Skip to main content

الحجج القائلة بتوقف الخلاص على الإيمان والأعمال

اتضح لنا فيما سلف أن ثمن الخلاص هو دم المسيح وحده، وأن الواسطة للحصول عليه هي الإيمان الحقيقي دون سواه. ومع ذلك فهناك آيات يقول بعض المسيحيين إنها تدل على أن الخلاص يكون بواسطة الإيمان والأعمال معاً، ولذلك رأينا من الواجب أن نفحص هذه الآيات بكل تدقيق، لكي يتضح لنا المعنى الحقيقي لها.

(أولاً) الآيات الواردة في الرسائل وسفر الرؤيا

1- قال يعقوب في رسالته "ألم يتبرر أبونا إبراهيم بالأعمال إذ قدم إسحاق ابنه على المذبح؟ فترى أن الإيمان عمل مع أعماله. وبالأعمال أكمل الإيمان، وتم الكتاب القائل: فآمن إبراهيم بالله فحسب له براً ودعي خليل الله. ترون إذاً أنه بالأعمال يتبرر الإنسان، لا بالإيمان وحده" (يعقوب 2: 21 – 23).

المعنى (أ) إذا رجعنا إلى تاريخ إبراهيم، نرى أنه تبرر أمام الله بالإيمان قبل تقديم ابنه إسحاق على المذبح بأربعين سنة تقريباً[18]، وذلك عندما آمن أن الله سيعطيه نسلاً وهو في سن الشيخوخة، فمكتوب "فإذا كلام الرب إليه قائلاً: الذي يخرج من أحشائك هو يرثك، فآمن (إبراهيم) بالرب فحسب له براً" (تكوين 15: 4، 6)، وبعد حصول إبراهيم على هذا البر بأربعين سنة تقريباً كما ذكرنا، طلب الله منه أن يقدم ابنه إسحاق ذبيحة (تكوين 22: 2)، ومن ثم فإبراهيم عندما قدم ابنه لله على المذبح لم يكن غير مبرر، بل كان مبرراً ومبرراً لديه تعالى.

(ب) وإذا كان الأمر كذلك، فما الغرض من تبرير إبراهيم بعد ذلك بسبب تقديم ابنه؟ (الجواب) إن الوحي لم يتركنا نتخبط في الرد على هذا السؤال، فقد قال لنا على لسان بولس الرسول بكل وضوح وجلاء "لأنه إن كان إبراهيم قد تبرر بالأعمال (أي بتقديم ابنه لله) فله فخر، لكن ليس لدى الله" (رومية 4: 2)، ولماذا لا يكون لإبراهيم فخر لدى الله؟ (الجواب) نظراً لأن الله هو الذي أعطى إسحاق لإبراهيم، لا يكون لإبراهيم فخر لدى الله إن كان يقدم إليه إسحاق هذا. فضلاً عن ذلك فإن إبراهيم لم يكن إلا عبداً لله، والعبد وما ملكت يداه إنما لسيده دون سواه، ومن ثم فإنه إذا أطاع سيده في أي أمر من الأمور، لا يكون قد قام بأكثر مما يجب عليه، ولا شكر على واجب كنا يقولون [وقد أشار المسيح إلى هذه الحقيقة فقال لنا "متى فعلتم كل ما أمرتم به (من خير وصلاح)، فقولوا إننا عبيد بطالون[19]، لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا" (لوقا 17: 10)]. وإذا لم يكن لإبراهيم فخر لدى الله، فلدى من يكون له هذا الفخر؟ (الجواب) طبعاً لدى غيره من الناس.

وإذا كان ذلك كذلك، فتبرير إبراهيم بالأعمال أو تكميل إيمانه بها الوارد ذكره في رسالة يعقوب، لا يقصد به سوى الشهادة العلنية على أنه كان حقاً باراً أو كاملاً في إيمانه، وأنه يستحق أن يدعى خليل الله، كما قال الوحي في الآيات المعروضة أمامنا.

(جـ) فضلاً عن ذلك فإننا إذا تطلعنا إلى تاريخ إبراهيم نرى أنه مع حياة الإيمان الممتازة التي عاشها، انحرف عن السلوك بالإيمان بضع مرات، فأخطأ بذلك أمام الله كثيراً: فهو لم يحتمل الجوع الذي أرسله الله إلى الأرض التي دعاه للإقامة فيها، فانتقل منها إلى غيرها من البلدان دون أن يأمره الله أو يطلب هو إرشاداً منه. كما أوصى زوجته أكثر من مرة أن تقول إنها أخته معرضاً إياها لأن تكون زوجة لغيره، حتى يكون له خير بسببها عند بعض الملوك. أضف إلى ذلك، أنه اتخذ هاجر زوجة له لكي ينجب منها نسلاً، غير مؤمن في أول الأمر أن الله قادر أن يعطيه نسلاً من سارة زوجته الأولى (تكوين 12: 10 – 13، 20: 1 – 2، 17: 15 – 18). ولذلك لا يمكن أن يكون تبرير إبراهيم أمام الله راجعاً إلى تقديم إسحاق له (لأن الأعمال الطيبة مهما عظم قدرها، لا تكفر عن خطية واحدة كما ذكرنا)، بل راجعاً إلى الإيمان دون سواه، مثله في ذلك مثل راحاب الزانية وغيرها من الخطاة كما سيتضح فيما يلي.

2- قال يعقوب في رسالته كذلك "ما المنفعة يا إخوتي إن قال أحد إن له إيماناً ولكن ليس له أعمال، هل يقدر الإيمان أن يخلصه ... هكذا الإيمان أيضاً، إن لم يكن له أعمال ميت في ذاته .... لأنه كما أن الجسد بدون روح ميت، هكذا الإيمان أيضاً بدون أعمال، ميت" (يعقوب 2: 14 – 18).

المعنى (أ) هذه الآيات لا تدل على أن خلاص المؤمن الحقيقي يتوقف على الإيمان والأعمال معاً، كما يتراءى للقراء لأول وهلة، لأن يعقوب لا يتحدث هنا عن مؤمن حقيقي، بل عن شخص يقول إنه مؤمن، وطبعاً ما لم يبرهن هذا الشخص على صدق إيمانه بالحياة المقدسة والأعمال الصالحة، فإيمانه يكون شكلياً لا حقيقياً، لأن الإيمان الحقيقي لا يكون ميتاً بل حياً، والإيمان الحي هو المصحوب بالحياة الإلهية، والحياة الإلهية من شأنها أن تثمر أثماراً صالحة.

ولذلك ليس هناك أي اختلاف بين أقوال بولس التي ذكرناها في الفصل السابق عن السبيل إلى التبرير أمام الله، وبين أقوال يعقوب الواردة في الآيات التي نحن بصددها عن هذا السبيل. لأن الأول يعلن أن التبرير هو بالإيمان الحقيقي، ويعلن الثاني أنه ليس بالإيمان الإدعائي، وكلا الإعلانين حق. ويعلن الأول أن الخاطئ يتبرر أمام الله بالإيمان (لأن الله لا يحتاج إلى رؤية أعمال صالحة من الخاطئ الذي يؤمن حتى يبرره، إذ أنه يعرف قلب هذا الشخص وكل ما فيه حق المعرفة)، ويعلن الثاني أن المؤمن الذي يحصل على الخلاص بالإيمان، يجب أن يبرهن على وجود هذا الإيمان في نفسه بالأعمال الصالحة، لأن هذه الأعمال هي التي تعلن أنه مؤمن حقيقي، وكلا الإعلانين حق أيضاً.

(ب) ومما يؤيد هذه الحقيقة أن يعقوب (كما يتضح من الآيات التي نحن نصددها) يشبِّه الإيمان بالجسد، ويشبِّه الأعمال بالروح. بينما يستنتج من أقوال بولس (التي ذكرناها في الفصل السابق) أنه يشبِّه الإيمان بالروح والأعمال بالجسد [لأنه يضع أمامنا أن الأعمال هي ثمر الإيمان، أو بالحري ثمر الروح القدس الذي يحل في المؤمن بمجرد أن يؤمن إيماناً حقيقياً (غلاطية 5: 22)]، الأمر الذي يدل على أن الإيمان الذي يتحدث عنه يعقوب في الآيات التي نحن بصددها، ليس هو الإيمان الذي يتحدث عنه بولس في الآيات السابق ذكرها، بل أن الأول يقصد بالإيمان الذي ذكره هنا [العقيدة الدينية التي يفتخر بها بعض الناس، والتي من الممكن أن توجد حتى لدى الشياطين (يعقوب 2: 19)]، وأما الثاني فيقصد بالإيمان الذي ذكره [قبول المسيح في النفس قبولاً تولد به من الله ولادة روحية (يوحنا 1: 12)]، والعقيدة الدينية وحدها لا تفيد الإنسان الحاصل عليها بأكثر مما تفيد الشياطين، أما الولادة الروحية من الله فإنها تحيي النفس وتجعلها أهلاً للتوافق معه في العالم الحاضر وفي الأبدية معاً.

(جـ) أخيراً نقول: إذا رجعنا إلى رسالة يعقوب يتضح لنا أنه لم يكن يتحدث إلى مؤمنين حقيقيين فحسب، بل وإلى مؤمنين بالاسم أيضاً. فمثلاً قوله "أيها الزناة والزواني: أما تعلمون أن محبة العالم عداوة لله"، وقوله "حكمتم على البار قتلتموه" (4: 4، 5: 6)، موجهان إلى الفريق الثاني من المؤمنين. أما قوله "فتأتوا أيها الأخوة إلى مجيء الرب"، وقوله "أعلى أحد بينكم مشقات، فليصل. أمسرور أحد، فليرتل" (5: 8 – 16) فموجهان إلى الفريق الأول منهم. وإذا كان ذلك كذلك، فإن حديث يعقوب السابق عن الإيمان والأعمال موجه إلى المؤمنين بالاسم الذين يقولون إنهم مؤمنون، والحال أنهم بعيدون عن الله كل البعد.

3- وقال يعقوب في رسالته أيضاً "كذلك راحاب الزانية أيضاً، أما تبررت بالأعمال إذ قبلت الرسل وأخرجتهم في طريق آخر،" (2: 25).

المعنى (أ) إن قبول راحاب الوثنية للرسل المذكورين ومحافظتها على حياتهم، هو ثمر إيمانها بالله وقدرته الفائقة، فقد قالت لهم "علمت أن الرب قد أعطاكم الأرض وأن رعبكم قد وقع علينا، وأن جميع سكان الأرض ذابوا من أجلكم. لأننا قد سمعنا كيف يبس الرب مياه بحر سوف قدامكم عند خروجكم من مصر، وما عملتموه بملكي الأموريين اللذين في عبر الأردن سيحون وعوج، سمعنا فذابت قلوبنا ولم تبق بعد روح في إنسان بسببكم، لأن الرب إلهكم هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت" (يشوع 2: 9 – 11).

مما تقدم يتضح لنا أن الذي أنقذ راحاب ليس هو محافظتها على حياة الرسل المذكورين، بل إيمانها الحقيقي بالله الذي تميزت به عن جميع مواطنيها. فكلهم سمعوا عن الله وعن قوته، ولكنهم لم يبالوا به، الأمر الذي يدل على أن إيمانهم كان إيماناً عقلياً فحسب، والإيمان العقلي لا يجدي على المرء خيراً، كما ذكرنا فيما سلف. أما إيمان راحاب بالله فكان إيماناً حقيقياً، والدليل على ذلك أنها ألقت بنفسها عند قدميه محتمية به وراغبة في الانضمام تحت لوائه (يشوع 6: 25)، مهما كلفها هذا العمل من اضطهاد أهلها لها.

(ب) ومما لا يدع مجالاً للشك في أن راحاب خلصت بالإيمان كما ذكرنا، أن بولس قال إنه بالإيمان راحاب الزانية لم تهلك مع العصاة، إذ قبلت الرسل بسلام (عبرانيين 11: 31). نعم ولم تهلك على الرغم من حياتها السابقة في النجاسة والشر، وعلى الرغم أيضاً من كذبها على رسل الملك (يشوع 2: 4 – 6). وإننا بقولنا هذا لا نبيح لأنفسنا عمل الشر أو الكذب مع الإيمان، ولكن ما ننبر عليه أن راحاب قد تبررت، ليس لأنها كانت تحيا حياة القداسة والصلاح، بل فقط لأنها آمنت بالله إيماناً حقيقياً، ظهرت آثاره في خشوعها واتضاعها أمامه، كما ظهرت في محافظتها على حياة بعض أتباعه.

4- قال بطرس الرسول "الله لا يقبل الوجوه، بل في كل أمة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده" (أعمال 10: 35). وقال بولس الرسول "مجد وكرامة وسلام لكل من يفعل الصلاح .... لأنه ليس عند الله محاباة" (رومية 2: 10).

المعنى (أ) ليس هناك جدال في أن الأعمال الصالحة الصادرة من الأشخاص المخلصين، لها قيمة ثمينة في نظر الله ولها جزاؤها الخاص لديه كما ذكرنا فيما سلف، لكنها مع ذلك ليست بكافية للتكفير عن الخطية أو تأهيل فاعلها للتوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية، لأن الذي يقوم بالعمل الأول هو دم المسيح الذي سفك مرة على الصليب، والذي يقوم بالعمل الثاني هو الروح القدس الذي يسكن في قلوب المؤمنين الحقيقيين (غلاطية 5: 22).

(ب) أما السبب في قول الرسولين بطرس وبولس في الآيتين اللتين نحن بصددهما. إن الأعمال الصالحة تجعل صاحبها مقبولاً أمام الله وأهلاً للحصول على المجد والكرامة والسلام، فيرجع إلى أن هذين الرسولين كانا في مستهل حديثهما مع أشخاص أمميين، لا يعرفون شيئاً عن الخلاص الكامل من الخطية والتوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية. وكل ما كانوا يعرفونه، وقتئذ، هو وجوب استرضائه بالصوم والصلاة والصدقة، لكي يرحمهم ويجنبهم كل مكروه في الحياة الدنيا. غير أنهم كانوا يخشون أن تكون هذا الأعمال غير مقبولة لديه، بسبب عدم وجود صلة تربطهم به من جهة الآباء أو الأنبياء، كما كانت الحال مع اليهود قديماً، فاتخذ الرسولان الأعمال المذكورة بوصفها ثمراً للإيمان العام بوجود الله والرغبة في استرضائه، وسيلة للتحدث معهم عن المسيح الذي بواسطته يكون الخلاص من الخطية والتوافق مع الله، وذلك بعد أن أعلنا لهم أن الله لا يفرق بين جنس وآخر على الإطلاق.

(جـ) ومما يثبت ذلك (أولاً) أن كرنيليوس (الذي خاطبه بطرس بالعبارة الأولى) كان يكثر من الصوم والصلاة والصدقة، ومع ذلك أمره الله أن يستدعي الرسول المذكور ليرشده إلى طريق الخلاص من الخطية (أعمال 10: 32). ولما أتى هذا إليه، قال له "إن كل من يؤمن بالمسيح ينال باسمه غفران الخطايا" (أعمال 10: 34 – 43)، الأمر الذي يدل على أن جميع الأعمال الصالحة التي كان يقوم بها كرنيليوس لم تكن كافية للحصول على الغفران الذي كان يبتغيه. (ثانياً) إن أهل رومية (الذين خاطبهم بولس بالعبارة الثانية) قال لهم بعدها "فأين الافتخار؟ قد انتفى، بأي ناموس: أبناموس الأعمال؟ كلا، بل بناموس الإيمان، إذاً نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان (أو بالحري بالإيمان الحقيقي) بدون أعمال الناموس" (رومية 3: 27 – 28)، الأمر الذي يدل على أن الأعمال الصالحة ليست هي الوسيلة للتكفير عن الخطية أو القبول أمام الله إلى الأبد.

5- قال بطرس الرسول "لذلك بالأكثر اجتهدوا أيها الأخوة أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين، لأنكم إذا فعلتم ذلك لن تزلوا أبداً" (2 بطرس 1: 10 – 11).

المعنى (أ) بما أن الله هو الذي دعانا واختارنا بنفسه على أساس كفارة المسيح (رومية 8: 30، أفسس 1: 4)، ودعوة الله وهباته هي بلا ندامة (رومية 11: 29)، لذلك فدعوتنا واختيارنا ثابتان إلى الأبد بناءً على أمانة الله لهذه الكفارة، ولا يتطلب الأمر منا أن نثبتهما نحن بأي عمل أو مجهود من جانبنا. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الثبات هنا لا يراد به حسب الأصل اليوناني، الثبات فقط، بل يراد به أيضاً التأكد واليقين[20]، أدركنا أن المراد يجعل دعوتنا واختيارنا ثابتين، لا أن نجعلهما ثابتين أمام الله، بل ثابتين أمام أنفسنا، أو بتعبير آخر أن نكون على يقين تام في كل حين من دعوة الله واختياره لنا، ومما يؤيد هذه الحقيقة أن بعض المترجمين الذين يميلون إلى الترجمة المعنوية صاغوا هذه الآية بما تعريبه "اجتهدوا أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين لدى أنفسكم" (New World Translation Bible). وإن كان الكاتب يستنكر إضافة كلمة أو حذف أخرى عند ترجمة الكتاب المقدس، لكن يورد هذه الترجمة لكي يعلن فقط أن المعنى العام لهذه الآية، يدل على الحقيقة التي ذكرها، لأن التأكد واليقين لا يوجدان إلا إذا كان هناك مجال للشك والتردد، ومجال الشك والتردد عند الإنسان، وليس عند الله.

(ب) ولكي لا ندع مجالاً للظن بأن ثبات الدعوة والاختيار يتوقف على الأعمال الصالحة نقول: إن الإنسان مهما واظب على هذه الأعمال، قد يغفل أحياناً عن القيام ببعضها من باب السهو أو الضعف (مثلاً)، ولذلك لا تكون أعماله الصالحة كاملة، وبالتبعية لا تستطيع (إن كان لها تأثير على دعوته واختياره) أن تجعلهما ثابتين أمام الله. أما كفارة المسيح فهي كاملة كل الكمال إلى الأبد الذي لا نهاية له، ومن ثم يليق أن يكون ثبات دعوتنا واختيارنا أمام الله متوقفاً عليها.

كما أننا إذا تأملنا هذه الآية بشيء من الإمعان. نرى أن عدم الزلل ليس هو السبب في جعل دعوتنا واختيارنا ثابتين، بل هو النتيجة لجعلهما ثابتين [لأن الآية لا تقول: لا تزلوا أبداً لكي تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين، بل "اجتهدوا أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين، لأنكم إذا فعلتم ذلك لن تزلوا أبداً"]، وإذا كان ذلك كذلك، أدركنا أن معنى هذه الآية ينحصر في أننا عندما نضع أمامنا أن دعوتنا واختيارنا ثابتان بفضل كفارة المسيح، لا يمكن أن تزحزحنا التجارب، أو بالحري لا يمكن أن نزل على الإطلاق.

(جـ) أما الدعوى [إن هذه الآية وردت في بعض النسخ القديمة للكتاب المقدس بما ترجمته "اجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين بالأعمال الصالحة، ولكن الإنجيليين حذفوا عبارة "الأعمال الصالحة" من ترجمتهم لعدم اهتمامهم بهذه الأعمال]، فليس لها نصيب من الصواب، إذ فضلاً عن أن هذه الأعمال ليست هي الصوم لغاية الغروب والاقتصار على تناول الخضراوات والبقول[21]، بل هي القداسة والصلة العملية بالله والسعي لهداية الناس إليه ومد يد العون إلى المحتاجين جميعاً، وهذه الأعمال يقوم بها الأتقياء من الإنجيليين كما يقوم بها الأتقياء من الأرثوذكس والكاثوليك سوء بسواء، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذه الدعوى، نقول: إن كل النسخ القديمة للكتاب المقدس خالية من عبارة "الأعمال الصالحة" المذكورة، إذ أنها موجودة فقط في النسخة التي رقمها علماء الآثار بحرف "ابسي"[22]، والتي عثروا عليها في جبل أثوس، وهذه النسخة يرجع تاريخها إلى منتصف القرن التاسع للميلاد فحسب. ولذلك فالراجح أن من قام بكتابة النسخة المذكورة، أضاف عبارة "الأعمال الصالحة" هنا من باب السهو أو حسن النية، أو كتبها من عندياته تعليقاً شخصياً منه على الآية التي أمامنا.

لكن مما لا شك فيه أننا عندما نجعل دعوتنا واختيارنا ثابتين أمامنا، تفيض قلوبنا بالشكر والحمد لله، ونكثر أيضاً من عمل الخير والصلاح. وإكثارنا منهما، وإن كان لا يؤدي إلى جعل دعوتنا واختيارنا ثابتين أمام الله كما ذكرنا، غير أنه يؤهلنا للحصول على الأكاليل السماوية، بجانب الحياة الأبدية التي هي هبة مجانية من الله لنا بفضل كفارة المسيح، كما ذكرنا فيما سلف.

6- قال بطرس الرسول "لأن الذي ليس عنده هذه (أي الصبر والفضيلة والتقوى والمحبة) هو أعمى قصير البصر قد نسي تطهير خطاياه السالفة" (2 بطرس 1: 9).

المعنى (أ) إن الرسول لا يقول: إن المؤمن الذي لا يتصف بهذه الصفات يطرح في جهنم أو يهلك إلى الأبد، بل يقول إنه يكون "أعمى قصير البصر قد نسي تطهير خطاياه السالفة"، أي أنه يكون شخصاً غافلاً نسي ما فعلته النعمة له، وما يجب عليه إزاءها من السلوك بالتدقيق، لأن النعمة التي تخلص المؤمن لا تدعه يسلك كما يشاء، بل تعلمه أن ينكر الفجور والشهوات العالمية ويعيش بالتعقل والبر والتقوى في العالم الحاضر (تيطس 2: 12) – والعمى الروحي الذي يمكن أن يتعرض له المؤمن الحقيقي في بعض الأحيان بسبب الإهمال أو النسيان، وإن كان أمراً لا يليق به على الإطلاق، غير أنه لا يؤدي به إلى العذاب الأبدي (بفضل كفارة المسيح التي يعتمد عليها هذا المؤمن بكل قلبه)، بل يسلبه فقط حياة التمتع بالرب والقدرة على خدمته، كما يعرضه للتأديب في العالم الحاضر والحرمان من المكافأة أمام كرسي المسيح في العالم الآخر، كما ذكرنا فيما سلف.

(ب) كما يجب أن نضع نصب أعيننا أن "العمى" المسند إلى الشخص المذكور، لا يراد به تجرده من البصيرة الروحية ووجوده تبعاً لذلك في مصاف غير المؤمنين، الذين أعمى الشيطان أذهانهم (2 كورنثوس 4: 4)، ووصفهم المسيح بأنهم عميان (متى 15: 14)، بل يراد بهذا العمى عدم استخدام الشخص المذكور للبصيرة الروحية التي أعطاها الله له عند الإيمان الحقيقي به (1 يوحنا 5: 20). والدليل على ذلك أن هذا الشخص يوصف بأنه قصير البصر، أي لديه بصر لكنه قصير (أو بالحري جعله هو قصيراً)[23] بسبب عدم تطلعه إلى الأمور الروحية السماوية، وحصر اهتمامه في الأمور المادية الأرضية، كما كانت الحال مع لوط، الذي مع أنه كان باراً (2 بطرس 2: 8)، قد اتجه إلى العالم فتعطلت شهادته للرب وحل به التأديب المريع.

7- قال بولس الرسول "إذاً يا أحبائي، كما أطعتم كل حين ليس في حضوري فقط، بل الآن بالأولى جداً في غيابي، تمموا خلاصكم بخوف ورعدة، لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة" (فيلبي 2: 11 – 13)

المعنى (أ) إن الرسول لا يقول للمؤمنين أن يتمموا خلاصهم بخوف ورعدة بواسطة الأعمال الصالحة (حتى كان يجوز الظن بأن القيام بهذه الأعمال شرط من شروط الحصول على الخلاص الأبدي)، ولا يقول تمموا خلاصكم بخوف ورعدة لئلا تهلكوا (حتى كان يجوز الظن بأن القيام بالأعمال المذكورة شرط من شروط النجاة من العذاب الأبدي)، بل يقول "تمموا خلاصكم بخوف ورعدة، لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا لأجل المسرة" – أي أن السبب في وجوب إتمام خلاصنا بخوف ورعدة، هو وجود الله معنا وعمله المتواصل في نفوسنا لكي يتمم مسرته الصالحة من جهتنا، الأمر الذي يدل على أن الخوف والرعدة هنا، لا يراد بهما الخوف والرعدة من جهنم، بل الحذر وكل الحذر[24] من القيام بأي عمل يتعارض مع مشيئة الله. لأن المؤمنين الحقيقيين يخافون من الخطية ويرتعدون منها, إذ فضلاً عن أنها أعظم إساءة إلى الله الذي يحبونه من كل قلوبهم ويحافظون على إكرامه بكل قواهم، فإن السقوط فيها يملؤهم بالحزن والأسى أكثر من أشر المصائب والكوارث.

وقد يكون المراد أيضاً بالخوف والرعدة هنا، الخشوع والورع أمام الله العالم في نفوسنا لكي يتمم مسرته من جهتنا. فقد قال تعالى "وإلى هذا انظر: إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (أشعيا 16: 2)؛ لأن الله يحب ألا يحب فقط، بل وأن يهاب أيضاً.

(ب) وإذا كان ذلك كذلك، فالخلاص الوارد ذكره في الآية التي نحن بصددها، لا يراد به الخلاص من الدينونة الأبدية بل الخلاص من تأثير الخطية علينا في العالم الحاضر[25]، والتي يعمل الله بروحه في نفوسنا لكي ننتصر في كل حين عليها، حتى نكون قديسين في كل سيرة. ولذلك فقول الرسول "تمموا خلاصكم بخوف ورعدة" [مثل قوله في موضع آخر "مكملين القداسة في خوف الله" (2 كورنثوس 7: 1)]، لا يراد به سوى وجوب السلوك بالتدقيق في هذا العالم، حتى يتمم الله مسرته من جهتنا، كما أعلن الوحي.

(جـ) ومما يثبت أن خلاصنا بالمسيح كامل، ولا يحتاج إلى تكملة من جانبنا بالأعمال الصالحة، وأن الغرض من الخلاص هنا، هو العمل الذي نقوم به لكي ننتصر على الخطية التي نتعرض لها أثناء السير في العالم، حتى نكون بلا لوم في حياتنا وشهادتنا لنعمة الله، أن الكلمة المترجمة إلى العربية "تمموا"، ترد في الأصل اليوناني "كاتا أرجدزيتيه"، وهذه الكلمة لا يراد بها إتمام شيء ناقص، بل "إعلان شيء غير ظاهر"[26] ولذلك فإن كلمة "خلاصكم" هنا، لا يراد بها خلاص الله المعطى لنا، بل "خلاصنا نحن أنفسنا"[27]، الأمر الذي يدل على أن معنى الآية التي نحن بصددها هو وجوب المثابرة على الطاعة لله العامل في نفوسنا في كل حين، حتى نخلص من سلطة الخطية علينا في أي وقت نتعرض فيه لها، حتى تكون حياتنا دائماً أبداً بلا لوم أمام الله والناس كما ذكرنا.

8- قال بولس الرسول "لذلك لنحترس أيضاً مستوطنين كنا أو متغربين أن نكون مرضيين عنده، لأنه لا بد أننا جميعاً نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد منا ما كان بالجسد، بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً" (2 كورنثوس 5: 9).

المعنى (أ) بالرجوع إلى الإصحاح المقتبسة منه هذه الآية، نرى أن الرسول افتتحه بالقول "لأننا نعلم أنه إن نقض بيت خيمتنا الأرضي، فلنا في السماء بناء من الله بيت غير مصنوع بيد، أبدي" (2 كورنثوس 5: 1). ثم قال بعد ذلك "فنثق ونسر بالأولى أن نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب" (2 كورنثوس 5: 8)، الأمر الذي يدل على أن المؤمنين الحقيقيين يدخلون إلى المجد الأبدي بعد انتقالهم من العالم الحاضر مباشرة – غير أن هذه الحقيقة لا تعفيهم بوصفهم مفديين بالدم الكريم من مسؤولية التصرف بالقداسة والتقوى والأمانة في العالم الحاضر (1 بطرس 1: 13 – 17)، لأن المسؤولية والامتياز صنوان لا يفترقان. فمسؤوليتنا أمام الله من جهة السلوك بالتدقيق في العالم الحاضر لا تقلل من ثقتنا في التمتع بالمجد الأبدي، وثقتنا في التمتع بالمجد الأبدي، لا تقلل من مسؤوليتنا أمام الله من جهة السلوك بالتدقيق في هذا العالم.

(ب) لذلك كان من البديهي وقد أصبح لنا امتياز التمتع بالمجد الأبدي على أساس نعمة الله المجانية، ألا يتركنا المسيح وشاننا، بل أن يوقفنا أمامه لنعطي حساباً عن كل عمل عملناه. وطبعاً ليس الغرض من هذه المحاسبة أن يسمح الله لبعض المؤمنين الحقيقيين بالدخول إلى المجد، ويأمر بطرح البعض الآخر منهم في جهنم، كلا (لأن جميع هؤلاء المؤمنين كما اتضح مما سلف، سيستوطنون مع المسيح بمجرد انتقالهم من العالم الحاضر) بل الغرض من المحاسبة المذكورة "إظهارهم" أو بالحري "إظهار حياتهم وأعمالهم" في نور قداسة الله، لكي يعرف كل منهم حقيقة أعماله، ويتقبل الجزاء الذي يستحقه عنها راضياً. فالذين خدموا الله بإخلاص سينالون الأكاليل[28] التي تتناسب مع أعمالهم. أما الذين لم يخدموه أو خدموه بدون إخلاص سيحرمون من هذه الأكاليل (ولزيادة الإيضاح اقرأ: 1 كورنثوس 3: 10 – 16)، ولذلك يستعمل الوحي هنا كلمة "نظهر" وليس كلمة "ندان" أو "نحاكم"، وكلمة "نظهر" تختلف كل الاختلاف عن هاتين الكلمتين لفظاً ومعنى.

(جـ) أما من جهة الخطايا التي يقع فيها بعض المؤمنين الحقيقيين في العالم الحاضر، فإنهم لا يحاسبون عنها في الأبدية، ليس لأن الله لا يبالي بهذه الخطايا من باب المحاباة لهم، بل لأن المسيح حمل عقوبتها نيابة عنهم على الصليب، والعدل الإلهي لا يطالب بحقه مرتين. فضلاً عن ذلك فإن الله يؤدبهم عنها التأديب الكافي في هذا العالم حتى لا يدانوا عنها في العالم الآخر (1 كورنثوس 11: 30 – 32). ولكن الذين سيحاسبون عن خطاياهم في الأبدية أمام العرش العظيم الأبيض (رؤيا 20: 11)، هم غير المؤمنين والمؤمنون بالاسم لأنهم لم يقبلوا كفارة المسيح أو قبلوها قبولاً اسمياً لا قلبياً.

ونظراً لأن المسيح هو الذي سيحاسب غير المؤمنين والمؤمنين بالاسم على شرورهم وسيحاسب المؤمنين الحقيقيين على أعمالهم الصالحة، لذلك يقول الرسول "لأنه لا بد أننا جميعاً نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد منا، ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً".

9- قال بولس الرسول "إذاً لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح. لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت ... لكي يتم حكم الناموس فينا، نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح. فإن الذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله. وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح، إن كان روح الله ساكناً فيكم. ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح، فذلك ليس له .... لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون، ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون" (رومية 8: 1 – 12).

المعنى (أ) إن الكتاب المقدس يعلن لنا أن الإنسان بمجرد أن يؤمن إيماناً حقيقياً بالمسيح، يصبح مقامه ليس في ذاته بل في المسيح (1 أفسس 1: 3 و 4). كما يسكن فيه الروح القدس ويجعله هيكلاً لله (1 كورنثوس 6: 19)، ومن ثم لا يكون أمام الله بعد في الجسد (أو بالحري في الطبيعة العتيقة)، بل يكون في المسيح أو بالحري في الروح[29]، كما يتضح من الآيات التي نحن بصددها – ووجود المؤمن في المسيح[30] يجعله خليقة جديدة، كما يجعله مقبولاً أمام الله إلى الأبد (2 كورنثوس 5: 17، أفسس 1: 5)، ووجود الروح القدس في المؤمن الحقيقي، يجعله يسلك ليس حسب الجسد بل حسب الروح. ولذلك قال الوحي "إذاً لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح" – هذه هي الحقيقة الثمينة التي أصبح من امتيازنا التمتع بها بالإيمان، وإن كنا لا نستطيع إدراكها بعقولنا في الوقت الحاضر. لأن الإيمان يقودنا للنظر ليس إلى ذواتنا وما نستحقه من ثواب أو عقاب بسبب ما يصدر منها من خير أو شر، بل يقودنا للنظر إلى المسيح وما نستحقه من الرضا الإلهي الكامل بسبب وجودنا فيه أمام الله.

(ب) إن كلمة "الآن" في الآيات التي نحن بصددها، تثبت أن النجاة من الدينونة الأبدية لا تتوقف على السلوك بالروح بل على الوجود في المسيح، أو بالحري على الإيمان الحقيقي بشخصه. لأنه لو كانت هذه النجاة تتوقف على السلوك بالروح، لما كنا نحصل عليها الآن، كما تنص الآيات التي نحن بصددها، بل كنا نحصل عليها بعد انتقالنا من العالم الحاضر، إذا ثبت أننا سلكنا بالروح. وإذا كان ذلك كذلك، اتضح لنا أن السلوك بالروح ليس شرطاً للنجاة من الدينونة الأبدية، بل هو الوصف العام للمؤمنين الحقيقيين كما ذكرنا.

(جـ) إن "روح الحياة" هو اسم آخر للروح القدس، الذي يسكن في المؤمنين الحقيقيين بمجرد إيمانهم. و "ناموس روح الحياة" أو الحري المبدأ الذي يسير عليه الروح القدس، هو أنه يعتق هؤلاء المؤمنين من سلطة الخطية الكامنة فيهم ويؤهلهم للتوافق مع الله في صفاته السامية، وبذلك تتم أو تتحقق مطالب ناموس الله الأدبي فيهم، إذ يستطيعون بعمل الروح القدس في نفوسهم أن ينفذوها، وأن ينفذوها على مستوى أعلى من المستوى الذي كان يعيش فيه أتقياء اليهود من قبل، كما كانت الحال مع زكا (مثلاً)، فإنه عند ما قبل المسيح وآمن به، استطاع أن يعمل صلاحاً أكثر مما كان الناموس يتطلبه منه ومن غيره (لوقا 19: 1 – 10).

(د) إن كلمة "إن" في قول الرسول لهؤلاء المؤمنين "أما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح، إن كان روح الله ساكناً فيكم" لا يقصد بها عدم تأكد الرسول من وجود روح الله في المؤمنين المذكورين، بل تنبيه أذهانهم إلى حقيقة وجود هذا الروح فيهم – ومن ثم فقوله هذا، يشبه كل الشبه قوله لمؤمني كولوسي "إن كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس" (كولوسي 3: 1)، فإنه لا يقصد به عدم التأكد من قيامتهم الشرعية مع المسيح [لأنهم جميعاً كانوا مثل غيرهم من المؤمنين الحقيقيين، قد قاموا شرعاً معه منذ إيمانهم الحقيقي به. فقد قال الرسول عن نفسه وعنهم إن الله "أقامنا معه (أي مع المسيح) وأجلسنا معه في السماويات في المسيح" (أفسس 2: 4)] بل يقصد به تنبيه أذهانهم إلى حقيقة قيامتهم مع المسيح، الأمر الذي يلزمهم بأن يهتموا بما فوق لا بما على الأرض.

(هـ) إن غير المؤمنين والمؤمنين بالاسم هو وحدهم الموجودون أمام الله في الجسد (أو بالحري في الطبيعة العتيقة)، لأن الروح القدس ليس ساكناً فيهم بل ولا علاقة لهم به، وأشخاص مثل هؤلاء لا يستطيعون طبعاً أن يرضوا الله على الإطلاق. ونظراً لأن الروح القدس هو نفسه روح المسيح (1 بطرس 1: 11)، فإن هؤلاء الأشخاص أيضاً لا يكون المسيح لهم ولا يكونون هم للمسيح، وبالتبعية لا يكون لهم نصيب في البركات المترتبة على كفارته.

(و) إن المؤمنين الحقيقيين من شأنهم أن يعيشوا حسب الروح وليس حسب الجسد (كما ذكرنا فيما سلف)، ولكن إن سلكوا حسب الجسد (أو بالحري انقادوا باستمرار وراء أهوائه)، فإنهم سيموتون. ولكن إن كانوا بالروح يميتون أعمال الجسد فسيحيون[31] - والرسول لا يقرر بقوله هذا، أن هؤلاء المؤمنين سيعيشون حسب الجسد ويهلكون (لأنه قال عنهم من قبل إنهم سالكون ليس حسب الجسد بل حسب الروح، وإنه لا دينونة عليهم على الإطلاق)، بل يقرر المبدأ العام الذي وضعه الله لكل الناس على السواء. وهذا المبدأ هو "أن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً"، وذلك لكي يبذل جميع المؤمنين الحقيقيين كل ما في وسعهم لإماتة أعمال الجسد في كل حين، وجعل حياتهم باستمرار حياة الشركة الروحية مع الله" لا خشية التعرض للهلاك الأبدي (لأن هذا الهلاك قد عبر عنهم إلى الأبد بفضل كفارة المسيح الدائمة الأثر)، بل لكي يكون سلوكهم متوافقاً مع مقامهم السامي في المسيح، لأجل مجد الله دون سواه.

10- قال الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس: "لاحظ نفسك والتعليم، لأنك إن فعلت هذا، تخلص نفسك والذين يسمعونك" (1 تيموثاوس 4: 16) وقال عن "النساء إنهن سيخلصن بولادة الأولاد، إن ثبتن في الإيمان والمحبة والقداسة مع التعقل" (1 تيموثاوس 2: 15).

المعنى (أ) إن بولس الرسول يشهد عن تلميذه تيموثاوس أن إيمانه كان بلا رياء (2 تيموثاوس 1: 4)، ومن ثم كان مؤمناً حقيقياً له حياة أبدية بفضل كفارة المسيح، وإذا كان الأمر كذلك، أدركنا أن الرسول كان يحرضه على ملاحظة نفسه والتعليم، لا لكي يخلص من قصاص الخطية، بل لكي يخلص من ربقة المسؤولية الملقاة على عاتقه (من جهة الناس الذين دعاه الله للمناداة بالإنجيل بينهم) وذلك بإظهار المسيحية بسموها وطهارتها في حياته، حتى يقبلوا إليها ويفيدوا منها، لأن الناس لا يفهمون الإنجيل فهماً حقيقياً إلا إذا كان الذين ينادون لهم به أشخاص يحيون حياة القداسة والطهارة.

(ب) أما الآية الثانية فقد قيلت بمناسبة الإشارة إلى الحكم الذي أصدره الله على حواء، [وهو تكثير أتعاب حبلها وولادتها الأولاد بالأوجاع (تكوين 3: 16)] بسبب تصديقها للشيطان وتنفيذها لمشورته. ولكن المؤمنات الحقيقيات من بناتها أعطى الله لهن الوعد بالخلاص من هذه الأتعاب والأوجاع، إذا ثبتن في الإيمان والمحبة والقداسة مع التعقل – ومن البديهي أن يكون الأمر كذلك، لأن الوحي خصّ بهذا الخلاص النساء المتزوجات دون غيرهن.

ولكي لا ندع مجالاً للشك أمام أحد من جهة هذا الشرح نقول، إن كلمة الخلاص لا ترد في الكتاب المقدس بمعنى الخلاص من قصاص الخطية وسلطانها أو من الطبيعة العتيقة والعالم فحسب، بل ترد أيضاً بمعنى الخلاص من الضيقات والآلام، فقد قال الرسول لأهل فيلبي "لأني أعلم أن هذا يؤول لي إلى خلاص بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح" (1: 19)، ومن ثم لا مجال للظن بأن الخلاص من قصاص الخطية يكون بالإيمان والأعمال كما ذكرنا.

11- قال يوحنا الرسول: "إن علمتم أنه بار هو (أي الله)، فاعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه" (1 يوحنا 2: 9).

المعنى: إن الإنسان لا يستطيع بطبيعته أن يعمل البر الذي يتوافق مع كمال الله، فقد قال الوحي" ليس بار، ليس ولا واحد" رومية 3: 10)، لأن هذا البر هو الامتناع عن كل خطية والقيام بكل عمل صالح، أو بالحري هو التوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية. كما أن الفعل "يصنع" الوارد في الآية التي نحن بصددها يدل على الحدث الذي يعمل عادة، ولذلك يكون معناها أن الإنسان الذي من عادته (أو بالحري من طبيعته) أن يحيا حياة التوافق مع الله في صفاته المذكورة، يكون مولوداً منه – وهذا هو ما نبرنا عليه فيما سلف، لأن المولود من الله يسكن فيه روح الله، ومن يسكن فيه روح الله، يحيا عادة الحياة التي يريدها الله، لذلك لا يجوز أن تتخذ هذه الآية دليلاً على أن من يقوم بمجرد الصوم أو الصلاة أو الصدقة يكون مولوداً من الله، لأن كثيرين يقومون بهذه الأعمال، ومع ذلك يحيون حياة الشر والفساد، الأمر الذي يدل على أنهم ليسوا مولودين من الله، وليست لهم حياة أبدية تبعاً لذلك.

12- قال المسيح: "من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله". و "من يغلب فلا يؤذيه الموت الثاني". و"من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن المخفي". و "من يغلب ويحفظ أعمالي إلى النهاية فسأعطيه سلطاناً على الأمم". و"من يغلب فذلك سيلبس ثياباً بيضاً ولن أمحو اسمه من سفر الحياة". و"من يغلب فسأجعله عموداً في هيكل إلهي". و"من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي" (رؤيا 2 – 3).

المعنى (أ) إن الإصحاحين الثاني والثالث من سفر الرؤيا يتحدثان عن الكنيسة، ليس بوصفها جسد المسيح المكون من المؤمنين الحقيقيين فحسب، بل كما هي معروفة في العالم الحاضر جامعة لمؤمنين حقيقيين ومؤمنين بالاسم، كما يتضح من (رؤيا 2: 22، 3: 1، 3: 16). ومن ثم فمثلها هنا مثل ملكوت السموات الوارد ذكره في (متى 13 و 25)، والذي يتكون من مؤمنين بالحق ومؤمنين بالاسم. وإذا كان ذلك كذلك، أدركنا أن العبارة "من يغلب" الواردة في الآيات السابق ذكرها يراد بها "من يكون مؤمناً حقيقياً"، لأن كل واحد من المؤمنين الحقيقيين له نصيب في الغلبة، فمكتوب "وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم، إيماننا" (1 يوحنا 5: 4)، ومكتوب "من يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله" (1 يوحنا 5: 5). وعلى القدر الذي يحرزه المؤمن الحقيقي من الغلبة، تكون له المكافأة. والمكافأة ليست هي الحياة الأبدية، بل إنها جزاء خاص يحصل عليه هذا المؤمن بجانب الحياة الأبدية، لأن هذه الحياة هي هبة مجانية من الله له، على أساس كفارة المسيح.

(ب) أما من جهة الآيتين "من يغلب فلا يؤذيه الموت الثاني" و "من يغلب لن أمحو اسمه من سفر الحياة"، اللتين يظن البعض أنهما تدلان على أن الحياة الأبدية أجرة للأشخاص الذين يغلبون الشر في العالم الحاضر، ففضلاً عن أنه ليس هناك مؤمن معصوم من الخطية الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذا الظن، نقول: إن الآية الأولى قيلت بمناسبة الاضطهاد الذي كان يتعرض له المسيحيون في سميرنا (رؤيا 3: 10)، والثانية قيلت بمناسبة تعرض المسيحيين في ساردس للاكتفاء بالمظهر الديني دون جوهره (رؤيا 3: 1)، ولذلك فالغلبة الواردة في الآية الأولى يراد بها الاعتراف العلني بالمسيح وعدم إنكار اسمه، والغلبة الواردة في الآية الثانية يراد بها المثابرة على التمسك بالحق وعدم التأثر بتيار المسيحية الاسمية. والعملان الأول والثاني من أهم مظاهر الإيمان الحقيقي، الذي هو الشرط الوحيد للخلاص كما ذكرنا.

(جـ) وإذا كان ذلك كذلك، يكون المسيح بهاتين الآيتين كأنه يقول للمؤمنين "إذا تعرضتم للموت الجسدي في العالم الحاضر بسبب الاضطهاد، فهذا أمر يجب ألا يفت في عضدكم، إذ أن كل الناس سيموتون. لكن الأمر المهم الذي يجب أن تضعوه نصب أعينكم، هو أن الموت الثاني (أو بالحري العذاب الأبدي) سوف لا يكون له سلطان عليكم". و "إن لم تدون أسماؤكم في السجلات الدينية الأرضية مثل بعض المسيحيين بالاسم"، فإن هذا ليس بأمر ذي بال، إذ يكفيكم فخراً أن تعلموا أن أسماءكم مسجلة بحروف من نور في سفر الحياة الأبدية، ولن تمحى منه على الإطلاق.

ومن البديهي أن يكون الأمر كذلك، لأن الاستشهاد من أجل المسيح ومقاومة المسيحية الاسمية، وإن كانا عملين عظيمين، لكن لا يستطيعان التكفير عن خطية واحدة من خطايا القائمين بهما، أو تأهيلهم للتوافق مع الله في صفاته السامية، لأن الذي يقوم بالعمل الأول هو كفارة المسيح، والذي يقول بالعمل الثاني هو حياة المسيح في النفس، كما ذكرنا مراراً وتكراراً.

13- قال يوحنا الرسول: سمعت صوتاً من السماء قائلاً لي "اكتب طوبى للأموات الذي يموتون في الرب منذ الآن، نعم يقول الروح لكي يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم" (رؤيا 14: 13).

المعنى (أ) إن وصف هؤلاء الناس بأنهم "يموتون في الرب" دليل على أنهم كانوا يحيون فيه أثناء وجودهم على الأرض، لأن الذين يموتون في المسيح لا بد أن يكونوا قد عاشوا فيه، أو بالحري آمنوا به إيماناً حقيقياً – فهؤلاء الأشخاص إذاً ستكون لهم الحياة الأبدية مع المسيح، ليس بسبب أعمالهم، بل بسبب إيمانهم به إيماناً حقيقياً. أما الأعمال الصالحة التي قاموا بها، فإنها "تتبعهم"، أو بالحري لا يضيع أجرهم عنها، بل سيأخذونه كاملاً من يد الرب في هيئة أكاليل خاصة، غير أن هذا الأجر ليس هو الحياة الأبدية، بل هو مكافأة لهم بالإضافة إلى هذه الحياة، كما ذكرنا فيما سلف.

(ب) ومما تجدر الإشارة إليه في هذه المناسبة، أنه بالرجوع إلى الإصحاح المقتبسة منه هذه الآية، يتضح لنا أن الأشخاص المذكورين، هم الأتقياء الذين سيجتازون الضيقة العظيمة[32] التي ستحل على الأرض في الأيام الأخيرة. ونظراً لاعتقاد هؤلاء الأشخاص أنهم بموتهم قد حرموا من بركات ملك المسيح الألفي، أعطاهم الله الوعد السابق ذكره حتى لا يحزنوا بل يطمئنوا ويفرحوا.

ثانياً – الآيات الواردة في البشائر الأربع

قال المسيح: "فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة" (يوحنا 5: 28 و 29).

المعنى: إن الإنسان بحسب طبيعته البشرية العتيقة لا يسكن فيه، أي في جسده، شيء صالح (رومية 7: 18)، ولذلك فإن الصالحات (أو بالحري الصالحات التي لا تشوبها شائبة في نظر الله) لا تصدر إلا من القلب الذي يكمن فيه الصلاح. فقد قال المسيح في موضع آخر "الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب، يخرج الصالحات" (متى 12: 25)، وقلب مثل هذا لا يوجد إلا في المؤمنين الحقيقيين لأنهم بسبب ولادتهم من الله يصيرون شركاء في طبيعته الأدبية، ويمكن أن تصدر منهم هذه الصالحات. ولذلك فإنهم سيخرجون من قبورهم إلى قيامة الحياة، عند مجيء المسيح في المرة الثانية كما ذكرنا فيما سلف.

2- إن المسيح قال لسمعان الفريسي عن المرأة الخاطئة: قد غفرت لها خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيراً. (لوقا 7: 46).

المعنى: إن المسيح تحدث مع سمعان الفريسي عن محبة هذه المرأة بما يفهم منه أن محبتها هي السبب في غفران خطاياها، ليس لأن محبتها في ذاتها هي السبب في ذلك، بل لأن سمعان لم يكن يرى الإيمان الحقيقي الذي كان في قلبها، والذي كان المسيح يراه وعلى أساسه منحها الغفران. ومن البديهي أن يكون الأمر كذلك، لأن المرأة المذكورة لم تكن لتحب المسيح لولا أنها آمنت به أولاً في قلبها. والدليل على ذلك أن المسيح لم يقل لها: محبتك قد خلصتك، بل قال لها "إيمانك قد خلصك. اذهبي بسلام" (لوقا 7: 50).

3- إن المسيح سيقول لملائكته عن العبد الذي لم يستثمر الوزنة التي أخذها "اطرحوه في الظلمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" (متى 25: 14 – 30).

المعنى (أ) الوزنة التي لم يستثمرها هذا العبد لا ترمز إلى الإيمان كما يعتقد القائلون بالإيمان والأعمال، وذلك لسببين (1) أن المسيح أعطى العبدين الآخرين واحداً خمس وزنات والآخر وزنتين، والحال أن الإيمان واحد (أفسس 4: 5، 1 بطرس 1: 1) (2) إن المسيح وإن كان قد عمل الخلاص لكل الناس، لكنه لا يضع الإيمان الحقيقي (الذي يؤدي إلى الحصول على هذا الخلاص) في نفوسهم جميعاً، بل يضعه فقط في نفوس الذين يطلبونه بإخلاص منهم[33]. وإذا كان الأمر كذلك، فالوزنات لا تكون إلا رمزاً للمواهب الذهنية التي يعطيها الله للناس عامة كل حسب استعداده، وبها يمكن لكل منهم (لو كان مخلصاً للحق) أن يعرف أنه خاطئ، وأنه في حاجة إلى الخلاص من سلطة الخطية ومن دينونتها، وأنه لا خلاص له من هذه وتلك إلا بالمسيح. فإذا أقبل بعد ذلك بقلبه إليه وآمن به إيماناً حقيقياً، تكون له الحياة الأبدية، كما يكون في وسعه أن يثمر أثماراً صالحة في قدر طاقته، وإذا لم يؤمن يكون له الشقاء الأبدي وبئس المصير، لأنه لا يستطيع أن يكفر عن خطية واحدة من خطاياه، مهما أكثر من الأعمال الصالحة.

(ب) كما أننا إذا رجعنا إلى الإصحاح المقتبسة منه هذه الآية، نرى أن العبد الذي نحن بصدده، فضلاً عن أنه لم يستثمر الوزنة التي أعطاها سيده له، قد أهان سيده إهانة بالغة، إذ قال له "يا سيد: عرفت أنك إنسان قاس، تحصد من حيث لم تزرع، وتجمع من حيث لم تبذر" (متى 25: 14)، ولذلك لا يكون هذا العبد مثالاً لأي إنسان به ذرة من الإيمان، لأن مثل هذا الإنسان، حتى إن تعذر عليه تنفيذ وصية المسيح، لا يمكن أن يهينه أو يرميه بالظلم أو القسوة على الإطلاق.

4- إن الله (المرموز له بالملك الذي عمل وليمة العرس) سيقول لخدامه عن الإنسان الذي لا يكون مرتدياً لباس العرس "اربطوا رجليه ويديه، واطرحوه في الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" (متى 22: 1 – 13).

المعنى: (أ) هذا اللباس لم يكن من المفروض على الإنسان المذكور أن يأتي به من عندياته، بل أن يتناوله مجاناً من الملك، إذ أن هذا الإنسان وغيره من الذين دخلوا العرس، كانوا من الفقراء المعدمين الذين يقفون في مفارق الطرق لكي يستعطوا (متى 22: 10، لوقا 14: 21)، ولذلك كان الملك هو الذي يأمر بتقديم لباس العرس له ولهم، حتى يكونوا في الحالة التي تتناسب مع مقامه الملكي. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا اللباس لا يكون رمزاً للأعمال الصالحة كما يعتقد القائلون بالإيمان والأعمال، بل رمزاً للبر الإلهي الذي يكسو به الله كل المؤمنين الحقيقيين (أشعيا 61: 10، رومية 3: 21 – 22)، حتى يكونوا أهلاً للوجود معه إلى الأبد.

(ب) فالإنسان الذي نحن بصدده، يمثل إذاً الشخص الذي يعتقد أنه أفضل من غيره من الناس، وأنه يستطيع أن يدخل إلى السماء بواسطة أعماله الصالحة، وهو لا يدري أن أعماله هذه مهما كانت قيمتها، هي في نور قداسة الله أثمال بالية قذرة (أشعيا 64: 6)، لأنها علاوة على تفاهتها بالنسبة إلى وجود الله وفضله اللذين لا حد لهما، فهي ملطخة بشرور الطبيعة العتيقة ونقائصها، الأمر الذي يجعلها غير صالحة للتكفير عن خطايا فاعلها، أو تأهيله للتوافق مع الله في صفاته العلوية السامية.

5- إن المسيح سيقول للعذارى الجاهلات اللاتي لم يأخذن زيتاً معهن في آنيتهن "الحق الحق أقول لكنّ: إني ما أعرفكن" (متى 25: 1 – 30).

المعنى (أ) الزيت المذكور في هذه الآيات ليس رمزاً للأعمال الصالحة، كما يعتقد القائلون بالإيمان والأعمال، بل رمز للروح القدس الذي يسكن في المؤمنين الحقيقيين دون غيرهم (1 كورنثوس 6: 19)، وذلك للأسباب الآتية: (1) إن الزيت هو الذي كان يمسح به الملوك والأنبياء والكهنة في العهد القديم (خروج 29: 7، 2 صموئيل 5: 3)، للدلالة على تأييد الروح القدس لهم في الأعمال التي دعاهم الله للقيام بها (2) إن الوحي يعلن لنا أن المسحة (أو بالحري الزيت) هي التي تعلم المؤمنين (1 يوحنا 2: 20 – 27)، والذي يعلم المؤمنين ويرشدهم هو الروح القدس (يوحنا 14: 25) (3) إن الروح القدس يسكن في نفوس المؤمنين الحقيقيين (1 كورنثوس 3: 16) ولا يعلم العالم عن وجوده فيهم شيئاً (يوحنا 14: 24)، ولذلك يليق أن يشبه بالزيت الذي كان في أنية الحكيمات، لأن هذا الزيت لم يكن معروفاً لأحد غيرهن (4) إن الحكيمات والجاهلات كن سواء في ا لمظاهر الخارجية (فالكل كن عذارى للدلالة على انتسابهن الظاهري للمسيح، والكل أخذه مصابيحهن للدلالة على شهادتهن الخارجية له، والكل خرجن للقائه للدلالة على معرفتهن بالحق الإلهي الخاص بمجيئه)، أما الفارق الوحيد بينهن، فهو أن الحكيمات كان لديهن زيت في آنيتهن دون الجاهلات. ولذلك لا جدال في أن الزيت ليس رمزاً للأعمال الصالحة، بل هو رمز للروح القدس، لأنه هو الجوهر الباطني الوحيد الذي يميز المؤمنين الحقيقيين عن المؤمنين بالاسم كما ذكرنا.

فمثل العذارى لا يدل إذاً على أن الحياة الأبدية تتوقف على الإيمان والأعمال، بل يدل على أن المؤمنين بالاسم قد يكونون مثل المؤمنين الحقيقيين في المظهر الخارجي. فقد يصلون ويصومون ويتصدقون مثلهم، ومع ذلك يكونون خالين من الروح القدس بسبب عدم إيمانهم إيماناً حقيقياً بالمسيح، ومن ثم لا تكون لهم حياة أبدية على الإطلاق.

(ب) أما القول [إن العذارى الجاهلات لا بد أنه كان لديهن شيء من الزيت في مصابيحهن عندما خرجن للقاء العريس، كما أنهن استطعن أن يشترين زيتاً بعد دخول الحكيمات إلى العرس، ومن ثم يكنّ رمزاً للمؤمنين الحقيقيين الذين يمكن أن يهلكوا بسبب خطاياهم أو عدم استعدادهم]، فلا يجوز الأخذ به للأسباب الآتية:

(1) ليست هناك كلمة في مثل العذارى بدل على أن مصابيح الحكيمات أو الجاهلات كانت مضاءة عندما خرجن للقاء العريس (لأنهن جميعاً أخذن في إصلاح مصابيحهن عندما سمعن بقدومه)، ومن ثم فمن المحتمل أن يكن جميعاً قد خرجن من بيوتهن قبل حلول الظلام ومعهن المصابيح، وذلك دون أن يخطر ببال الجاهلات أن يأخذن زيتاً.

(2) إن الروح القدس (الذي يرمز له بالزيت) لا يشترى بالمال، وليس هناك باعة له على الإطلاق، بل الله وحده هو الذي يعطيه لكل من يؤمن إيماناً حقيقياً، ومن ثم فما قيل عن الجاهلات بشأن شراء الزيت وعدم السماح لهن على الرغم من حصولهن عليه، بالدخول إلى العرس بعد الحكيمات، هو مجرد إشارة إلى أنه لا مجال للقبول أمام الله بعد انغلاق الباب[34]، مهما كانت الظروف والأحوال.

(3) فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن المسيح قال للجاهلات "لا أعرفكن"، اتضح لنا أنهن رمز للمؤمنين بالاسم الذين ليست لهم علاقة حقيقية بالمسيح، لا سيما وأن الجهل المسند إليهن هو ذات الجهل المسند إلى هؤلاء المؤمنين، فقد قال المسيح لهم "أيها العميان والجهال" (متى 23: 17).

(جـ) كما أن القول [إن العذارى الجاهلات رمز للمؤمنين الحقيقيين لأنه كان لديهن زيت، ولكن بسبب إهمالهم لا يتمتعون بالاختطاف بل يتمتعون فقط بالملك الألفي على الأرض] لا نصيب له من الصواب للأسباب الآتية:

(1) إن المسيح يقسم الناس في ملكوت السموات إلى قسمين لا ثالث لهما، وهذان القسمان هما الخراف والجداء، أو الزرع الجيد والزوان، أو السمك الجيد والسمك الرديء، والقسم الأول له حياة أبدية والقسم الثاني نصيبه العذاب الأبدي، ومن ثم تكون الحكيمات من القسم الأول والجاهلات من القسم الثاني.

(2) إن الوحي يعلن لنا أن المؤمنين الحقيقيين ختموا جميعاً بالروح القدس ليوم الفداء (أفسس 4: 30)، ويوم الفداء هو يوم الاختطاف الذي تتغير فيه أجساد المؤمنين الحقيقيين إلى شبه جسد المسيح (رومية 8: 28)، ومن ثم سيكون لهم جميعاً امتياز التمتع بالاختطاف، لا سيما وقد أعلن الوحي بكل وضوح أنه عندما ينزل الرب من السماء سيقوم الأموات في المسيح أولاً، ثم يخطف الأحياء في المسيح جميعاً معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء (2 تسالونيكي 4: 16 – 17).

(3) إن وصف الجاهلات بأنهن عذارى هو مجرد إشارة إلى انتمائهن الظاهري للمسيح كما ذكرنا فيما سلف، وليس دليلاً على تكريسهن الحياة له، إذ أن هذا التكريس لا يتم إلا بعمل الروح القدس في النفس، وهؤلاء العذارى لم يكن يسكن فيهم الروح القدس كما سبقت الإشارة.

(4) أما عن إهمال بعض المؤمنين الحقيقيين في حياة التقوى الذي دعا المعترض إلى الرأي الذي نحن بصدده، فإنه يعرضهم للتأديب في الزمن الحاضر، كما يحرمهم من الأكاليل في الأبدية (1 كورنثوس 11: 30، ورؤيا 3: 10)، ولكن لا يحرمهم من الاختطاف والوجود مع المسيح في المجد السماوي (لأن بالاختطاف تتغير أجسادهم إلى صورة جسد المسيح في مجده)، كما اتضح لنا من البند الثاني، ولذلك ليس هناك مجال للرأي المذكور.

6- إن المسيح سيقول لبعض الناس: "تعالوا إلي يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم منذ تأسيس العالم. لأني جعت فأطعمتموني .... لأن ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر في فعلتم. وسيقول للبعض الآخر: اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته، لأني جعت فلم تطعموني .... لأن ما لم تفعلوا بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا. فيذهب هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية" (متى 25: 23 – 46).

المعنى (أ) أخوة المسيح الأصاغر هم تلاميذه الذين كانوا معه وقتئذ، وهم أيضاً الذين ينادون باسمه في كل زمان، لا سيما في الأيام الأخيرة (لأن الإصحاح المقتبسة منه الآيات التي نحن بصددها يتحدث عن هذه الأيام)، ومن ثم يكونون هم الكارزين ببشارة الملكوت في كل المسكونة الوارد ذكرهم في (متى 24: 14)، أثناء الضيقة العظيمة التي ذكرنا شيئاً عنها فيما سلف وإذا كان ذلك كذلك، يكون الأشخاص الذين سيساعدون أخوة المسيح، هم الذين يقبلون بشارة الملكوت وقتئذ، والأشخاص الذين سيرفضون مساعدتهم، هم الذين يحتقرون هذه البشارة ويزدرونها.

وإذا نظرنا إلى هذه الآيات في ضوء الكتاب المقدس بصفة عامة، يتضح لنا أن الملك الوارد بها لا يراد به أمجاد السماء، بل ملك المسيح على الأرض عند مجيئه إليها في المرة الثانية، وذلك للأسباب الآتية (1) إن الحياة الأبدية هي هبة مجانية من الله للمؤمنين الحقيقيين وليست مكافأة عن صدقة أو عمل من الأعمال الصالحة (2) إن هذه الحياة معدة للمؤمنين المذكورين ليس منذ تأسيس العالم (كما تقول الآيات التي نحن بصددها)، بل معدة لهم من قبل تأسيس العالم. فمكتوب أن الله باركهم بكل بركة روحية في السماويات قبل تأسيس العالم (أفسس 1: 3 – 5) (3) إن المكافأة التي سيمنحها المسيح للذين ساعدوا أخوته الأصاغر، ستكون (كما يتضح من الآيات السابقة التي نحن بصددها) ليس عند ذهابهم إلى السماء، بل عند مجيئه هو إلى الأرض (متى 25: 30) (4) إن الوحي يعلن لنا هنا أن جميع الشعوب (أبراراً وأشراراً) ستجتمع أمام كرسي المسيح (متى 25: 32)، وهذا لا يتحقق في السماء بل على الأرض، لأن الناس لا يكونون في السماء شعوباً مختلفة، كما أن الأشرار لا يدخلونها ويقفون على يسار المسيح لكي يحاسبوا عن أعمالهم، لأن السماء تزيل كل الفوارق الجنسية بين الشعوب، كما، أنه لا يدخلها سوى الأبرار في المسيح الذين لهم حياة أبدية معه.

(ب) وإذا كان ذلك كذلك، أدركنا أن المكافأة والدينونة الواردتين في الآيات التي نحن بصددها، ستكونان لأشخاص أحياء على الأرض عند مجيء المسيح للملك عليها. فالمكافأة هي فتح الباب أمام الذين ساعدوا أخوته السابق ذكرهم (أو بالحري قبلوا بشارة الملكوت التي كان هؤلاء ينادون بها) لكي يتمتعوا بالملكوت على الأرض. والدينونة هي طرح الذين احتقروا أخوة المسيح (أو بالحري رفضوا البشارة التي كان هؤلاء ينادون بها) في جهنم إلى الأبد ... غير أنه مما لا شك فيه أن الذين سيتمتعون بهذا الملكوت أشخاص لهم حياة أبدية، ليس لأنهم ساعدوا أخوة المسيح المذكورين (لأن هذا العمل كما نعلم لا يكفر عن خطية واحدة من خطايا فاعليه أو يؤهلهم للتوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية)، بل لأنهم أثبتوا بقبولهم لبشارة الملكوت أنهم يؤمنون بالمسيح إيماناً حقيقياً. ولذلك لا يجوز أن تتخذ هذه الآيات دليلاً على أن مجرد القيام بالأعمال الصالحة يهب فاعليها الحياة الأبدية.

(جـ) وملك المسيح على الأرض هو المعروف بالملك الألفي لأنه سيظل عليها ألف عام، وفي هذا الملك سيسود الرخاء والسلام جميع أرجاء العالم، وتنتشر معرفة الرب فيه انتشاراً عظيماً. وقد نادى بهذا الملك أشهر علماء المسيحية في القرون الثلاثة الأولى، مثل بابياس ويوستينوس وإيريناوس وكبريانوس ونيبوتي (الآباء في القرون الثلاثة الأولى للدكتور أسد رستم ص 185، والخريدة النفيسة للأسقف أيسوذوروس جـ 1 ص 229)، كما نادى به كثير من الأرثوذكس والإنجيليين في العصر الحديث، نذكر من الفريق الأول ابن كاتب قيصر (قانون الأرثوذكسية ص 180 – 183) وعريان مفتاح (الدرة البهية ص 62)[35]، أما القول بأن هذا الملك هو ملك معنوي وأنه يقصد به ملك المسيح على القلوب مدة انتشار الإنجيل على الأرض، فليس له نصيب من الصواب[36]، كما يتضح من (رؤيا 20: 1 – 9، متى 25: 31 – 34) – هذا مع العلم بأن الملك المذكور هو للمسيح وليس لليهود كما يزعمون (مزمور 2: 8)، كما أن المسيح سيكون في أثنائه ليس على الأرض بل فوقها مشرفاً عليها، فأورشليم السماوية شيء وأورشليم الأرضية شيء آخر.

8- قال المسيح: "اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم، حتى إذا فنيتم، يقبلونكم في المظال الأبدية" (لوقا 16: 9).

المعنى (أ) الكلمة اليونانية المقابلة للظلم في العبارة "مال الظلم" هي "أدكياس" وهذه الكلمة لا يراد بها المال المغتصب أو المسروق، بل المال غير البار، أو بالحري الخداع، أو غير البار بصاحبه"، ومن ا لبديهي أن يكون الأمر كذلك، لأن المال المغتصب أو المسروق يجب أن يعاد إلى صاحبه بأي وسيلة من الوسائل، إذ أنه إذا احتفظ به من اغتصبه أو سرقه، تعرض لحلول قضاء الله عليه، وإن أعطاه للفقراء لا يكون له جزاء ما.

(ب) كما أن "المظال الأبدية" الوارد ذكرها في هذه الآية لا يراد بها السماء، وذلك للأسباب الآتية (1) إن كلمة المظال يعبر بها عن المساكن المؤقتة، أما السماء فباقية وثابتة إلى الأبد ويعبر عنها بالمدينة التي لها الأساسات (عبرانيين 9: 10) (2) إن حق الإنعام بالسماء والحرمان منها ليس في يد الفقراء (هذا على فرض أن لهم جميعاً نصيباً في السماء، الأمر الذي لا يتفق مع الواقع) كما هو وارد في الآية التي نحن بصددها، بل في يد الله دون سواه (3) إن امتياز التمتع بالله في السماء لا يشترى بالمال لأنه أثمن من المال بما لا يقاس، ولذلك فإن الله لا يقدمه إلا هبه مجانية للذين يؤمنون به إيماناً حقيقياً (4) ليس هناك في السماء مجال لترحيب بعض الناس بالبعض الآخر، إذا أن كل الناس سيكونون تحت تأثير الله دون سواه، وإن كان هناك ترحيب، فيكون من الله وحده للمؤمنين الحقيقيين به (5) لو فرضنا جدلاً أن الفقراء الذين أعطيناهم صدقة هم من أهل السماء، وأن لهم أن يرحبوا بنا فيها، فليس من المعقول أنهم سيسبقوننا إليها حتى يقوموا بهذه المهمة، إذ قد ينتقلون إليها بعدنا بسنوات [37].

(جـ) وإذا كان الأمر كذلك، فالراجح أن المراد بالمظال الأبدية، هو ملكوت المسيح على الأرض الذي تحدثنا عنه فيما سلف، والذي كان من الممكن أن يأتي به المسيح لليهود وقتئذ لو كانوا قد تابوا وقبلوا رسالته، لأن هذا الملكوت كان يرمز له قديماً بعيد المظال[38]، ومن ثم يكون معنى الآية التي نحن بصددها، إما أن الذين افتقروا (لأن هذا هو المعنى الأصلي للكلمة المترجمة "فنيتم"[39]) في هذا العالم ويكونون قد ساعدوا تلاميذ المسيح، فإن هؤلاء التلاميذ كانوا سيرحبون بهم في هذا الملكوت (لو كان المسيح قد أتى به وقتئذ). أو أن الذين يفتقرون بسبب الكوارث التي ستحل بالعالم مستقبلاً في الضيقة العظيمة، ويكونون قد قبلوا بشارة الملكوت وساعدوا أتباع المسيح القائمين بها، فأمدوهم بما يحتاجون إليه من كساء وطعام في الضيقة المذكورة، فإن أتباع المسيح هؤلاء سيذكرونهم عند ملك المسيح على الأرض ويرحبون بهم فيه، إزاء ما نالوه منهم من مساعدة وتعضيد من قبل – ومما يؤيد هذه الحقيقة أن مثل الوكيل المقتبسة منه الآية التي نحن بصددها، هو إشارة إلى اليوم الذي تنتهي فيه خدمتنا ونقف أمام الله لنعطى حساباً عن أعمالنا – غير أنه مما لا شك فيه أن الأشخاص المذكورين لهم حياة أبدية، لأنهم أثبتوا بقبولهم لبشارة الملكوت أنهم يؤمنون بالمسيح إيماناً حقيقياً، وهذا الإيمان هو الذي جعلهم يقبلون على مساعدة وتعضيد أتباعه، وذلك لا يجوز اتخاذ الآيات التي نحن بصددها دليلاً على أن مجرد القيام بالصدقة يهب الناس حياة أبدية.

(د) أما الاعتراض [بأن هذه المظال موصوفة بأنها أبدية، وأنها تبعاً لذلك تكون هي السماء بعينها، لأن هذه هي التي تظل إلى الأبد]، ففضلاً عن أنه لا مجال له على الإطلاق للأسباب التي ذكرناها في بند (ب)، نقول إن كلمة الأبدية كما ترد بمعنى اللانهائية، ترد أيضاً بمعنى فترة طويلة من الزمن من باب المجاز، فمثلاً: جاء في (الخروج 21: 5 – 6) "ولكن إن قال العبد: أحب سيدي وامرأتي وأولادي لا أخرج حراً، يقدمه سيده إلى الله ويقربه إلى الباب أو إلى القائمة ويثقب سيده أذنه بالمثقب، فيخدمه إلى الأبد". وجاء في (1 صموئيل 1: 22) "ولكن حنة لم تصعد لأنها قالت لرجلها متى فطم الصبي آتي به ليتراءى أمام الرب ويقيم هناك إلى الأبد" – فالأبد هنا لا يراد به اللانهائية، كما هو معلوم لدينا.

8- قال المسيح "لكن الذي يصبر إلى المنتهى، فهذا يخلص" (متى 24: 13)

المعنى (أ) بالرجوع إلى الإصحاح المقتبسة منه هذه الآية، يتضح لنا أن المسيح عندما نطق بها كان يتحدث عن الضيقة العظيمة، وفي هذه الضيقة سيرجع نفر من اليهود الأتقياء إلى النبوات ويعرفون أن المسيح الذي صلبه آباؤهم هو حقاً مسيح الله، ومن ثم سوف يتجهون إليه ويؤمنون بشخصه، ضاربين عرض الحائط بسلطة المسيح الكذاب الذي سيظهر في الضيقة المذكورة ويجمع السلطة العالمية في يده، وبذلك يعرضون أنفسهم لاضطهادات وضيقات كثيرة. وإلى هؤلاء الأشخاص ترك المسيح هذه الرسالة "حينئذ يسلمونكم إلى ضيق ويقتلونكم وتكونون مبغضين من جميع الأمم من أجل اسمي، لكن الذي يصبر إلى المنتهي فهذا يخلص" أي يخلص من الاضطهادات والضيقات ويتمتع بعد ذلك بملك المسيح على الأرض، لأن هذا الملك يأتي بعد الضيقة العظيمة كما ذكرنا فيما سلف.

(ب) ومما يثبت أن الخلاص الوارد هنا، لا يراد به خلاص النفس من الدينونة الأبدية، بل الخلاص من الاضطهادات والضيقات الأرضية، الدليلان الآتيان (الأول) إن المسيح لم يقل بعد هذه الآية: ولو لم تقصر تلك الأيام لم تخلص نفس، بل قال "ولو لم تقصر تلك الأيام لم يخلص جسد" (متى 24: 22) والجسد عندما يخلص يعيش مع الناس على الأرض، بينما النفس عندما تخلص تعيش في عالم الروح مع الله. (الثاني) إن الصبر وإن كان من الصفات الطيبة التي يجب أن يتصف بها المؤمنون الحقيقيون، لكن الخلاص من الدينونة لا يعطى كمكافأة للصبر أو غيره من الصفات الطيبة، بل هو هبة مجانية من الله لهؤلاء المؤمنين بفضل كفارة المسيح التي حققت كل مطالب عدالة الله وقداسته.

9- قال المسيح "فإن أعثرتك يدك أو رجلك فاقطعها وألقها عنك، خير لك أن تدخل الحياة أعرج أو أقطع من أن تلقى في النار الأبدية ولك يدان ورجلان. وإن أعثرتك عينك فاقلعها وألقها عنك، خير لك أن تدخل الحياة أعور من أن تلقى في جهنم النار ولك عينان" (متى 8: 9).

المعنى (أ) إن الوحي يعلن لنا أن سلوك المؤمنين الحقيقيين يجب أن يكون طاهراً كل الطهر، لأن هذا التصرف هو الذي يليق بدعوتهم ومقامهم، وفي الوقت نفسه هو الذي يبعث إلى نفوسهم بالراحة والابتهاج ويؤهلهم لعبادة الرب وخدمته في العالم الحاضر. ومن ناحية أخرى لأن الانحراف عن هذا السلوك يجلب إليهم البؤس والشقاء ويحول بينهم وبين خدمة الرب وإكرامه، كما يعرضهم للتأديب في هذا العالم (عبرانيين 12: 9) والحرمان من الأكاليل التي كان من الممكن أن يحصلوا عليها في العالم الآخر. ولكن حياة الطهارة ليست هي الثمن الذي يدفعونه للحصول على الحياة الأبدية، لأن ثمن هذه الحياة هو دم المسيح دون سواه؛ كما أعلن الوحي.

وإذا كان ذلك كذلك، فما المراد بالحياة الوارد ذكرها في الآية التي نحن بصددها؟ (الجواب) إذا وضعنا أمامنا (أولاً) أن المسيح عندما نطق بالآية التي أمامنا كان يتحدث مع اليهود عن ملكوت السموات (متى 8: 1)[40] الذي كانوا ينتظرونه، إذ أن الحياة الروحية في السماء إلى الأبد كانت بعيدة كل البعد عن أذهانهم بصفة عامة (اقرأ مثلاً 1 ملوك 2: 1، أشعياء 38: 18 – 19)[41](ثانياً) إن الحياة الأبدية في السماء لا يكون فيها مؤمن أعور أو أعرج كما سيكون في الحياة الوارد ذكرها في هذه الآيات، إذ أن كل المؤمنين سيكونون في السماء كاملين في جسد روحي ممجد، مثل جسد المسيح نفسه (1 كورنثوس 15: 49) – أدركنا أن الحياة المذكورة، يراد بها الحياة السعيدة التي كان المسيح مزمعاً أن يعطيها لهم في ملكوته الذي كان ينادي لهم به، لو كانوا قد تابوا عن خطاياهم وقبلوا رسالته.

(ب) وبما أن المسيح كان يعلم منذ الأزل أن اليهود سيرفضونه في مجيئه الأول، يكون قد قصد بالآية التي نحن بصددها ليس فقط وجوب المحافظة على حياة القداسة لكي يدخلوا الحياة التي كان يريد أن يعطيها لهم، بل قصد أيضاً أن يحول أنظارهم، أو بالحري أنظار أبنائهم من بعدهم، عن الوثنية التي ستظهر في الضيقة العظيمة ممثلة في المسيح الكذاب [الذي ستكون له السلطة العليا على الأرض وقتئذ، حتى أن معظم الناس سيخضعون له ويسيرون في ركابه، إن لم يكن رغبة في التدين (حسب زعمهم)، فرغبة في البقاء على الأرض والحصول على لقمة العيش فيها (رؤيا 13: 11 – 17)] لكيلا تخدعهم أعينهم بمظاهر هذه الوثنية، أو تقودهم أرجلهم إلى سلبها أو تمتد أيديهم إلى شيء من متعلقاتها، حتى يتمتعوا مع الأمناء في كل الشعوب بالحياة السعيدة في الملك الألفي الذي يلي الضيقة المذكورة. غير أنه مما لا شك فيه أن الأشخاص الذين ينفذون وصية المسيح هذه، لهم حياة أبدية، لأنهم بتضحيتهم بأعز ما لديهم في سبيل الإخلاص لله، يثبتون أنهم من المؤمنين الحقيقيين بالمسيح، وطبعاً سوف لن يتمتعون بهذه الحياة في السماء وهم عور أو عرج (إن كانوا قد قلعوا عيناً أو قطعوا رجلاً). بل وهم كاملون في المسيح كل الكمال، كما سبقت الإشارة.

(جـ) أخيراً نقول: إذا وضعنا أمامنا أن المؤمنين الحقيقيين في كل الأمم لا يدخلون الحياة بل الحياة هي التي تدخل فيهم، وذلك بولادتهم من الله ولادة روحية عند إيمانهم بالمسيح إيماناً حقيقياً وهم على الأرض، ومن ثم فإن دخولهم المنتظر لا يكون إلى الحياة بل إلى المجد، وذلك بمجرد مجيء المسيح في المرة الثانية لاختطافهم إليه (1 تسالونيكي 4: 13 – 17)، اتضح لنا بدليل قاطع أن "الحياة" الوارد ذكرها في الآية التي نحن بصددها، هي الحياة السعيدة التي كان المسيح عتيداً أن يأتي بها لليهود لو كانوا قد تابوا وقبلوه (أرميا 35: 7، أمثال 3: 2)، أو الملكوت الألفي الذي تحدثنا عنه فيما سلف[42]، ومن ثم لا مجال للظن بأن الخلاص من قصاص الخطية يكون بواسطة الإيمان والأعمال معاً كما ذكرنا.

ثالثاً – الآيات الواردة في العهد القديم

قال الله عن لسان النبي "إذا رجع البار عن بره وعمل إثماً وفعل مثل الرجاسات التي يفعلها الشرير (التي هي عبادة الأوثان المصحوبة بالدنس والنجاسة) أفيحيا؟ كل بره الذي عمله لا يذكره في خيانته التي خانها وفي خطيته التي أخطأ بها يموت .... وإذا رجع الشرير عن شره الذي فعل، وعمل حقاً وعدلاً، فهو يحي نفسه" (حزقيال 18: 24 – 27).

المعنى (أ) بالرجوع إلى الإصحاح المقتبسة منه هذه الآيات، يتضح لنا أن اليهود كانوا يريدون أن يعيشوا في الشر دون أن يوقع الله عليهم قصاصاً ما، وأنه إذا كان ولا بد من قصاص، فيجب إما أن يوزعه عليهم وعلى أولادهم، أو يحسب لهم صلواتهم وذبائحهم وعطاياهم (والتي كانت كلها رياء في رياء)، وحينئذ سوف يرى أنهم لا يستحقون قصاصاً ما.

ولذلك كان أمراً بديهياً أن يعلن الله لهم المبادئ العامة لرحمته وعدالته، لكي يظهر اعوجاجهم والتواء منطقهم. فقال لهم: إن الشرير الذي يتوب عن شره ويعمل حقاً وعدلاً يثبت أنه انصرف عن الشر واتجه إلى البر، ومن ثم فإنه يحيا. أما البار إذا فعل إثماً وعمل رجساً يكون قد تنكر لحياته الأولى ومال بقلبه إلى الشر، ومن ثم يكون مستحقاً للموت.

(ب) غير أننا إذا أمعنا النظر في القول "إن الشرير إذا فعل الحق والعدل يحي نفسه" يتضح لنا أن المراد به ليس أن الله يعطيه حياة أبدية بل أن هذا الشرير يمد في أجل نفسه على الأرض فقط. ولا غرابة في ذلك فقد قال الوحي "لأن المستقيمين يسكنون الأرض والكاملين يبقون فيها" (أمثال 2: 21)، ومما يؤيد صحة هذا التفسير أيضاً أن الحياة مع الله في السماء كانت بعيدة كل البعد عن أذهان اليهود، كما أنها ليست مكافأة عن عمل صالح، بل هي هبة مجانية للمؤمنين الحقيقيين على أساس كفارة المسيح، وعلى هذا النسق فإن المراد بالقول "إن البار إذا رجع عن بره وعمل إثماً أو رجساً يموت"، أنه يعجل بانقراضه من الأرض. فقد قال الوحي للشرير "لماذا تموت في غير وقتك!" (جامعه 7: 16)[43]، ومن ثم فالغرض من هذه الآيات هو إعلان معاملة الله العامة مع البشر في العالم الحاضر، وذلك للمحافظة على قوانين المجتمع الذي يعيشون فيه، والتي لا تستطيع القوانين الأرضية المحافظة عليها في كل حين.

(جـ) وإذا كان ذلك كذلك، أدركنا أن المراد "بالبار" في الآيات التي نحن بصددها، ليس البار أمام الله (أو بالحري الشخص المولود منه والذي له تبعاً لذلك حياة أبدية معه)، بل البار في نظر الناس فحسب. ولا غرابة في ذلك فهناك أشخاص يعتبرون أبراراً لمجرد امتناعهم عن ارتكاب الفحشاء، أو لمساعدتهم بعض الفقراء، أو لقيامهم بالفروض الدينية الظاهرية، بينما هم في الواقع أشخاص خطاة بعيدة نفوسهم عن الله كل البعد. وقد أشار المسيح إلى هذا النوع من الأبرار، فقال إنهم لا يحتاجون إلى التوبة (لوقا 15: 7)، أو بالحري يعتقدون أنهم لا يحتاجون إليها – ومن يعتقد أنه ليس في حاجة إلى توبة يكون شخصاً مدعياً للبر، لأن الكل أخطأوا وزاغوا وأعوزهم مجد الله، ومن ثم فإن جميع الناس في حاجة إلى التوبة.

ومما يثبت أن البار هنا، هو البار في نظر الناس كما ذكرنا، أن الوحي يقول عنه إنه إذا رجع عن بره، والحال أن البار الحقيقي في نظر الله، هو من له بر الله بالإيمان (حبقوق 2: 4، مزمور 51: 14)، وشخص مثل هذا لا يسند أعمال البر التي يقوم بها إلى ذاته، بل إلى نعمة الله العاملة فيه (فيلبي 2: 13، 1 كورنثوس 15: 10)، وكفانا دليلاً على ذلك أن الرسول الذي كان من جهة البر الذي في الناموس بلا لوم، قال عندما عرف المسيح "وليس لي بري الذي من الناموس، بل الذي بإيمان المسيح، البر الذي من الله بالإيمان" (فيلبي 3: 9)

الاعتراضات والرد عليها

1- من الخطأ أن نتمسك بشطر من آية ونترك الشطر الآخر منها، أو نتمسك بآية ونترك الآيات الأخرى الخاصة بموضوعها. ومن ثم يجب أن ندرس الآية "أما الذي لا يعمل، ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر، فإيمانه يحسب له براً" (رومية 4: 5)، مع الآية "لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم" (رومية 1: 18). وأن ندرس الآية "لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان، وذلك ليس منكم هو عطية الله ... ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد" (أفسس 2: 8)، مع الآية "لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها" (أفسس 2: 10).

الرد: إن المقدمة الموجودة في صدر هذا الاعتراض أمر يسلم به كل مخلص للحق، ونحن نوافق المعترض عليها كل الموافقة، ولذلك نقول.

(أ) إن الفاجر الذي يؤمن بالمسيح إيماناً، حقيقياً تولد نفسه من الله ولادة روحية يصبح بها شريكاً لله في طبيعته الأدبية (2 بطرس 1: 4)، ومن ثم لا يكون فاجراً بعد بل قديساً. أما إذا ظل فاجراً كما كان من قبل، فإنه لا يكون قد آمن بالمسيح إيماناً حقيقياً، ولذلك لا بد أن يحل عليه غضب الله.

(ب) إن الأعمال الصالحة التي أعلن الرسول عدم أهميتها أمام الله، هي الأعمال السابقة للإيمان الحقيقي، سواء أكانت صادرة من شخص ينتمي إلى الوثنية أم إلى المسيحية، لأن هذه الأعمال تكون ملوثة بنقائص الطبيعة العتيقة كما ذكرنا. وقد أشار إلى هذه الحقيقة (كتاب الخلاص في المفهوم الأرثوذكسي ص 59)، فقال "إن الأعمال التي تقلل النصوص المقدسة من أهميتها (أو بالحري تنفي أهميتها)، هي الأعمال غير المبنية على دم المسيح وفدائه، كأعمال غير المؤمنين والوثنين. أو أعمال بدون إيمان، أو أعمال سابقة على الإيمان" أما الأعمال الصالحة التي يسر الله بها ويقدرها، فهي الأعمال التي يقوم بها المؤمنون الحقيقيون بعمل الروح القدس في نفوسهم، وهؤلاء، بسبب الطبيعة الجديدة التي أخذوها من الله الغنية التي أحبهم بها.

ومن ثم فالقول "اعمل صلاحاً لكي تخلص" ليس بصواب، أما الصواب فهو "اعمل صلاحاً لأنك قد خلصت".

2- إن كل المسيحيين مؤمنون بالمسيح، ومع ذلك سيهلك كثيرون منهم لأنهم لا يقومون بالأعمال الصالحة.

الرد: إن أساس الخلاف بين القائلين بأن الخلاص بالإيمان وبين القائلين بأنه بالإيمان والأعمال، هو اختلافهم في مفهوم الإيمان. فالفريق الثاني يرى أن الإيمان هو فقط الاعتراف بالمسيح رباً وفادياً. أما الفريق الأول فيرى بالإضافة إلى ذلك أن الإيمان هو الثقة القلبية في الخلاص الذي عمله المسيح، ثقة تولد النفس بها من الله ولادة روحية تؤهلها للتوافق معه في صفاته الأدبية. ومن ثم فكل من لا يتمتع بهذا الاختبار من المعترفين بالمسيح، لا يكون مؤمناً حقيقياً بل مؤمناً بالاسم، لأن إيمانه لا يكون حياً بل ميتاً، وبناء على ذلك يكون مثله أمام الله مثل الوثني تماماً، إذ أنه ليست لكليهما علاقة حقيقية به – ونظراً لأننا تحدثنا عن هذا الموضوع كثيراً في كتاب طريق الخلاص، نكتفي بما ذكرناه.

وقد أشار (كتاب الخلاص في المفهوم الأرثوذكسي ص 30) إلى هذه الحقيقة فقال "الإيمان اللازم للخلاص لا بد أن يكون إيماناً حياً، أما الإيمان الميت الخالي من الأعمال الصالحة لا يقدر أن يخلص أحداً". وإذا كان ذلك كذلك فالمؤمنون الحقيقيون لهم حياة أبدية، أما المؤمنون بالاسم فليست لهم هذه الحياة. حتى إن قاموا بالكثير من الأعمال الصالحة.

3- إن الرسول فضل المحبة على الإيمان فقال "إن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال وليست لي محبة، فلست شيئاً" (1 كورنثوس 13: 2)، كما قال "أما الآن فليثبت الإيمان والرجاء والمحبة، ولكن أعظمهن المحبة" (1 كورنثوس 13: 14).

الرد: (أ) إن الإيمان الذي يتحدث عنه الرسول في الآية الأولى، ليس إيمان الخلاص الذي يولد به المرء من الله ولادة روحية، والذي يظهر أول ما يظهر في المحبة لله والسعي لإكرامه، بل هو إيمان المعجزات. وبعض الناس كان لهم هذا الإيمان دون أن يكونوا مولودين من الله، ودون أن تكون لهم حياة أبدية تبعاً لذلك. فقد قال المسيح عنهم إنهم سيقولون له في اليوم الأخير "يا رب يا رب: أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة" فيجيبهم بالقول "إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" (متى 7: 22 – 23) _ ويهوذا الاسخريوطي أوضح مثال لهؤلاء الناس، فالرب كان قد أعطاه مواهب معجزية مثل باقي التلاميذ، ومع ذلك لم يكن مولوداً من الله لأنه لم يكن مؤمناً حقيقياً[44]

(ب) أما من جهة الآية الثانية، ففضلاً عن المحبة الخالصة هي ثمر الإيمان الحقيقي الأمر الذي لا يدع مجالاً للاعتراض، نقول: لكي نفهم هذه الآية يجب أن ندرسها مع آيات أخرى سابقة لها. فقد قال الرسول "وأما النبوات فستبطل والألسنة فستنتهي والعلم فسيبطل، لأننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل، فحينئذ يبطل ما هو بعض" (1كورنثوس 13: 7 – 6) – ومن هذه الآيات يتضح لنا أن الإيمان والرجاء سينتهيان، وسينتهيان عندما يأتي الرب ويغير شكل جسد تواضعنا لكي يكون على صورة جسد مجده، ويدخلنا بعد ذلك إلى بيت الآب لكي نعيش فيه إلى أبد الآباد، أما المحبة فلا تنتهي أو تبطل، بل بالعكس سوف تشتعل أكثر في نفوسنا عندما نكون في السماء، إذ تكون عاملة باستمرار فينا لتقديم التعبد والسجود لله، بكل فرح وابتهاج.

4- قال الوحي "فإنكم تعلمون هذا: إن كل زان أو نجس أو طماع الذي هو عابد للأوثان، ليس له ميراث في ملكوت المسيح والله" (أفسس 5: 5 – 6)، كما قال "كل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار" (لوقا 3: 9)، وقال "الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم" (يعقوب 1: 27). وقال إن المسيح سيجازي كل واحد (ليس حسب إيمانه) بل حسب عمله (متى 16: 27)

الرد: (أ) إن الزناة والنجسين والطماعين ليسوا مؤمنين حقيقيين، والشجرة التي لا تصنع ثمراً جيداً هي مثال للمؤمنين بالاسم، وافتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس في العالم، هو من عمل الروح القدس في قلوب المؤمنين الحقيقيين، ولكنه لا يخلصهم من دينونة خطاياهم، لأن الخلاص منها هو بدم المسيح وحده كما ذكرنا. ومن ثم لا مجال للاعتقاد بأن هذه الخلاص يكون بالإيمان والأعمال معاً.

(ب) أما مجازات المسيح لكل واحد حسب عمله، فيراد بها أمران (الأول) طرح الأشرار في جهنم لأنهم لم يتوبوا عن خطاياهم ويؤمنوا به إيماناً حقيقياً (الثاني) توزيع المكافآت أو الأكاليل على المؤمنين الحقيقيين بحسب الأعمال الصالحة التي قاموا بها في العالم، وهذا هو المراد بالمجازاة في الآية التي نحن بصددها (كما يتضح من متى 16: 24 – 26)، وفي الآية القائلة "ليس الغارس شيئاً ولا الساقي بل الله الذي ينمي، ولكن كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه (1 كورنثوس 3: 8).

(حـ) أما عن الإهمال الذي يبدو أحياناً من بعض المؤمنين الحقيقيين في الأعمال الصالحة، فإن الله يؤدبهم عنه في العالم الحاضر، لكي تخلص أرواحهم في يوم الرب. فقد قال الوحي "نؤدب من الرب لكي لا ندان مع العالم". (1 كورنثوس 11: 32)، كما قال "إن بقي عمل أحد قد بناه عليه (أي على أساس الإيمان الحقيقي بالمسيح)، فسيأخذ أجرة. إن احترق عمل أحد فسيخسر (الأجرة) وأما هو فسيخلص (بناء على كفارة المسيح) ولكن كما بنار" (1 كورنثوس 3: 14 – 15)، كما كانت الحال مع لوط قديماً.

5- هناك فرق كبير بين فائدة دم المسيح واستحقاق دم المسيح، ففائدة دم المسيح لا حد لها وتكفي لخلاص كل الناس. لكننا لا نستحق شيئاً من فائدته، إلا إذا كنا نعمل أعمالاً صالحة. فقد قال الرسول "إن سلكنا في النور كما هو في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض[45]، ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية" (1 يوحنا 1: 7).

الرد: (أ) ذكرنا فيما سلف أننا لو عملنا كل البر، لا نكون أكثر من عبيد بطالين، لأننا لا نكون قد عملنا أكثر مما يجب علينا من نحو الله (لوقا 17: 10)، ومن ثم فإننا لا نستحق شيئاً من جوده وفضله. فضلاً عن ذلك فإنه إذا كان استحقاق الإفادة من دم المسيح يتوقف على الأعمال الصالحة التي نقوم بها، تكون الحياة الأبدية جزاء لنا وليس هبة، والحال أن هذه الحياة هي هبة من الله كما ذكرنا في الفصل الأول.

(ب) أما من جهة هذه الآية فنقول: "النور هو الحق، فالله نور وفي النور، أي أنه الحق ويتصرف تبعاً للحق. والظلمة هي عدم الحق أو بالحري الكذب. ولذلك فالإنسان الذي لا يعترف أنه خاطئ يضل نفسه ويسلك في الظلمة، كما يجعل الله (بكل أسف) كاذباً، ومن ثم لا يمكن أن يتقابل معه أو يتمتع بخلاصه. لكن من يعترف أنه خاطئ يسلك في النور ويشهد بأن الله صادق، ومن ثم يستطيع أن يتمتع بغفرانه وخلاصه. وإذا كان ذلك كذلك، فإن الآية التي نحن بصددها تشبه كل الشبه قول الوحي بعد ذلك "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم" (1 يوحنا 1: 9). ومما يؤيد هذه الحقيقة أن الرسول لم يكن يتحدث بهذه العبارة إلى مؤمنين حقيقيين بل إلى مؤمنين بالاسم، والدليل على ذلك قوله: "إن قلنا إن لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة نكذب ... وإن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا ... وإن قلنا إننا لم نخطئ نجعله كاذباً".

(جـ) وهذا التفسير لا يتعارض طبعاً مع وجوب سلوك المؤمنين [الذين تطهروا بالدم الكريم عند إيمانهم الحقيقي بالمسيح (أعمال 15: 9)] في النور كل حين بحياة التقوى والقداسة، لكي تكون لهم علاقة مستمرة مع الله، بها تنمو قامتهم الروحية وتزداد معرفتهم بشخصه – وفي هذه الحالة، يعظم اختبارهم لفاعلية دم المسيح، ويكثر فرحهم بها، إذ يرون أنهم مع حقارة شأنهم كبشر مجبولين من طين الأرض، كانوا كل حياتهم الماضية في حالة الشر والفساد، قد أصبحت لهم الآن بفضل هذا الدم علاقة حبية كريمة مع الله إلى أبد الأباد.

[18]- لأن الله وعد إبراهيم بالنسل سنة 1913 ق.م وأمره بتقديم إسحاق ذبيحة حوالي سنة 1872 ق.م، كما يتضح من هامش الكتاب المقدس.

[19]- كلمة "بطالون" مشتقة من البطالة، ولذلك فمعناها "عاطلون". والعاطلون في نظر الله لا يراد بهم فقط الذين لا يعملون أعمالاً صالحة، بل يراد بهم أيضاً الذين لا يعملون أكثر مما يجب عليهم من هذه الأعمال. وإذا كان ذلك كذلك، فإن الذين يقومون بكل الأعمال الصالحة (على فرض إمكانية ذلك) لكي يكون لهم القبول الأبدي أمام الله، لا يكونون في نظره أكثر من عبيد بطالين، لأنهم لم يعملوا أكثر مما يجب عليهم من نحوه.

[20]- فكلمة "ثابتين" هنا ترد في اليونانية "فيفايون" ومعناها "مؤكدين أو ثابتين"، فهي بذلك تختلف عن الكلمة المترجمة "تثبت" الواردة في (1 بطرس 1: 25) لأنها ترد في اليونانية "مانيى" ومعناها "تدوم"، وعن الكلمة المترجمة "ثابتة" الواردة في (2 بطرس 2: 14)، لأنها ترد في اليونانية "ستركتس" ومعناها "راسخة".

[21]- إننا بقولنا هذا، لا ننكر فائدة الصوم المقرون بالصلاة والتكريس، بل ننكر وجود أي فائدة للصوم إذا كان هو مجرد الامتناع عن الطعام والشراب

[22]- حرف "ابسي" هو الحرف الثالث والعشرين من  الأبجدية اليونانية، وقد وضعه علماء الآثار على النسخة المذكورة أعلاه للدلالة على أن هناك 22 نسخة أقدم منها.

[23]- لأن التعبير "قصير البصر" يرد في الأصل اليوناني صفة لمن" يحول نظره عن أمر، فتضعف رؤيته له".

[24]- وقد وردت عبارة "بخوف ورعدة" أيضاً في (1 كورنثوس 2: 3، 2 كورنثوس 7: 25)، فقد قال الرسول "وأنا كنت عندكم في ضعف وخوف ورعدة كثيرة". وإن الكورنثوسيين قبلوا تيطس "بخوف ورعدة" – والخوف والرعدة في هاتين الآيتين لا يراد بهما طبعاً سوى الحذر والتدقيق في التصرف، كما هي الحال في الآية المذكورة أعلاه.

[25]- إن الكتاب المقدس يعلن لنا أن هناك ثلاثة أنواع من الخلاص (الأول) الخلاص من قصاص الخطية: وهذا الخلاص تم مرة واحدة إلى الأبد لأن الذي قام به هو المسيح، وذلك عندما قدم نفسه فدية على الصليب لأجلنا، ونحصل نحن على الخلاص المذكور بمجرد أن نؤمن إيماناً حقيقياً، ومن ثم لا نأتي إلى دينونة على الإطلاق، كما اتضح لنا مما سلف. (الثاني) الخلاص من تأثير الخطية علينا: وهذا الخلاص يتم من وقت لآخر أثناء سيرنا في العالم الحاضر، وذلك بواسطة عمل الروح القدس في نفوسنا واستجابتنا نحن لعمله هذا، ومن ثم فالخلاص المذكور يتوقف نصيب كبير منه على طاعتنا نحن لله. وفائدة هذا الخلاص أن تكون لنا علاقة مستمرة مع الله وقدرة على خدمته وإكرامه في العالم، الأمر الذي يؤهلنا للحصول على أكاليل خاصة عند الوقوف أمام كرسي المسيح في المجد (الثالث) الخلاص من العالم والطبيعة العتيقة الكامنة في نفوسنا: وهذا الخلاص سوف يتم عندما يأتي المسيح إلينا في المرة الثانية وبغير شكل جسد تواضعنا لكي يكون على صورة جسد مجده (فيلبي 3: 21). وقد أشار بطرس الرسول إلى الخلاص المذكور في قوله للمؤمنين "أنتم الذين بقوة الله محروسون بإيمان لخلاص مستعد أن يعلن في الزمان الأخير لأجلكم" (1 بطرس 1: 5)، كما أشار إليه بولس الرسول في قوله لهم "فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا" (رومية 13: 13).

[26]- فهي تختلف عن الكلمة اليونانية المترجمة "تتمم" في الآية "قولوا لأرخبس؛ انظر إلى الخدمة التي قبلتها من الرب لكي تتممها" (كولوسي 4: 17)، وغيرها من الآيات التي على شاكلتها، لأن كلمة "تتمم" في هذه الآيات ترد في اليونانية "بليروليس"، ومعناها "يتمم شيئاً ناقصاً".

[27]- فضمير الملكية هنا، ليس "هيمون" كما هي الحال مع كلمة "خلاصكم" الواردة في الآية "إنجيل خلاصكم" (أفسس 1: 13)، والذي يجعل المراد بالخلاص "خلاص الله لنا" من دينونة الخطية، بل "هيواتون" الذي يجعل المراد بالخلاص "خلاصنا نحن أنفسنا"، أو بالحري خلاصنا من سلطة الخطية علينا الذي نقوم به بتأثير الروح القدس في نفوسنا، كما ذكرنا أعلاه.

[28]- وهذه الأكاليل أنواع: منها إكليل البر (2 تيموثاوس 4: 8) وإكليل الحياة (يعقوب 1: 12) وإكليل المجد (1 بطرس 5: 4)، وغير ذلك.

[29]- مما تجدر ملاحظته في هذه المناسبة أن المؤمن الحقيقي، وإن لم يكن معتبراً أمام الله إنه في الطبيعة العتيقة بعد، غير أن هذه الطبيعة لا تزال كامنة فيه، وستبقى أيضاً كامنة فيه حتى انتقاله من العالم الحاضر. وقد وضح أحد الكتاب هذه الحقيقة إلى حد ما فقال "إن السفينة التي اعتادت السير في المحيطات زمناً طويلاً، يكمن في قاعها شيء من ماء المحيطات. فإذا انتقلت بعد ذلك للسير في الأنهار ذات الماء العذب، فإن الماء المالح لا يهجرها إطلاقاً بل يظل أثره موجوداً فيها. وعلى هذا المنوال، فالمؤمن الحقيقي، وإن كان بالإيمان بالمسيح قد أصبح أمام الله في الروح وليس في الطبيعة العتيقة، غير أن هذه الطبيعة لا تفارقه طالما يعيش في العالم الحاضر.

[30]- أذكر ما قيل في الفصل السابق عن معنى "وجود المؤمن الحقيقي في المسيح"

[31]- مما تجد الإشارة إليه في هذه المناسبة أن بعض الشراح يقولون إن الموت هنا يراد به الموت الجسدي تحت التأديب الوارد ذكره في (1 كورنثوس 11: 30 – 31) والذي يمنع المؤمنين الحقيقيين إذا أهملوا في سلوكهم من مواصلة الخدمة للرب في العالم الحاضر، كما يحرمهم من الأكاليل التي كان من الممكن أن يحصلوا عليها في العالم الآخر، لأن هؤلاء المؤمنين لا يتعرضون للدينونة الأبدية بفضل كفارة المسيح. كما يقولون إن الحياة هنا يراد بها الحياة السعيدة مع الله في الوقت الحاضر الوارد ذكرها في (مزمور 30: 5)، لأن الحياة الأبدية هي هبة مجانية لهؤلاء المؤمنين وليست أجرة عن عمل صالح من أعمالهم لكن وإن كان السلوك حسب الروح يجلب إلى المؤمنين الحقيقيين الحياة السعيدة مع الله ابتداء من ا لوقت الحاضر، والسلوك حسب الجسد (لو فرضنا جدلاً أنهم سلكوا بحسبه)، يجلب عليهم قضاء الموت العاجل، غير أن الرسول كما يتضح من الإصحاح المقتبسة منه الآيات التي نحن بصددها، لا يتحدث عن العقاب والثواب في هذا العالم، ولذلك فالشرح الوارد أعلاه، هو الصواب أو القريب من الصواب.

[32]- الضيقة العظيمة (رؤيا 7: 14) سوف تؤثر سبع سنوات على الناس بصفة عامة واليهود بصفة خاصة (متى 23: 32 – 36 واتسالونيكي 2: 14 – 16). وذلك لصلبهم المسيح ورفضهم وصايا الله. ومن ثم تسمى هذه الضيقة "ضيقة يعقوب". وفي هذه الضيقة تنتشر الحروب والمجاعات والأوبئة، كما سيظهر المسيح الكذاب والشخص المعبر عنه بالوحش السياسي. وحينئذ يرجع نفر من أتقياء اليهود إلى النبوات ويعرفون أن المسيح الذي صلبه آباؤهم هو حقاً مسيح الله، (متى 24: 4 -13) فيؤمنون بشخصه. وفي نهاية الضيقة المذكورة يتكتل كل الأشرار ضد الله، فيأتي المسيح ويقضي عليهم جميعاً، ويؤسس ملكوته على الأرض (رؤيا 19: 20 متى 24)، ملكوت البر والسلام.

[33]- ومن البديهي أن يكون الأمر كذلك، وإلا لكان هناك عذر للذين لا يخلصون بدعوى أن الله لم يضع في نفوسهم الإيمان الحقيقي بالمسيح، مثلما فعل مع غيرهم، والحال أن نعمة الله وإن كانت ترحب بكل الناس وتهيء لهم جميعاً سبيل الخلاص، غير أنه ليس من شأنها أن تؤثر في نفوس الذين يرفضونها ويتحولون عنها.

[34]- هذا مع ملاحظة أن الأمثال التي نطق بها المسيح يجب أن تفهم بصفة عامة، دون أي محاولة لتطبيق كل كلمة فيها على الحقائق التي ترمز إليها هذه الأمثال، إذ من الواضح أن الأمثال تتطلب في صياغتها أموراً خاصة بها.

[35]- والإسلام يتفق معنا على أن المسيح سيأتي للملك، فقال البخاري إن ابن مريم سينزل حكماً عدلاً (حـ 2 ص 458). وقال البيضاوي إنه عند نزول المسيح من السماء يؤمن به أهل الملل جميعاً (تفسيره حـ 2 ص 128). وقال ابن الأثير إنه أثناء ملك المسيح على الأرض يرتع الأسد مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الصبيان بالحيات (التاريخ الكامل ص 155 و 161). وقال الرازي إن المسيح سيأتي إلى الأرض عند نهاية العالم ويقتل الدجال (تفسيره حـ 2 ص 458). وقال مسلم إن الشيطان عندما يرى عيسى ابن مريم يذوب كما يذوب الملح في الماء (مختار الإمام مسلم وشرح النووي ص 571).

[36]- وذلك للأسباب الآتية (أ) إن مدة انتشار الإنجيل ليست محدودة بزمن في  الكتاب المقدس، فقد بلغت الآن ألفي سنة تقريباً بينما مدة ملك المسيح محددة بألف سنة فقط (ب) إن الشخص المعبر عنه بالوحش السياسي في الآيات الواردة في سفر الرؤيا لم يظهر بعد، وليس من المعقول أن يكون هو الشر (كما يقول بعض المسيحيين)، لأنه ليس هناك أشخاص رفضوا الشر وقتلوا بواسطة الأشرار ثم عادوا إلى الحياة مرة أخرى، كما يتضح من الآيات المشار إليها (جـ) إن الشيطان ليس مقيداً الآن كما هو وارد في هذه الآيات، بل هو طليق يعمل على إثارة الشر في كل مكان (د) في بدء ملك المسيح على الأرض سوف لا يكون للأشرار وجود عليها كما يتضح من (متى 13: 4)، والحال أن الأشرار كثيرون جداً في الوقت الحاضر (هـ) في أثناء ملك المسيح سيعم السلام كل الأرض وينتشر الرخاء فيها. كما سيعرف الرب كل الساكنين عليها، والحال أن العصر الذي نعيش فيه الآن فيه الحروب والمجاعات والكفر والإلحاد.

[37]- أما الذين يفسرون المظال الأبدية بالسماء فيقولون إن كلمة "يقبلونكم". يراد بها أن الله يقبلكم. أو أن الملائكة تقبلكم، لكن هذا التفسير لا يتفق مع النص الكتابي.

[38]- عيد المظال هو العيد الأخير من الأعياد اليهودية القديمة التي أمر الله موسى النبي بإقامتها، وكان اليهود يفرحون في هذا العيد مع الأجانب الساكنين معهم مدة سبعة أيام (زكريا 14: 16)، كما كانوا يسكنون في هذه المدة في مظال مصنوعة من سعف النخل وأغصان الأشجار (لاويين 23: 24). وكان لهذا العيد أغراض هامة (الأول) تقديم الشكر لله من أجل غلات الأرض التي جاد بها عليهم، لأن هذا العيد كان يقع في نهاية موسم الحصاد (الثاني) المساواة بين ا لفقراء والأغنياء، لأنهم كانوا جميعاً يسكنون في مظال (الثالث) إزالة الفوارق الموجودة بين الأجناس البشرية، لأن الذين كانوا يمارسون هذا العيد كانوا من أجناس متعددة.

ولذلك كان هذا العيد رمزاً للملك في الألفي للسببين الآتيين (الأول) إن هذا العيد هو آخر الأعياد اليهودية القديمة، والملك الألفي هو آخر تدبيرات الله على الأرض (الثاني) إن جميع المؤمنين دون استثناء سيتمتعون في هذا الملك بخيرات الله الوافرة التي كان يرمز لها فيما سلف بالحصاد الذي تتجمع فيه المحصولات، كما ستزول من بينهم جميع الفوارق الجنسية والطبقية التي تسبب الحروب بينهم.

[39]- فقد وردت في الأصل اليوناني "اكليبيه" أي "متى فني"، أو بالحري متى "فني مالكم" والقرينة تدل على ذلك، لأن الوكيل الذي كان المسيح يتحدث عنه لم يفن، بل فني ماله.

[40]- يراد بملكوت السموات، دائرة الإيمان بالمسيح ملكاً على الأرض، لأننا إذا رجعنا إلى الآيات الخاصة بهذا الملكوت نرى أنه يضم مؤمنين حقيقيين ومؤمنين بالاسم (متى 13: 19 – 50، متى 25: 5)، وأن الفريق الأول سيتمتع بالمجد الأبدي وأن الفريق الثاني سيطرح في العذاب إلى الأبد – والحال أن السماء لا يوجد بها إلا المؤمنون الحقيقيون الذين لهم حياة أبدية مع الله.

[41]- أما إبراهيم والذين ساروا في طريقه كانوا يعرفون هذه الحياة كل المعرفة (عبرانيين 11: 13)، وقد حصلوا جميعاً فعلاً عليها، ليس بأعمالهم بل بإيمانهم الحقيقي على أساس نعمة ا لله المجانية (عبرانيين 11: 1 – 38) – وطبعاً عدم معرفة باقي المؤمنين الحقيقيين قديماً بأن لهم حياة روحية في السماء، لا يحرمهم من هذه الحياة، لأن الله لا يعاملنا على أساس معرفتنا، بل على أساس نعمته الغنية، طالما كان هناك إيمان حقيقي به في نفوسنا.

[42]- يقول بعض المفسرين (إن الحياة هنا يراد بها السماء، وإن قطع الأعضاء المذكورة يراد به المعنى المجازي)، وإن كان الكاتب يتفق معهم على الشطر الثاني من تفسيرهم لأن الخطية لا توجد في الأعضاء الجسدية بل في الطبيعة البشرية، لكن لا يستطيع أن يتفق معهم على الشطر الأول منه، للأسباب التي ذكرها أعلاه.

[43]- وطبعاً لهذه القاعدة شواذ، فقد يسمح الله بانتقال بعض الصديقين من الأرض وهم في مقتبل العمر، لكي ينجيهم من شر يرى أنهم سيتعرضون له لو ظلوا على الأرض طويلاً. وقد يطيل في عمر شرير، لكي يعطيه فرصة للتوبة، وذلك لفائدته وفائدة غيره من الناس.

[44]- ولا مجال للاعتراض على ذلك، فإن الله له الحرية المطلقة في توزيع الثروة والذكاء والمواهب المعجزية على الناس حسب مشيئته ومقاصده التي لها مبرراتها لديه، ولكن الخلاص الأبدي هو للجميع على أساس الإيمان الحقيقي بالمسيح.

[45]- هذه العبارة وردت في بعض النسخ القديمة "فلنا شركة معه"، أي مع الله.

  • عدد الزيارات: 8134