Skip to main content

الحجج القائلة بجواز هلاك المؤمنين الحقيقيين

اتضح لنا مما سلف أن المؤمنين الحقيقيين لا يمكن أن يهلكوا على الإطلاق، ولكن هناك آيات يقول بعض المسيحيين أنها تدل على جواز هلاك هؤلاء المؤمنين، الأمر الذي يدل في نظرهم على أن الخلاص يكون بالإيمان والأعمال، لذلك رأينا من الواجب أن نفحص هذه الآيات أيضاً لكي يتضح لنا الغرض الحقيقي منها.

أولاً – الآيات الواردة في البشائر وأعمال الرسل

1- قال المسيح مرة للآب عن تلاميذه "الذين أعطيتني حفظتهم، ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب" (يوحنا 17: 22)

المعنى (أ) إن المراد "بابن الهلاك" هنا (كما نعلم جميعاً)، هو يهوذا الاسخريوطي، ويهوذا هذا كان ابناً للشيطان لأنه كان لصاً كما كان شخصاً خبيثاً ليست فيه ذرة من الوفاء أو الإخلاص (يوحنا 6: 70، 71)، فضلاً عن ذلك فقد رضى أن يتربع الشيطان في قلبه وأن يقيم عن يمينه (لوقا 22: 3، مزمور 109: 1 – 6)، ولذلك فإنه لم يكن واحداً من المكتوب عنهم أن الآب أعطاهم للمسيح (لأن الآب لا يعطي للمسيح إلا المؤمنين الحقيقيين)، وبالتبعية لم يكن يهوذا هذا واحداً من الذين قال المسيح عنهم إنه حفظهم.

(ب) وإذا كان ذلك كذلك، يكون معنى الآية التي نحن بصددها أن الذين أعطاهم الآب للمسيح لم يهلك منهم أحد، أما ابن الهلاك (أو بالحري ابن الشيطان الذي لم يعطه الآب للمسيح) فقد هلك، الأمر الذي لا مفر منه على الإطلاق. فهلاك يهوذا إذاً ليس دليلاً على جواز هلاك المؤمن الحقيقي، بل على وجوب هلاك المؤمن المزيف، الذي يتبع المسيح ويتتلمذ له والحال أن قلبه بعيد عن المسيح بعداً عظيماً.

2- قال المسيح لتلاميذه في مثل الزارع إن هناك فريقاً من الناس يسمعون كلمة الله، وبعد ذلك يخطفها إبليس من قلوبهم. وإن فريقاً آخر يسمعون هذه الكلمة بفرح، ولكن عندما تصادفهم التجربة يرتدون. وإن فرقاً ثالثاً يسمعون كلمة الله، ولكن هموم الحياة وغناها ولذاتها تؤثر عليهم، فلا يأتون بثمر (لوقا 8: 9 – 14)، وهذا دليل على جواز ارتداد بعض المؤمنين بالمسيح وهلاكهم إلى الأبد تبعاً لذلك.

المعنى: يتضح من مثل الزارع أن الأشخاص المذكورين لا يمثلون المؤمنين الحقيقيين بل يمثلون المؤمنين بالاسم، لأنهم قبلوا كلمة الله قبولاً سطحياً فحسب. أما المؤمنون الحقيقيون فقد قال المسيح عنهم إنهم عندما يسمعون كلمة الله يحفظونها في قلب جيد صالح، ثم يثمرون بعد ذلك بصبر (لوقا 8: 15)، ولذلك ليس هناك مجال للظن بأن المؤمنين الحقيقيين معرضون للارتداد – هذا مع العلم بأن الارتداد لا يراد به السقوط في خطية خلقية، بل يراد به إنكار المسيح والتحول عنه (2 تسالونيكي 2: 3، عبرانيين 2: 12).

3- قال المسيح كل غصن لا يأتي بثمر ينزعه[51]، وكل ما يأتي بثمر ينقيه ليأتي بثمر أكثر. إن كان أحد لا يثبت في يطرح خارجاً كالغصن، فيجف ويجمعونه ويطرحونه في النار فيحرق" (يوحنا 15: 2 – 6)

المعنى (أ) إن المسيح لا يشبه بالكرمة من جهة كونه المخلص والفادي، بل من جهة كونه مصدر الشهادة الصادقة لله في العالم الحاضر [وذلك بالمقابلة مع كرمة إسرائيل التي فشلت في هذه الشهادة قديماً،فأمر الله بقطعها (أشعيا 5: 1 – 6)، وإقامة غيرها عوضاً عنها] والدليل على ذلك أن المسيح لم يقل "الذي يثبت في لا يهلك (مع أن هذا حق لا شك فيه)، بل قال "الذي يثبت في وأنا فيه، هذا يأتي بثمر كثير" (يوحنا 15: 5).

(ب) مما تقدم يتضح لنا أنه لا يراد بالأغصان المؤمنون الحقيقيون وحدهم، بل كل المنتمين إلى المسيح. وهؤلاء ينقسمون (كما نعلم) إلى فريقين: مؤمنين حقيقيين ومؤمنين بالاسم: فالمؤمنون الحقيقيون هم الذين تسري فيهم حياة المسيح، فيأتون بثمر لأجل مجد الله، ومن ثم يقوم الله بتنقيتهم من وقت إلى آخر لكي يأتوا بثمر كثير. أما المؤمنون بالاسم فلا نرى فيهم حياة المسيح، لأنهم غير ثابتين فيه أو مولودين منه، بل هم ينتسبون إليه انتساباً إليه انتساباً ظاهرياً فحسب، ومن ثم لا يأتون بثمر ولا يكون لهم نصيب إلا الهلاك الأبدي.

4- قال المسيح "متى خرج الروح النجس من الإنسان، يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة ولا يجد، ثم يقول ارجع إلى بيتي الذي خرجت منه، فيجده مكتوباً مزيناً. ثم يذهب ويأخذ معه سبعة أرواح أخر أشر منه، فيدخل ويسكن هناك فتصير أواخر ذلك الإنسان أشر من أوائله، هكذا يكون أيضاً لهذا الجيل الشرير" (متى 12: 43 – 45).

المعنى: إن كنس البيت وتزيينه هنا، ليس رمزاً لتطهير القلب وتنقيته لله، إنما رمز التهيئة للشر والضلال. وللإيضاح نقول: إنه بالرجوع إلى الإصحاح المقتبسة منه هذه الآيات وإلى تاريخ اليهود (المعبر عنهم هنا بالجيل الشرير)، نرى أن الله كان قد طهرهم من عبادة الأوثان التي توغلوا فيها ردحاً طويلاً من الزمن (وذلك بواسطة ما قضي به عليهم من ضيقات ونفي إلى بلاد بعيدة) حتى خرج منهم الروح النجس، أو بالحري روح العبادة للأوثان الذي كان متغلغلاً في نفوسهم. ولما عدوا من المنفى إلى بلادهم واستقروا فيها، أتى المسيح إليهم لكي يتمم لهم مواعيد الله الطيبة لآبائهم. لكن عوضاً عن أن يرحبوا به ويقبلوه، احتقروه ورفضوه فصاروا كبيت فارغ مزين مكنوس، مستعد لاستقبال الشيطان الذي خرج منهم من قبل. ولذلك ستكون أواخرهم أشر من أوائلهم إذ سيؤمنون بالمسيح الكذاب الذي يدعي بأنه إله، ويقدمون له العبادة والسجود (2 تسالوينكي 2: 4)، وبهذا العلم يهيئون أنفسهم لقبول أشر الويلات والضربات كما يتضح من (سفر الرؤيا ص 20: 16 – 21).

5- قال المسيح لبطرس الرسول "هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني طلبت من أجلك لكيلا يفنى إيمانك ... وأنت متى رجعت ثبت إخوتك" (لوقا 22: 31 – 32).

المعنى (أ) لا شك أنه لو كان المسيح قد ترك المؤمنين وشأنهم، لكانوا (أو لكان كثيرون منهم) قد انحرفوا عنه وفني إيمانهم، وذلك بسبب التجارب المتعددة التي يتعرضون لها من الجسد والعالم والشيطان. ولكن المسيح لم يتركهم ولن يتركهم على الإطلاق، إذ أنه قائم في كل حين ليشفع فيهم، فقد قال الرسول: "يا أولادي اكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا. وإن أخطأ أحد لنا شفيع[52] عند الآب يسوع المسيح البار[53] وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً" (1 يوحنا 1 – 2). ومن ثم فالمؤمنون لا يعتمدون في أمر خلاصهم الأبدي على أنفسهم بعد إيمانهم بالمسيح، بل يعتمدون على المسيح نفسه الذي مات مرة لأجل التكفير عن خطاياهم، ويحيا الآن ليشفع فيهم ويعضدهم، ولذلك فإن إيمانهم لا يفنى على الإطلاق.

(ب) وإن نظرة إلى الآيات التي نحن بصددها ترينا بكل جلاء عدم تعرض المؤمنين الحقيقيين للهلاك، فبطرس الرسول قبل أن يتعرض للتجربة، طلب المسيح لأجله حتى لا يفنى إيمانه، لا بل وأنبأه أيضاً بأنه سينهض من هذه التجربة ويثبت أخوته بعد نهوضه منها (لوقا 22: 32)، وفعلاً لم يفن إيمان بطرس، وبعد أن نهض من زلته كان عوناً لتثبيت أخوته، كما قال له المسيح من قبل – ولذلك لا سبيل أمام المتشككين للظن بأن المؤمن الحقيقي يمكن أن يفنى إيمانه

6- إن حنانيا وسفيرة الذين كذبا على بطرس قد ماتا وهلكا (أعمال 5: 1 – 11)، مع أنهما كانا مؤمنين حقيقيين.

الرد (أ) إن الوحي لا يقول إنهما هلكا للسببين الآتين (الأول) إن الخطية التي سقطا فيها لم تكن خطية التجديف على الروح القدس أو الارتداد عن المسيح وإنكار كفارته اللتين لا مجال لغفرانهما، بل كانت خطية الكذب فحسب. وهذه الخطية مثل غيرها من الخطايا التي يتعرض لها المؤمن الحقيقي يمكن غفرانها بفضل كفارة المسيح (1 يوحنا 1: 9).. (الثاني) إن الحكم الإلهي بالموت الجسدي على مؤمن ما، لا يدل على أنه ارتد وهلك، فالمؤمن الذي ارتكب خطية الزنا، سلمه الرسول للشيطان لهلاك الجسد حتى تخلص روحه في يوم الرب يسوع (1 كورنثوس 5: 1 – 5)، والمؤمنون الذي تناولوا مائدة الرب بدون استحقاق سمح الله بتفشي المرض والموت فيهم، تأديباً لهم على تهاونهم، حتى لا يدانوا فيما بعد مع العالم (1 كورنثوس 11: 29 – 32).

(ب) وإننا بقولنا هذا لا نبيح لأنفسنا أو لغيرنا الكذب أو الزنا أو الاستهانة بمائدة الرب، بل بالعكس ننادي بوجوب التدقيق في التصرف والامتناع عن كل شبه شر، وكل ما في الأمر نعلن بناء على كلمة الله، أن الله عندما يرى أحد المؤمنين الحقيقيين قد أخطأ خطية مهينة لمجده، يقضي عليه بأشر أنواع الموت؛ أما روحه، فنظراً لأن المسيح بكفارته التي قدمها على الصليب قد حمل العذاب الأبدي الذي تستحقه، لا يمكن أن تهلك على الإطلاق، بل إذ تنتفي بتأديب الله لها، يمكنها أن تستأنف علاقتها مع الله في الأبدية.

ثانياً – الآيات الواردة في الرسائل وسفر الرؤيا

1- قال بطرس الرسول "لأنه إذا كانوا بعد ما هربوا من نجاسات العالم بمعرفة الرب والمخلص يسوع المسيح، يرتبكون أيضاً فيها فينغلبون، فقد صارت لهم الأواخر أشر من الأوائل" (2 بطرس 2: 20).

المعنى (أ) بالرجوع إلى الإصحاح المقتبسة منه هذه الآية، يتضح لنا أن الأشخاص المذكورين هم المعلمون الكذبة الذين كانوا يدسون البدع بين المؤمنين، كما كانوا يجدفون على الرب، ولذلك فإن دينونتهم (كما قال الوحي) من قديم لا تتوانى وهلاكهم لا ينعكس (عدد 1 – 3). وإذا كان الأمر كذلك، لا يعقل إطلاقاً أنهم كانوا يوماً ما من المؤمنين الحقيقيين، لأن هؤلاء المؤمنين لا يأتون بالبدع، ولا يخطر ببالهم إطلاقاً أن يجدفوا على الرب، كما أن الله اختارهم من البدء ليس للدينونة، بل للخلاص بواسطة المسيح (2 تسالونيكي 2: 3).

أما عن الاعتراض [بأن هؤلاء الأشخاص مكتوب عنهم أن الرب اشتراهم، وأنهم هربوا من نجاسات العالم (عدد 2)، وأنهم تبعاً لذلك يكونون من المؤمنين الحقيقيين] فنقول (أولاً) إن المسيح بذل نفسه ليس من أجل المؤمنين الحقيقيين وحدهم بل من أجل العالم بأسره، فقد قال الوحي عن المسيح إنه "حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يوحنا 1: 29)، ومن ثم يكون قد اشترى كل الساكنين فيه وليس المؤمنين الحقيقيين فحسب – ومثل "الحقل والكنز" الذي يعلن لنا أن المسيح اشتراهما معاً، خير دليل على هذه الحقيقة (متى 13: 14)[54].

(ب) إن هرب الأشخاص المذكورين من نجاسة العالم لم يكن هرباً قلبياً، مثل هرب المؤمنين الحقيقيين بل كان هرباً ظاهرياً فقط، والدليل على ذلك أنه لم يستمر طويلاً – فضلاً عن ذلك فإن الكتاب المقدس يسجل عنهم إنهم (أثمة) و "أولاد اللعنة" و "آبار بلا ماء" و "عبيد الفساد" وأنهم يشبهون "الكلاب" و "الخنازير" (2 بطرس 2: 9 – 22)، وهذه الصفات لا يوصف بها المؤمنون الحقيقيون ، لأن هؤلاء يوصفون بأنهم أبرار، وأولاد الله، ومملوؤن من ثمر البر، وأحرار في المسيح (1 يوحنا 3: 2، يوحنا 8: 36، فيلبي 1: 11)، كما أنهم يوصفون بأنهم مثل الحملان التي تطيع راعيها ولا تطيق القذارة على الإطلاق (لوقا 10: 3)، ولذلك فالآيات التي نحن بصددها ليست دليلاً على جواز هلاك المؤمنين الحقيقيين، إنما دليل على أن المؤمنين المزيفين لا بد أن ينكشف أمرهم ويتضح للناس ما انطوت عليه نفوسهم من نجاسة وشر، وفي نهاية الأمر لا بد أن ينالوا من الله القصاص الأبدي الذي يستحقونه[55].

2- قال بطرس الرسول "لأنه الوقت لابتداء القضاء من بيت الله، فإن كان (هذا القضاء) أولاً منا، فما نهاية الذين لا يطيعون إنجيل الله؟ وإن كان البار بالجهد يخلص، فالفاجر والخاطئ أين يظهران؟" (1 بطرس 4: 17 – 18)

المعنى (أ) كلنا يعلم أن اله لكماله المطلق لا تطغى محبته على قداسته أو رحمته على عدالته، ولذلك إذا وجد واحداً من المؤمنين الحقيقيين قد فعل خطية ما، فإنه وإن كان لا يقضي عليه بالهلاك الأبدي بفضل كفارة المسيح التي اعتمد عليها هذا المؤمن من كل قلبه، غير أنه تعالى يوقع عليه ما يراه مناسباً من التأديب حتى يكف عن الخطية (1 بطرس 4: 1) ولا يدان مع العالم (1 كورنثوس 11: 32)، ولذلك فهذا التأديب أو القضاء يكون في الوقت الحاضر. وقوله "لأنه الوقت لابتداء القضاء من بيت الله (أو بالحري من المؤمنين الحقيقيين)"، خير شاهد على هذه الحقيقة. وإذا كان كذلك فالقول "إن كان البار بالجهد يخلص"، لا يراد به أنه بالجهد يخلص من الدينونة الأبدية، بل يخلص من التأديب أثناء وجوده على الأرض، إذا انحرف عن حق الله (1 كورنثوس 11: 31)

(ب) مما تقدم يتضح لنا أن الشيطان وإن كان يستعمل كل الوسائل ليبعد المؤمنين الحقيقيين عن الله، غير أن الله في محبته الغنية لا يتركهم وشأنهم بل يجتذبهم إليه بكل وسيلة من الوسائل. وإن اقتضى الأمر، فإنه يوقع عليهم أقسى التأديبات، حتى يمتنعوا عن الأهواء والشهوات العالمية ويلزموا طريق القداسة الذي يتفق مع مقامهم في المسيح (عبرانيين 12: 10)، كما ذكرنا فيما سلف.

3- قال يعقوب "لا تكونوا معلمين كثيرين يا أخوتي، عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم" (يعقوب 3: 1 و 2)، فإذا كان هذا هو الحال مع يعقوب نفسه، فماذا يكون الحال معنا.

الرد (أ) كانت العادة الشائعة عند اليهود قديماً أن كل من أقيم معلماً للناموس، يجمع حوله فريقاً من الناس لكي يظهر لهم ما لديه من علم، بينما يكون في الواقع جاهلاً وفي حاجة ماسة إلى التعليم. وفي العصر الرسولي أيضاً تطاول بعض الذين عرفوا الإنجيل وأخذوا مركز المعلمين لكي (حسب اعتقادهم) ينافسوا الرسل في خدمتهم (2 كورنثوس 11)، وهؤلاء الأشخاص قد تناسوا أنهم جهلة وخطاة، وأنهم بتصرفهم هذا يحطون من مركز التعليم ويسببون العثرة للمؤمنين، ولذلك تكون لهم دينونة أعظم من الأشخاص الذين لا يتصرفون مثل تصرفهم.

(ب) وإذا كان ذلك كذلك، أدركنا أن يعقوب يضم نفسه إلى هؤلاء المعلمين، ليس لأنه واحد منهم، بل لأنه يحمل خطيتهم على نفسه من باب العطف عليهم، حتى يلفت أنظار السامعين إلى حديثه ويؤثر في ضمائرهم. وقد نحا هذا النحو بعينه بولس الرسول فقال مرة "إن أخطأنا باختيارنا .... لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا" قاصداً بذلك ليس نفسه والرسل معه، بل اليهود الذين كان يخاطبهم فحسب.

4- قال بولس الرسول "لأن كثيرين يسيرون ممن كنت أذكرهم لكم مراراً، والآن أذكرهم أيضاً باكياً وهم أعداء صليب المسيح، الذين نهايتهم الهلاك، الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم، الذين يفتكرون في الأرضيات" (فيلبي 3: 18 – 19).

المعنى: (أ) من هذه العبارة يتضح لنا أن الأشخاص المذكورين بالإضافة إلى فجورهم وشرورهم، كانوا أعداءً لصليب المسيح. وبما أن المؤمنين الحقيقيين حتى إن علموا خطية ما، لا يمكن أن يكونوا أعداء لصليب المسيح، إذ أنهم جميعاً يفتخرون بالصليب كل الفخر ويعتزون به كل الاعتزاز (غلاطية 6: 14)، إذاً فهؤلاء الأشخاص هم مؤمنون بالاسم فحسب. وعن مثل هؤلاء قال يوحنا الرسول مرة "منا خرجوا، لكنهم لم يكونوا منا، لأنهم لو كانوا منا، لبقوا معنا" (1 يوحنا 2: 19).

(ب) فهذا الفريق من الناس والفريق الذي تحدثنا عنه فيما سلف، يشبهان الأرض التي تكمن داخلها الأحجار أو التي تنبت فيها الأشواك (متى 23: 18 – 23)، فإن البذور وإن كانت تنمو فيها أحياناً، لكن سرعان ما تلتف حولها الأشواك وتخنقها، أو تعترض طريقها الأحجار فتعطل نموها وتقضي عليها – وهذان النوعان من الأرض (كما يتضح من حديث المسيح، ليسا رمزين للمؤمنين الحقيقيين، إنما هما رمزان للمؤمنين بالاسم، الذين يسمعون أقوال الله، ولكن لأنهم يختزنونها في عقولهم وليس في قلوبهم، لا يستطيعون أن يأتوا بثمر ما.

(جـ) فضلاً عما تقدم، فإننا إذا وضعنا أمامنا أن قول الرسول "لأن كثيرين ممن كنت أذكرهم لكم مراراً"، لا يراد به أنه كان يذكرهم بالمدح والثناء، بل كان يذكرهم محذراً المؤمنين الحقيقيين منهم [والدليل اللغوي على ذلك أنه لا يقول (ولكن الآن أذكرهم باكياً)، بل يقول "والآن أذكرهم أيضاً باكياً"، متجنباً كلمة (ولكن) التي تدل على اختلاف ما بعدها عما قبلها، ومستعملاً عوضاً عنها كلمة "أيضاً" التي تدل على أن ما بعدها يتمشى مع ما قبلها، ومستعملاً عوضاً عنها كلمة "أيضاً" التي تدل على أن ما بعدها يتمشى مع ما قبلها]، أدركنا أن هؤلاء الأشخاص أنفسهم هم الأنبياء الكذبة. الذين كان الرسول يحذر المؤمنين الحقيقيين منهم من قبل كما ذكرنا – وتتضح هذه الحقيقة بكل جلاء في التراجم الأجنبية – اقرأ مثلاً نسخة The Diaglott اليونانية الإنجليزية، ونسختي (The New English Bible & Moffatt) الإنجليزيتين.

5- قال بولس الرسول عن نفسه "أقمع جسدي واستعبده، حتى بعد ما كرزت للآخرين [وأصبحوا (مثلاً) مؤمنين عاملين] لا أصير أنا نفسي مرفوضاً" (1 كورنثوس 9: 27).

المعنى: (أ) بالرجوع إلى الإصحاح المقتبسة منه هذه الآيات، يتضح لنا أن هذا الرسول كان يجاهد ليس لكي يخلص نفسه من العذاب الأبدي، بل لكي يخلص الآخرين منه – كما أنه كان يجاهد ليس لكي تكون له الحياة الأبدية، بل لكي يفوز بالإكليل جزاء لجهاده في خلاص الآخرين (1 كورنثوس 9: 25). لذلك فالرفض الذي كان يخشاه ليس هو الحرمان من الحياة الأبدية[56]، بل الحرمان من الإكليل. والإكليل ليس هو الحياة الأبدية، بل هو المكافأة التي يعطيها الله للمؤمنين الحقيقيين لأجل خدمتهم له في العالم الحاضر، وذلك بجانب الحياة الأبدية التي هي هبة منه بفضل كفارة المسيح. ولعل أوضح دليل على ذلك، أن الأكاليل كثيرة. أما الحياة الأبدية فواحدة، وأن الوحي يذكر عن المؤمنين الحقيقيين أنهم في سجودهم للمسيح في الأبدية سيطرحون أكاليلهم عند قدميه[57] (رؤيا 4: 10)، والحياة الأبدية لا تطرح بأي معنى من المعاني.

(ب) ويتضح لنا صدق ما تقدم إذا درسنا الآية التي نحن بصددها في ضوء التشبيه الذي استخدمه الرسول المذكور. فإن رجل السباق الذي ذكره يجب (أولاً) أن يكون إنساناً حياً وليس ميتاً، وهكذا الحال من جهة الجهاد الروحي فإنه لا يقوم به الشخص الخاطئ الميت بالذنوب والآثام، بل المؤمن الحقيقي الذي له حياة روحية أبدية (ثانياً) إن الشخص المذكور إذا لم يحرز الفوز في السباق، لم يكن يتعرض للإعدام أو الطرد من بلاده أو الحرمان من جنسيته، بل كان يحرم فقط من الجعالة أو المكافأة، وإنه لذلك كان يدعى مرفوضاً" – وهذه الكلمة بعينها هي التي اعتبر الرسول نفسه مستحقاً أن يوصف بها في حالة عدم قيامه بقمع جسده واستعباده[58]، أو بالحري في حالة التراخي في خدمة الرب وخلاص النفوس، الأمر الذي يدل على أن الرفض الذي كان يتحاشاه، ليس هو الرفض من جهة الحياة الأبدية، بل الرفض من جهة المكافأة، لأن هذه لا تعطى إلا للمجاهدين من خدام الإنجيل وغيرهم من الذين يكرمون الرب بأعمالهم الصالحة.

(جـ) أخيراً نقول: إن الكلمة اليونانية المترجمة إلى العربية مرفوضاً، يمكن أن تترجم أيضاً "غير مؤهل" أو "بدون برهان"، أو بالحري غير مؤهل للخدمة، وبدون برهان على أحقيته في القيام بها (كما جاء في نسخة The Diaglott اليونانية الإنجليزية وترجمة Moffatt الإنجليزية). كما أن هذه التسمية بعينها، هي كلمة "مرفوضون" [الواردة في قول الرسول (وأصلى إلى الله أنكم لا تعملون شيئاً ردياً، ليس لكي نظهر نحن مزكين، بل لكي تصنعوا أنتم حسناً ونكون كأننا مرفوضون" (2 كورنثوس 13: 6 – 7)]، ومعناها (كما نعلم) ليس محرومين من السماء، بل معناها "عاطلون أو غير نافعين للخدمة"، الأمر الذي يدل على أن بولس الرسول كان يجاهد في خدمة الإنجيل لا خشية أن يهلك إلى الأبد مثل الأشرار والفجار، بل خشية أن يكون عاطلاً أو عديم النفع في خدمة الإنجيل، وأن يحرم تبعاً لذلك من المكافأة كما ذكرنا.

6- قال بولس الرسول للعبرانيين "لأن الذين استنيروا مرة وذاقوا الموهبة السماوية، وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة، وقوات الدهر الآتي[59] وسقطوا، لا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة. إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه، لأن أرضاً قد شربت المطر الآتي عليها مراراً كثيرة وأنتجت عشباً صالحاً للذين فلحت من أجلهم تنال بركة من الله. ولكن إن أخرجت شوكاً فهي مرفوضة وقريبة من اللعنة التي نهايتها للحريق" (عبرانيين 6: 4 – 8)

المعنى (أ) بالرجوع إلى الإصحاح المقتبسة منه هذه الآيات يتضح لنا أنها تتحدث عن أشخاص بعدما اعتنقوا المسيحية عادوا إلى اليهودية التي خرجوا منها، وبعملهم هذا كأنهم يرفضون المسيح ويصلبونه مرة ثانية، إذ بعودتهم إلى هذه الديانة يعلنون أن الخلاص لا يكون بالمسيح بل بالذبائح والناموس، ولذلك قال الوحي عنهم أنهم "سقطوا". وكلمة "سقطوا" هنا ترد في الأصل اليوناني "باربيتو"، ومعناها ليس "سقطوا" فقط، بل "سقطوا بعيداً" أو بالحري "ارتدوا عن المسيح[60] - وطبعاً أشخاص مثل هؤلاء لا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة أو تأهيلهم للقبول أمام الله، لأنه ليس هناك مجال للتوبة والقبول أمامه بعد التحول عن كفارة المسيح والاستعاضة عنها بالناموس والذبائح الحيوانية. أما المؤمنون الحقيقيون إذا سقطوا في خطية ما، فإن الله يغفرها لهم عند رجوعهم إليه واعترافهم القلبي بها أمامه (1 يوحنا 1: 9)، كما أن المؤمنين بالاسم وغير المؤمنين معاً يفتح الله أمامهم باب التوبة إلى نهاية حياتهم على الأرض، وعندما يتوبون ويؤمنون إيماناً حقيقياً يعطيهم حياة أبدية.

(ب) كما أن الصفات التي يسندها الرسول إلى الأشخاص السابق ذكرهم، لا تقوم دليلاً على أنهم كانوا مؤمنين بالحق، وذلك للأسباب الآتية:

(1) إن "الاستنارة مرة" قد لا تعني أكثر من أن الحق الإلهي ضاء على نفوسهم فترة من الزمن، دون أن يستقر فيها – وبلعام العراف كانت له هذه الاستنارة، ومع ذلك لم يكن من المؤمنين الحقيقيين (العدد 24: 16)

(2) و "تذوق المواهب السماوية وقوات الدهر الآتي"، قد لا تعني أكثر من إدراكهم السطحي لهذه وتلك[61]، دون أن يكون لهذا الإدراك أثر في قلوبهم – وأشخاص كثيرون كان لهم الإدراك المذكور، بل وكانوا يعملون المعجزات، ومع ذلك سوف لا يكون لهم نصيب سوى العذاب الأبدي، فسيقول المسيح في وقت المحاكمة "إني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم"، لأشخاص قالوا أنهم كانوا يتنبئون ويخرجون شياطين باسمه (متى 7: 21 – 22).

(3) و "شركة الروح القدس" لا يراد بها هنا الاتحاد الدائم بالروح القدس الذي يتمتع به المؤمنون الحقيقيون ا لمولودون من الله (يوحنا 14: 16 – 25)، بل يراد بها مجرد الإحساس بعمله وقتاً[62] ما – وشاول أول ملك لليهود وقع مرة تحت تأثير الروح القدس فأخذ يتنبأ مع الأنبياء، ومع ذلك كان شخصاً بعيداً عن الله لأنه لم يكن من رجال الإيمان (1صموئيل 1: 11 – 12).

(4) و "تذوق كلمة الله"، أو بالحري مجرد الشعور بأهميتها وفائدتها، يشترك فيه كل الذين يصغون إليها ويفهمونها، ولكن لا يعطونها مجالاً للتأثير على نفوسهم – كما هي الحال مع رجال الدين الذين ينادون بكلمة الله، ومع ذلك فإن قلوبهم بعيدة عن الله بعداً عظيماً، ومن ثم لا يفرقون شيئاً أمامه عن أشر الخطاة.

(جـ) ولإزالة كل لبس يمكن أن يعلق بذهن القراء من جهة ما ذكرناه نقول: إن العبرانيين الذين كتب الرسول لهم هذه الأقوال كانوا فريقين: الفريق الأول هو المؤمنون بالاسم الذين ارتدوا بقلوبهم عن المسيح، وهؤلاء هم الذين يقول الرسول عنهم "أنهم سقطوا ولا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة"[63] والفريق الثاني هو المؤمنون بالحق الذين ظلوا مؤمنين بالمسيح، ومن ثم يمسك المسيح بهم ويحفظهم معه إلى الأبد، وهؤلاء قال الرسول لهم بعد الآيات السابق ذكرها: "ولكننا قد تيقنا من جهتكم أيها الأحباء أموراً أفضل ومختصة بالخلاص، وإن كنا نتكلم هكذا"، كما قال هلم "فلذلك إذ أراد الله أن يظهر أكثر كثيراً لورثة الموعد عدم تغيير قضائه توسط بقسم، حتى بأمرين عديمي التغير (هما الوعد والقسم) لا يمكن أن الله يكذب فيهما، تكون لنا تعزية قوية، نحن الذين التجأنا لنمسك بالرجاء الموضوع أمامنا" (عبرانيين 6: 9 – 18)، الأمر الذي يدل على أن التحذير المقترن بالتهديد وجهه الرسول إلى المؤمنين بالاسم فقط، أما المؤمنون بالحق فقد وجه إليهم كلمات التعزية والتشجيع والتعضيد.

(د) أخيراً نقول: إن الأرض (التي شربت المطر الآتي عليها مراراً كثيرة ثم أخرجت شوكاً وحسكاً، ولذلك تكون مرفوضة وقريبة من اللعنة وحريق النار) تمثل الإسرائيليين كأمة، فالله كان قد أرسل إليهم عشرات الأنبياء محرضاً إياهم على التوبة ومعلناً لهم عن خلاصه في المسيح، ولكنهم رفضوا كل أقواله واستمروا في شرهم وطغيانهم، ولذلك رفضهم الله وصب عليهم لعنته، فأثار عليهم الرومان الذين أحرقوا عاصمتهم وهدموا هيكلهم، حتى لم يبق فيه حجر على حجر وبالإضافة إلى ذلك سوف تكون نهايتهم العذاب إلى الأبد مع غيرهم من الأشرار والفجار، إن لم يتوبوا عن خطاياهم ويؤمنوا بالمسيح إيماناً حقيقياً.

7- وقال بولس الرسول للعبرانيين أيضاً "فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعد ما أخذنا معرفة الحق، لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا، بل قبول دينونة مخيف وغيرة نار عتيدة أن تأكل المضادين" (عبرانيين 10: 26).

المعنى (أ) بالرجوع إلى الكتاب المقدس يتضح لنا أن الخطايا التي لا تغفر، هي خطية التجديف على الروح القدس[64] وخطية إنكار المسيح، أما باقي الخطايا فتغفر عند الاعتراف بها والإقلاع عنها، فمكتوب "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا[65] ويطهرنا من كل إثم" (1 يوحنا 1: 9)، أي أن الغفران الذي نناله بالاعتراف لا يكون نابعاً من عطف الله ورحمته فحسب (كما يعتقد معظم الناس) بل ومن أمانته وعدالته أيضاً، وذلك بفضل كفارة المسيح الدائمة الأثر، الأمر الذي يبعث إلينا الثقة الكاملة في الحصول على هذا الغفران.

ومن ثم فالخطأ الوارد ذكره في الآيات التي نحن بصددها ليس هو الانحراف عن حياة التقوى والقداسة (وإن كان خطأ مثل هذا له خطورته ويقع تأديب الله على فاعله)، بل هو إنكار المسيح أو مقاومة الخلاص الذي قام الله به في شخصه. لأن الرسول يقول عن فاعلي هذا الخطأ إنهم مضادون (أو مقاومون) للحق – ونظرة واحدة إلى الإصحاح الوارد فيه هذه الآيات تثبت الحقيقة التي ذكرناها، فالرسول كان يقارن للعبرانيين بين الذبائح الحيوانية التي لم تستطع التكفير عن خطاياهم أو تكميلهم (عدد 10 – 11)، وبين ذبيحة المسيح التي كفرت عن كل الخطايا وأكملت المقدسين إلى الأبد (عدد 14 – 18)، ومن ثم يكون الخطأ، الذي أشار إليه الرسول بعد ذلك مباشرة في قوله "فإنه إن أخطأنا"، هو طبعاً رفض المسيح والعودة إلى الناموس والذبائح اليهودية كما ذكرنا. لأنه إذا كانت ذبيحة المسيح هي وحدها التي تكفر عن الخطايا، لا تكون هناك كفارة لمن يرفضون هذه الذبيحة (كما فعل الأشخاص الوارد ذكرهم في الإصحاح)، بل تكون لهم دينونة مخيفة.

(ب) والعودة إلى الناموس والذبائح الحيوانية، بعد معرفة كمال كفارة المسيح، تعتبر كما ذكر الوحي "دوساً لابن الله واحتقار لدم العهد وازدراء بروح النعمة" (عدد 29) – وهذه الأعمال لا تصدر طبعاً من أحد المؤمنين الحقيقيين، لأن هؤلاء إن سقطوا في خطية ما، لا يمكن مطلقاً أن تكون خطية دوس ابن الله، أو الازدراء بروح النعمة، أو احتقار دم العهد، بل إنهم بجانب ما يشعرون به من أسى في نفوسهم بسبب هذا السقوط، يعظمون النعمة ويمجدون دم العهد، ويكرمون ابن الله، الذي أحبهم إلى المنتهى على الرغم من الطبيعة البشرية الفاسدة الكامنة فيهم، ولذلك لا يجوز اتخاذ هذه الآيات دليلاً على جواز تعرض أحد المؤمنين للدينونة الأبدية.

(جـ) أما عن الاعتراض [إن هؤلاء الأشخاص مكتوب عنهم أنهم قدسوا بدم العهد (عدد 29)، وأنهم تبعاً لذلك يكونون من المؤمنين الحقيقيين]، فنقول إن كلمة التقديس لا ترد فقط بمعنى التكميل، بل ترد أيضاً بمعنى "التخصيص والتكريس" فالقول عن شخص إنه مقدس للرب، معناه "مكرس ومخصص له". وهذه الكلمة ترد بمعنى أوسع للدلالة على قبول الوجود في الدائرة المسيحية، حتى مع عدم الإيمان بالمسيح. فالمرأة غير المؤمنة (أو بالحري الوثنية أو اليهودية)، التي كانت فيما سلف مقترنة بشخص من ديانتها، ولكن لما أتت المسيحية آمن بالمسيح دونها، وعلى الرغم من ذلك أرادت أن تظل معه، كانت تعتبر "مقدسة فيه" (1 كورنثوس 7: 11).

وإذا كان ذلك كذلك، أدركنا أن تقديس العبرانيين المذكورين بدم العهد، لا يراد به تكميلهم أو جعلهم بلا لوم أمام الله. بل اعتبارهم بسبب إيمانهم الظاهري بالمسيح أنهم أصبحوا من المنتمين إليه، ومن ثم يكون تقديسهم (إن جاز التشبيه)، مثل تقديس زوجة غير مؤمنة كانت منتسبة إلى رجل مؤمن، فإن مجرد انتسابها إليه لا يخلصها من خطاياها أو يعطيها حياة أبدية _ وقد أشار الرسول إلى هذا التقديس العام فقال في موضع آخر من رسالته إلى العبرانيين عن المسيح "لكي يقدس الشعب بدم نفسه، تألم خارج الباب" (عبرانيين 13: 12)، وتقديس المسيح للشعب (أو بالحري للشعب بأسره) لا يترتب عليه أن يخلصوا جميعاً أو يصبحوا بلا لوم أمام الله، (لأن الذين يتمتعون بهذين الامتيازين، هم فقط المؤمنون الحقيقيون)، بل أن يكونوا فقط على مقربة منه ويمكنهم التمتع بخلاصه إذا آمنوا إيماناً حقيقياً.

8- قال الله: "أما البار فبالإيمان يحيا، وإن ارتد لا تسر به نفسي" (عبرانيين 10: 38).

المعنى: (أ) إن "الارتداد" يراد به التحول عن المسيحية والعودة إلى اليهودية كما ذكرنا فيما سلف. والآية بالوضع الذي هي عليه، لا تدل على أن الرسول يؤكد أن باراً قد ارتد، بل تدل على أن الرسول في سبيل التنبير على حقيقة الخلاص بالإيمان الحقيقي بالمسيح دون سواه، يفترض أسوأ الفروض، أو يفترض المستحيل كما يقولون (لأن كلمة إن لا يراد بها التأكيد بل الافتراض)، فيعلن أن الله لا يسر بأي إنسان يرتد إن الإيمان بالمسيح، حتى إن كان هذا الإنسان باراً لديه، ولذلك فهذه الآية بالوضع الواردة به ليست دليلاً على جواز هلاك البار أو المؤمن الحقيقي، بل هي تحذير عام لأكبر العبرانيين وأصغرهم من خطر العودة إلى اليهودية، الذي كانوا يتعرضون له كثيراً بسبب الاضطهاد الذي كان يحيق بهم من ذويهم، أو بسبب محاولة الكهنة المتكررة لإعادتهم إلى هذه الديانة.

(ب) فكلمة "إن" في الآية التي نحن بصددها تشبه إذاً كل الشبه نظيرتها في قول الرسول للغلاطيين "إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم به، فليكن أناثيما (أو محروماً)" (غلاطبة 1: 8)، فإن الرسول لا يقصد بها أنه من الممكن أن يبشرهم يوماً، بغير ما بشرهم به من قبل، بل إنه يفترض أسوأ الفروض أو يفترض المستحيل كما ذكرنا، لكي يحذر الغلاطيين من التحول عن الإنجيل الذي نادى لهم به، مهما كانت الأحوال أو الظروف. ومع كلٍ فالرسول قد أغلق الباب أمام أي ظن من جهة جواز ارتداد المؤمنين الحقيقيين عن المسيح، فقد قال بعد هذه الآية مباشرة "وأما نحن فلسنا من الارتداد للهلاك، بل من الإيمان لاقتناء النفس" أو بالحري لخلاصها إلى الأبد (عبرانيين 10: 29).

ومع كلٍ فإن كلمة ارتد هنا، لا يراد بها إن ارتد البار، بل إن أرتد أحد، لأنه ليس هناك في الأصل اليوناني (كما يقول العلماء) ضمير يعود عل البار المذكور، [اقرأ مثلاً ترجمتى الكتاب المقدس: Darby& The New English Bible] فإذا كان ذلك كذلك، لا يبقى هناك شك في أن الارتداد الوارد ذكره في الآية التي نحن بصددها، ليس خاصاً بالبار أمام الله والثابت في الإيمان أمامه، بل خاص بشخص مؤمن بالاسم يمكن أن يتعرض للارتداد وتكون نهاية الهلاك.

7- قال بولس الرسول عن المسيح إنه "صالحكم الآن في جسم بشريته بالموت ليحضركم قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه، إن ثبتم على الإيمان، متأسسين وراسخين وغير منتقلين عن رجاء الإنجيل الذي سمعتموه" (كولوسي 1: 23). وقال أيضاً عن المسيح، "وبيته نحن إن تمسكنا بثقة الرجاء وافتخاره ثابتة إلى النهاية" (عبرانيين 3: 6 – 14).

المعنى (أ) إن ثبات الإنسان على الإيمان دليل على أنه مؤمن حقيقي، وعدم ثبات آخر على الإيمان أو ارتداده عنه دليل على أنه كان مؤمناً بالاسم فحسب، فقد قال الرسول عن المرتدين "منا خرجوا، لكنهم لم يكونوا منا. لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا" (1 يوحنا 2: 9). والناس الذين تشبه قلوبهم الأرض الصخرية (أو بالحري الذين يكون إيمانهم إيماناً اسمياً أو سطحياً فحسب)، قيل عنهم أنهم "يؤمنون إلى حين وفي وقت التجربة يرتدون" (لوقا 8: 13). لذلك فالرسول باستعاله "إن" لا يقرر أن المؤمنين الحقيقيين يرتدون، بل يحذرهم فقط من خطر الارتداد. وقد وجه هذا التحذير إلى الكولوسيين والعبرانيين بصفة خاصة. لأن الكولوسيين كانوا معرضين للتأثر بآراء الفلاسفة الذين كانوا يقولون بتعذر الاتصال بالله إلا بواسطة طبقات من الملائكة، يجب إكرامها وتقديم العبادة اللازمة لها (كولوسي 2: 18)، ولأن معظم العبرانيين كانوا معرضين للتأثر بآراء الكهنة الذين كانوا يقولون بضرورة حفظ الناموس والطقوس كشرط أساسي للحصول على الخلاص (أعمال 15: 1 – 24).

(ب) ومع كلٍ فإنه من ثنايا الآيات التي نحن بصددها، يمكن أن يتجلى لنا أن مقام المؤمنين الحقيقيين من العبرانيين والكولوسيين (الذين خاطبهم الرسول بهاتين الآيتين) كان ثابتاً أمام الله بناء على كفارة المسيح الدائمة الأثر. وأن الغرض من الشرط الوارد في هذه الآيات، هو فقط تحريضهم على نبذ آراء الفلاسفة والكهنة السابق ذكرهم، لأن الرسول لا يقول لهم (ونحن سنكون بيته، إن تمسكنا بثقة الرجاء)، بل يقول "وبيته نحن إن تمسكنا"، أي أن كوننا بيت الله[66]، هو حقيقة راهنة نتمتع بها الآن، وليس سوف نتمتع بها في المستقبل، ولا يقول (إن الله سيصالحنا إن ثبتنا على الإيمان)، بل يقول إنه "صالحنا الآن"، أي أن كوننا مصالحين مع الله، هو حقيقة راهنة نتمتع بها الآن، وليس سوف نتمتع بها في المستقبل.

9- قال بولس الرسول "من أجل عدم الإيمان قطعت (الأمة الإسرائيلية) من الزيتونة الجيدة، وأنت "أيها الأممي) بالإيمان ثبت. لا تستكبر بل خف، لأنه إن كان الله لم يشفق على الأغصان الطبيعية، فلعله لا يشفق عليك أيضاً. فهوذا لطف الله وصرامته. أما الصرامة فعلى الذين سقطوا، وأما اللطف فلك إن ثبت في اللطف، وإلا فأنت أيضاً ستقطع من (الزيتونة الجيدة)" (رومية 11: 20 – 22).

المعنى: اتضح لنا مما سلف أن المؤمن الحقيقي هو الذي يثبت في المسيح، وأن المؤمن بالاسم هو الذي لا يثبت فيه، لأن علاقته مع المسيح هي علاقة ظاهرية فحسب، والآيات التي نحن بصددها لا تتعارض مع الحقيقة بل تؤيدها كل التأييد كما يتضح مما يلي:

(أ) فالزيتونة الجيدة كما نرى في الإصحاح المقتبسة منه هذه الآيات، رمز للدائرة التي ينال فيها البشر بركات الله على أساس الإيمان الحقيقي، والأغصان الطبيعية هم اليهود بوصفهم أول من نشؤا في هذه الدائرة، وذلك بسبب ولادتهم من إبراهيم الذي هو أبو المؤمنين واتصالهم بالأنبياء الذين كانوا يدعمونهم من وقت إلى آخر في هذه الدائرة. ولكن وجود اليهود في دائرة الإيمان لم يكن يضمن لهم الحصول على بركات الإيمان، إذا لم يظهروا إيمان إبراهيم في حياتهم. ولذلك قطع الله اليهود غير المؤمنين من الزيتونة الجيدة، وأخذ يطعم فيها الذين اعترفوا بالمسيح من الأمم الوثنية لكي يأتوا بثمر روحي عوضاً عنهم.

ولذلك كان من البديهي أن ينذر الله هؤلاء الأشخاص بأنهم إذا لم يأتوا بثمر (أو بالحري إذا لم يكرموا الله في تصرفاتهم إزاء إحسانه عليهم)، فإنه كما لم يشفق على الأغصان الطبيعية (أو بالحري اليهود)، بل قطعهم وشتتهم، هكذا سيفعل بالأشخاص المذكورين أيضاً كما يتضح من سفر الرؤيا.

(ب) فحديث الرسول هنا، هو عن معاملة الله مع الأمة اليهودية، ومع الأمم المعترفة بالمسيحية بصفة عامة، أما المؤمنون الحقيقيون في الأمم المذكورة فإنهم يقدرون نعمة الله ويسيرون في سبيله، ولذلك لا يقطعون من الزيتونة، بل يظلون فيها عاملين على الإتيان بالثمر الذي يمجد الله، كما أنهم سيخطفون إلى السماء لكي يكونوا مع المسيح، قبل توقيع الدينونة الساحقة على هذه الأمم (1 تسالونيكي 4: 17).

ومما يثبت ذلك أن الأمة اليهودية (وإن لم تخل من وجود بعض أشخاص أتقياء فيها إلى الآن) لكن لأنها رفضت المسيح، كأمة قطعها الله تماماً من مركز الشهادة له في العالم – وعدم وجود هيكل لها في الوقت الحاضر كما كان لها من قبل، خير شاهد على هذه الحقيقة. ولكن الذين آمنوا من هذه الأمة إيماناً حقيقياً بالمسيح لم يقطعوا من الزيتونة، بل ظلوا فيها مع الذين آمنوا بالمسيح من الأمم الأخرى، يشهدون معهم له ويتمتعون ببركاته ويثمرون لمجده.

10- قال الوحي "ولكن الروح يقول صريحاً إنه في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان تابعين أروحاً مضلة وتعاليم شياطين، في رياء أقوال كاذبة موسومة ضمائرهم" (1 تيموثاوس 4: 1). كما حذر المؤمنين شركاء الدعوة السماوية من الارتداد عن الله الحي، وطلب منهم ألا يقسوا قلوبهم، واضعاً أمامهم أن الذين خلصوا من العبودية قديماً قد هلكوا بسبب عدم الإيمان" (عبرانيين 3: 7 – 16). وقال عن بعض الكريتيين إنهم يقرون بأنهم يعرفون الله، ولكنهم بالأعمال ينكرونه، إذ هم رجسون غير طائعين ومن جهة كل عمل صالح مرفوضون (تيطس 1: 16). وقال عن الإنسان المعبر عنه بالوحش إنه "أعطى أن يصنع حرباً مع القديسين ويغلبهم" (رؤيا 13: 7) ولو أمكن سيضل المختارون أيضاً (متى 24: 24)، الأمر الذي يدل على تعرض المؤمنين الحقيقيين للارتداد والهلاك

الرد (أ) إن الناس المذكورين في الآية الأولى، ضمائرهم موسومة أي لا يشعرون بما يرتكبونه من إثم، ولذلك لا يكونون من المؤمنين الحقيقيين لأن هؤلاء تؤنبهم ضمائرهم على أي هفوة تصدر منهم. والمذكورين في الآية الثالثة قال: الوحي عنهم من قبل إنهم متمردون يتكلمون بالباطل ويخدعون العقول السليمة، ولذلك يكونون معلمين كذبة دخلوا خلسة إلى كنيسة الله، ومن ثم لا يكونون أيضاً مؤمنين حقيقيين.

(ب) إن التحذير الوارد في الآية الثانية موجه إلى جميع اليهود الذين قبلوا الدعوة السماوية، وهؤلاء كما مر بنا ينقسمون إلى قسمين: مؤمنين بالحق ومؤمنين بالاسم. والتحذير يوجه إلى الفريق الأول لكي يزداد ثباتاً في الإيمان ويوجه إلى الفريق الثاني لكي لا يكون لهم عذر إذا قسوا قلوبهم وارتدوا عن المسيح، ومن ثم ليس هناك مجال للظن بأن المؤمنين الحقيقيين معرضون للهلاك الأبدي.

(جـ) أما من جهة الآيتين الأخيرتين، فإن انتصار الوحش على القديسين (كما يتضح من الكتاب المقدس) لا يراد به أنه يجذبهم لعبادته والسجود له، بل أنه يشتتهم ويقتل الكثيرين منهم كما أن قول الوحي إن المسحاء الكذبة سيعملون معجزات "حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضاً" يراد به تصوير تأثير معجزاتهم على البشر، وليس إعلان ارتداد المختارين، لأنه إذا ارتد هؤلاء، فمن يبقى بدون ارتداد؟! ومن ثم لا مجال لاتخاذ هذه الآيات دليلاً على جواز ارتداد أو هلاك المؤمنين الحقيقيين.

11- قال الوحي "إذاً من يظن أنه قائم، فلينظر أن لا يسقط" (1 كورنثوس 10: 12)، وإن كنا ننكر المسيح فهو سينكرنا أيضاً (2 تيموثاوس 11 و 12). وقال المسيح لملاك كنيسة فلادلفيا "تمسك بما عندك لئلا يأخذ أحد إكليلك" (رؤيا 3: 11). وقال لملاك كنيسة أفسس "فاذكر من أين سقطت وتب واعمل الأعمال الأولى، وإلا فإني آتيك عن قريب وأزحزح منارتك من مكانها إن لم تتب" (رؤيا 3: 5)، الأمر الذي يدل على جواز تعرض المؤمنين الحقيقيين للهلاك الأبدي.

الرد (أ) إن المؤمنين الذين يفتخرون بحكمتهم وعلمهم (كما يحدث في كنيسة كورنثوس) يتعرضون أكثر من غيرهم للسقوط عند التجربة. أما الذين يضعون أمام أنفسهم ضعفهم الطبيعي ويحيون حياة الصلاة والاتكال على الله كل حين، فإنهم يحترسون من السقوط. غير أن الكلمة اليونانية للسقوط هنا، وكما يتضح من الإصحاح الواردة فيه أيضاً، لا يراد بها الارتداد أو إنكار المسيح، بل الانحراف عن حياة التقوى والقداسة. وهذا الانحراف وإن كان شراً لا يليق بالمؤمنين الحقيقيين ويحول بينهم وبين الشركة مع الله في العالم الحاضر، غير انه لا يؤدي بهم إلى الهلاك الأبدي بفضل كفارة المسيح التي يعتمدون عليها بكل قلوبهم، بل يعرضهم فقط للتأديب المرير في هذا العالم كما ذكرنا فيما سلف.

(ب) إن إنكار أحد للمسيح معناه ارتداده عنه، وجزاؤه الطبيعي أن المسيح ينكره كذلك، فقد قال "من ينكرني قدام الناس أنكره أنا أيضاً قدم ملائكة الله" (لوقا 12: 9)، ومن ينكر المسيح أو يرتد عنه لا يكون ثابتاً فيه من أول الأمر، ومن ثم لا يكون مؤمناً حقيقياً.

ولكن إنكار المسيح كما يكون عن إصرار سابق وتكون عاقبته الهلاك الأبدي، يكون أيضاً عن خوف وضعف، وفي هذه الحالة تتجه نعمة الله الغنية للمؤمن العاثر وتقيمه من عثرته، كما كانت الحال مع بطرس. فقد أنكر المسيح ثلاث مرات. غير أنه عندما ندم وتاب، أعاده المسيح إلى المكانة التي كان يشغلها من قبل. ومع كل فإنه مما يملأ المؤمنين الحقيقيين يقيناً من جهة خلاصهم الأبدي، أن الرسول قال بعد العبارة التي نحن بصددها "يعلم الرب الذين هم الله"، ومن ثم لا يمكن أن يمسهم سوء على الإطلاق، وإذ لهم هذا اليقين فإنهم يحبون الله ويتجنبون كل إثم، على النقيض من المؤمنين بالاسم.

(جـ) إن الإكليل كما ذكرنا فيما سلف ليس هو الحياة الأبدية بل هو المكافأة التي يعطيها الله للأمناء من خدامه، ومن ثم ففقدان الإكليل لا يتبعه فقدان الحياة الأبدية – وهذه الحقيقة لا تدفع طبعاً أي مؤمن حقيقي للإهمال في خدمة الرب، لأن هذا المؤمن يتفانى في خدمته حتى لو لم يكن هناك إكليل ينتظره، إذ أن لسان حلاه في كل حين "أحب الرب لا لكي أربح النعيم، ولا لكي أنجو من عذاب في الجحيم. بل أحبه لأن حبه لي يحلو، وهو الذي من فضله أحبني قبل"

(د) أما المنارة فهي رمز الشهادة للمسيح، وزحزحة المنارة إبعادها عن مركز الشهادة له، وليس حرمان صاحبها من الحياة الأبدية – غير أن هذه الحقيقة لا تساعد احد المؤمنين الحقيقيين على الإهمال في محبة الرب وخدمته، بل بالعكس تدفعه للتفاني في هذه وتلك كما اتضح لنا مما سلف.

أما الخطية التي سقط فيها ملاك كنيسة أفسس وبسببها أنذره المسيح بزحزحة منارته، فهي (كما يتضح من الإصحاح المقتبسة منه هذه الآية) أنه ترك محبته الأولى للرب، وهذه الخطية وإن كانت بسيطة في نظرنا إلا أنها تؤلم قلب الرب المحب غاية الألم، لأنه إذا أعطى الإنسان كل ثروة بيته عوضاً عن المحبة تحتقر احتقاراً.

12- إن بولس الرسول سجل عن ديماس الذي كان يلازمه في خدمة الإنجيل أنه تركه، لأنه أحب العالم الحاضر (2 تيموثاوس 4: 10)، كما أن هناك كثيرين من المؤمنين كانوا يصلون كثيراً ويعظون كثيراً، لكنهم اتجهوا أخيراً إلى العالم وأصبحوا أشر الخطاة، وهذا دليل على أن المؤمنين الحقيقيين قد يرتدون ويهلكون

الرد (أ) إن الكتاب المقدس يوصينا ألا نحكم قبل الوقت (1 كورنثوس 4: 5)، ومع ذلك نقول: إن ديماس وإن كان مؤمناً حقيقياً، لكن نظراً لأنه كان قد عانى مع بولس الرسول مشقات كثيرة في خدمة الإنجيل التجوالية مدة من الزمن، أراد أن يحيا في تسالونيكي حياة الاستقرار مع المؤمنين العاديين الذين فيها (2 تيموثاوس 4: 10)، ومن ثم لا يكون قد ارتد عن المسيح وتعرض للهلاك الأبدي، بل مال فقط إلى حياة الراحة والهدوء في العالم الحاضر، مثل معظم المؤمنين. ومما يثبت ذلك أن الرسول لا يقول إن ديماس ترك الرب، بل يقول إنه تركه هو. هذا وقد تصرف بعض رفقاء بولس الرسول تصرفاً يشبه تصرف ديماس، ومع ذلك طلب بولس من الرب ألا يؤاخذهم عنه (2 تيموثاوس 4: 10)، الأمر الذي يدل على أنهم كانوا جميعاً مؤمنين حقيقيين، وكل ما في الأمر أنهم لم يطيقوا احتمال متاعب الخدمة، وأرادوا أن يحيوا حياة هادئة مثل غيرهم من المؤمنين، ولذلك فإنهم وإن كانوا لا يهلكون بفضل كفارة المسيح التي اعتمدوا عليها بكل قلوبهم، غير أنهم يكونون قد حرموا أنفسهم من المكافأة بالأكاليل التي كان من الممكن أن يحصلوا عليها بجانب الحياة الأبدية، كما عرضوا أنفسهم لمتاعب أكثر في العالم الحاضر.

(ب) أما من جهة الأشخاص المذكورين في الحجة التي أمامنا (إن جاز أن تسمى حجة)، فنحن لا نبني إيماننا على ما نشاهده من تصرفات الناس وتطوراتهم التي نراها، بل نبني إيماننا على كلمة الله دون سواها وبما أن هذه الكلمة تعلن لنا بكل وضوح أن المؤمن الحقيقي (في نظر الله وليس في نظرنا) له حياة أبدية ولن يهلك على الإطلاق، وأنه إن فعل خطية، فالله يؤدبه عنها في العالم الحاضر لكي لا يدان في الأبدية، إذاً يجب ألا نشك في الحق الإلهي الخاص بثبات مقام المؤمنين الحقيقيين أمام الله إلى الأبد، كما ذكرنا بالتفصيل في كتاب "طريق الخلاص".

أما الذين يعتقدون أن لهم حياة أبدية لأنهم يصومون ويصلون ويتصدقون أكثر من غيرهم، فيرفضون هذا الحق، وكأنهم يأبون أن يقفوا أمام الله جنباً إلى جنب بجوار اللص والعشار والسامرية وغيرهم، الذين بسبب إيمانهم الحقيقي بالمسيح تمتعوا بالحياة الأبدية، على الرغم من الخطايا الكثيرة التي اقترفوها. ولكن لو أدرك هؤلاء الأشخاص مقدار فساد الطبيعة العتيقة الكامنة فيهم، والذي يتجلى في ما يصدر منهم من خطايا في الباطن والظاهر، وأدركوا أيضاً أن كل الأعمال الصالحة التي يعملونها لا تستطيع أن تكفر عن خطية واحدة من خطاياهم، بل أن هذه الأعمال تكون في بعض الأحيان بسبب النقائص التي تشوبها، هي في ذاتها خطايا تحتاج إلى غفران الله، لطأطؤا رؤوسهم خجلاً، وشكروا الله الذي جعل الخلاص هبة مجانية من لدنه بواسطة الإيمان الحقيقي بالمسيح.

الاعتراضات والرد عليها

1- إن المؤمنين الحقيقيين وإن كانوا محفوظين في يد الآب ولا يستطيع أحد أن يخطفهم منه (يوحنا 10: 28 – 29) ومختومين بالروح القدس إلى يوم الفداء الذي يمكن أن تتغير فيه أجسادهم إلى شبه المسيح (أفسس 4: 3)، لكن يمكنهم إذا أرادوا، أن ينتزعوا أنفسهم من يد الآب ويعصوا الروح القدس الذي فيهم ومن ثم يتعرضون للهلاك الأبدي، ويكون هلاكهم في هذه الحالة ليس بسبب عجز في الله عن صيانتهم، بل بسبب إرادتهم العاصية المتمردة.

الرد (أ) إذا كان هذا العصيان هو الارتداد عن المسيح، فإنهم يكونون مؤمنين بالاسم، وهؤلاء المؤمنون لا خلاص لهم سواء ظلوا حاملين اسم المسيح على أنفسهم أم ارتدوا عنه. أما إذا كان العصيان المذكور تصرفاً يتعارض مع الكمال، فإنه لا يؤدي بهم إلى الهلاك، إن كانوا مؤمنين حقيقيين، بل يعرضهم فقط للتأديب في الزمن الحاضر. فقد قال الرسول عن المؤمن الذي في ساعة من ساعات الطيش ارتكب خطية الزنا، أن يسلم للشيطان لهلاك الجسد حتى تخلص روحه في يوم الرب يسوع (1 كورنثوس 5: 5)، ولذلك ظل هذا المسكين يذوق الأمرين حتى كاد يبتلع من الحزن المفرط، ولما رأى الرسول أنه قد ندم وتاب، طلب من المؤمنين أن يقبلوه في الشركة التي كانت له معهم من قبل (2 كورنثوس 2: 5 – 11).

(ب) فمحبة الله للمؤمنين الحقيقيين تجعله يضمن لهم الخلاص الأبدي بفضل كفارة المسيح، حتى إذا انحرفت إرادتهم عن طريقه بسبب ما يكمن فيهم من ضعف. ولذلك قال الرسول لهم "انتم الذين بقوة الله محروسون بإيمان لخلاص مستعد أن يعلن في الزمان الأخير لأجلكم" (1 بطرس 1: 5)، ومن ثم فإن عصيان إرادتنا لا يمكن أن يسلبنا من يد الله، لأن محبته أقوى من إرادتنا بما لا يقاس. كما أنه يعرف جهلنا الطبيعي الذي يدفعنا أحياناً إلى الابتعاد عنه، ومن ثم لا يعاملنا حسب أعمالنا بل حسب نعمته الغنية (هوشع 11: 4). والنبي الذي اختبر معاملة الله هذه صرخ مرة قائلاً عنه "يرد نفسي يهديني إلى سبل البر من أجل اسمه" (مزمور 23: 3)، وليس من أجل طاعتي أو توبتي أو أعمالي.

(جـ) أخيراً نقول: إن الرسول الذي شبعت نفسه بمحبة الله ورحمته وعنايته هتف مرة قائلاً "فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء ملائكة، ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله (لنا) في المسيح يسوع ربنا" (رومية 8: 38 – 39) – والمراد بالخليقة الأخرى هنا: الشياطين والأبالسة وأعوان السوء، وليس هذا فحسب بل وأيضاً أجسادنا المتمردة بما فيها من إرادة جامحة عاصية – ومن ثم يجب أن نتشجع ونتشدد ونزداد يقيناً وثقة في إلهنا، فإنه لا يمكن أن يتركنا، ولا يمكن أن يدعنا نتركه أيضاً. فنحن أولاده الأعزاء الذين اشتراهم بالدم الكريم، وجعلهم أعضاء جسد المسيح من لحمه وعظامه (أفسس 5: 30) – وجسد المسيح لا يمكن أن يبدو ناقصاً بأي حال من الأحوال.

وهذه الثقة لا تفسح المجال أمام المؤمن الحقيقي للتساهل مع الشر، بل بالعكس تقوده للتعبد لله والسجود له، كما تقوده للتفاني في طاعته وعمل مشيئته – فالابن البار لا يمكن أن يستغل محبة أبيه في الإساءة إليه، بل بالعكس إن هذه المحبة تكون حافزاً قوياً له لإكرام أبيه بكل وسيلة من الوسائل.

2- جدير بشخص مثل بولس الرسول أن يثق في خلاص المسيح ويقول: "لأني عالم بمن آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم (2 تيموثاوس 1: 11)، أما نحن فليس لنا أن نثق مثله، لأننا نرى كثيرين من المؤمنين بعدما بدأوا بالروح، كملوا بالجسد (غلاطية 3: 3). ولذلك لا يمكن أن تكون لنا ثقة في خلاص المسيح لنا، إلا إذا كنا بعيدين عن كل خطية تلومنا عليها ضمائرنا (1 يوحنا 3: 21)، وكنا ثابتين في شخصه كل الثبات (1 يوحنا 2: 28).

الرد (أ) إننا لا ننكر أن بولس الرسول أفضل منا جميعاً دون استثناء، وأن له أكاليل أكثر من أي واحد منا، ولكن نشكر الله لأنه ليس أفضل منا في شيء من جهة الخلاص الأبدي، لأنه لم يتمتع بهذا الخلاص على أساس أعماله بل على أساس إيمانه بالمسيح، وهذا هو نفس الأساس الذي نبني نحن عليه خلاصنا. فقد قال بطرس الرسول لنا "إلى الذين نالوا معنا إيماناً ثميناً مساوياً لنا"، ولماذا كان إيماننا مساوياً لإيمان الرسل أنفسهم؟ يجيب هذا الرسول قائلاً: لأنه "يبر إلهنا والمخلص يسوع المسيح" (بطرس 1: 1)، وبر إلهنا هو إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون" (رومية 3: 22)، لأنه لا فرق.

(ب) ولما كان ذلك كذلك، قال الرسول بولس للمؤمنين الحقيقيين جميعاً "فنثق ونسر بالأولى أن نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب، لأننا نعلم (علم اليقين) أنه إذا نقض بيت خيمتنا الأرضي، فلنا في السماء بناء من الله غير مصنوع بيد، أبدي" (2 كورنثوس 5: 8 و 1)، وقال أيضاً لأنه بالمسيح "لنا كلينا قدوماً في روح واحد إلى الآب" (أفسس 2: 18)، وبه "لنا جراءة وقدوم بإيمانه عن ثقة" (أفسس 3: 13)، ولذلك حرضنا بالقول "فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه" (عبرانيين 4: 16). وقال يوحنا الرسول أيضاً لنا "أيها الأحباء: الآن نحن أولاد الله، ولم يظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم (علم اليقين) أنه إذا أظهر (المسيح) نكون مثله، لأننا سنراه كما هو" (1 يوحنا 3: 2 – 3).

(جـ) إن الذين بالروح وكملوا بالجسد هم الغلاطيون، لأنهم بالإيمان قبلوا الروح القدس، فتقدست قلوبهم وصاروا أولاداً لله مغفورة خطاياهم ومقبولين لديه كل القبول في المسيح. ولكنهم في عدم معرفة رجعوا بعد ذلك إلى اليهودية يلتمسون القبول أمام الله بواسطة الناموس والختان الجسدي، الأمر الذي دعا الرسول لمخاطبتهم بالقول "أيها الغلاطيين والأغبياء. من رقاكم حتى لا تذعنوا للحق. أنتم الذين أمام عيونكم قد رسم يسوع المسيح بينكم مصلوباً" (غلاطية 3: 1)، كما أنه قال عن الذين حرضوهم على العودة إلى اليهودية إنهم كلاب وفعلة الشر وأهل القطع، لأن ختانهم ختان جسدي لا روحي (فيلبي 3: 1 – 4)، وأشخاص أمثال هؤلاء يكونون قد تنكروا للمسيح الذي فداهم، ودللوا على أنهم لم يكونوا مؤمنين حقيقيين به.

(د) إن الثقة التي ذكر الرسول في الآية الثالثة أنها تكون لنا لدى الله إذا لم تلمنا قلوبنا، هي الثقة في أننا ننال كل ما نسأله منه في الصلاة (1 يوحنا 3: 21) وليس أننا لا نحرم من الوجود معه في الأبدية – وطبعاً ليس المراد بذلك أنه يمكن للمؤمنين الحقيقيين أن يتساهلوا مع الشر طالما أن لهم حياة أبدية ثابتة بفضل كفارة المسيح، كلا لأن هؤلاء المؤمنين قد ماتوا للخطية بصليب المسيح ومن ثم لا يمكن أن يعيشوا فيها بعد الإيمان.

(هـ) أما عن الآية الثانية الخاصة بالثقة، فهي "الآن أيها الأولاد: اثبتوا (أنتم) فيه، حتى إذا أظهر يكون لنا (نحن) ثقة ولا نخجل (نحن) منه في مجيئه" – ومعنى هذه الآية أن المؤمنين الحقيقيين يجب أن يعيشوا ثابتين في المسيح، ليس لكي يتمتعوا بالخلاص، بل لأنهم تمتعوا به وأصبحوا أولاداً لله وأخوة للمسيح. والغرض من ثباتهم فيه أن يستمدوا منه الحياة الروحية التي تقدرهم على الإتيان بالثمر الذي يمجده. فضلاً عن ذلك، فإن هذا الثبات (كما يتضح من الآية التي نحن بصددها) يرفع رؤوس خدام الإنجيل الذين بشرورهم واعتنوا بهم فلا يخجلون عند ظهور المسيح، كما لو كانوا قد تعبوا باطلاً. وقد قصد الرسول بهذه العبارة أن يمس قلوب المؤمنين، حتى يثابروا على الثبات في المسيح. وهذا هو ما ذهب إليه بولس الرسول أيضاً، فقد قال للمؤمنين "إذاً يا إخوتي الأحباء والمشتاق إليهم، يا سروري وإكليلي: اثبتوا هكذا في الرب أيها الأحباء" (فيلبي 4: 1)، "متمسكين بكلمة الحياة لافتخاري في يوم المسيح بأني لم أسع باطلاً ولا تعبت باطلاً" (فيلبي 2: 16).

والخجل الذي أشار إليه يوحنا الرسول هنا هو خجل وقتي وليس خجلاً يدوم إلى الأبد. فهو سيكون فقط عندما يقوم الرب بتوزيع الأكاليل. ومع كلٍ فالمؤمنون الذي يتهاونون في سلوكهم، سوف يخجلون أيضاً عندما يرون أنهم لم يفوزوا بشيء من الأكاليل، بينما فاز آخرون بالكثير منها.

3- إن الرسول بعدما قال "لنا ثقة بالدخول إلى الأقداس"، قال لنتمسك بإقرار الرجاء، ولنلاحظ بعضنا بعضاً للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة" (عبرانيين 10: 24). وبعدما قال "لا تطرحوا ثقتكم التي لها مجازاة عظيمة"، قال "لأنكم تحتاجون إلى الصبر، حتى إذا صنعتم مشيئة الله تنالون الموعد" (عبرانيين 10: 35 – 26). وبعدما قال عن الله "الذي بدأ فيكم عملاً صالحاً يكمل إلى يوم يسوع المسيح"، قال "عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح" (فيلبي 1، 27) – وقيامنا بهذه الأعمال يستغرق العمر كله، ومن ثم لا يكون هناك مجال للثقة في الخلاص في الوقت الحاضر، إذ ربما نقصر في شيء من الأعمال المذكورة في أواخر أيامنا، فنهلك إلى الأبد.

الرد: ذكرنا فيما سلف أن الامتياز والمسؤولية صنوان لا يفترقان. ولذلك فمن يريد التمتع بالامتياز دون القيام بالمسؤولية، لا يكون مؤمناً حقيقياً، ومن ثم نكتفي بالقول.

(أ) إن الثقة التي لنا بالدخول إلى الأقداس بناء على كفارة المسيح، من شأنها أن تدعونا للتمسك بالرجاء الموضوع أمامنا، وهذا الرجاء هو رجوع مخلصنا إلينا ليغير شكل جسد تواضعنا حتى يكون على صورة جسد مجده لأننا إذا كنا نؤمن أنه جاء، فإننا نرجو أيضاً أنه سيجيء. ورجاؤنا في مجيئه من شأنه أن يحول أنظارنا إلى السماء، ويدعونا للإكثار من الأعمال الصالحة، وإظهار المحبة لكل الناس.

(ب) إن صنع مشيئة الله يراد به هنا (كما يتضح من الرسالة إلى العبرانيين) رفض الناموس والطقوس والإيمان الحقيقي بالمسيح. أما كلمة "الموعد" فيراد بها في الكتاب المقدس أمور كثيرة حسب القرائن الخاصة بها. فموعد الآب المذكور في (لوقا 24: 49 وأعمال 1: 4) يراد به موعد الروح القدس. والموعد الوارد في (1 تيموثاوس 4: 8) يراد به موعد الحياة السعيدة في الأرض والسماء. والموعد في الآية التي نحن بصددها يراد به التمتع بالمجد السماوي، لأن هذا المجد هو النتيجة الملازمة للإيمان الحقيقي.

(جـ) أما من جهة الآية الثالثة فهي إعلان صريح عن نعمة الله التي لا حد لها من نحونا، فالله الذي بدأ فينا بالعمل الصالح، لا يمكن أن يتركنا في منتصف الطريق لإرادتنا وأهوائنا أو للتجارب المحيطة بنا، بل لا بد أن يكمل العمل الروحي الذي بدأ به فينا، وأن يكمله إلى يوم يسوع المسيح (فيلبي 1: 6)، لأنه وحده هو العامل فينا أن نريد وأن نفعل من أجل المسرة" (فيلبي 2: 13)، وقد أشار الوحي إلى هذه الحقيقة في مواضع أخرى فقال للمؤمنين "إله السلام نفسه يقدسكم بالتمام، ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح" (2 تسالونيكي 5: 23). و "أمين هو الرب الذي سيثبتكم ويحفظكم من الشرير" (2 تسالونيكي 3: 13). وإن الله "سيحضركم قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه" (كولوسي 1: 21). و "يكملكم في كل عمل صالح، لتصنعوا مشيئته عاملاً فيكم ما يرضى أمامه بيسوع المسيح" (عبرانيين 13: 21) ... و "إله كل نعمة .... يكملكم ويثبتكم ويقويكم ويمكنكم .... ويحفظكم غير عاثرين ويوقفكم أمام مجده بلا عيب في الابتهاج" (1 بطرس 15: 10، يهوذا – 24).

(د) وهذا الإحسان العظيم من جانب إلهنا يدفعنا للسلوك كما يحق للإنجيل بكل تقوى وقداسة. لكن إظهار المحبة لكل الناس، والقيام بكل عمل صالح، وتنفيذ مشيئة الله في حياتنا، وإن كانت أعمالاً جليلة، لكن ليست هي الأساس الذي نبني عليه ثقتنا في الخلاص، إذ أننا نبني هذه الثقة على كفارة المسيح دون سواها كما ذكرنا.

4- إن الخلاص لا يمكن أن يتم في يوم أو أيام، بل يستغرق الحياة بأسرها، لأنه يتطلب منا أن نحفظ أنفسنا في حالة الموت. فقد قال الرسول "احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية" (رومية 6: 11 – 12). ولذلك إذا استيقظت فينا شهوة ما، نكون عرضة لفقدان الخلاص. فقد قال الرسول "إن سلكتم حسب الجسد فستموتون. ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون" (رومية 8: 6)، ومن ثم لا يمكن أن نعرف أننا خلصنا أم لم نخلص، إلا بعد انتقالنا من العالم الحاضر.

الرد (أ) إن الخلاص من دينونة الخطية ليس مكافأة عن جهادنا ضدها، بل هو موهبة مجانية من الله على أساس الإيمان الحقيقي بالمسيح. ونظراً لأن المسيح احتمل دينونة الخطية بأسرها على الصليب، لذلك لنا أن نتمتع بالخلاص منها في الوقت الحاضر بمجرد أن نؤمن به إيماناً حقيقياً. فقد قال المسيح بفمه الكريم "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له (الآن) حياة أبدية" (يوحنا 3: 16).

والخلاص من سلطة الخطية يتم أيضاً في اللحظة التي نؤمن فيها إيماناً حقيقياً، إذ بهذا الإيمان يسكن فينا الروح القدس الذي يجعلنا شركاء لله في طبيعته الأدبية (2 بطرس 1: 2)، غير أنه لبقاء الطبيعة العتيقة فينا بعد الإيمان، نتعرض لمهاجمة الخطية لنا من الداخل ومن الخارج من وقت لآخر. ولكن بعمل الرب القدس فينا واستجابتنا له استجابة كاملة، نستطيع أن ننتصر على الخطية انتصاراً تاماً. وهذا الانتصار وإن كانت له قيمته في نظر الله، لكن ليس هو الذي يؤهلنا للحياة الأبدية (لأن الذي يؤهلنا لها هو كفارة المسيح، بل يؤهلنا فقط لخدمة الرب في العالم الحاضر، والحصول على إكليل منه في العالم الآخر.

(ب) إن إماتة الشهوات (أو اعتبار أنفسنا أمواتاً عنها)، هو من أهم التدريبات التي يجب علينا القيام بها، لكننا لا نفعل ذلك لكي نخلص من الدينونة، بل لأننا خلصنا منها وسكن الروح القدس فينا، إذ أنه لا يستطيع إنسان ما أن يميت أهواءه إن لم يكن قد خلص وسكن الروح القدس فيه، لأنه بطبيعته يميل إليها، والأشياء التي يميل إليها الإنسان لا يستطيع أن يحاربها، ومن ثم تكون محاربته لها محاربة فاشلة.

(جـ) إن السلوك حسب الجسد (أو بالحري العيشة باستمرار في أهوائه) لا يتفق مطلقاً مع حياة المؤمنين الحقيقيين، لأن ناموس روح الحياة الذي حل فيهم يعتقهم من ناموس الخطية والموت (رومية 8: 2)، ولذلك فإنهم إذا سقطوا في الخطية مرة، يتألمون لسقوطهم فيها ويعترفون بها بتذلل أمام الله ليستأنفوا علاقتهم الروحية معه، هذه العلاقة التي لا يستطيعون أن يعيشوا بدونها على الإطلاق.

5- إن الرسول يأمرنا قائلاً "جربوا أنفسكم: هل أنتم في الإيمان" (2 كورنثوس 13: 5)، وهذا دليل على أن الإنسان يجب أن يمتحن نفسه من وقت لآخر، لكي يرى سواء أكان مؤمناً بالاسم أم مؤمناً حقيقياً. وإذا كان ذلك كذلك، فليس هناك مؤمن يستطيع أن يثق الآن أنه نال الخلاص، إذ من المحتمل جداً أن يتبين في آخر حياته أنه مؤمن بالاسم، ومن ثم يهلك إلى الأبد.

الرد (أ) لكي نعرف المراد بهذه الآية، يجب أن ندرسها مع الآيات السابقة لها. فقد قال الرسول من قبل للكورنثوسيين "إذا أنتم (أو بما أنتم) تطلبون برهان المسيح المتكلم في .... جربوا أنفسكم: هل أنتم في الإيمان" _ ومن ثم فإن العبارة الأخيرة هي جواب للأولى وبناء على ذلك فهو لا يأمرهم أن يتحققوا من أنهم مؤمنون أو غير مؤمنين، بل يوجه أنظارهم إلى أنهم إذا أرادوا البرهان على صدق رسوليته، فعليهم أن يفحصوا أنفسهم ليروا إن كان ينقصهم شيء من البركات الروحية عن غيرهم من المؤمنين في الكنائس الأخرى. فإن وجدوا أنه لا ينقصهم شيء من هذه البركات، لا يكون هناك داع لاتهامهم إياه بعدم صدق رسوليته (انظر: 1 كورنثوس 9: 1 – 2، 2 كورنثوس 13: 1 – 13).

(ب) كما أن القول بأنه يجب أن نفحص أنفسنا من وقت لآخر، لنعرف سواء أكنا حصلنا على الخلاص أم لم نحصل بعد، لا أساس له في هذه الآية ولا في أية آية أخرى في الكتاب المقدس، لأننا كمؤمنين حقيقيين متأكدون الآن من خلاصنا الأبدي كل التأكد، بناءً على كفارة المسيح كما أعلن لنا الوحي. أما من يحاول القيام بهذا الفحص منا فكأنه يريد البحث عن البر في ذاته وليس في المسيح، وهذا التصرف نتيجة الفشل إذا رأى خطاياه (لأن الطبيعة العتيقة لا تزال تكمن فيه بعد الإيمان، وستبقى فيه أيضاً حتى انتقاله من العالم الحاضر)، أو الغرور إذا رأى شيئاً من أعماله التي يدعوها الصالحة. ولكن إذا ثبت نظره في المسيح، فإنه بالإضافة إلى أنه يتيقن من خلاصه الأبدي فإنه (دون أن يدري أو يعتريه شيء من الغرور)، يتغير من مجد إلى مجد كما من الرب الروح (2 كورنثوس 3: 18)

(جـ) وإننا بقولنا هذا لا نغض النظر عن وجوب فحصنا لأنفسنا في نور كلمة الله من وقت لآخر، لكي نعرف إلى أي حد نحن نطيع الله ونكرمه، ولكننا لا نقوم بهذا الفحص لنرى إذا كنا قد خلصنا أم لا، بل نقوم به بوصفنا قد خلصنا وأصبحنا أولاداً لله، إذ من شان أولاد الله أن يكرموه في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم.

ومما يؤيد صدق التفسير الذي ذكرناه، أننا إذا رجعنا إلى الرسالتين اللتين كتبهما الرسول إلى الكورنثوسيين، لا نجد أنهم كانوا يوماً في شك من جهة إيمانهم، أو أن الرسول كان في شك من جهته، بل بالعكس نجد علامات الإيمان ظاهرة لهم وله بكل وضوح وجلاء (1 كورنثوس 1: 4 – 9).

6- إن الثقة في الخلاص بالمسيح لا حد لها. ولكن لا يمكن أن تكون لنا شخصياً الثقة في الحصول على هذا الخلاص، لأننا نخطئ كل يوم وأجرة الخطية هي موت، ومن ثم فنحن نتعرض للموت في كل يوم، وبالتبعية نحتاج إلى خلاص كل يوم. فيجب إذاً أن نتواضع ولا يقول أحدنا أنه تمتع بالخلاص الأبدي طالما هو يعيش في العالم الحاضر.

الرد: إن قلوبنا لتنفطر حزناً على صاحب هذا الاعتراض، فهو بلا شك يريد الخلاص، ولكنه يريد خلاصاً بذاته وليس بالمسيح. أما ثقته في المسيح التي يقول عنها فهي ثقة عقلية لا قلبية، لأنها لو كانت قلبية لاستراح واطمأن على خلاص المسيح له، وقبله منه هبة مجانية كما طلب الوحي منا. وإن كان ما سلف ذكره فيه الكفاية للرد على اعتراضه، لكن للفائدة العامة نقول:

(أ) حقاً إننا في أنفسنا من جهة القدرة على الخلاص من دينونة الخطية وسلطتها بقوتنا الذاتية، وعدم ثقتنا هذه هي التي تدعنا نثق في المسيح كل الثقة ونعتمد عليه كل الاعتماد كما طلب الوحي منا – وهذا هو الإيمان. أما إذا كنا نقول إننا نثق في المسيح من جهة خلاص نفوسنا، وفي الوقت نفسه نعتمد على سلوكنا من نحوه، نكون قد تحولنا من المسيح إلى أنفسنا، وتكون ثقتنا فيه ثقة جوفاء ... ويكون مثلنا مثل بطرس الذي بمجرد أن تحول عن المسيح ونظر إلى ذاته أخذ في الغرق (متى 14: 30).

(ب) إن جعل الثقة في الخلاص الأبدي متوقفة على السلوك بالكمال، يؤدي إلى هلاك جميع الناس بما فيهم الرسل والأنبياء، لأنه يعود بهم للاجتهاد للتبرر بالناموس الذي لم يتبرر به أحد، وتصرف مثل هذا إنكار صريح لكفاية كفارة المسيح، ومن ثم يكون الإيمان به في هذه الحالة هو فقط من باب الإعجاب به دون الإفادة منه، ويكون مثلنا مثل الأرملة الجاهلة التي تلقت شيكاً بمبلغ كبير من المال من هيئة خيرية، ولكن عوضاً عن أن تصرفه من البنك وتشتري ما يلزمها من طعام وكساء، وضعته في إطار جميل وعلقته على أحد جدران منزلها معجبة وفخورة به!!

(جـ) إن المؤمن الحقيقي لا يخطئ كل يوم لأنه مولود من الله، وكل مولود من الله لا يخطئ بل يحفظ نفسه والشرير لا يمسه (1 يوحنا 5: 18)، وإن تصادف وأخطأ، فإن ما يفقده ليس خلاص نفسه بل فقط بهجة خلاصها، وهذا هو ما شعر به داود قديماً، فلم يقل لله رد لي خلاصك، بل قال له "رد لي بهجة خلاصك" (مزمور 51: 12) أما من يخطئ كل يوم يكون مؤمناً بالاسم مهما كان مركزه الديني في العالم، ومن ثم يجب أن يؤمن بالمسيح أولاً إيماناً حقيقياً حتى ينال منه حياة روحية تسمو به فوق الخطية والعالم.

ولو فرضنا أنه كان مؤمناً حقيقياً فإن الخلاص الذي يحتاج إليه، ليس هو الخلاص من دينونة الخطية، بل الخلاص من تأثيرها على نفسه، وقد تحدثنا فيما سلف عن هذين النوعين من الخلاص كما تحدثنا عن السبيل إلى كل منهما.

(د) ولإزالة كل لبس من أمام المعترض نقول: كان في الجلجثة ثلاثة أشخاص يختلف أحدهم عن الآخر كل الاختلاف. فالمسيح كانت الخطية عليه وليست فيه، لأنه وإن كان طاهراً في ذاته كل الطهر، غير أنه كان حاملاً خطايانا عوضاً عنه. واللص المؤمن كانت الخطية فيه وليست عليه، لأنه وإن كان خاطئاً بطبيعته لكن عقوبة خطاياه قد حملها المسيح نيابة عنه. واللص غير المؤمن كانت الخطية فيه وعليه معاً، لأنه خاطئ بطبيعته ومع ذلك رفض أن يؤمن بالمسيح، فإذا كان المعترض مثل اللص الثاني فليحزن ويكتئب لأنه لا خلاص له إلى الأبد مهما عمل من صلاح، وإذا كان مثل اللص الأول فليفرح ويبتهج، لأنه يكون قد نال الخلاص بمجرد إيمانه.

(هـ) أخيراً نقول: إن تأكدنا من الخلاص الأبدي لا يتوقف على شعورنا أو منطقنا أو أعمالنا، بل على كفارة المسيح دون سواها. فما دمنا آمنا به إيماناً حقيقياً، فقد خلصنا بالتمام كما أعلن الوحي. وثقتنا في خلاصنا بالمسيح إلى التمام، لا تبعث طبعاً أي شيء من الكبرياء فينا، بل بالعكس تملؤنا بالتواضع والخشوع، لأننا نكون قد حصلنا على هذا الخلاص من مجرد نعمة الله علينا. أما الذي يثير الكبرياء في المرء دون أن يدري، فهو اعتقاده الخاطئ أنه يستطيع أن يحصل على الخلاص بأصوامه وأعماله التي يدعوها الصالحة. ومن ثم يكون الذين يخلصون بنعمة الله مثل العشار، والذين يريدون أن يخلصوا بأعمالهم مثل الفريسي الذي لم يخلص على الإطلاق (لوقا 18: 10 – 14)، عرفوا هذه الحقيقة أم لم يعرفوها.

[51]- يقول البعض (إن كلمة "ينزعه" هنا، هي بعينها الكلمة المترجمة "رفع" في الآية "رفع يسوع عينيه إلى فوق" (يوحنا 11: 41) و "يحمل" في الآية " ... مفلوجاً يحمله أربعة" (مرقس 2: 3)، ومن ثم لا يكون المراد بالآية التي نحن بصددها (حسب رأيهم) أن الشخص الذي لا يأتي بثمر يهلك كما ذكرنا أعلاه، بل يكون المراد بها أن الله يحمل أو يرفع هذا الشخص إلى فوق لكي يأتي بثمر). لكن فضلاً عن أن الكلمة الواحدة تستعمل بأكثر من معنى واحد وأن القرينة وحدها هي التي تحدد المعنى المناسب لها، نقول إنه وإن كان النزع أو الحمل هو النقل من مكان إلى مكان، لكن الغرض من هذا النقل ليس من اللازم أن يكون واحداً في كل حالة من الحالات. وبالرجوع إلى (يوحنا 15) نرى أن النزع الوارد في الآية التي نحن بصددها يراد به النقل إلى النار، لكن بالرجوع إلى (مرقس 2) نرى أن الحمل يراد به النقل إلى المسيح للحصول على الشفاء. وبالإضافة إلى ما تقدم فإن الكلمة المترجمة "رفع" ليست (كما يقول أصحاب هذا الرأي) هي ذات الكلمة المترجمة "ينزع"، لأن معناها حسب الأصل اليوناني "نقل من أسفل إلى أعلى"، وليس نقل من مكان إلى مكان، ولذلك فرأيهم لا نصيب له من الصواب.

[52]- إن القول "إن أخطأ أحد لنا شفيع"، لا يدل على أننا إذا تبنا يشفع فينا بل على أنه يشفع فينا ونحن في حالة السقوط في الخطية، كما لا يدل على أننا إذا أخطأنا ينهض المسيح للشفاعة لأجلنا، بل يدل على أنه يقوم بهذه الشفاعة باستمرار لأجلنا، لكي يضمن لنا البقاء في مركز القبول الكامل أمام الله في كل الظروف والأوقات، ولكي يرد نفوسنا أيضاً إليه إذا انحرفنا عنه (مزمور 23: 3)، وذلك بواسطة التأثير عليها بكلمته.

[53]- مما تجدر الإشارة إليه، أنه إذا بنى الشفيع (أو المحامي) طلبه في العفو عن مسيء على مجرد الاسترحام دون أي مبرر قانوني، يكون هناك شك في قبول طلبه هذا. لكن إذا بناه على أساس من العدالة، لا يكون هناك شك في قبوله. وإذا كان ذلك كذلك أدركنا أن شفاعة المسيح لأجل المؤمنين مقبولة كل القبول أمام الله، لأنه يقف فيها موقف البار (أو بالحري العادل) الذي يؤسس حقه في استجابة طلبه (ببقاء المؤمنين الحقيقيين الذين يعثرون في مركز القبول الذي كان لهم من قبل أمام الله) على أساس قانوني ثابت، وهو كفاية كفارته إلى أبد الآباء.

ومما تجدر الإشارة إليه أيضاً أن الوحي لا يقول: لنا شفيع عند الله، بل يقول "لنا شفيع عند الآب"، أي الآب الذي يفيض قلبه بالحب والعطف علينا، الأمر الذي يدل أيضاً على أن شفاعة المسيح لأجلنا مقبولة كل القبول، ولا نحتاج معها إلى شفاعة أي إنسان مهما كان مقامه.

[54]- يقول بعض المفسرين (إن الكنز يرمز إلى المسيح، وإن الشخص الذي اشترى الحقل الموجود فيه الكنز، يرمز إلى المؤمن الحقيقي)، لكن قولهم هذا لا يتفق مع الوحي أو العقل، لأنه لو كان الكنز يرمز إلى المسيح، لكان الحقل يرمز إلى السماء، وهذا ليس بصواب للأسباب الآتية (أ) ليس هناك إنسان في الوجود يستطيع أن يشترى المسيح والسماء معاً، ويصبح المالك لهما بحق الشراء. (ب) ليس هناك إنسان في الوجود يستطيع أن يضحي بكل شيء من أجل المسيح، حتى ينطبق عليه القول "إنه باع كل شيء من أجله" (جـ) ولو فرضنا أن هناك إنساناً استطاع القيام بهذه التضحية، وتبعاً لذلك استطاع أن يمتلك المسيح والسماء معاً بحق الشراء، لما كان هناك مجال أمام غيره للتمتع بهما على الإطلاق. وهذا ما لا يتفق مع الوحي أو العقل أيضاً، لأنه لا المسيح ولا السماء يمكن الحصول عليهما بحق الشراء، إذ أن التمتع بهما هو من مجرد نعمة الله المجانية لكل من يؤمن إيماناً حقيقياً، كما أعلن الوحي.

أما الحقيقة التي أعلنها الوحي، فهي أن "الحقل رمز للعالم"، فقد قال بعبارة صريحة "الحقل هو العالم" (متى 12: 37)، وأن الشخص الذي ينطبق عليه القول إنه "باع كل ما عنده ليشتري الحقل من أجل الكنز الذي كان موجوداً فيه"، هو المسيح وحده، فقد قال الوحي عنه إنه "أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس، وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب" (فيلبي 2: 8) – وإذا كان الأمر كذلك، يكون الكنز رمزاً للمؤمنين الحقيقيين أنفسهم، ولا غرابة في ذلك فهؤلاء المؤمنون هم أحباء المسيح (لوقا 12: 4)، ومكرمون لديه (أشعيا 43: 4)، وفيهم تتركز مسرته (لوقا 2: 14) ولذاته (أمثال 8: 31)، كما أن الوحي يشبههم بالحجارة الكريمة (خروج 39: 9 – 16) وبعروس المسيح (رؤيا 21: 9)، والعروس أغلى من كل غال لدى العريس النبيل، ومن أجلها يضحي بكل غال ونفيس.

[55]- مما تجدر ملاحظته في هذه المناسبة أن الآيات المذكورة أعلاه، وغيرها من الآيات التي على شاكلتها، وإن كانت لا تمس سلام المؤمنين الحقيقيين من جهة الأبدية، لكنها تدعوهم إلى التدقيق الكلي في سلوكهم، والمواظبة على إخضاع قلوبهم وعقولهم لله كل حين، حتى يظلوا في حالة الشركة معه والاستعداد لخدمته وإكرامه.

[56]- وطبعاً يجب ألا يتسرب إلى الذهن، أنه لنا نحن المؤمنين أن نعيش في الخطية طالما أن لنا حياة أبدية، حاشا!! لأننا نحن الذين متنا عن الخطية، كيف نعيش بعد فيها؟ (رومية 6: 2)، بل كل ما ننبه إليه أن الحياة الأبدية هي هبة من الله وليست جزاء عن أي عمل صالح، للأسباب السابق ذكرها.

[57]- إن طرح المؤمنين الحقيقيين لأكاليلهم دليل طبعاً على شعورهم جميعاً بعدم استحقاقهم لأي جزاء عن أعمالهم الصالحة مهما كانت قيمتها (لأن خلاصهم هو بفضل نعمة الله المجانية دون غيرها)، وكأن لسان حالهم يقول للمسيح "إننا مهما عملنا أو ضحينا لأجل اسمك، لا نكون قد فعلنا شيئاً يذكر إزاء فضلك علينا، فأنت وحدك الذي تستحق أن تقدم لك الأكاليل وتقدم لك عند قدميك".

[58]- الراجح أن قمع الجسد واستعباده، لا يراد به هنا القضاء على الأهواء الجسدية المحرمة (لأن هذا الرسول كان قد قطع علاقته بها أو بالحري مات بالنسبة لها)، بل يراد به عدم إعطاء الجسد كل ما يطلبه من الطعام أو اللباس أو الراحة، حتى يتفرغ هو تفرغاً تاماً لخدمة الله في كل حين.

[59]- بما أن في الأبدية سيكون المؤمنون الحقيقيون قد دخلوا إلى المجد، والمؤمنون بالاسم وغير المؤمنين قد ذهبوا إلى العذاب، ولا يكون هناك مجال بعد لعمل قوات أو معجزات لأي غرض من الأغراض، لذلك فإن "الدهر الآتي" المذكور في هذه الآيات، لا يراد به إلا الملك الألفي الذي ذكرنا عنه شيئاً فيما سلف، لأن في هذا  الملك سوف تتجلى قوات الله ومعجزاته لكل الناس، والمعجزات التي ستظهر في هذا الملك، قد سبق المسيح وصنع عينة منها في قيامه بشفاء المرضى وتهدئة العواصف وإشباع الجياع، ورد الضالين إلى طريق الله.

[60]- "فالسقوط" هنا يختلف عن السقوط الوارد ذكره في الآية "أذكر من أين سقطت وتب" (رؤيا 2: 5). لأن السقوط هي هذه الآية يرد في الأصل اليوناني "بيبتو" ومعناه مجرد "الهبوط" أو بالحري السقوط في الخطأ دون الانفصال عن المسيح. أما السقوط المذكور أعلاه، فيراد به الارتداد عن المسيح والانفصال عنه. ولذلك إذا شبهنا المسيح بالسفينة، يكون الارتداد (أو السقوط بعيداً) هو السقوط من السفينة إلى البحر، والذي مآله الضياع والهلاك. ويكون السقوط دون الارتداد، هو السقوط داخل السفينة، والذي مآله النهوض ولو بعد حين – لأن المؤمن الحقيقي يستطيع مع هذا السقوط أن يتحدى الخطية قائلاً "لا تشمتي بي يا عدوتي. إذا سقطت أقوم" (ميخا 7: 8)، فالصديق يسقط سبع مرات ويقوم (أمثال 24: 16).

[61]- يقول البعض إن كلمة "ذاق" هنا، هي بذاتها المستعملة في الآية القائلة إن المسيح ذاق بنعمة الله الموت"، وبما أن المسيح مات فعلاً، يكون العبرانيون الذين ذكرهم الرسول هنا تمتعوا فعلاً في نفوسهم بالمواهب السماوية وقوات الدهر الآتي، ومن ثم يكونون (حسب رأي هذا البعض) من المؤمنين الحقيقيين، ولكن غاب عن القائلين بهذا الرأي أن كلمة "ذاق" التي نحن بصددها ترد أيضاً بمعنى الذوق دون الشرب العملي، كما في القول "فلما ذاق، لم يرد أن يشرب" (متى 27: 34)، ولذلك لا مجال بعد ما سبق ذكره من إيضاح للقول إن الأشخاص المذكورين كانوا من المؤمنين الحقيقيين.

[62]- إذا رجعنا إلى الأصل اليوناني نجد أن الكلمة المترجمة "شركة" هنا، هي "ميتوخوس"، ومعناها "المشاركة دون الاتحاد الفعلي الدائم". وهي نفس الكلمة المستعملة في الآيات "شركاء في السلطان" و "شركاء في الآلام" (1 كورنثوس 9: 12: 2)، (2 كورنثوس 1: 7)، بينما "الشركة" بمعنى الاتحاد الفعلي الدائم، ترد في الأصل اليوناني "كوينونيه"، كما هي الحال في الآيات الخاصة بأن شركة الروح القدس تكون مع المؤمنين الحقيقيين، وأن لهم شركة في جسد المسيح ودمه (2 كورنثوس 13: 14، 1 كورنثوس 10: 16).

فضلاً عن ذلك فإن العبارة "شركاء الروح القدس" المذكورة أعلاه، هي في اليونانية "شركاء في الروح القدس"، ولذلك يكون معناها (كما يقول علماء اللغة اليونانية) "شركاء في مواهب الروح القدس" وليس في أقنوميته، الأمر الذي يدل على أن الأشخاص الذين يتكلم عنهم الرسول، كانوا مؤمنين بالاسم فحسب كما ذكرنا، لأن المؤمنين الحقيقيين لهم شركة في مواهب الروح القدس، ولهم أيضاً صلة مستمرة بأقنوميته.

[63]- أما القول "بأن العبارة المذكورة أعلاه تدل على أن العبرانيين المذكورين كانوا مؤمنين حقيقيين)، فليس بصواب، لأن التوبة كما تكون حقيقية، تكون أيضاً ظاهرية. كما أن كلمة تجديد هنا ترد في  اليونانية "كاينوس"، وهذه الكلمة لا يراد بها التجديد بمعنى تغيير الاتجاه الذي يتم بالتوبة العادية، بل بمعنى جعل الكل جديداً بالتمام، الأمر الذي يدل على أن خطيتهم لم تكن خطية عادية، بل خطية الارتداد عن المسيح، التي لا يقع فيها إلا المؤمنون بالاسم والتي لا تتطلب التوبة فحسب، بل إعادة خلقهم من جديد.

[64]- خطية التجديف على الروح القدس" (أو بالحري إسناد معجزات إخراج الشياطين التي كان المسيح يقوم بها، إلى بعلزبول رئيس الشياطين) لم يكن لها وجود إلا في عصر المسيح. وهذه الخطية لا تغفر لأنها إصرار على عدم الإيمان بالروح القدس على الرغم من توافر الأدلة الملموسة على وجوده، إذ من الواضح أن رئيس الشياطين لا يخرج شياطين، لأنه لو فعل ذلك لخربت مملكته (متى 12: 22 – 29).

ومما تجدر ملاحظته في هذه المناسبة أن قول المسيح "من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، وأما من قال كلمة على الروح القدس فلن يغفر له" (متى 12: 32) لا يستنتج منه إطلاقاً أن الابن أقل مقاماً من الروح القدس، بل كل ما في الأمر أنه نظراً لأن ظهور الابن في العالم كان في هيئة إنسان، لم يستطع بعض الذين رأوه في هذه الهيئة أن يؤمنوا (ربما بحسن نية) أنه "ابن الله" كما قال لهم، ولذلك التمس لهم المسيح وقتئذ بعض العذر في عدم إيمانهم. أما الروح القدس فنظراً لأنه ظهر في العالم بكامل قوته ومجده، لا يكون هناك عذر للذين يشكون في شخصيته. وتكون النتيجة الحتمية لذلك، أن كل من يؤمن أن المسيح هو "ابن الله" بسبب ظهوره في هيئة إنسان، لكن رأى معجزاته التي كان يعملها بقوة الروح القدس، لا يبقى أمامه عذر إذا كان يستمر في عدم إيمانه بالمسيح. ولذلك قال المسيح لليهود "إن كنت لست أعمل أعمال أبي، فلا تؤمنوا بي. ولكن إن كنت أعمل،فإن لم تؤمنوا بي، فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه" (يوحنا 10: 37 – 38).

[65]- يتضح لنا من الكتاب المقدس أن هناك نوعين من الغفران (الأول) الغفران الأبدي عن كل الخطايا الماضية والحاضرة والمستقبلة، وهذا الغفران يحصل عليه المرء عندما يؤمن إيماناً حقيقياً بالمسيح، وبفضل هذا الغفران لا يأتي إلى دينونة، بل انتقل من الموت إلى الحياة، وأصبح ابناً لله له طبيعة الله الأدبية كما ذكرنا فيما سلف. (الثاني) الغفران الوقتي، وهو عن الخطايا التي يعترف بها المؤمن الحقيقي أمام الله، والغرض منه العودة إلى حالة الشركة مع الله وفتح المجال أمامه للعبادة والخدمة في الزمن الحاضر – فمثل المؤمنين الحقيقيين والحالة هذه مثل الأبناء البررة، فإنهم إذا أساؤا مرة في تصرفاتهم، لا ينكر أبوهم بنوتهم له أو يطردهم من بيته، ولكن يحجب وجهه عنهم ولا يخالطهم، وهذا ما يحز في نفوسهم ويؤلمهم كثيراً. إنما عندما يعودون إليه معترفين بإساءتهم ومتعهدين بعدم العودة إليها، يصفح عنهم ويردهم إلى حالة الشركة معه التي كانت لهم من قبل.

[66]- "بيت الله" في العهد القديم هو الهيكل الذي بناه سليمان، أما في العهد الجديد فقد أعلن الله لنا أنه لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيدي (أعمال 7: 48) بل يسكن في قلوب المؤمنين الحقيقيين، فقد قال عنهم إنهم هيكله وإن روحه يسكن فيهم (1 كورنثوس 3: 16)، ولذلك فإنهم أنفسهم هم بيت الله، كما يتضح من الآية التي نحن بصددها – وبهذه المناسبة نقول إن المرأة فيما سلف كان يقال عنها إنها "بيت الرجل" وإن الزواج كان يسمى "فدوشين" أي "تقديس" وإذا كان ذلك كذلك فلا غرابة إذا كان المؤمنون الحقيقيون يعتبروه "عروس المسيح" و "بيت الله" و "المقدسون له وحده"، كما أعلن الوحي.

  • عدد الزيارات: 10965