Skip to main content

الفصل الرابع: الأخطاء المزعومة في الكتاب المقدس

من الأمور المحزنة جداً في الوقت الحاضر أنه في بعض المجادلات الدينية يسعى البعض لإنكار سلطة الكتاب المقدس. وهذا عكس ما كان يجري في الماضي عندما كان الجدل ينحصر في تفسير الكتاب دون أن يشك أحد في صحة تعاليمه!

نحن نعترف قبل كل شيء بأن الكتاب المقدس يحتوي على بعض التصريحات أو البيانات التي لا نستطيع شرحها شرحاً تاماً مع ما لدينا الآن من وسائط المعرفة. فمعرفتنا بالعبرية واليونانية ليست كاملة البتة، إذ أن هناك عدة كلمات وتعابير التي لا ترد إلا مراراً قليلة في الكتاب يصعب تفسيرها، ويحدث أحياناً أن أشهر العلماء لا يتفقون تماماً على معانيها بالضبط.

ومع كل ذلك فإن ما يدعو للمزيد من المسرة والامتنان أن تقدم العلم والاكتشافات الأثرية، أزال الكثير من الغموض عن تلك اللائحة الكبيرة التي يسميها البعض "أخطاء الكتاب المقدس" والتي كان المشككون وغيرهم يتكلمون عنها بكل ثقة قبل بضع عشرات من السنين! أما اليوم فلم يبق تقريباً أي شيء ضمن لائحة الأخطاء القديمة تلك! يمدنا بالثقة الكامنة في تلك المعرفة الراسخة بأنه رغماً عن كل الهجمات العديمة الرحمة التي شُنَّت على الكتاب في العصور المتتابعة، ورغماً عن كل الانتقادات العنيفة التي صوِّبت على صفحاته المفتوحة لم ينجح أحد على برهان وجود خطأ واحد في أي مكان من الكتاب المقدس. وقد صدر الحكم بدون استثناء أن الكتاب مصيب وأن نقاده هم المخطئون. وأما تلك الأخطاء المزعومة فهي باقية كإنذار لكل أولئك الذين في رغبتهم أن يؤذوا عقيدة عصمة الكتاب بألا يضربوا بالحذر الأخلاقي والتاريخي عرض الحائط.

ومن الجدير بالذكر أن تلك الأخطاء المزعومة هي في كثير من الأحيان أمور زهيدة للغاية، وليس هناك في أي حالة عقائد هامة أو حوادث تاريخية عرضة للتساؤل. فحينما يصوب عليها نور أقوى فإن أكثرها يذوب كما يذوب الجليد ما أن تضربه حرارة الشمس ويختفي كما تختفي أشباح الليل مع وضح النهار ولا تعود تُرى بعد. وإذا ما وُجد شيءٌ من ذلك القبيل فهو قليل العدد ولا يعدو كونه أغلاطاً من قبل النسَّاخ أو المترجمين. ومن المؤكد أنه ليس لأحد الحق في القول بأنه توجد أخطاء في الكتاب ما لم يظهر بدون أدنى شك أنها كانت موجودة في المخطوطات الأصلية.

والصعوبات القليلة الباقية للآن هي زهيدة للغاية لدرجة لا يجوز معها لأحد أن ينزعج منها. ولدينا كل الأمل بأنه متى ازدادت معرفتنا عن بعض المواضيع المتعلقة بالكتاب، فإنها بدورها ستزول. ولا نكون مغالين في الأمر إن قلنا بأن هذه الأمور الباقية تشبه بضع حبات من الرمل التي قد توجد هنا وهناك في رخام مبنى البارثنون في أثينا مثلاً! ونظراً للاختبارات الماضية من المهم أن نتذكر أنه هناك احتمال كبير في ألا تكون هذه أخطاء حقيقية، احتمال يمكن قياسه عندما نأتي بكل البراهين القوية التي تثبت بأن الكتاب المقدس هو مرشد جدير بكل ثقة في كل الأمور الأخلاقية والروحية.

وعندما نتذكر بأن تدوين الكتاب المقدس قد استغرق ما يزيد عن ألف وخمسمائة سنة، وأن عدد كتبته جاوز الأربعين شخصاً عاشوا في عصور مختلفة وكانت لهم أهداف مختلفة في الحياة ومواهب أدبية متنوعة، وأن التاريخ الديني والسياسي للبلاد كان معقداً للغاية، وأن المؤرخين الرومان المعترف لهم بالدقة قد أخطأوا في سردهم حوادث معاصرة لهم، فالعجب كل العجب هو في قلة الأمور التي يصعب فهمها في الكتاب المقدس.

حتى وإن سلمنا بأن الكتاب يحوي على بيانات لا يمكننا الآن فهمها فهماً كاملاً فإن ذلك لا يشكل أساساً معقولاً لإنكار الاعتقاد العام بعصمة الكتاب المقدس. ولدينا كلمات الرب يسوع المسيح إنه "لا يمكن أن يُنقض المكتوب" وأكثر من هذا لا يجوز لنا أن نطلبه. ففي الكون المادي نرى براهين القصد والتصميم متنوعة وكثيرة جداً حتى أن العقل البشري يُساق إلى النتيجة بأنه يوجد خالق قد برأها. ومع ذلك فهنا وهناك نجد أشياء غريبة وشاذة. فبحسب معرفتنا الحاضرة لا نستطيع أن نوضح تماماً لماذا خُلقت الأفاعي والبعوض وجراثيم الملاريا، ومع ذلك فإن مخلوقات كهذه لا يمنعنا من الإيمان بأن للعالم خالق عاقل ورحيم. وكذلك لا يجوز للمسيحي أن يعدل عن إيمانه في الكتاب الموحى به تماماً لمجرد عدم استطاعته أن يوفِّق بين كل تفاصيل الكتاب المقدس.

ربما لا يوجد أي فرع من العلوم في العصر الحالي ساهم في إثبات الكتاب المقدس كعلم الآثار القديمة. فإن جهود العلماء والمنقبين عن الآثار القديمة في مصر والعراق وفلسطين وسوريا ولبنان قد وضعت تحت تصرفنا مجلدات من التاريخ القديم المحتوية على تقارير خطية عن اللغات والآداب والمؤسسات والأديان والشعوب الذين كانوا قد نُسوا منذ عهد بعيد لولا أنهم ذكروا عرضاً في الكتاب المقدس. فهنا نجد سجلات منحوتة على الحجر وعلى ألواح الفخار، أو مدونة بطريقة أو أخرى على الأنصاب التذكارية والقبور والأبنية وورق البردي والخزف. ونلاحظ بدون استثناء أن كل هذه الاكتشافات تثبت صدق الكتاب وبطلان ادعاءات وافتراضات النقاد الهدَّامين. وفي الواقع لم يجابه أعداء الكتاب المقدس عدوَّاً أكثر شراسة وأهم مكانة من علم الآثار القديمة! فهذا المصدر يقِّم برهاناً قاطعاً على صحة الكتاب، وهو عديم التحزِّب وحازم بحيث أنه يقنع الصديق والعدو على السواء.

1- أمثلة عن الأخطاء المزعومة

لا يسمح لنا المجال بإعطاء قائمة مفصلة عمَّا يسمى بـ "الأخطاء" التي قد أشير إلى وجودها هنا وهناك في الكتاب المقدس، ومع ذلك فبحثنا يكون غير تام إذا لم نقدِّم بعض الأمثلة على الأقل:

يظهر لأول وهلة مثلاً بأنه يوجد تناقض بين سفر (الأعمال 9: 7) والفصل (22: 9) منه بخصوص اهتداء بولس. ففي النص الأول تقرأ أن الرجال الذين كانوا مسافرين معه سمعوا الصوت الذي كلمه، أما في الثاني فيقال أنهم لم يسمعوا الصوت. هذه الصعوبة يمكن تخطيها بهذه الطريقة: ففي اليونانية الكلمة المعربة بـ "صوت" تعني أيضاً "جلبة أو ضوضاء". فنستنتج إذاً أن الرجال الذين كانوا مع بولس سمعوا الجلبة ولكنهم لم يفهموا الكلام الموجَّه إليه.

وليس العهد ببعيد عندما كان النقاد الهدامون يستهزؤون ببيان لوقا بأن جزيرة قبرص كانت تُحكم من قبل "والي" (أعمال 13: 7)، وأن ليسانيوس كان رئيس ربع، معاصراً للحكام الهيرودوسيين. ومع ذلك نُسي هذا الاستهزاء بسرعة كبيرة عندما دعمت الاكتشافات الأثرية بيانات الكُتَّاب.

من وجهة شفاء غلام قائد المئة، فإذا كان قائد المئة نفسه قد ذهب إلى يسوع كما يقودنا البشير متى إلى الاعتقاد (متى 8: 5) أو إذا كان قد أرسل إليه شيوخاً من اليهود كما يقول البشير لوقا (لوقا 7: 3)، فإن صلب القصة يبقى كما هو لا يتغير. ففي لغتنا اليومية ننسب إلى الشخص الشيء الذي يقوم به وكلاؤه أو خدامه بحسب أوامره.

أما عنوان تهمة يسوع التي كتبها بيلاطس على الصليب معطاة باختلافات زهيدة من قبل كتبة البشائر. وتفسير هذه الظاهرة هو أن التهمة كتبت في ثلاث لغات وهي اللاتينية واليونانية والعبرية، وأنه كان يوجد اختلاف زهيد في النص، وهذا ما دفع كل كاتب إلى التصرف في ترجمته. وبالحقيقة أن الفرق هو غير جوهري بين بيان مرقس وهو "ملك اليهود" وبيان لوقا "هذا هو ملك اليهود".

ثم في صباح القيامة أكان الحجر قد دُحرج عن القبر بأيد بشرية، كما يمكن الاستنتاج من الأخبار التي يعطيها مرقس ولوقا ويوحنا - مع انهم بالحقيقة لا يذكرون أنها قد دُحرجت بأيدٍ بشرية، بل إنما كان الحجر قد دُحرج – أو أن الزلزلة قد استخدمت للقيام بهذا العمل كما يخبرنا بأكثر تفصيل متى البشير (متى 28: 2) فإن ذلك لا يسبب أي فرق من الناحية الجوهرية في القصة وهي أن السيد المسيح قام وخرج من القبر في ذلك الصباح. سرد متى البيان بشكل مفصل مخبراً إيانا أن الرب استخدم قوى الطبيعة لإنجاز قصده، بينما اكتفى الكتبة الآخرون بنقل الحقيقة الهامة وهي أن القبر قد فُتح والمسيح قد قام. وكثيراً ما يحدث أن الكتبة القديسين كالكتبة العلمانيين، يصفون الحوادث من وجهات نظر متباينة أو بنقاط مختلفة من حيث التشديد أو التأكيد. ففي هكذا حالات ليس هناك تناقض بين القصص أكثر مما يكون مثلاً بين أربع صور لبيت واحد، التقطت إحداها من الغرب، والأخرى من الشمال، وغيرها من الجنوب، وغيرها من الشرق، فهي كلها تعطي مناظر مختلفة نوعاً ما للبيت الواحد!

ويُذكر في الإنجيل بحسب (متى 27: 5) أن يهوذا رد الفضة للكهنة ثم مضى وخنق نفسه، بينما يقول البشير لوقا في (سفر الأعمال 1: 18) أنه اقتنى حقلاً بهذه الفضة. ولكن إذا ما أتينا بالبيانين معاً يظهر إذ ذاك أن ما حدث فعلاً هو أن الكهنة رفضوا الفضة التي طرحها يهوذا في الهيكل، فما كان إلا أن ذهب وخنق نفسه. ولكن بعد خيانته وانتحاره لحقه العار لدرجة أنه لم يحضر أحد من أصدقائه أو أقربائه للاهتمام بدفن جثته. فكان من اللازم أن تدفن على النفقة العمومية. فتذكر الكهنة أن الفضة كانت قد أعيدت وأنها لا يمكن أن توضع في الخزانة لأنها كانت ثمن دم. وبما أن جثته يجب أن تدفن فإنهم قرروا أن يستعملوا الفضة لشراء مقبرة، وعلى الأرجح نفس الحقل الذي انتحر فيه يهوذا. ولذلك قيل أنه اقتنى حقلاً من أجرة الظلم، وذلك لا يعني أنه هو شخصياً اشتراه، بل إنما اشتري بفضته الخاصة ودُفن فيه.

وهناك بعض النقاد الذين يدّعون أن الإشارة إلى أرميا في (متى 27: 9) هي خطأ، وإن الإشارة يجب أن تكون إلى (زكريا 11: 12و13). ويمكن قول نفس الشيء فيما يخص ما ورد في سفر (الأعمال 20: 35) و(رسالة يهوذا 14). وما يقوله متى هو أن أرميا "نطق" بهذه الكلمات، ومن المؤكد بأنه لا يستطيع أحد أن يبرهن عكس ذلك. فبحسب الظاهر تكلم أرميا بها، ثم سجلها زكريا، ومتى نسبها إلى أرميا بواسطة إرشاد الروح القدس. ربما كان لدى متى كتب أخرى كانت قد نسبتها إلى أرميا ولكنها فُقدت بعد ذلك. وبما أن اقتباس متى ليس هو حرفياً ككلام زكريا، فقد يدل ذلك أنه كان بحوزته كتباً أخرى.

يُقال أحياناً أنه في (سفر التكوين 36: 31) تدل الإشارة إلى "الملك" أو "الملوك" الذين حكموا على بني إسرائيل على أن كاتب التكوين لم يكن موسى، بل أن الكاتب كان شخصاً آخر متأخراً عنه. ولكن علينا أن نتذكر أن موسى كان نبياً وأنه منذ بعيد قبل أيام موسى كان الوعد قد أعطي لإبراهيم بأن ملوكاً كانوا سيقومون من نسله. "وأثمرك كثيراً جداً، وأجعلك أمماً، وملوكاً منك يخرجون" (سفر التكوين 17: 6). "وقال له الله أنا الله القدير، أُثمر وأُكثر، أمة وجماعة أمم تكون منك، وملوك سيخرجون من صلبك" (سفر التكوين 35: 11). وكذلك موسى نفسه تنبأ عن قيام الملوك في البلاد: "متى أتيت إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك وامتلكتها وسكنت فيها فإن قلت أجعل علي ملكاً كجميع الأمم الذين حولي، فإنك تجعل عليك ملكاً الذي يختاره الرب إلهك. من وسط أخوتك تجعل عليك ملكاً، لا يحل لك أن تجعل عليك رجلاً أجنبياً ليس هو أخاك" (سفر التثنية 17: 14و15). وفي (سفر التكوين 36: 31) يذكر موسى أن ملوكاً كانوا يحكمون في آدوم قبل قيام أي ملك في إسرائيل.

وكون الواقع أن الوصايا العشر كما هي مدونة في (خروج 20: 3-17) تختلف قليلاً عن النص الوارد في (تثنية 5: 7-21)، أو كون أنه في عدة حالات عندما اقتبس كتبة العهد الجديد من العهد القديم لم يعطوا نفس الكلمات بل المعنى العام فقط، فذلك ليس ببرهان على أنه لا يوجد وحي لفظي في الكتاب المقدس. فالكاتب أو المتكلم له الحق تماماً أن يعيد أفكاره في شكل مختلف نوعاً ما إذا اختار ذلك، وهذا ما عمله الروح القدس بالفعل.

إن اللغة البشرية هي في أفضل حالاتها أبعد من أن تكون كاملة لتستطيع أن توضح كمال العقل الإلهي. ومن نحن حتى نحصر عمل الروح القدس في أسلوب واحد للكلام غير قابل للتغيير! إن كتبة العهد الجديد اهتموا في أكثر الأحيان بإعطاء صلب الحقيقة أكثر من اهتمامهم بالأسلوب، وهكذا نراهم يعبرون عن الحقيقة بتنوع وخصب، عوضاً عن أن يتبعوا شكلاً موحداً غير قابل للتغيير. فإذا أخذنا ما سبق بعين الاعتبار فإننا نزيح بذلك الكثير من التناقضات المزعومة. وفوق ذلك فإذا ما وجدنا فقرة قابلة لتفسيرين متباينين، أحدهما يتفق مع بقية أسفار الكتاب، بينما لا يتفق الآخر معها، فإننا مضطرين بحكم الواجب أن نقبل التفسير الأول. سواء أكان البيان موضوع التساؤل في الكتاب المقدس، أو في سجلات تاريخية أو في مستندات قانونية، فالمبدأ المقبول للتفسير هو أنَّ المعنى الذي يطابق بقية الكتاب أو الصك هو الذي يجب أن يُرجح على الذي يجعله غير مطابق له أو غير معقول. والتصرف على أي أساس آخر هو تعصب أعمى واتخاذ جانب الخطأ هو غير إثبات وجوده. ومن المؤسف أن الكثيرين من نقاد الكتاب المقدس إنما أهملوا هذه القاعدة نظراً لرغبتهم الجامحة في تدمير الثقة التامة بكلمة الله!

والكثير مما يدعى بـ "صعوبات أخلاقية" في العهد القديم تظهر كذلك لمجرد كون البعض لا يأخذون بعين الاعتبار أن الوحي هو متدرج في الكتاب المقدس. بالطبع يطلب منا نحن الذين نعيش في العصر المسيحي والذين نتمتع بنور العهد الجديد أن نكون على مستوى أرفع بكثير من الذين عاشوا في العصور السابقة. وهنا أيضاً نرى صدق قانون التدرج المذكور في الإنجيل حسب (مرقس 4: 28) "أولاً نباتاً ثم سنبلاً ثم قمحاً ملآن في السنبل". فسوء التفاهم ينتج عن الفشل في التمييز بين ما تسجله الأسفار المقدسة فقط وبين ما تحبذه من تصرفات البشر.

من بين أهم تلك الصعوبات قضية إهلاك الكنعانيين، وبعض المزامير التي تستنزل اللعنات، العقيدة النيابية للكفارة وعقيدة العقاب الأبدي. وقد لا يمكننا حل كل هذه الصعوبات ولكن الاعتراض بأنها غير صائبة أخلاقياً ينتج عن الادعاء بأنه لا مكان للعدل الإلهي الذي يعاقب الشر والخطيئة. إن معاقبة خطيئة وعصيان البشر هو أمر حتمي لله تعالى وذلك يظهر مجده بكل صدق كما يظهر فيه مكافئة الله للبر. هذا هو تعليم العهد الجديد الواضح تماماً كما كان في العهد القديم وهو في أساس العقيدة بأن القصاص لأجل خطايانا لا يمكن أن يطرح جانباً إذا كانت عدالة الله وأحكامه ثابتة. لذا كان لابد من أن يوضع على المسيح. وعلاوة على ذلك يعلمنا العهد القديم أنه ليس فقط بعض الأفراد بل أحياناً مدن وقبائل شعوب بأجمعها كانت قد فسدت جداً لدرجة أنها أصبحت لعنة شاملة على المجتمع البشري، ولم يعد لها أي حق ولا داعٍ للحياة. فإن ديانات بعض القبائل كانت فاسدة للغاية ولم يبق هناك أي أمل لإصلاحها، مثلاً عبادة البعل وعشتروت التي كانت ترافقها طقوس جنسية شهوانية وذبائح الأطفال المولودين حديثاً وتقبيل تماثيل الآلهة الوثنية والتبرُّك بها.

وموقف العهد القديم من تعدد الزوجات والطلاق والرِّق والمسكرات وما شاكل ذلك كثيراً ما يُستهزأ به من قِبل النقاد ولكن إذا ما نظرنا إلى كل هذه الأمور في مواضعها الأساسية فإن ذلك يعطينا دليلاً قوياً على أن الكتاب المقدس هو من أصل إلهي. فمن جهة هذه المسائل وما شاكلها نجد أن قصد الكتاب المقدس هو وضع المبادئ الأساسية المناسبة لكل الشعوب والأجناس وفي كل عصر عوضاً عن إعطاء شرائع خاصة قد تتناسب مع بعض الناس في عصور وظروف خاصة. وقد ترك الكتاب المقدس سّنَّ الشرائع الخاصة لأحوال محلية إلى الهيئات التشريعية في عصورها المعينة. فبخصوص استعمال المسكرات مثلاً، فإن الكتاب يخبرنا بكل وضوح أن "الخمر مستهزئة، المسكر عجَّاج ومن يترنح بهما فليس بحكيم" (أمثال سليمان 20: 1). وكذلك نعلم أن السكيرين لا يرثون ملكوت الله. (الرسالة الأولى إلى كورنثوس 6: 10). ونحذِّر من مغبة صرف أموالنا في هكذا مواضع وأنه ليس لنا أن نزن فضتنا لغير خبز (نبوة أشعياء 55: 2)، وهناك بينات كثيرة مشابهة لهذه. وعلى أساس ذلك من السهل سن التشاريع الملائمة لتجارة المشروبات الروحية. فالحكمة التي أظهرها الكتاب المقدس في معالجة تلك الشرور في العصور القديمة - معطياً المبادئ والشرائع التي أدت إلى محوها والقضاء عليها – لأمر فريد ولبرهان قوي في حد ذاته على أن الشريعة هي من مصدر يفوق البشر!

2- الكتاب المقدس والعلم

لم يُكتب الكتاب المقدس بأسلوب علمي، وكل من يذهب إليه متوقعاً بأن يرى فيه كتاباً مدرسياً عن العلوم لا بد من أن ينتهي إلى خيبة أمل مريرة. لم يأت الكتاب إلى الوجود لأجل العلماء والمثقفين ثقافة عالية فقط، بل لأجل عامة الشعب. فلغة الكتاب هي لغة الشعب، ومواده هي في صلبها دينية وروحية. ولو كان الكتاب قد كتب في لغة العلم الحديث أو في قالب فلسفي لما أمكن فهمه من قبل الشعوب العديدة في تلك العصور القديمة، وفي الواقع لاستعصى فهمه على أغلبية الجماهير حتى في أيامنا هذه. وعلاوة على ذلك ومع أننا لا نريد أن ننقص من قيمة العلم في أيامنا الحاضرة، علينا أن نشير إلى أن الكتب المدرسية عن العلوم يجب إعادة كتابتها مرة في كل جيل على الأقل لأن البحث العلمي في تقدم مستمر. وليست هذه حالة الكتاب المقدس الذي لم يحتج إلى أي تنقيح في القرون العديدة الماضية، وهو لا يزال يتكلم إلى القلب والعقل في يومنا هذا بنفس القوة التي كانت له عبر العصور الماضية. الذين يلجئون إلى الكتاب لأجل الاستنارة في الأمور الروحية والعقلية فإنهم يجدونه حديثاً ومنيراً وكأنه قد كتب في الأمس القريب لأجل حاجتهم الشخصية.

ومن المظاهر المدهشة في الكتاب المقدس خلوه من الأخطاء والخرافات التي كانت شائعة في العصور القديمة. فقد ذهب النبي موسى مثلاً إلى أفضل مدارس تلك الأيام وتهذب بكل حكمة المصريين القدماء التي تعتبر الآن مجرد هراء، ولكننا لا نجد أثراً لذلك في أسفار التوراة. فتلك الآراء الغريبة التي تمسك بها المصريون القدماء بخصوص أصل العالم والإنسان لم تظهر في كتاباته بل إنه وفي لغة جليلة وسامية أعطانا بياناً وافياً وكاملاً عن خلق الله للعالم والإنسان. وغيره من أنبياء العهد القديم كانوا قد اتصلوا بعلوم الكلدانيين والبابليين، ولكنهم لم يكتبوا إلا ما كان يتفق مع الحقيقة التي كشفها الله لهم.

قد يكون بعض هؤلاء الأنبياء قد اعتقدوا مثلاً بأن الأرض هي مسطحة، ولكنهم لم يعلموا قط في أي مكان من الكتاب بأنها كانت مسطحة. وعندما كان الأنبياء يتكلمون عن شروق الشمس وغروبها أو عن أربع زوايا الأرض أو عن أطراف الأرض، فليس لنا أن نأخذ هذه التعابير حرفياً. ونحن نستعمل نفس هذه العبارات اليوم، ولكننا لا نقصد بأن نثبت أن الشمس تدور حول الأرض أو أن الأرض هي مسطحة أو مستطيلة! ونحن نتبع هذه الطريقة في لغتنا اليومية عندما نصف الأشياء كما تظهر للعين وليس من الناحية العلمية الدقيقة. ومع أن أغلبية المشككين هم دائماً على استعداد بأن يؤكدوا أن الكتاب يعلم أن الأرض هي مسطحة، فإننا لا نجد شخصاً مستقيماً ونزيهاً يستطيع أن يجد حتى آية واحدة في كلمة الله تعلم بهذه النظرية. على العكس، فهناك بيان واضح عن شكل الأرض في وصف أشعياء النبي لعظمة وجلال الله: "الجالس على كرة الأرض" (نبوة أشعياء 40: 22). ونحن لا نرى المشككين يقتبسون بيان أيوب حينما قال – مغايراً الآراء الشائعة في أيامه – "يمد الشمال على الخلاء ويعلّق الأرض على لاشيء" (سفر أيوب 26: 7).

وبهذا الخصوص علينا التمييز دائماً بين النظريات والافتراضات العلمية وبين الحقائق العلمية المبرهنة بكل وضوح. فنظريات العلم هي مثل تيارات البحر المتنقلة، بينما الكتاب المقدس قد جابهها على مدى ألفي سنة كصخرة جبل طارق. وحتى الآن لم يظهر بأن الكتاب المقدس قد ناقض حتى ولو حقيقة واحدة من الحقائق العلمية المبرهنة. فالبيانات التي يعطيها عن نشوء العالم وعن النظام الرائع الذي نراه في كل أنحاء الكون يتفق مع مكتشفات العلم الحديث لدرجة مدهشة للغاية، وهذا ما لا نراه في الكتب القديمة المليئة بالخرافات. فليس هناك إذاً أي تناقض واقعي أو حقيقي بين الكتاب المقدس والعلم.

السبب الرئيسي لوجود كثير من البلبلة بخصوص العلاقة بين العلم والدين يعود لفشل الكثيرين من الناس في التمييز بين الحقائق المثبتة والآراء الشائعة في وقت معين. فالعلم الحقيقي يتناول الحقائق المثبتة فقط، أما الآراء فقد تختلف بحسب اختلاف الناس الذي يعبرون عنها. لنأخذ مثلاً نظرية النشوء والارتقاء، فإذا ما قبلها الإنسان فليس هناك مجال لما وراء الطبيعة ولا للإيمان بتعاليم الكتاب المقدس. ولكن هذا المذهب ليس بعلم مثبت، بل هو مجرد نظرية أو افتراض غير مبرهن. وهناك الكثير من العلماء النوابغ الذين لا يعتقدون بتلك النظرية بل يؤمنون بأن الله تعالى قد خلق العالم والكون بأسره من لاشيء. ورجل الدين الذي لم يختص في العلوم الطبيعية ليس له الحق بأن يتكلم عن الأمور العلمية. وكذلك ليس للعالم المختص بالعلوم الطبيعية الذي لم يختبر قوة الروح القدس المجددة، الحق في أن يغزو حقل الدين وأن يتكلم بسلطان عن أمور دينية تقع خارج نطاق تخصصه. ومجرد أن لفرد معين مقدرة وخبرة ضمن حقله الخاص لا يخوله حق الحكم في مواضيع تقع خارج نطاق ذلك الحقل. الدين الحقيقي والعلم الحقيقي لا يتناقضان أبداً، ولكن سيكون هناك دائماً البعض من رجال الدين والمتدينين والبعض الأخر من أهل العلم على اختلاف في آرائهم على مر الأجيال. لقد أنتج العلم، والحق يقال، أشياء مدهشة، ولكن نطاقه يبقى محدوداً ومحصوراًُ في الجانب المادي من الحياة وليس له أي سلطان للتكلم عن أمور روحية. وحيثما أصبح العلم الطبيعي بديلاً عن الدين، تجده قد تحول بدون شك إلى مسيحٍ كاذب.

وقد كتب أحد المفكرين المؤمنين عن موضوعنا ما يلي: "القول بأن الأسفار المقدسة تحتوي على بيانات لا تتفق مع تعاليم العلم الحديث والفلسفة المعاصرة هو شيء، والقول بأنها تحتوي على أخطاء مبرهنة هو شيء آخر. فمن الوجهة التقنية الدقيقة ليس هناك علم حديث ولا فلسفة حديثة، إنما هناك علماء حديثون وفلاسفة حديثون وهم يختلفون فيما بينهم إلى مالا نهاية. وإذا ما أخذنا ادعاءاتهم جميعاً على محمل كونها حقائق العلم والفلسفة تجمعت لدينا مجموعات من العلوم والفلسفات المتناقضة. إنه على هذا الأساس وعليه فقط يمكن الادعاء بوجود أخطاء في مضمون كلمة الله! وفي الحقيقة لا يوجد إنسان مفكر واحد يمكنه القول بأن العلم والفلسفة قد وصلا صيغتهما النهائيتين حتى ولو بوجه التقريب! فنحن نسمع من آن إلى آخر بأن كلاً من العلم والفلسفة لم يزالا بعيدين كل البعد عن شكلهما النهائي. فماذا كان من الممكن حدوثه إذاً لو أن تعاليم الكتاب المقدس كانت تطابق تماماً مواقف العلم والفلسفة في الوقت الحاضر وفي عصور ماضية؟ أفلا تصبح مخالفة تماماً لعلم وفلسفة المستقبل؟ فمن أين لنا اليقين بأن العلم والفلسفة سيبقيان تماماً على وضعيهما السائدين اليوم؟ لو أننا كنا قد تجاوزنا حد البرهان عندما نقول بأن الكتاب يتضمن أخطاء حقيقية بناء على تناقض مع تعاليم البعض من العلماء وفلاسفة الوقت الحاضر، لكان ذلك الافتراض ذا مغزى حقيقي وثابت.

  • عدد الزيارات: 9193