الفصل السادس: الوحي التام للكتاب المقدس
1- موقف العصريين المتناقض
ذكرنا سابقاً أن المدعوين بالعصريين ليس لهم مكان ثابت ليقفوا عليه، فعليهم إما أن يتبنوا كلية وجهة نظر الفلسفة العقلانية التي تؤله العقل البشري وإما أن يلجأوا إلى سلبية صرفة وعقيمة، وإلا فعليهم مراجعة الكتاب نفسه صاحب السلطة. فإذا ما تقدم العصري بطريقة منطقية في الجهة التي تقوده إليها المبادئ الأولية التي يدين بها، فإنه إنما يباشر بإنكار وحي الكتاب المقدس، ثم المعجزات، فألوهية المسيح، فالكفارة، فالقيامة، وإذا ما استمر في طريقه إلى النهاية فإنه ينتهي إلى الشك المطلق.
تتطلب كل الكنائس الإنجيلية مثلاً، من الذين يُرسمون للقسوسية فيها، أن يقطعوا عهداً علنياً بأنهم يقبلون الكتاب ككلمة الله. فكل قس أو شيخ يقوم عند سيامته بقطع عهد بكل خشوع أمام الله والناس بأنه "يؤمن بأن الأسفار المقدسة أي أسفار العهد القديم والعهد الجديد، هي كلمة الله والقانون الوحيد المعصوم عن الخطأ للإيمان والسلوك".
أحياناً يحاول أولئك الذين يتمسكون برأي غير مستقيم عن الوحي تجنب الخوض في نقاش أو جدل عقائدي بتصريحهم أن الكتاب المقدس إنما "يتضمن" كلمة الله. ولكن هذه القاعدة المطاطة لا تعني بالحقيقة شيئاً. فبعض الأنهار مثلاً تجري مياهها على بضع حبات من الذهب، ولكن من يستطيع أن يحدد النسبة التي تفصل بين الماء والذهب؟ وهكذا أيضاً إن كان الكتاب فقط يحتوي على كلمة الله حسب المذهب العصري، فمن هو إذن الذي يقرر لنا بدون أي تردد أية عناصر هي كلام الله وأية هي كلام البشر فقط؟
وقد ذكر أحد علماء التفسير المؤمنين ما يلي بخصوص هذا الأمر "إن الذين ضلّوا عن الإيمان بعصمة الكتاب قد قاموا بمجهودات يائسة ولكنها باطلة تماماً، لكي يؤمنُّوا على بديل ملائم للكتاب المقدس، وبمرور الزمن يظهر تماماً قنوط هذا الجهد اليائس. فالعبارات الجذابة مثل "الوحي التدريجي" و"الاختبار الشخصي" و"الولاء للحق" وغيرها تُلقى جانباً الواحدة تلو الأخرى دون أي اعتبار يذكر. إن مذهب العصرية هو في حالة الإفلاس المدقع، لاشيء سوى آبار مشققة التي يحاول الناس عبثاً أن ينزلوا دلائهم فيها للحصول على ماء الحياة. ليس هناك أي بديل عن الكتاب الموحى به! وليس هناك من يستطيع أن يعظ بقوة ونفوذ كمن يجرد سيفاً سماوياً وكمن يصعد إلى المنبر مدعوماً بهذه الكلمات: "هكذا يقول الرب". فالذي ينادي بالمسيحية التاريخية ويتخذ الوحي الإلهي كأساس له، لديه مركز فريد وراسخ في وسط العواصف والبلبلات والظلمات المعاصرة".
الذين يرفضون عقيدة الكنيسة التاريخية عن الوحي محبذين موقفاً معارضاً لم يستطيعوا قط أن يتفقوا فيما بينهم على تقرير هوية تلك الأقسام من الكتاب الموحى بها وهوية الأخرى غير الموحى بها. كما أنهم لم يتمكنوا من الاتفاق فيما بينهم على المدى الذي يمتد إليه الوحي في جزء ما من الكتاب. أما نحن نسلم بصحة المعجزات الأخرى المدونة في الكتاب فليس هناك لدينا أي سبب منطقي يدعونا لرفض معجزة الوحي. فالوحي ليس إلا معجزة في نطاق الكلام والكتابة.
2- اليقين التام على أن الكتاب المقدس هو كلمة الله
هنا يأتي أحدهم ويتساءل: "كيف يمكنني أن أعرف أن الكتاب المقدس هو كلمة الله؟" والجواب هو: "نعرف أن الكتاب المقدس هو كلمة الله بواسطة شهادة الروح القدس في قلوبنا ونحن نقرأ الكتاب" فعندما يقرأ المسيحي الكتاب فإنه يشعر بالفطرة أن الله يتكلم معه. والروح القدس يشهد مع روحه بأن هذه الأمور هي هكذا. فالأسس الأولية والجازمة لإقناعنا ليست خارجية بل داخلية. طبعاً هناك أدلة خارجية عديدة تجبر الإنسان على الإقرار بوجود تأثير إلهي في الكتاب ويمكن استعمالها بنجاح لإقحام بعض المعترضين، ولكنها بالحقيقة ليست إلا ذات قيمة ثانوية. فبدون الإنارة الداخلية من قبل الروح القدس لا يمكن أن يقتنع غير المؤمن مهما عظمت مهارتنا ومهما سطع لمعان منطقنا.
إن محاولة إثبات الأصل الإلهي للكتاب المقدس بواسطة هذه أو تلك من البراهين الخارجية هي كمحاولة إثبات وجود الله تعالى بالاعتماد على دلائل العلم الخارجي المخلوق. فقد نسرد البراهين من علم الوجود وعلم القصد وعلم الكون والبراهين الأخلاقية. كل ذلك يظهر بأنه مقنع وكاف للمؤمن. ولكن ليس هناك بينها برهان واحد ملزم بالقبول من شأنه أن يقنع المتشككين غير المؤمنين. فنحن في قرارة نفوسنا إما متجددون أو غير متجددين. والرسول بولس يخبرنا بأن "الإنسان الطبيعي (غير المتجدد) لا يقبل ما لروح الله، لأنه عنده جهالة، ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يُحكم فيه روحياً" (الرسالة الأولى إلى كورنثوس 2: 14). وكذلك يقول: "إن إنجيل المسيح المصلوب هو لليهود عثرة ولليونانيين جهالة" فالرجل غير المتجدد لا يمكن إقناعه بأي مقدار من البراهين الخارجية.
وكما هو مستحيل على العقل البشري أن يفهم أعماق الروح القدس بدون نعمة الله المجانية هكذا يستحيل أيضاً على العالم النفساني أن يعطي تفسيراً وافياً لطريقة التجدد. وكل محاولة لإقناع النفس غير المتجددة بكون الكتاب من أصل إلهي بواسطة براهين علمية وتاريخية لا تكون نتيجتها إلا الفشل، ويجب أن يعدل عنها كما فعل الرب يسوع حينما امتنع عن إقناع مجلس السنهدريم بأنه لم يرتكب جريمة التجديف لأنهم كانوا قد صمموا مسبقاً على إدانته. وهذا هو المبدأ الذي تمسكت به الكنيسة منذ القديم فبينما كان أتباع الحركة الإنسانية يصرحون بأن العقل البشري يتمتع بالسلطة النهائية، وقف المسيحيون المؤمنون وقفة واحدة في الاعتراف بأن الله وحده هو صاحب السلطان التام والمطلق وبأنه يتكلم بواسطة الكتاب المقدس.
إذاً لا يتوقف إيمان المسيحي على براهين خارجية، بل على الاختبار الداخلي. وهو يحيا بواسطة الكتاب المقدس ويتمتع بنوره. لديه ثقة داخلية وجدانية - سمها بالباطنية أو ما شئت من الأسماء- بأنه من أولاد الله ويثق بالكتب المقدسة التي هي كلمة الله. مع أن البراهين الخارجية تساعده على تنقية وتقوية إيمانه، فإن برهانه المطلق بأن النظام المسيحي هو النظام الحقيقي إنما يجده في شهادة الروح القدس في قلبه وهو يقرأ الكتاب في اختباراته المسيحية. وقد لا يكون قادراً على إبراز برهان علمي لمجابهة النقاد في ميادين تخصصاتهم، إلا أنه يستطيع طرد كل شكوكهم بالطريقة التي لجأ إليها الرجل الأعمى الذي شفاه المسيح الفادي إذ أجاب على كل اعتراض قدمه الفريسيون بتلك القناعة التي لا تصدر إلا عن تأكيد غير متزعزع. "أخاطئ هو، لست أعلم إنما أعلم شيئاً واحداً. إني كنت أعمى والآن أبصر" الإنجيل حسب (يوحنا 9: 25).
إن الدراسة العلمية للكتاب المبنية على أصول جيدة تعطي توجيهاً أوضح للكلمة، وتمكن الإنسان من تنظيم عقائده بشكل أحسن. ولكن المستند الوحيد للإيمان ينبعث من القلب وليس من العقل. وهذا لا يعني مطلقاً بأننا نقلل من شأن الدرس والتنقيب. وبالحقيقة لم يترعرع الدرس الصحيح والفحص العلمي في بيئة أفضل مما لدى الأبناء المخلصين للكنيسة المؤمنة. ونحن نرغب دوماً في الحصول على أساس متين للإيمان المسيحي. وكذلك نقرأ بأن البراهين الخارجية تدل على الطريق إلى الله تعالى وتُعد القلب لعمل نعمة الروح القدس - فيما إذا قُدمت لغير المؤمن بطريقة معقولة. وكل ما نرغب الإشارة إليه هو أن هذه البراهين هي بلا تأثير إن لم تكن مقرونة بعمل الروح القدس في قلب الإنسان.
وقد يتذمر البعض من غير المؤمنين بوحي الكتاب المقدس قائلين بأن هذا الأسلوب في التصرف تجاه هذه القضية يعطينا قالباً جازماً للبحث. ولكن قد ينسى هؤلاء بأنهم يسلكون في الطريقة عينها إذ أنهم هم أيضاً يبدؤون بافتراضات منطقية بديهية - أي أنه غير قابلة للبرهان – ولو أنهم يزعمون بالخضوع لمقررات العقل البشري. ومبدأ العقليين هو أن العقل البشري كفؤ لأن يحكم في كل شيء، حتى في الأشياء العميقة لله. ونحن نعترف أيضاً بأن سلوكهم يتصف بشكل جازم، ولكننا لا نتذمر لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا على خلاف ذلك فالعقل الذي لم يستنر من الروح القدس لا يقدر أن يتفهم أمور الروح. وكما قال أحدهم: "حقيقة البرهان هي شيء والمقدرة على إدراكه شيء آخر، فمن يعترض على الشمس إن أخفقت في إنارة الأعمى!". لكل منا طريقته الثابتة في التصرف، وكل ما نطالب به الذين لا يتفقون معنا مبدئياً هو أن توضع المبادئ تحت الفحص العملي وأن تُعطى الفرصة الكافية لنرى أيها تتفق أكثر مع اختبارات الحياة والحقيقة.
3- الخلاصة
وفي الختام يجب القول بأن على المسيحي أن يكون راسخاً في إيمانه بعقيدة الوحي التام والكامل للكتاب المقدس. لأن كل العقائد المسيحية الأخرى تُشتق من الكتاب وتعتمد عليه في استنباط سلطانها. فهذه إذاً العقيدة الأم والحارسة لكل العقائد المسيحية.
وبينما نرى في أيامنا هذه أن الكتاب المقدس قد أُهمل لدرجة محزنة، نعتقد أن الوقت آتٍ عندما سيعود للكتاب المقدس مكانه المحترم الذي يستحقه في الكنيسة وفي شؤون البشر. ونحن ننظر إلى المستقبل واثقين بأنه عندما تكون الضجة حول هذه العقيدة قد ولَّت، ستبرز من جديد المراكز السامية والمقدسة للعقيدة والحياة المسيحية. فوسط العروش المدمرة والأمم البائدة والمبادئ الأخلاقية المحطمة، ستعود البشرية التي جُربت بأحزان كثيرة وتطهرت بآلام عديدة وتعلقت باختبارات لم يسبق لها مثيل، وتنحني أمام الإله الرحيم والقادر على كل شيء كما كشف لنا عن ذاته في الكتاب المقدس المعصوم عن الخطأ.
ملحق
المسيح هو محور الوحي الإلهي
كما رأينا في فصول كتابنا هذا شاء الله في غنى رحمته ونعمته أن يكشف لنا عن الأمور التي بجب أن نعرفها عنه تعالى وعن أخرى يتطلب منا أن نعيش بموجبها حسب مشيئته الطاهرة. حوالي أربعون من رجال الله عبر المئات من السنين سجلوا ما شاء الله تعالى أن يكشف للبشر. فكتبوا الستة والستين سفراً التي تكون الكتاب المقدس. ومع اختلاف شخصياتهم ودرجات ثقافاتهم ونوعية بيئاتهم وظروف عصورهم، شاركوا في نقل كلمة الله بكلمات ولغات ومفاهيم البشر. لم يكن هناك داع للاصطناع والتكلف بل كتبوا ما كتبوه وهم على وعي تام بإرشاد الله وقيادة روحه القدوس لأفكارهم ولأيديهم ولأدوات تسجيلهم وهو يحرسهم ويحفظهم حتى لا يقولوا أو يكتبوا إلا ما هو من الله بالذات.
جمع شعب الله وثيقة تلو الأخرى ما هو بين أيدينا الآن، أي الكتاب المقدس كلمة الله الكاملة للبشر. فعلى مر الزمن أضيفت الواحدة تلو الأخرى وفيها معرفة أعمق وفهم أوسع لعظمة وجلال الله وطهارة مشيئته وغنى رحمته لبشر ضالين ومضللين. وهكذا تنوعت الوثائق الإلهية من حيث الحجم والموضوع. لكن بقي مسار الوحي الإلهي يصب في اتجاه واحد نحو دائرة واسعة شاملة أو نحو مخزن جميل شاهق البنيان في نهاية الطريق. فالأسفار المقدسة بطرق متشعبة ومتنوعة لها قصد واحد ألا وهو قيادتنا للمسيح المخلص. إنها تشبه هرماً مبنياً من حجارة متعددة الأحجام لكل منها مكانه ودوره في تكملة البناء حتى أنه في نهاية الطريق تتضح المعالم ويظهر البناء كهرم متكامل. قبل اكتمال بناء الهرم كان معلوماً أن الهدف من تلك الأحجار المتراصة والمتجمعة هو بناء ذلك الهرم المتكامل.
هذا ما عبر عنه السيد المسيح في مثل الكرم والكرَّام الذي فيه انتهر معارضة اليهود له ومحاربتهم لخدمته فقال: "الحجر الذي رفضه البناءون قد صار رأس الزاوية. من قِبَل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا" الإنجيل حسب (متى 21: 42) وهو قصد نفسه بالحجر الذي صار رأس الزاوية. ذلك أن مفهوم العهد القديم نفسه للأمر هو أن الله في حكمته العجيبة يعمل هذا الأمر والبناءون أي اليهود (الذين استخدمهم الله في الكشف عن وحيه والحفاظ عليه) هم أنفسهم تعجبوا من أن ذلك قصد الوحي الإلهي، راجع (نبوة أشعياء 28: 16) حيث النبوة عن المسيح حجر الزاوية.
كما أن الوحي الإلهي وضع الأمر بطريقة قاطعة بواسطة الرسول بولس الذي كتب عن المؤمنين قائلاً: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية" (الرسالة إلى أفسس 2: 20). فالأساس هو في الأسفار المقدسة ولكن القصد هو وضع حجر الزاوية، بمعنى آخر أن ما سعى الوحي الإلهي لعمله عبر كتابات الأنبياء والرسل ما كان إلا توجيه الأنظار إلى حجر الزاوية الذي هو الرب يسوع المسيح.
فكل سفر يحمل إشاراته وبيناته الخاصة عن شخص المسيح الآتي، لكن لا يكتمل البناء إلا عندما تتجمع تلك الأسفار وينتهي صنعها معاً في بناء واحد كريم. إنها كعناصر صورية ولونية جمعها الله الفنان الأعظم في لوحة واحدة متكاملة وباهرة الجمال. هذه اللوحة مكونة من كل وحدة من تلك العناصر ولا يمكن أن تكتمل دون أن تتجمع تلك الوحدات في ترتيب وتدريج مقصود ومرسوم مسبقاً في مخيلة الفنان الأعظم. اختلفت العناصر والوحدات في ألوانها وأحجامها وأشكالها، لكن لكل منها دوره في تكوين اللوحة الكاملة حتى تلك اللحظة التي اتضحت فيها الملامح وتلألأت الأنوار وأزيح الستار عن اللوحة الجبارة.
يشير الرسول بولس إلى تلك اللحظة من تاريخ الوحي الإلهي الطاهر باستخدام التعبير "ملء الزمان" أي تمام الزمان، أو وقت النضوج، أو عندما أصبح كل شيء جاهزاً. ففي (الرسالة إلى غلاطية 4: 4) يقول: "... لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة ..." وفي (الرسالة إلى أفسس 1: 9و10) يقول: "... عرَّفنا (أي الله) بسر مشيئته حسب مسرته التي قصدها في نفسه لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح ما في السموات وما على الأرض ..." ثم يقول في (الرسالة إلى كولوسي 1: 19): "لأنه فيه (أي في المسيح) سُرَّ أن يحل كل الملء" ويتابع في (2: 9) من نفس الرسالة قائلاً: "فإنه فيه (أي في المسيح) يحل كل ملء اللاهوت جسدياً".
هذا بالذات ما كان قد تنبأ به النبي ميخا حوالي سبعمائة سنة قبل مجيء المسيح. ففي (نبوة ميخا 1: 2و3) نقرأ: "اسمعوا أيها الشعوب جميعكم، أصغي أيتها الأرض وملؤها وليكن السيد الرب شاهداً عليكم، السيد من هيكل قدسه، فإنه هو ذا الرب (إشارة للمسيح) يخرج من مكانه وينزل ويمشي على شوامخ الأرض". ملء الأرض هنا له صورتين في معنى إجمالي واحد. الصورة الأولى هي كمية وتشير إلى "كل الأرض" أو الأرض بجميع أجزائها. أما الصورة الثانية فهي تشير إلى وضع الأرض ضمن مخطط الله التاريخي لها عندما ينضج كل شيء وتكون قد وصلت للحظة الاستعداد لاستقبال الرب الآتي، فلكل شيء وقته وزمانه المعين. ولكن ما بين انتظار "ملء الزمان" وقدوم الوقت المعين هناك تحضيرات واستعدادات يجب أن تجرى وتأخذ دورها ضمن مسلسل التهيئة لتلك النقطة المتوقعة في تاريخ الكون والجنس البشري.
لعل هذا هو أهم الأمور إطلاقاً لفهم اتجاه ومضمون الوحي الإلهي في الكتاب المقدس. هذا ما يشدد عليه البشير يوحنا في تقديمه للمسيح في مطلع بشارته، فهو إذ يقدم المسيح على أساس كونه "الكلمة" المتجسد الموعود بحضوره لعالم البشر يخبرنا بأن ذلك الشخص هو نفسه الذي بدأ معه كل شيء فهو كان في "البدء" و"الكلمة المتجسدة" هذا ليس من "عند الله" فحسب، بل "كان الكلمة الله" الذي "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان، فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه" الإنجيل حسب (يوحنا 1: 1-5).
هذه التصريحات ما هي إلا تطبيق مباشر للتعابير الخاصة بخلق الله للكون على ذلك الزائر العجيب لعالم البشر المخلوق. فإذا راجعنا مطلع سفر التكوين الذي هو بداية سلسلة الوحي الإلهي نجد أن التعبير "في البدء" إشارة لنشأة العالم هو نفسه الذي يبدأ به الإنجيل حسب يوحنا، والواقع أن الترجمة اليونانية للتوراة المعروفة بالسبعينية استخدمت نفس الكلمتين اليونانيتين اللتين استخدمهما البشير يوحنا. المسيح إذاً كان الموضوع المباشر لوحي الكتاب المقدس منذ "البدء". فهو حسب (الرسالة إلى العبرانيين 1: 3) "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته" عليه تنطبق كلمات الوحي الإلهي الأولى في سفر التكوين "في البدء ... خلق السموات والأرض، وقال ... ليكن نور فكان نور". كما أن كلمات الوحي الإلهي في نفس السفر والموجهة للحيَّة واعدة بمجيء المخلص لعالم البشر إثر سقوط الجنس البشري، هذه الكلمات هي أيضاً تشير للمسيح. قال الرب للحيَّة: "وأضع عداوة بينك وبين المرأة (حواء) وبين نسلك ونسلها (أي المسيح المولود من امرأة)، يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه" (سفر التكوين 1: 5).
لم يقتصر الانطلاق التدريجي في الوحي الإلهي تجاه هوية وقصد مجيء المسيح لعالم البشر على عبارات عامة ومركزة، بل أنه في الواقع يشكل المحور الرئيسي الذي يتكتل ويتجمع حوله الوحي والذي بدونه يفقد الوحي نفسه مغزاه وتجانسه. وهو أيضاً العمود الفقري الذي يرتكز عليه جسم ذلك الوحي والذي بدونه يفقد الوحي حيويته وقوته وجماله. ولكي يتضح لنا هذا الأمر علينا أن نتسائل عن القصد من توالي ذكر وقائع عصيان وتمرد الإنسان وفشله في إرضاء الله عبر صفحات أسفار ونبوات العهد القديم. ثم ماذا عن تلك التفاصيل العديدة المختصة بنظم الذبائح والطقوس الذبائحية؟ وماذا أيضاً عن تلك الشرائع وخاصة الوصايا العشر التي أوحى بها الله لشعبه في حقبة العهد القديم والتي لم يكن حتى من الممكن لفرد واحد التقيد بها بصورة كاملة؟ هذه وأمور أخرى يصعب حصرها في حيز كتابنا الضيق هذا، إنما تجد معناها ومرادها الحقيقيين في رؤيتها وتفهمها عبر شخص المسيح. بدونه تبقى أسئلة محيرة بدون إجابة.
فالوقائع المتكررة في الأسفار المقدسة لفشل شعب الله أمام ربهم وطرح كل ثقة بنجاحهم بمعزل عنه خارجاً. من ثم التطلع بجدية وإخلاص لما يوفره ويرتبه هو لهم من مخطط وسبيل الخلاص. فلو أن شعب الله لم يذكر ولم يدرك تلك الحقائق المؤلمة عن إفلاسه الروحي وفشله الذريع لما كان هناك داع لتوقع مجيء المخلص والتحضير له. ذلك هو المفهوم الذي انطلق منه رسل المسيح في مطلع العهد المسيحي عندما طلبوا من الشعب اليهودي الإيمان بالمسيح.
قال الرسول بطرس في موعظته الشهيرة في يوم الخمسين لآلاف من مستمعيه اليهود: "يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم تعلمون. هذا أخذتموه مسلماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبأيدي أثمة صلبتموه" (سفر أعمال الرسل 2: 22-23). وفي مناسبة أخرى قال الرسول بطرس لجمع يهودي مماثل: "أيها الرجال الإسرائيليون ما بالكم تتعجبون من هذا ... إن إله إبراهيم وإسحق ويعقوب إله آبائنا مجد فتاه يسوع الذي أسلمتموه أنتم وأنكرتموه أمام وجه بيلاطس وهو حاكم بإطلاقه، ولكن أنتم أنكرتم القدوس البار وطلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل، ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه الله من بين الأموات ونحن شهود لذلك ... وأما الله فما سبق وأنبأ به أفواه جميع أنبيائه أن يتألم المسيح قد تممه هكذا .. فإن موسى قال للآباء إن نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من أخوتكم. له تسمعون في كل ما يكلمكم به ... وجميع الأنبياء أيضاً من صموئيل فما بعده، جميع الذين تكلموا سبقوا وأنبئوا بهذه الأيام، أنتم أبناء الأنبياء والعهد الذي عاهد به الله آبائنا قائلاً لإبراهيم "وبنسلك تتبارك جميع قبائل الأرض". إليكم أولاً إذ أقام الله فتاه يسوع أرسله يبارككم برد كل واحد منكم عن شروره (سفر الأعمال 3: 12-26).
أما استفانوس ففي معرض دفاعه عن نفسه ضد تهم زعماء اليهود الكاذبة بأنه جدف على كلمة الله قام بعرض سريع في الفصل السابع من أعمال الرسل لتحضير الله التاريخي لتجسد المسيح، وهو يبدأ بوعد الله لإبراهيم وينتهي بدور الملك سليمان التحضيري للمسيح مروراً بالأنبياء إسحق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون ويشوع وداود مبرهناً أن الشعب مع كل ذلك تمرد وسعى وراء أهوائه الفاسدة ووراء آلهة الأصنام. في الأعداد (39-42) نقرأ: "لم يشأ آباؤنا أن يكونوا طائعين له (أي لموسى) بل دفعوه ورجعوا بقلوبهم إلى مصر قائلين لهارون إعمل لنا آلهة تتقدم أمامنا ...، فعملوا عجلاً في تلك الأيام وأصعدوا ذبيحة للصنم وفرحوا بأعمال أيديهم، فرجع الله وأسلمهم ليعبدوا جند السماء ...".
أعلن الرسول بولس بدوره لليهود في أكثر من مناسبة عن تحضير الوحي الإلهي التدريجي لقدوم المسيح. هذا ما نراه أيضاً في سفر أعمال الرسل الفصل الثالث عشر. من الواضح إذن أن الرسل كانوا قد فهموا تاريخ معاملات الله مع شعبه اليهودي من منظار التحضير لمجيء المسيح..
والعهد الجديد يكشف لنا سر وجود تلك القوائم المطولة والمكررة للأسماء والتي تبدو مملة للقارئ في أسفار العهد القديم. يكمن ذلك السر أيضاً في التحضير للمسيح لأنه لم يكن هناك داعٍ ولا معنى لتلك اللوائح بالأسماء لو أنها لم تكن بقصد الإشارة إلى صحة هوية المسيح وإثبات أصله البشري ، رجوعاً بإبراهيم وداود وغيرهما من الآباء الأوائل الذين وعد الأنبياء أن يأتي المخلص من نسلهم. هذا أمر مهم للغاية لأن وحي الله للبشر في الكتاب المقدس ذا طبيعة تاريخية واقعية تعتمد على الدلائل المشهود لها من شهود عيان.
ما معنى تلك التفاصيل عن الطقوس الذبائحية في العهد القديم في الوقت الذي كشف فيه الأنبياء عن عدم جدوى تلك الذبائح بالنسبة لإرضاء الله ؟ يقول الرب على فم أشعياء في مطلع نبوته (أشعياء 1: 11): "بدم عجول وخرفان وتيوس ما أسر". بل أنه يواصل هجومه عليها قائلاً : "لا تعودوا تأتون بتقدمةٍ باطلة. البخور هي مكروهة لي..." (الآية 13). والنبي ميخا يتساءل: "هل يسر الرب بألوف الكباش بربوات أنهار الزيت، هل أعطي بكري عن معصيتي ثمرة جسدي عن خطية نفسي؟" (نبوة ميخا 6: 7).
مع كل نفي لوجود أي قيمة كفرية في تلك الذبائح بحد ذاتها فإن الله أوصى بها ووضع لها نظاماً منسقاً ومفصلاً في أسفار التوراة، لماذا؟ لو حاولنا فهم ذلك خارج نطاق الرمز والإشارة والتحضير لذبيحة المسيح الكفارية الحقيقية لكنا نضيع أوقاتنا ومجهودنا عبثاً. فوجود تلك الذبائح الرمزية كان مهماً بل لازماً وضرورياً لتوجيه البشر وفتح عيونهم لحاجتهم الماسة لعمل إلهي بدلي يؤدي إلى مغرفة خطاياهم. تلك الذبائح إنما كانت ترمز مسبقاً لما كان الله يحضر لعمله في المسيح.
توضح الرسالة إلى العبرانيين ذلك بكل جلاء "... موسى بعدما كلَّم جميع الشعب بكل وصيةٍ بحسب الناموس أخذ دم العجول والتيوس مع ماء وصوفا قرمزياً وزوفا ورش الكتاب نفسه وجميع الشعب قائلاً : (هذا هو دم العهد الذي أوصاكم الله به) والمسكن أيضاً وجميع آنية الخدمة ورشها كذلك بالدم، وكل شيءٍ تقريباً يتطهر حسب الناموس بالدم وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة". (الرسالة إلى العبرانيين 9: 19-22).
ويواصل الوحي الإلهي عبر الكتاب تعقيبه على ما عمله موسى موضحاً: "فكان يلزم أن أمثلة الأشياء التي في السموات تطهر بهذه وأما السموات عينها فبذبائح أفضل من هذه، لأن المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد أشباه الحقيقة (أي كما فعل كهنة العهد القديم)، بل إلى السماء عينها ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا، ولا ليقدم نفسه مراراً كثيرة كما يدخل رئيس الكهنة إلى الأقداس كل سنةٍ بدمٍ آخر. فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم ولكنه الآن قد أظهر مرة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه" (الرسـالة إلى العبرانيين 9: 23-26).
في الوقت الذي يؤكد فيه الوحي الإلهي بطلان الاتكال على تلك الذبائح الرمزية للحصول على مغفرة فعلية للخطية كما رأينا في نبوتي أشعياء وميخا نجد أن الله يقدم رسالة الرجاء عبرهم وعبر غيرهما من الأنبياء بإشارات واضحة وجلية للحل الذي كان سيأتي به المسيح المخلص المنتظر عبر آلامه وموته فيقول: "كلنا كغنمٍ ضللنا، ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه (أي على المسيح) إثم جميعنا" (نبوة أشعياء 53: 6)، ويقول الوحي الإلهي على لسان النبي ميخا: "من هو له مثلك غافر الإثم وصافح عن الذنب ... يعود يرحمنا، يدوس آثامنا وتطرح في أعماق البحر جميع خطاياهم، تصنع الأمانة ليعقوب والرأفة لإبراهيم اللتين حلفت لآبائنا منذ أيام القدم" (نبوة ميخا 7: 18-20).
أما الشرائع الإلهية التي أوحى الله بها، خاصة الوصايا العشرة، فهي أيضاً يستحيل فهم وجودها في العهد القديم دون النظر إليها على ضوء قدوم المسيح لعالم البشر. ففي الوقت الذي فيه كان من الواضح أنه ليس بمقدور أي إنسان أن يعيش بموجبها بصورة كاملة أصر الله على أن تكون "هذه الكلمات التي أنـا أوصيتك بها اليوم على قلبك، وقصها على أولادك وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم واربطها علامـةً على يدك ولتكن عصـائب بين عينيـك واكتبها على قوائـم أبـواب بيتـك وعلى أبوابك" (سفر التثنية 6: 6-9).
ما هو القصد من ذلك؟ يفيدنا الوحي الإلهي بالعهد الجديد بالجواب. فالرب يسوع المسيح نفسه يقول: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس (أي الشريعة) أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل ... فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السموات. وأما من عمل وعلَّم فهذا يدعى عظيماً في ملكوت السموات" الإنجيل حسب (متى 5: 17-19)، وهو هنا يؤكد أهمية تلك الأحكام والوصايا. لماذا؟ السبب بسيط وهو أن شرائع الله تلعب دورها الحيوي في مواجهتنا بمطاليب عدالة وقداسة الله، وتذكيرنا بخطيئتنا وحاجتنا للتخلص منها عبر ما يوفره الله من خلاص. هذا ما تقوله بالحرف الواحد (الرسالة إلى غلاطية 3: 24-26) : "... لقد كان الناموس (أي وصايا وشرائع الله الأخلاقية) مؤدبنا (أي المعلم الذي يوجهنا) إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان، لكن بعدما جاء الإيمان (أي بمجيء المسيح) لسنا بعد تحت مؤدب، لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع".
إذاً لا يصح ولا يحق لنا أن نحاول النظر إلى مضامين الوحي الإلهي في أي جزء من أجزاءه في معزل عن المسيح. صحيح أن هناك تفاوت في درجات الإشارة إليه. هذا صحيح ليس بين سفر وآخر فحسب، بل أيضاً بين جزء وآخر في نفس السفر. فبعض أجزاء الوحي الإلهي تبدو للتو مرتبطة ارتباطاً مباشراً بشخص المسيح، أمثال تلك هي النبوات التي خصته بتفصيل عجيب. والبعض الآخر يتطلب فهم ارتباطه بيسوع المسيح المزيد من التأمل والدراسة. لكن مهما تكن درجات الإشارة إليه في نصوص الوحي تبقى تلك النصوص مبهمة ومشوهة المعالم ما لم يتم فهمها في محيط مجمل بحث ما كشفه الله للبشر عبر التاريخ والذي يصل إلى قمته في شخص المسيح.
هذه بالذات هي الحقيقة الأساسية التي قصد الوحي الإلهي الكشف عنها في الرسالة إلى العبرانيين. فهي تبدأ هكذا: "الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين، الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، وبعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي (1: 1-3).
ليس المسيح بالنسبة للكتاب المقدس محور الوحي الإلهي فحسب، بل أنه أيضاً محور الخليقة والتاريخ البشري بأسرهما. هذا ما عبر عنه الرسول يوحنا في قوله: "نعلم أننا نحن من الله والعلم قد وضع في الشرير، ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح. هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية". (رسالة يوحنا الأولى 5: 19-20). فالكتاب المقدس يعادل ما بين معرفة المسيح ومعرفة الحق (أي الله)، بالنسبة للإنسان. لم يكن في الإمكان الوصول إلى الله أو التعرف عليه إلا في المسيح. هذا ما يكشف عنه الإنجيل. "الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد، الذي هو في حضن الآب هو خبَّر" الإنجيل حسب (يوحنا 1: 18)، ... الواقع أن الرسول يوحنا يعرفنا بوحي من الله أن هذا هو السبب الذي من أجله وجد الإنجيل نفسه، فيقول: "الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الله (أي بخصوص وحي الله)، فإن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا، الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم شركة معنا ..." (رسالة يوحنا الأولى 1: 1-3).
الوحي الإلهي في الأساس إذاً هو عن المسيح وعمله الفدائي. وكمال ذلك الوحي هو في إتمام المهمة التي أسندت إليه، تمجد اسمه عبر التاريخ البشري. فكلمة الله للبشر لا ترتكز في قصدها على شخص المسيح فحسب بل إنها في الواقع كانت في طور التكميل ولم تكتمل إلا بمجيئه هو، ليكشف عن الله بوضوح. فنبوة أشعياء كانت قد سبقت وأوضحت ذلك بضع مئات من السنين قبل مجيء المسيح بالقول: "يعطيكم السيد (أي الرب) نفسه آية (أي عجيبة) ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل (أي الله يحل وسطنا ويكون متكاتفاً معنا نحن البشر)" (نبوة أشعياء 7: 14)، وهذا هو مضمون بشارة الملاك للعذراء مريم في الإنجيل حسب (متى 1: 23)، ثم تقول نفس النبوة: "لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام" (نبوة أشعياء 9: 6).
وكما رأينا الوحي بطبيعته هو كشف الله عن نفسه وعن مشيئته للبشر، إنه كلمة الله للبشر، فالمسيح هو تلك الكلمة أو الوحي في صورة كاملة ونهائية: "والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمةً وحقاً" الإنجيل حسب (يوحنا 1: 14). إذاً لكل جزء من الوحي الإلهي دوره في توجيه البشر إلى تلك النقطة الحاسمة التي كانت مرتقبة منذ البداية، أي: "ملء الزمان" عندما كشف الله عن نفسه بأوضح أسلوب، أي في تجسد المسيح. ففي المسيح كشف الله عن ذاته بكل كمال، كشف عن قدرته وسلطانه عن جماله وبهائه ومجده، عن قداسته وعدالته وطهارته، كما كشف عن محبته ورحمته لبني البشر.
حضَّرت أسفار العهد القديم لذلك المجيء وجهزت له المنصة الملائمة للاستقبال والتربة الخصبة للقيام بمهمته، أما الإنجيل (أي العهد الجديد) فقد أخبرنا بذلك الحدث التاريخي بالذات، مؤكداً لنا أن هذا هو محط أنظار كل الأجيال ومقصد كل التاريخ البشري.
قال العهد القديم انتظروا ذلك والعهد الجديد قال هذا: هو ذاك الذي كنتم تنتظرونه وها هو يكمل كل شيء. ما أشير إليه بكلمات وأحداث، من ظمأت إليه القلوب وتأججت لأجل قدومه الصدور، ها هو الآن قد جاء وأكمل مهمته بكل نجاح. لقد تم كل شيء في مخطط الوحي الإلهي "قد أكمل" الإنجيل حسب (يوحنا 19: 30).
"بالإجماع عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكته، نودي به بين الأمم، أومن به في العالم، رفع في المجد" (الرسالة الأولى إلى تيموثاوس 3: 16).
- عدد الزيارات: 3503