والإيمان الحقيقي، ولا مجال لهذين إلا في العالم الحاضر. لأن في هذا العالم يستطيع المرء أن يبتعد عن الخطية بمحض إرادته، وأن يقبل أيضاً في نفسه الرب يسوع المسيح مخلصاً وحياة له.

(2) أن النار التي يقال بوجودها في المطهر لا تستطيع (إن كان لها أو للمطهر وجود) أن تعيد الناس إلى حالة القداسة التي كانوا عليها قبل السقوط في الخطية، أو تجعلهم بما يقاسونه من الآم أن يكفروا عن خطية واحدة من خطاياهم، لأن الذي يقوم بالعمل الأول هو الروح القدس، والذي يقوم بالعمل الثاني هو كفارة المسيح، وذلك للذين يتوبون عن خطاياهم ويؤمنون به إيماناً حقيقياً.

(3) هناك هوة عظيمة بين سكان السجن وبين السماء، لا يستطيع أن يعبرها واحد منهم مهما بذل كل ما لديه من جهد (لوقا 16: 26) فضلاً عن ذلك فإنه بمجرد دخول المؤمنين الحقيقيين إلى السماء، سيغلق الباب أمام غير المؤمنين والمؤمنين بالاسم (متى 25: 10)، ومن ثم ليس هناك مجال للظن بوجود مجال للغفران أو التطهير بعد الانتقال من العالم الحاضر.

7. [إن الاعتقاد بوجود مطهر تتطهر فيه نفوس الناس بعد موتهم حتى تصبح أهلاً للتمتع بالسماء، موجود في الكنيسة منذ نشأتها، ومن ثم لابد أنه قام على أساس من الحق الإلهي].

الرد: بالرجوع إلى التاريخ يتضح لنا ما يأتي:

(أ) أن بعض الوثنيين وعلى رأسهم أفلاطون كانوا يعتقدون أن نفوس بعض الناس تتطهر بعد خروجها من أجسادها بعذاب شديد، حتى تخلص من أدرانها. وقد عمل فرجيل أهم شعراء اللاتين في القرن الأول[8] قصيدة عن مصير الأرواح بعد مفارفتها لأجسادها، ذكر فيها أن النفوس تنطلق إلى مكان يدعى المطهر تتعذب فيه بالنار لمدة طويلة من الزمن، حتى تصبح أهلاً للدخول إلى الفردوس.

(ب) وقد تأثر بعض المسيحيين القدامى مثل أوريجانوس وأيرونيموس بآراء أفلاطون وفرجيل وغيرهما، ولكنهم قالوا أن الأشرار سيظلون في النار إلى الأبد، أما القديسون فإنهم سيمرون في نار خاصة برهة من الزمن فحسب. وقد عللوا ذلك بأن القديسين بما فيهم العذراء مريم[9]، يظل فيهم شيء من النقائص حتى عند إنطلاقهم من هذا العالم، ومن ثم فإن الله يدع نفوسهم جميعاً تمر دفعة واحدة في هذه النار في اليوم الأخير، حتى تتنقى وتكون أهلاً للتمتع به في السماء.

أما البعض الآخر من المسيحيين مثل بوليكربوس وأثيناغوروس وأغناطيوس واكليمنضس الإسكندرى وكبريانوس، فقد رفضوا فكرة عذاب نفوس القديسين بعد انطلاقها من العالم الحاضر، وقالوا "ليس من السهل التصديق بوجود مثل هذا العذاب".

(ج) ومع ذلك [فإن الاعتقاد بأن النفوس تتطهر بالنار بعد الموت] قد انتشر بين بعض الناس انتشاراً عظيماً، حتى أصبح كحقيقة دينية في عهد غريغوريوس الكبير في القرن السادس، ومن ثم أخذوا يقدمون العطايا والقرابين لأجل نفوس موتاهم، لكي (حسب اعتقادهم) يخفف الله عنها عذاب المطهر أو يقصر مدته.

(د) وفي القرن السابع نشرت في إيطاليا قصائد فرجيل عن مصير الأرواح فثبتت في إذهان الناس فكرة وجود المطهر. وفـي القرن الثالث عشر نشر دانتي[10] "الكوميديا" الإلهية التي اعتمد فيها على الكثير من أقوال فرجيل، فزادت فكرة المطهر تعمقاً في نفوس الناس.

(ه) وفي مجمع فلورنسا سنة 1439 صار الاعتقاد بوجود المطهر قانوناً من قوانين الإيمان المسيحى العامة، وفي المجمع التريدنتي صار تعليماً أساسياً في الكنيسة الكاثوليكية له قدسيته وأهميته الخاصة.

8. [إن الصلاة والقداسات لأجل نفوس الموتى كانت موجودة في الكنيسة منذ القرون الأولى، ومن ثم لابد أنها بنيت على أساس وطيد من الحق الإلهي].

الرد: بالرجوع إلى التاريخ يتضح لنا ما يأتي:

(أ) إن فكرة الصلاة لأجل الموتى نشأت في القرنين الثالث والرابع، وقد أشار إليها أوريجانوس وكبريانوس وكرلس وذهبى الفم، غير أن كبريانوس وكيرلس ترددا في فائدتها. فقال الأول "متى انتقلنا من هذا العالم، لا يوجد مجال للتوبة" وقال الثاني "كثيرون يقولون "ما المنفعة التي تعود على النفس، إن كانت قد خرجت من العالم بخطايا أو بدون خطايا، ثم ذكرها الأحياء في الصلاة؟! "ووافقهما على رأيهما أوغسطينوس فقال "لا نقدر أن نعبر إلى الأبدية... مالم نكن قد تحولنا مع الأبدي ابن الله بالاتحاد الروحي معه، أثناء وجودنا على الأرض" (الله مخلصي ص 114) وغريغوريوس النـزيزي فقال "يمكن أن يجد الناس علاجاً لحالتهم الروحية عندما يكونون في العالم الحاضر، أما فيما بعد فلا يوجد سوى الوثاقات (أو بالحري القيود الأبدية)" وأكريبوس فقال "لوكانت صلاة الأحياء تنفع الموتى، لما كانت هناك حاجة إلى التقوى والاجتهاد في الأعمال الصالحة في العالم الحاضر، وكان يكفينا أن نوصي أصدقاءنا وأقرباءنا أن يصلوا لأجلنا بعد موتنا" وإيرونيموس فقال "ينبغى لكل واحد أن يحمل حمل نفسه"، أي أن صلاة الواحد لا تنفع الآخر، وتقوى الواحد لا تنفع الآخر.

(ب) أما القداسات لأجل الموتى، فقد نشأت في القرن السابع عندما دب الهلع في نفوس الناس بسبب ما سمعوه عن وجود المطهر والنار الحامية التي فيه، وقد شجعهم رجال الدين على الإكثار من هذه القداسات لكي يحصلوا على أكبر مبلغ من المال للكنائس. غير أن هذه القداسات لم تتقرر كتعليم من التعاليم الكنسية الأساسية إلا في القرن السادس عشر بواسطة المجمع التريدينتي، من هذا يتضح لنا أن الصلاة لأجل الموتى ورفع قداسات لأجلهم، لا أساس لهما في الكتاب المقدس، بل بنيتا على آراء بعض الناس في العصور القديمة. اما الصلاة والوعظ لتعزية أهل المتوفي، ورفع قلوبهم إلى الله، فعمل نافع وواجب.

(ج) أخيرا نقول: حقاً أن نفوس موتانا عزيزة لدينا، ونتمنى من كل قلوبنا أن ينجوا جميعاً من العذاب الأبدي، لكن يجب ألا ننسى أن الله له ناموسه الثابت الذي يخضع له كل الأحياء والأموات. فالذين حصلوا منه بواسطة الإيمان الحقيقي في العالم الحاضرعلى طبيعة روحية تجعلهم أهلاً للتوافق معه في صفاته السامية، سوف يتمتعون بـه إلى الأبد، أما الذين لم يحصلوا منه على هذه الطبيعة فسوف يحرمون منه إلى الأبد أيضاً. لأنه كما تكون النفس في هذا العالم سوف تكون في العالم الآخر تماماً، إذ أن الموت لا يغير من طبيعتها شيئاً.

وقد شهد بهذه الحقيقة كثيرون من القدماء فقال إقليمس أسقف روما في القرن الثاني "فلنتب عن الشر الذي ارتكبناه بالجسد حتى نخلص. لأنه بعد خروجنا من العالم لا يمكننا القيام بالاعتراف القلبي أوالتوبة" وقال اكليمنضس الاسكندري في القرن الثالث "متى انتقلنا من هذه الحياة، لا يوجد لنا مجال في الحياة الأخرى لكي نعترف ونتوب" وقال كبريانوس في القرن الثالث أيضاً "متى انتقلنا من هنا، لا يوجد مجال للتوبة. بل إن الحياة الأبدية نخسرها هنا، ونجدها هنا أيضاً. لذلك فالمؤمن الحقيقي ينتقل من العالم مباشرة إلى الغبطة والخلود" (الآباء في القرون الثلاثة الأولى ص 18، ريحانة النفوس ص 109 – 114، أسرار الكنيسة السبعة ص 138).

وإذا كان ذلك كذلك، لا يسعنا الا أن نضع أيدينا على أفواهنا، فالله لا يغرمنا بأكثر من آثامنا (أيوب 11: 6)، وعلينا أن نعمل من جانبنا طالما نحن في العالم الحاضر على أن نخلص على أي حال قوماً (1كورنثوس 9: 22) مختطفين الاشرار من النار التي يسعون إليها، ومحافظين على حياة الطهارة والقداسة كل المحافظة (يهوذا 23).


[1] - يقول علماء اللغة العربية أن كلمة "جهنم" معربة عن الفارسية (مختار الصحاح). ويقول علماء الكتاب المقدس أن هذه الكلمة هي في الأصل "جى هنوم"ومعناها الحرفي "وادي هنوم" وهو الوادي الذي كان الوثنيون (ومن اقتدى بهم من اليهود) يحرقون فيه أبناءهم قديماً مرضاة للصنمين بعليم ومولوك (2أخبار 28: 3، ارميا 23: 1). وكان ما لا تصيبه النار من أجساد أبنائهم يأكله الدود هناك. وقد اتخذ الوحي اسمها المعروف لدى الناس وقتئذ لكي يعبر به عن مكان عذاب الأشرار الأبدي – غير أنه من الواضح أنه لا يراد بنار جهنم ودودها النار المادية أو الدود المادي (لأن المادة ليست من خصائص عالم الأرواح)، بل يراد بهذه النار عذاب النفس الذي يفوق عذاب النار المادية كثيراً، ويراد بالدود وخزات الضمير اللاذعة التي تفوق في آلامها نهش الديدان المادية.

[2] - كلمة الهاوية ترد في العبرية "شبئول"ومعناها "المكان المجهول". وقد سميت بهذا الاسم لأن الناس قديماً كانوا لا يعرفون شيئاً عنها، والكلمة اليونانية المرادفة لها هي "هادس" وتعني "العالم المجهول" أيضاً.

[3] - روح المسيح ليست لاهوته بل روحه الإنسانية التي شاء أن يتخذها مع الناسوت، لأنه له المجد اتخذ ناسوتاً كاملاً من جسد ونفس وروح.

[4] - أن أرواح الاشرار لا تذهب بعد انطلاقها من أجسادها إلى الجحيم، بل إلى الهاوية أوالسجن. وتبقى هناك إلى أن تعلن إدانتها أمام العرش العظيم الأبيض، وحينئذ تطرح في جهنم أو الجحيم وتظل هناك إلى الأبد.

[5] - ومما تجدر الاشارة إليه أنه جاء في طرح واطس الخاص بدورتي عيد الشعانين والصليب المستعمل في الكنيسة الأرثوذكسية "في هذا اليوم كان الخلاص والفرح لجنس البشرية بالبشارة المحيية والميلاد البتولي والقيامة الشريفة التي بها كان الخلاص من يد العدو، والمنتقلون في الجحيم خلصوا، وأشرق عليهم مجد لاهو ت المسيح ونور قيامته، وعادوا إلى الفردوس مرة أخرى"، فهذه العبارة تنص على أن نور القيامة أشرق على المنتقلين في الجحيم. وبما أن الاعتقاد العام لدى الأرثوذكس والكاثوليك هو أن المسيح كرز للأرواح التي في السجن بعد موته على الصليب مباشرة (أو بالحري قبل قيامته)، لذلك فمن المحتمل أن يكون المراد بـ"الذين في الجحيم" في العبارة المذكورة، الخطاة الذين على الأرض، والذين هم في حكم الموجودين في الجحيم لأن هؤلاء بالإيمان الحقيقي بموت المسيح وقيامته، يحصلون على الخلاص.

[6] - العبارة "تحت الأرض" لا يراد بها" باطن الأرض" كما يظن بعض الناس، لأن باطن الأرض ليس هو تحتها، وإذا كان ذلك كذلك تكون هذه العبارة مقابله لكلمة "السماء" الواردة في الآيات التي نحن بصددها، لأن السماء يعبر عنها بـ "فوق" (يوحنا 3: 31) وبما أن الكائنات الموجودة في السماء من فوق هي الملائكـة، تكون الكائنات الموجودة في المكان المعبـر عنه بأنه "تحت الأرض"، هي أرواح الشياطين وسكان الهاوية، والله أعلم.

[7] - إن الذين يقولون أن انيسيفوروس كان قد مات وقتئذ، يبنون قولهم هذا على أن الرسول طلب الرحمة لبيته. لكن هذه الطلبة لا تقوم دليلاً على أن انيسيفوروس كان قد مات. فنحن في حاجة إلى رحمة الله ليس فقط بعد أن يموت من يعولنا، بل نحن في حاجة إليها في كل وقت من الأوقات. ومع كل فإن انسيفـوروس (كما يتضح من الرسالة إلى تيموثاوس) كان يسكن في مدينة أفسس مع أفراد عائلته، لكن عمله كان يدعوه الذهاب إلى رومية من وقت إلى آخر ومن ثم كان يتغيب عنهم كثيراً. ولذلك كان من البديهي أن يطلب بولس الرحمة لأجلهم، أو بالحري اللطف والعناية والمساعدة. لكننا في ردنا أعلاه افترضنا أنه كان قد مات (كما يعتقد أصحاب الحجة التي نحن بصددها) حتى تبدو الحقيقية على أسوأ الفروض.

-[8] (فرجيل): من أهم شعراء اللاتين في القرن الأول، وكان يهتم بالطبيعة اهتماماً عظيماً، كما كان يميل إلى الزهد والتقشف كثيراً. وقد عالج الكثير من الموضوعات الأخلاقية والأدبية، ويتميز أسلوبه بالدقة والعذوبة.

[9] - ولعل هذا هو السبب الذي من أجله يقال في القداس الغريغوري "نفضل يارب أن تذكر جميع القديسين الذين أرضوك منذ البدء. وبالأكثر القديسة المملوءة مجداً العذراء كل حين"، مع أنهم في مواضع أخرى يطلبون من الله أن يقبلهم بفضل شفاعتها.

[10] - (دانتي): من أشهر شعراء إيطاليا في القرن الثالث عشر، وكان من المصلحين البارزين في هذا القرن. والكوميديا التي عملها هي قصيدة عن رحلة خيالية إلى الهاوية والمطهر (الذي قال عنه فرجيل) ثم إلى الفردوس بعد ذلك. ومما جاء في هذه الكوميديا، أن المطهر على هيئة جبل به سبع مناطق يمر بها الخطاة واحدة بعد الأخرى في سعيهم وراء التوبة والعفران. فإذا ما بلغوا المنطقة السابعة اجتازوا في نار تحرق شهواتهم وأهواءهم، حتى يصبحوا أهلاً للفردوس.

  • عدد الزيارات: 8802