تاريخ الاعتقاد بأن الخلاص يكون بالإيمان والأعمال
إذا كان الكتاب المقدس يعلن في كل جزء من أجزائه أن الخلاص من الخطية يكون فقط بواسطة الإيمان الحقيقي، بفضل كفارة المسيح الدائمة الأثر، فكيف وصل إلينا الاعتقاد بأن هذا الخلاص يكون بواسطة الإيمان والأعمال معاً؟ هذا هو السؤال الأخير الذي يخطر ببال القراء بعد دراسة الفصول السابقة، وللرد عليه نقول:
1- إذا رجعنا إلى العصر الرسولي نجد أن بعض اليهود المنتصرين كانوا يحرضون المسيحيين من الأمم على أن يختتنوا ويحفظوا ناموس موسى، بجانب الإيمان بالمسيح، بدعوى أنه لا خلاص لهم بالإيمان به فحسب (أعمال 15: 1 – 21، غلاطية 3: 2)، فقاومهم بولس الرسول بكل شدة قائلاً لهم "أيها الأغبياء .... أبأعمال الناموس أخذتم الروح، أم بخير الإيمان .... أهكذا أنتم أغبياء؟! لأن جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنة ... إن أختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئاً. تبطلتم عن المسيح أيها الذين تتبررون بالناموس، سقطتم من النعمة. فمن صدكم حتى لا تطاعوا للحق؟!" (غلاطية 3: 1 – 10، 5: - 7).
2- وإن كانت بدعة (الخلاص بواسطة حفظ الناموس والإيمان بالمسيح معاً)، قد اختفت في العصر الرسولي، غير أن جذورها ظلت كامنة في نفوس معظم اليهود المنتصرين ردحاً طويلاً من الزمن، ولذلك أخذت تظهر من وقت إلى آخر بصور متعددة. ففي القرن الثاني ظهرت جماعة الأبيونيين التي اتخذت لها ديناً مزيجاً من اليهودية والمسيحية، ونادت فيما نادت به من بدع بأنه لا خلاص إلا بالختان وممارسة الطقوس اليهودية، وتقديس يومي السبت والأحد معاً، مع الامتناع عن أكل لحم الحيوان بتاتاً. وأخطر ما نادت به من بدع أن المسيح ولد ولادة طبيعية لا معجزية، وتبعاً لذلك يكون إنساناً عادياً، وتكون كفارته غير كافية للخلاص، ويجب إضافة حفظ الناموس إليها، للحصول على هذا الخلاص.
3- وفي القرن الخامس نادى رجل من رجال الدين البريطانيين يدعى بيلاجيوس بأن الإنسان يولد طاهراً لا أثر للخطية في نفسه على الإطلاق، فتجاهل قول النبي "بالإثم صورت وبالخطية حبلت بي أمي" (مزمور 51: 7). كما نادى بأن الشر لا يكون شراً إلا بالفعل فقط، وهكذا الحال من جهة الخير، فقد قال إنه لا وجود له إلا في الأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان – وبناء على رأيه لا تكون الأهواء الشريرة التي تجول في النفس خطايا، ولا تكون التقوى والأمانة والقداسة والشركة الروحية مع الله، أموراً هامة؛ ويكون الخلاص (حسب رأيه) هو فقط بواسطة الصدقة والأعمال التي تسمى الصالحة.
فتجاهل بيلاجيوس بذلك قول الوحي "فكر الحماقة خطية" (أمثال 34: 9)، و "من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه" (متى 5: 28)، كما تجاهل قوله "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك" (متى 22: 37)، وقوله "نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة" (1 بطرس 1: 14)، كما تجاهل قول الوحي "من قال يا أحمق يستوجب نار جهنم" (متى 5: 22)، لأن الخطية مهما كانت صغيرة في نظرنا هي إساءة إلى الله الذي لا حد لعظمته، ولا خلاص من عقوبتها بشيء من الأعمال الصالحة كما ذكرنا.
4- غير أن رأي بيلاجيوس هذا لم يستمر طويلاً بين أتباعه، فخلطوا في القرن السادس بينه وبين تعليم القديس أوغسطينوس، وكان هذا يعتقد بناء على كلمة الله [أن الإنسان مولود بالخطية وعاجز من تلقاء ذاته عن عمل الصلاح الذي يتوافق مع كمال الله، ولذلك فإن خلاصه من قصاص الخطية لا يكون إلا بالإيمان الحقيقي بكفارة المسيح، وأن تأهيله لعمل الصلاح لا يكون إلا بعمل الروح القدس في نفسه]، ولذلك قال أتباع بيلاجيوس إن خطية آدم أثرت في البشر جميعاً، وإنها وإن لم تسلبهم القدرة على عمل وصايا الله غير أنها جعلتهم عاجزين عن إتمام هذه الوصايا، دون معونة منه. كما قالوا إن عجز البشر هذا، وإن كان لا يحسب عليهم خطية بل مجرد تعطيل، إلا أنه هو السبب الذي يجعلهم يسقطون في الخطية من وقت لآخر.
ولذلك فإن الخلاص (حسب رأيهم) يبدأ بارتقاء الإنسان فوق العجز الكامن في نفسه، ثم قيام الله بتقديم المساعدة اللازمة له بعد ذلك، وبناء عله يكون نصف الخلاص محسوباً للإنسان والنصف الآخر محسوباً لله، لأن الإنسان (حسب زعمهم) يشارك الله في عمل الخلاص، ظناً منهم أن هذا الخلاص هو الامتناع عن الخطايا (أو بالحري الخطايا الظاهرة وحدها)، وليس هو الخلاص من القصاص الأبدي، والحصول على طبيعة روحية تسمو بالمرء فوق كل فكر شرير وتؤهله للتوافق مع الله في صفاته السامية، كما يعلن الكتاب المقدس. وبذلك وضعوا بذرة الاعتقاد بأنه الخلاص (أو بالحري الخلاص الذي اصطلحوا عليه)، يكون بواسطة الإيمان والأعمال معاً، متجاهلين قول الرسول "فإني أعلم أنه ليس ساكن في أي جسد شيء صالح، لأن الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده إياه أفعل" (رومية 7: 18 – 21) الأمر الذي يدل على أن الإنسان بطبيعته ميت بالذنوب والآثام (أفسس 2: 1)، ومن ثم لا يستطيع أن يكون شريكاً لله في عمل للخلاص بحال.
5- وفي القرن العاشر أصدرت الكنيسة الكاثوليكية صكوك الغفران بناء على قرار مجلس راتس سنة 924 م ، فأقبل معظم الكاثوليك على شرائها، حتى يتمتعوا (حسب اعتقادهم) بالحياة الأبدية، وهكذا أصبحت هذه الحياة تشترى بالمال[68]، بغض النظر عن كفارة المسيح أو الحالة الروحية للذين يبتاعون هذه الصكوك.
ولما قامت الحروب الصليبية سنة 1095 أصدر البابا أوربان الثاني غفراناً شاملاً لكل الذين يخرجون إلى هذه الحروب بدافع الرغبة في خدمة المسيحية[69]، وبذلك ضمن الحياة الأبدية (حسب زعمه) لكل العاملين في الحروب المذكورة بغض النظر عن حياتهم الروحية وعن كفارة المسيح أيضاً.
6- وفي القرن الثاني عشر عقد رجال الدين الكاثوليك عدة مجامع لبحث موضوع التبرير أمام الله، فاستقر رأيهم على أن الإنسان بالإضافة إلى تبرره شرعاً أمام الله بكفارة المسيح، يتبرر فعلاً أمامه بالأعمال الصالحة التي يقوم بها في العالم الحاضر. وهذه الأعمال (كما يقولون) ليست فقط هي الصوم والصلاة والصدقة، بل إنها أيضاً ممارسة الطقوس الدينية وتنفيذ التأديبات الكنسية التي يفرضها رجال الدين المذكورين. وبذلك غضوا النظر عن حالة التوافق مع الله التي لا تتأنى إلا بعمل الروح القدس في النفس، ووضعوا مكانها التأديبات والطقوس التي لا تخرج عن كونها أعمالاً آلية، لا أثر لها في الارتقاء بالنفس إلى الحالة المذكورة. كما خلطوا بين البر الشرعي أو الاكتسابي الذي يمنحه الله لنا مجاناً على أساس كفارة المسيح، وبه يكون لنا القبول الأبدي أمامه، وبين البر العملي الذي نقوم به في العالم الحاضر لتمجيد الله وإكرامه، والذي يعطينا الله عنه جزاء خاصاً، بالإضافة إلى القبول الأبدي السابق ذكره.
ثم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فقالوا إن بعض المؤمنين يستطيعون القيام بأعمال صالحة تزيد عن حاجتهم للخلاص، وفي هذه الحالة يمكن للكنيسة الكاثوليكية بما لها من السلطان، أن تقوم بتوزيع ما زاد من هذه الأعمال على الأشخاص الذين لم يقوموا بالقدر الكافي منها، حتى يحسب الله لهؤلاء الأشخاص قيمة الأعمال المذكورة في خلاص نفوسهم. وذلك على النسق الذي يحسب به الله للمؤمنين عامة بر المسيح، مع أنهم في ذواتهم أثمة لا بر لهم على الإطلاق – ولعل القول "بركات القديسين تكون معنا آمين" الذي يردده كثير من الناس في أدعيتهم وصلواتهم، يرجع إلى تعليم الكاثوليك السابق ذكره.
لكن الحقيقة الإلهية هي أن الإنسان مهما عمل من صلاح، لا يستطيع أن يكفر عن خطية واحدة من خطاياه، أو يجعل نفسه أهلاً للتوافق مع الله، كما أن الحياة الأبدية ليست أجرة عن عمل صالح، بل هي هبة شخصية من الله لكل من يؤمن إيماناً حقيقياً (رومية 6: 23). ولذلك فإن من يحصل عليها لا يستطيع أن يعطيها لغيره، أو يشركه معه فيها. وقول العذارى الحكيمات للجاهلات "لعله لا يكفي لنا ولكن" (عن الزيت الذي كان دليلاً على أن الحكيمات كان لهن امتياز التمتع بالحياة الأبدية، كما ذكرنا بالتفصيل في الفصل الثاني) خير شاهد على هذه الحقيقة.
7- وفي القرن السادس عشر، أعلن لوثر أن التبرير أمام الله هو فقط بالإيمان الحقيقي بالمسيح، كما أعلن أنه ليست هناك شريعة تفرض على المؤمنين الحقيقيين أن يقوموا بأعمال صالحة معينة، لأنهم يقومون بكل الأعمال الصالحة بتأثير الروح القدس الساكن فيهم. لكن خشية أن يستغل سامعوه قوله هذا في إهمال شيء من هذه الأعمال (بدعوى عدم إرشاد الروح القدس لهم في القيام بها)، كان يحثهم على السلوك بالتقوى والقداسة لكي يمجدوا الله بسبب تبريره لهم بدم المسيح. فضلاً عن ذلك فقد سن قانوناً للوعاظ والرعاة يحتم عليهم تنفيذ وصايا الله بكل دقة في حياتهم السرية والعلنية.
8- وحينئذ نهض رجل يدعى أجريكولا، ورمى لوثر بالخروج عن تعليم التبرير بالإيمان، وأعلن أن المؤمنين جميعاً ليسوا تحت التزام أن يحفظوا آية وصايا، كما أعلن أنهم حتى إذا عاشوا كل حياتهم في الشر والدنس لا يمكن أن يهلك واحد منهم على الإطلاق، ويعرف رأيه هذا بـ "الانتينومانية" Antinomianism أي "المقاومة للناموس"، فتجاهل أجريكولا بذلك قول الرسول "وليتجنب الإثم كل من يسمى اسم المسيح" (2 تيموثاوس 2: 19)، وقوله "نحن الذين متنا عن الخطية، كيف نعيش بعد فيها" (رومية 6: 2)، وقوله "لأننا نحن عمله (أي عمل الله) مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها" (أفسس 2: 10)، وقوله عن المسيح "الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل إثم ويطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمال حسنة" (تيطس 2: 4). كما تجاهل أن الإيمان قد يكون بالحق وقد يكون بالاسم، وأن النوع الأول من الإيمان هو الذي يخلص بواسطته المؤمنون من دينونة الخطية، وينالون طبيعة روحية جديدة تؤهلهم للتوافق مع الله في صفاته السامية. أما النوع الثاني من الإيمان فلا قيمة له على الإطلاق، لأنه لا يخلص من الدينونة ولا يحرر من الخطية، ومن ثم يظل أصحابه معرضين للدينونة ومستعبدين للخطية.
ولذلك حدث نزاع كبير بين لوثر وبين أجريكولا استمر عامي 1539 و 1540، قاومه فيهما لوثر بكل شدة حتى قضى على بدعته إلى حد كبير[70].
9- فأراد بعض رجال الدين بعد ذلك أن يوفقوا بين لوثر وأجريكولا، فقالوا إن الخلاص لا يكون بالإيمان فقط، بل يكون بالإيمان والأعمال معاً، غير عالمين أنهم بقولهم هذا قد جعلوا كفارة المسيح غير كافية للخلاص، وأن الأعمال (التي يسمونها الصالحة والتي كثيراً ما تشوبها النقائص والرذائل) هي التي تكمل هذه الكفارة. وغير عالمين كذلك أن هذه الأعمال مهما بلغت أسمى درجات الكمال ليست فضلاً من الإنسان حتى يجوز أن تكفر عن خطية من خطاياه، بل أنها واجب إن قصر في أدائه يكون خاطئاً، وبذلك انحرفوا هم أيضاً عن كلمة الله.
10- فلكي نعود بالحق إلى نصابه، حتى لا يلتبس فهم "السبيل إلى الخلاص" على إنسان ما، نقول: إن الوحي أعلن بعبارة واضحة لا تقبل تأويلاً ما، أن الخلاص يكون بالإيمان العامل بالمحبة (غلاطية 5: 6)، أي ليس بالإيمان وأعمال المحبة كوسيلتين منفصلتين، بل بوسيلة واحدة هي الإيمان العامل بالمحبة، أو بالحري الإيمان الحقيقي دون سواه – والوحي بقوله هذا قد فصل أيضاً بين الإيمان الحقيقي وبين الإيمان الأسمى، بفاصل واضح كل الوضوح، لأن عدداً كبيراً من المؤمنين بالاسم يعملون أعمالاً صالحة بدافع المصلحة الشخصية، كالحصول (حسب اعتقادهم) على ثواب الله وتجنب عقابه. لكن المؤمنين الحقيقيين وحدهم هم الذين يعملون هذه الأعمال بدافع المحبة لله فحسب، أي ليس طمعاً في ثواب أو خوفاً من عقاب – والأعمال المذكورة هي في الواقع أعمال الإيمان التي حرضنا الرسول عليها (1 تسالونيكي 1: 3) والتي تستحق وحدها أن تدعى الأعمال الصالحة، كما أنها هي الأعمال التي سبق الله فأعدها لنا وقد خلقنا في المسيح يسوع مرة ثانية لأجل السلوك فيها (أفسس 2: 10)
11- والحق إن أشهر رجال الدين بين القائلين "بأن الخلاص يكون بالإيمان والأعمال"، يعرفون أن الخلاص هو بكفارة المسيح وحدها، وأننا نحصل عليه بالتوبة والإيمان فحسب، كما ذكرنا. غير أنهم ينقسمون فيما بينهم إلى فريقين:
فيقول المنتمون إلى الفريق الأول "إن المسيح وفى بذاته حقوق العدل الإلهي وفاءً كاملاً، وقدم نفسه كفارة خلاصية أبدية، ولم يبق على الإنسان إلا أن ينال الخلاص بالتوبة والإيمان". كما يقولون "إن التبرير هو نعمة مجانية يمنحها الله للإنسان. بها تغفر جميع خطاياه ويحسب باراً وقديساً، كأنه لم يخطئ في حياته على الإطلاق. وهذا التبرير يمنح له. لا لبر فعله بنفسه، بل بواسطة بر الفادي يسوع المسيح إلهنا" – وقولهم هذا يتفق مع الحق الإلهي كل الاتفاق، ولو اقتصروا عليه لما كان هناك مجال للاعتراض عليهم. غير أنهم يقولون بعد ذلك "إن الإنسان الخاطئ لا يتبرر وينال الخلاص بالمسيح بواسطة التوبة والإيمان فقط، بل وأيضاً بواسطة حفظ وصايا الله والقيام بالأعمال الصالحة" (الدين المسيحي للمرحلة الثانوية ص 56، وأسرار الكنيسة السبعة ص 146 – 148). وبذلك نقضوا ما قالوه من قبل، لأن التبرير لا يكون مجاناً بواسطة كفارة المسيح وفي الوقت نفسه يكون بواسطة الأعمال الصالحة، إذ أنه في الحالة الأولى يكون هبة وفي الثانية يكون أجرة إلى حد ما، والهبة والأجرة شيئان متعارضان. وطبعاً لم يلجأ هؤلاء الأشخاص إلى هذا الاستدراك إلا لخوفهم من الانحراف عن التعليم العام للكنيسة (أو بالحري للطائفة[71] التي ينتمون إليها، غير عالمين أن كل تعليم يتعارض مع الكتاب المقدس، يكون من أقوال الناس وليس من أقوال الله، ومن ثم يجب ألا يؤخذ به على الإطلاق، مهما كانت مكانة الذين نادوا به.
أما المنتمون إلى الفريق الثاني فيتمسكون بأقوال الله بغض النظر عن التعليم السابق ذكره، ولذلك يقولون بصراحة تامة: إن "الإيمان يؤدي إلى السعادة الحقة، أي الإيمان بيسوع المسيح مصلوباً"، و "إن الإيمان هو أعظم هبة منحت لنا، لأن به نحصل على الخلاص من عبودية الخطية والموت" (حياة الصلاة الأرثوذكسية ص 29/ 239 ). وإنه "كما أن مجرد النظر إلى الحية النحاسية كان يعطي الحياة لمن هم على حافة الموت، هكذا مجرد الإيمان بالمسيح يعطي الحياة الأبدية"، و "إن من يؤمن بالمسيح المسحوق على الصليب، فإنه من تلك اللحظة (أي لحظة الإيمان به) ينتقل من الموت ويتمتع بالحياة" (كتاب الصليب في جميع الأديان، للواعظ الأرثوذكسي يسي منصور، ص 10 و 25). و "إن المجهودات الجبارة (أو بالحري أعمال الزهد والتقشف وغيرها) تزيد الأمور (الخاصة الخلاص) تعقيداً، ولذلك يجب أن نهدئ أنفسنا (أو بالحري نكف عن مجهوداتنا هذه)[72]، ونقبل البر الذي في المسيح، أو بالحري الذي عمله المسيح لنا" (كتاب مخلصون ومحفوظون تعريب القمص مرقس داود ص 25). كما يقولون في منتجات الترانيم للقمص إبراهيم لوقا – ص 122، ص 128) ما يأتي: -
لي الفداء لي السرور لي السلام الكامل
بذبيحة الغفور لي الخلاص الشامل
و
أيها الساعي لأن تدرك البرا ثق ففادي الناس قد تمم الأمرا
صالح الأعمال ذا ثمر الإيمان لازم لكن ما به غفران
إنما أعمالنا كلها أقذار ما بها تبر إذا صفيت بالنار
قد قضى ديني كله الحمل حينما مات لذا قال قد كمل
12- مما تقدم يتضح لنا بدليل ليس بعده دليل أن الخلاص هو هبة مجانية من الله على أساس كفارة المسيح، ولذلك فإننا نحصل عليه ليس بالإيمان والأعمال معاً، بل بالإيمان وحده (أو بالحري بالإيمان الحقيقي وحده)، وهذا الاعتقاد فضلاً عن أنه وحي الله الذي يجب التمسك به بغض النظر عن أي اعتبار آخر، فهو يعظم نعمة الله التي تستحق وحدها كل تعظيم وإكرام، ويبعث إلى نفوسنا بكل سلام واطمئنان، ويملؤها بكل شكر وحمد لله. كما يفتح المجال أمامنا للشركة الحقيقية مع الله دون تردد أو وجل، الأمر الذي يعود علنيا بأعظم الفوائد الروحية.
أما القول بأن الخلاص هو بالإيمان والأعمال، ففضلاً عن أنه ليس له أساس في الكتاب المقدس، الأمر الذي لا يدع مجالاً للتمسك به (أي بهذا القول)، فهو يضع أعمال الإنسان الخاطئ المملوءة بالشوائب والنقائص جنباً إلى جنب مع كفارة المسيح (التي وفت وحدها كل مطالب عدالة الله التي لا حد لها، إلى أبد الآباد) الأمر الذي يعتبر أكبر إهانة لهذه الكفارة. كما يحرم النفس من حياة الفرح والاطمئنان والشكر والحمد لله، ويدعها تعيش في حزن وقلق طوال حياتها على الأرض من جهة الأبدية، وهذا يعوق تقدمها في الحياة الروحية كثيراً.
أما عن الدعوى [بأن "الخلاص بالإيمان" يجعل الخلاص بالإيحاء السيكولوجي ليس إلا] فنقول: فضلاً عن أن الوحي الإلهي هو الذي أعلن لنا أن الخلاص يكون بالإيمان أو بالحري الإيمان الحقيقي، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذه الدعوى، فهناك فرق شاسع بين الإيمان وبين الإِيحاء السيكولوجي، فالثاني هو الاعتماد على قوة النفس، أما الأول فهو الاعتماد على قوة الله، ولذلك فإن الإيحاء السيكولوجي أثره محدود، أما الإيمان فلا حد لآثاره، لأنه لا حد لقدرة الله. ولذلك كان المسيح لا يطلب إلا الإيمان الحقيقي من راغبي الخلاص والشفاء معاً (اقرأ مثلاً يوحنا 3: 18، 6: 4، 11: 25 ومرقس 6: 6 ومتى 17: 20).
ومن ثم ليس هناك أي مبرر كتابي أو اختباري أو منطقي أو مبرر آخر مهما كان نوعه يؤيد القول "إن الخلاص من دينونة الخطية هو بالإيمان والأعمال" على الإطلاق.
[67]- عن تاريخ الكنيسة (لموسهيم)، تاريخ الاصلاح (لدوبنييه)، واللاهوت النظري (للأب يوحنا خوري)، واللاهوت النظري (لالياس الجميل)، ومختصر المقالات اللاهوتية (للأب بيروني).
[68]- مما تجدر الإشارة إليه، أن المال الذي كان يجمع من صكوك الغفران كان ينفق في أول الأمر في الأعمال الخيرية، ولكن رجال الدين أخذوا يستولون عليه بعد ذلك لأنفسهم.
[69]- هذا مع العلم بأن الحروب المذكورة لا تتفق مع حق الله على الإطلاق، لأن "الله محبة"، والمحبة لا تقتل ولا تسلب بل تتأنى وترفق، ولا تطلب ما لنفسها بل ما هو لغيرها (1 كورنثوس 13: 4 – 6). فضلاً عن ذلك فإن الدفاع عن الدين أو العمل على نشره لا يكون بالأساليب الروحية: مثل الصوم والصلاة، والتصرف بالقداسة والأمانة في كل شيء.
[70]- مما تجدر الإشارة إليه هي هذه المناسبة أن موضوع الإيمان والأعمال لم يشغل عقول المسيحيين فحسب، بل شغل أيضاً عقول المسلمين. فبينما قالت فرقة المرجئة إن الإيمان هو التصديق بالقلب ولا عبرة بالأعمال، وقالت غيرها إن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، قالت المعتزلة إن الإيمان هو التصديق وهو الصوم والصلاة والصدقة كذلك. وبينما كانت المرجئة تقول إن مرتكب الكبائر لا يخلد في النار إن كان مؤمناً، لأنه لا يخلد فيها إلا الكافر، وقالت غيرها إن من عمل الكبائر يعاقب عليها ثم يثاب على إيمانه، قالت المعتزلة إن صاحب الكبائر لا يجوز أن يغفر الله له، وبذلك فإنه يخلد في النار (تحفة المزيد على جوهرة التوحيد، وحاشية البيجوري على متن السنوسية).
[71]- لأن الكنيسة (كما يتضح من الكتاب المقدس) هي جماعة المؤمنين الحقيقيين في كل العالم.
[72]- أما القول (بأن ها المبدا يدعو المؤمنين إلى الكسل وعدم الجهاد، ومن ثم فهو غير صحيح) فلا نصيب له من الصواب. لأن الخلاص من دينونة الخطية هو بعمل الله وحده لأجلنا، وليس بعملنا نحن مع الله. فالمسيح وحده هو الذي صلب، وهو وحده الذي تحمل قصاص خطايانا وما علينا نحن إلا أن نقبل فداءه الكريم هبة مجانية بالإيمان. ولإيضاح هذه الحقيقية نقول إذا اشترك صانع جاهل مع صانع ماهر في عمل لا يستطيع القيام به إلا الثاني، فهل يؤدي ذلك إلى إتقان العمل المذكور أو سرعة إنجازه؟ طبعاً كلا. وهكذا الحال تماماً إزاء الخلاص من دينونة خطايانا، ومن ثم يجب ألا نتظاهر بالحكمة والفهم ونظن أنه يمكن أن ننسج خيطاً في سبيل هذا الخلاص.
أما مجال الجهاد، فهو في الانتصار على الخطية التي تثور في نفوسنا والتي نتعرض لها أثناء السير في العالم الحاضر، لأن النصرة عليها تتوقف على طاعتنا نحن لله ووقوفنا بجانبه ضد الخطية، ونحن حاملون سلاحه الكامل في كل حين (أفسس 6: 10 – 20)
- عدد الزيارات: 5046