Skip to main content

الفصل الثاني: الكُتَّاب والوحي

إن السبب الأساسي لإيماننا بأن الكتاب المقدس هو كلمة الله هو أن الكُتّاب أنفسهم يصرّحون بهذا الأمر، وإن رسالاتهم تشهد لكونها موحى بها. والإصرار الدائم الذي عبّر عنه الأنبياء بأن رسالاتهم التي نطقوا بها لم تكن من عندياتهم الخاصة بل من الله وبأن ما تكلموا به كانوا قد تسلموه من الله واضح وجلي من الله نفسه. وقد أتى النبي تلو الآخر يذكر الشعب بأن الكلمات التي نطق بها لم تكن من عندياته بل من الله بالذات، وفي كثير من الأحيان كان النبي يبدأ كلامه قائلاً: "هكذا قال الرب" وهذا كان أيضاً موقف الرسول بولس وبقية الرسل الذين صرَّحوا بأنهم تكلموا "لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس" (الرسالة الأولى إلى كورنثوس 2: 13) وهكذا لم يكن جوهر تعليمهم فقط من أصل إلهي بل صيغة تعبيرهم هي أيضاً كانت من الله.

ومع أن تصريحاتهم بأنهم قد تكلموا بسلطة إلهية واضحة في كل الكتاب المقدس، فإننا لا نجدهم يتكلمون ولا مرة واحدة بأن سلطتهم مبنية على حكمتهم أو شرفهم. لقد تكلموا كرسل الله وشهوده، ولذلك كان على الناس أن يطيعوا كلماتهم. فكل الذين سمعوهم سمعوا الله، وكل الذين رفضوا السماع إليهم إنما رفضوا الله.

"وهم إن سمعوا وإن امتنعوا، لأنهم بيت متمرد، فإنهم يعلمون أن نبياً كان بينهم" (نبوة حزقيال 2: 5).

"من يقبلكم يقبلني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني" الإنجيل حسب (متى 10: 40).

وبما أن الكتاب قد كرروا مراراً تلك الشهادة للوحي، فمن الواضح أنهم إما كانوا ملهمين وإما تصرفوا بحماسة تعصبٍ أعمى. نحن إذن بين أمرين: إما أن نصل إلى الاستنتاج بأن الكتاب المقدس هو كلمة الله أو أنه مجرد أكاذيب! ولكن كيف يمكن للكذب أن يكون قد أثر تأثيراً عديم النظير في رفع المستوى الأخلاقي والخيري كالتأثير الذي أحدثه الكتاب المقدس في كل مكان انتشر فيه؟

ويمكننا الملاحظة بأن معاصري كتبة العهد الجديد وآباء الكنيسة كانوا الأفضل تأهيلاً للحكم فيما إذا كانت هكذا الشهادات صحيحة –وبالفعل فإنهم قبلوا هذه الشهادات بدون أي تردد. ولقد اعترفوا بأنه كانت توجد هوة عظيمة بين تلك الكتابات وكتاباتهم الخاصة. وقد أسسوا العقائد والفرائض عليها، لا على آرائهم الخاصة. وكذلك نجد أن البشائر والرسائل تحتوي على الكثير من البراهين الداخلية التي ترغمنا على قبولها. وإذا ما اتبعنا مجرى التاريخ في القرون المتعاقبة نرى أن البراهين تزداد في عددها وأهميتها حتى أن الهراطقة يشهدون لهذه الحقيقة مع أنهم كانوا في رغبة شديدة للتخلص من سلطة الكتاب المقدس. وعلاوة على ذلك، لا تتضمن الكتابات نفسها أي متناقضات، ولو وجدت هذه لكانت قد قضت تماماً على تصريح الكتاب بالوحي. وهكذا تقدم أسفار الكتاب بانسجام كامل ذلك التدبير الواحد للخلاص وتلك المبادئ الأخلاقية السامية. فإذا كان كتاب راشدون ومستقيمون يصرحون بأن كلامهم كان موحى به من الله، وإذا كانت هذه التصريحات قد سارت بدون معارضة، بل قبلت بكل تواضع من المعاصرين، وإذا كانت هذه الكتابات لا تتضمن المتناقضات، فمن المؤكد إذن أننا نواجه ظاهرة غير عادية يجب أن تعلل، والتعليل الوحيد لا يمكن له إلا أن يأخذ الوحي الإلهي بعين الاعتبار.

وهناك من يعترض قائلاً بأن أسفار العهد الجديد لم تكتب من قبل يسوع المسيح بل من قبل أتباعه، وبأنها لم تكتب إلا بعد مرور بعض الوقت على موته وقيامته. وفي الواقع نجد أنه من المستحيل أن نتوقع من الرب يسوع أن يكون قد أعطى شرحاً وافياً عن طريق الخلاص أثناء وجوده على الأرض. إن ذلك لم يكن قابلاً للفهم تماماً إلا بعد موته وقيامته. طبعاً كان بالإمكان ليسوع أن يوضح ذلك بواسطة النبوات، وفعلاً نجد أنه أعطى التلاميذ فكرة عامة عن طريق الخلاص، ولكننا نعلم بأنهم لم يفهموا في كثير من الأحيان تلك التعاليم وهكذا نرى أن الطريقة التي اختارها الرب يسوع المسيح كانت أحسن طريقة للتعليم: أولاً إنجاز الأعمال الخلاصية، ثم شرحها بواسطة الكتاب الملهمين. وهذه كانت أيضاً طريقة الله في عصور العهد القديم.

1- تعليم الكتاب المقدس نفسه بخصوص الوحي

لق أعطى الله لنبيه موسى عرضاً مهماً لتوضيح القصد الحقيقي والمهمة الأصلية والأسلوب اللائق برسالة الأنبياء الذين يعينهم. هذا ما نراه في (سفر التثنية 18: 18).

"أقيم لهم (أي لأجيال يهودية تابعة) نبياً من وسط أخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلّمهم بكل ما أوصيه به".

وهكذا نرى بأن الله يتكلم معنا بواسطة الأنبياء، فرسالتهم كانت تنحصر في إعطاء الكلمات المعطاة لهم تماماً وليس سواها. "ها قد جعلت كلامي في فمك" قال الرب لأرميا النبي عندما عينه نبياً للشعوب (نبوة أرميا 1: 9) وهذه الكلمات قيلت أيضاً لأشعياء النبي "قد جعلت أقوالي في فمك" (نبوة أشعياء 51: 16) وأيضاً "كلامي الذي وضعته في فمك لا يزول من فمك" (59: 21).

والعبارة "هكذا يقول الرب" مكررة نحو ثمانين مرة في سفر أشعياء وحده. حتى أن النبي الكذاب بلعام لم يقدر أن يتكلم إلا كما أعطاه الرب أن يتكلم: "فقال ملاك الرب لبلعام اذهب مع الرجال، وإنما تتكلم بالكلام الذي أكلمك به فقط، (سفر العدد 22: 35) انظر أيضاً (سفر العدد 23: 5، 12، 16). تعليم العهد القديم المتواصل هو أن الأنبياء إنما تكلموا حينما أتاهم كلام الرب وحينئذ فقط! وهذا نراه بكل وضوح في بدء نبواتهم:

"قول الرب الذي صار لهوشع ..." (نبوة هوشع 1: 1)

"أقوال عاموس ... التي رآها ..." (عاموس 1: 1)

"قول الرب الذي صار إلى ميخا ..." (ميخا 1: 1)

"وحي كلمة الرب لإسرائيل عن يد ملاخي ..." (ملاخي 1: 1)

وإذا ما تحرينا بدقة عن معنى كلمة "نبي" أو في معنى "كليم" فإننا نرى بأنها لا تعني متكلم بصورة عامة، بل بطريقة فائقة، أي أن النبي كان بالحقيقة كليم الله. والنبي لا يأخذ على عاتقه أن يتكلم من قبل نفسه. وكونه نبياً لا يعود إلى انتقائه بنفسه هذه الدرجة الرفيعة، بل إنما إلى إجابته للدعوة الإلهية، ومراراً أطيعت هذه بتردد، لأن النبي لم يكن مقتنعاً بقدرته على أداء رسالته. وكان النبي يتكلم أو يحجم عن الكلام كما كان الرب يعطيه أن ينطق.

من ناحية أخرى يجب أن نلاحظ أن الله في دعوته العليا للأنبياء الحقيقيين طرح أحد التحذيرات ضد أولئك الذين يأخذون على عاتقهم أن يتكلموا بدون الدعوة الإلهية. "وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاماً لم أوصيه أن يتكلم به أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي" (سفر التثنية 18: 20) وفي سفر حزقيال النبي نلاحظ هذا الإنذار العنيف "ويلٌ للأنبياء الحمقى الذاهبين وراء روحهم ولم يروا شيئاً!" إنه لأمر خطير بأن يأخذ إنسان على عاتقه الادعاء بأنه يتكلم عن الله العلي! ومع ذلك فكم هو شائع عند النقاد الهدامين في يومنا هذا أن ينكروا هذا البيان أو ذلك في الكتاب المقدس أو أن يقترحوا وجوب اختصار الكتاب المقدس أو إيجاد كتاب حديث يتألف من مؤلفات بشرية معاصرة. 

2- شهادة السيد المسيح للعهد القديم

اعتبر الرب يسوع المسيح العهد القديم كتاباً موحى به كلياً من الله، وقد اقتبس منه مراراً وبنى عليه تعاليمه. ومن تصريحاته في هذا القبيل ما نراه في الإنجيل حسب (يوحنا 10: 35)، فعندما كان يتحاور مع اليهود نجده يدافع عن وجهة نظره بالرجوع إلى العهد القديم. فبعد أن اقتبس بياناً عن الكتاب أضاف هذه الكلمات الهامة "ولا يمكن أن ينقض المكتوب" والسبب الذي يجعل الالتجاء إلى الكتاب يستحق الاهتمام، إن كان من قِبَل المسيح أو من قبلنا هو أنه لا يمكن أن ينقض. والكلمة المعربة هنا "ينقض" هي الكلمة المستعملة لنقض شريعة، وتعني إبطال أو إنكار أو مقاومة سلطانها.

وكون يسوع المسيح قد اعتبر كل الكتاب ككلمة الله بالذات هو ظاهر من فقرات كالتي في الإنجيل حسب (متى 19: 4). فقد سأله بعض الفريسيين عن قضية الطلاق فكان جوابه: "أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكراً وأنثى، وقال من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً ... فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان". فهنا يصرح الرب يسوع بكل جلاء أن الله هو مؤلف الكلمات الواردة في (سفر التكوين 2: 24) "الذي خلقهما ... قال ويترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته" ومع ذلك فعندما نقرأ هذه الكلمات في العهد القديم لا نلاحظ ما يخبرنا بأن هذه كلمات الله بصورة مباشرة. إنها مقدمة لنا ككلمات الكاتب نفسه أو كلمات النبي موسى، ويمكن أن تنسب إلى الله كمؤلفها فقط على أساس أن كل الكتاب هو كلمته. ونلاحظ نفس هذا التعليم في الإنجيل حسب (مرقس 10: 5-9). فكلما اقتبس الرب يسوع المسيح أو أحد الرسل من العهد القديم فإنهم كانوا يشددون على أن ما يقتبسون إنما هو صوت الله الحي بالذات، ومن ثم ذو سلطة إلهية خاصة.

فيما يلي بعض الأعداد التي تتعلق بهذا الموضوع:

"يا مراؤون حسناً تنبأ عنكم أشعياء النبي قائلاً: يقترب إلي هذا الشعب بفمه ويكرمني بشفتيه وأما قلبه فمبتعد عني بعيداً" الإنجيل حسب (متى 15: 7-8).

"لأن موسى يكتب في البر الذي بالناموس أن الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها ... لكني أقول ألعل إسرائيل لم يعلم؟ أولا موسى يقول: أنا أغيركم بما ليس أمة، بأمة غبية أغيظكم. ثم أشعياء يتجاسر ويقول وجدت من الذين لم يطلبوني وصرت ظاهراً للذين لم يسألوا عني". (الرسالة إلى رومية 10: 5و19و20).

وعندما وبخ الرب يسوع المسيح الصدوقيين قال لهم "تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله" الإنجيل حسب (متى 22: 29). فالشيء الذي يوضحه الرب هو أن ضلالهم ناتج ليس عن إتباعهم لتعاليم الكتب، بل عن عدم تعاطيهم لتعاليمها. فالذي يؤسس عقيدته وسلوكه على كلمة الله لا يضل. واللجوء إلى الكتاب المقدس كان شائعاً بصورة شاملة وسلطته كانت مقبولة بشكل واضح لدرجة أنه في حالة أعنف جدال لم يحتج الرب يسوع إلى أي سلاح آخر سوى الكتاب، "إنه مكتوب!" انظر الإنجيل حسب (متى 4: 4و7و10) الإنجيل حسب (لوقا 4: 4و8). وكلمات الرب الأخيرة قبل صعوده إلى السماء تضمنت توبيخاً للتلاميذ لأنهم لم يفهموا كل الأمور التي كانت قد كتبت والتي كانت "يجب أن تكمل" الإنجيل حسب (لوقا 24: 44) فإذا كان قد كتب بأن المسيح كان يجب أن يتألم ويحتمل تلك العذابات التي واجهها، لم يكن هناك داعٍ للشك، فقد كان على التلاميذ الثقة بصحة ذلك الكلام دون تردد.

من هنا فإن قبولنا لسلطة وصدق العهد القديم إنما أساسه قبول السيد المسيح نفسه، فهو يسلمنا إياه ويخبرنا بأنه كلام الله وأن الأنبياء تكلموا بواسطة الروح القدس، وأن الكتاب المقدس لا يمكن أن ينقض. والرب يسوع باقتباساته العديدة من العهد القديم وحده بصورة عفوية ومباشرة بالعهد الجديد بحيث أصبحا الآن يشكلان كتاباً واحداً. فالعهدان ليس لهما إلا صوت واحد، ويجب أن يثبتا أو يسقطا معاً!

3- اعتماد العهد الجديد للاقتباس من العهد القديم

لقد رأينا أن الرب يسوع المسيح تمسك بأن العهد القديم برمته كان معصوماً عن الخطأ، وسوف نرى الآن أن الرسل شاطروه هذا الإيمان. وهم يقتبسون عن العهد القديم بكل سهولة ناظرين إلى اقتباساتهم ككلمة الله بغض النظر عن كون الكلمات الأصلية منسوبة إليه تعالى مباشرة أم لا، وطريقتهم ترينا أن الله كان معتبراً المتكلم في كل أسفار العهد القديم. ففي (الرسالة إلى العبرانيين 3: 7) يقتبس الكاتب كلمات صاحب المزمور ناظراً إليها ككلمات الروح القدس:

"لذلك، كما يقول الروح القدس، اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في الإسخاط يوم التجربة في القفر" (مزمور 95: 7)

وكذلك في (سفر الأعمال 13: 35) نرى أن كلما داوود في (المزمور 16: 10) ينسبها الرسول بولس إلى الله:

"ولذلك قال أيضاً في مزمور آخر: لن تدع قدوسك يرى فساداً".

وفي (الرسالة إلى رومية 15: 11) ينسب أيضاً كلام داوود إلى الله:

"سبحوا الرب يا كل الأمم، حمدوه يا كل الشعوب" (مزمور 117: 1).

وفي (أعمال الرسل 4: 24و25) ينسب الرسل كلمات المزمور الثاني إلى الله:

"أيها السيد أنت هو الإله الصانع السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، القائل بفم داوود فتاك: لماذا ارتجت الأمم وتفكر الشعوب بالباطل؟".

ونلاحظ نفس التعليم بخصوص مزمورين آخرين في (الرسالة إلى العبرانيين 1: 7و8)، وفي (رومية 15: 10) ينسب كلام موسى إلى الله تعالى:

"ويقول أيضاً تهللوا أيها الأمم مع شعبه" (تثنية 32: 43).

كل هذه الاقتباسات تظهر بوضوح أن الرب يسوع المسيح والرسل اعتبروا أن آيات العهد القديم هي نفسها صوت الله الحي بالذات.

4- شهادات كتبة العهد الجديد أنفسهم بخصوص ما كتبوه

عندما نفحص شهادات كتبة العهد الجديد بخصوص كتاباتهم الخاصة نراهم يصرحون بأنهم قد أخذوا وحياً من الله ولذلك لا يترددون في وضع كتاباتهم على مستوى أسفار العهد القديم. وقد أخذوا من الرب يسوع وعداً بإرشاد خارق للطبيعة:

"فما أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون به. لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي فيكم" الإنجيل حسب (متى 10: 19و20) وانظر أيضاً الإنجيل حسب (مرقس 3: 11) و(لوقا 12: 11و12). وهذا الوعد تكرر عند نهاية خدمة المسيح في الإنجيل حسب (لوقا 21: 12-15). والوعد الاهم موجود في الإنجيل حسب (يوحنا 16: 13):

"وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق".

والرسل فيما بعد تكلموا عن هذا الإرشاد ولم يكن عندهم أي شك في أن ما يتكلمون به هو الحق بالذات سواء من جهة الأمور التاريخية أو العقائدية. والفرق هو أن المؤرخين الذين كتبوا التاريخ سجلوه كوقائع، أما الرسل فقد كتبوا وتكلموا بسلطان. فبولس مثلاً قدم الإنجيل كسلطة عظيمة حتى أنه اعتبر كل من خالف تعاليمه لم يكن فقط مخطئاً بل ملعوناً:

"ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيماً" (غلاطية 1: 8) (أناثيماً = ملعوناً).

كانت وصايا وتعليمات الرسل من الله وكانت تعطى بسلطة ملزمة: "... ما أكتبه إليكم هو وصايا الرب" (الرسالة الأولى إلى كورنثوس 14: 37) راجع أيضاً (الرسالة الثانية إلى تسالونيكي 3: 6و12). وعندما كتب الرسول بولس إلى أهل كورنثوس ميز بين الوصايا التي كان الرب قد أعطاها والوصايا التي صدرت عنه، ولكنه وضعها على مستو واحد: (الرسالة الأولى إلى كورنثوس 7: 10و12و40). وكذلك صرح بأن ما بشرنا به كان بالحقيقة "كلمة الله" (الرسالة الأولى إلى تسالونيكي 2: 13). ويمكننا أن نلاحظ أيضاً طريقته السهلة في مزج سفر التثنية بالإنجيل حسب لوقا تحت العنوان المشترك "الكتاب" كأن ذلك هو شيء طبيعي في (الرسالة الأولى إلى تيموثاوس 5: 18):

"لأن الكتاب يقول: لا تكم ثوراً دارساً، والفاعل مستحق أجرته" انظر (تثنية 25: 4) و(لوقا 10: 7).

وفي (الرسالة الثانية إلى تيموثاوس 3: 16) نقرأ ما يلي:

"كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر".

إن الكلمة اليونانية المعربة بـ "موحى" هي "من روح الله" (ثيوينوستوس) أو "كونت من قبل روح الله الخالق" أو "معطاة من قبل الله". لا يوجد أي تعبير آخر في اليونانية يعرض أمر المصدر الإلهي للكتاب المقدس بتأكيد أكثر.

في رسالتي الرسول بطرس نجد نفس التقدير العظيم لكل من أسفار العهد الجديد. فهو يقول مثلاً في (الرسالة الثانية 1: 21) "لأنهم لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسين مسوقين من الروح القدس" (الكلمة المعربة بـ /مسوقين/ تعني حرفياً محمولين).

وفي (الرسالة الأولى 1: 12) يقول: "الذين أعلن لهم (أي كشف للرسل) أنهم ليسوا لأنفسهم بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور التي أخبرتم بها أنتم الآن بواسطة الذين بشروكم في الروح القدس المرسل من السماء التي تشتهي الملائكة أن تطلع عليها".

ويصرح أيضاً بأن كتابات بولس الرسول هي على نفس المستوى من الاهمية مع بقية الكتب المقدسة (الرسالة الثانية لبطرس الرسول 3: 15و16):

"واحسبوا أناة ربنا خلاصاً، كما كتب إليكم أخونا الحبيب بولس أيضاً بحسب الحكمة المعطاة له، كما في الرسائل كلها أيضاً متكلماً فيها عن هذه الأمور التي فيها أشياءٌ عسيرة الفهم يحرفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب لهلاك أنفسهم".

يقول لوقا البشير أن التلاميذ ابتدءوا يتكلمون في يوم الخمسين "كما أعطاهم الروح القدس أن ينطقوا" (أعمال الرسل 2: 4). والرسول يوحنا يدعو باللعنة على كل إنسان يتجاسر أن يحذف من أو يزيد على كتاباته (الرؤيا 22: 18و19). لو كانت تلك التصريحات مبنية على سلطة بشرية فقط لكانت أظهرت وقاحة لا نظير لها.

إنه من المستحيل التخلص من الآيات التي لا تحصى ولا تعد والتي تعلم كلها الوحي التام للكتاب المقدس. والرأي القائل بأنه من الممكن أن تفسر هذه الآيات بطريقة تجردها من معناه القوي هو رأي مبني على التصور بأن هذه العقيدة موجودة فقط في آيات منفردة هنا وهناك! ونحن لا ننكر بأن بعض الآيات تعلم هذه العقيدة بوضوح فوق العادة، وتلك هي التي يراد في بعض الأحيان التخلص منها. ولكن هذه الفقرات ليست سوى ذروة الشهادة المتدرجة والنافذة في كل أجزاء الكتاب والتي تشهد لكونه من مصدر إلهي ولذلك فهو غير قابل للخطأ. وبهذا الصدد قال أحد علماء اللاهوت المؤمنين:

"إن الجهد الذي يبذله البعض للتخلص من شهادة الكتاب المقدس بخصوص الوحي التام ليذكرنا برجل واقف بكل أمان وسط مخبره وهو يشرح بإسهاب وربما بواسطة رسوم وجداول حسابية كيف أن كل حجر معرض للانهيار والسقوط من قمة الجبل على طريق، له مسار معين وأنه يمكن لإنسان منتبه أن يدرأ خطره! ويمكننا أن نتصور نشوة الإعجاب بالنفس التي تخيم على وجه هذا المدّعي وهو يحلل مسار كل حجر معرض للسقوط، ويبرهن نظرياً بأن لكل حجر ممره الخاص وأنه من السهل تجنبه. ولكنه لسوء الطالع لا نرى في الواقع الجرف الساقط يأتي إلينا حجراً حجراً معطياً إيانا بكل أدب ولياقة، الوقت الكافي للانسحاب من ممر كل حجر بل إنه ينقض علينا فجأة في كتلة صاخبة ومهلكة.

وهكذا قد يستطيع المتشكك أن يتخلص من معنى آيات كتابية معينة تعلم عقيدة الوحي التام دون أن يهتم بعلاقتها ببقية الكتاب المقدس. ولكن هذه الآيات لا تأتي علينا في هذا الانفراد المصطنع، وليست قليلة العدد! هناك العشرات بل المئات منها، وهي تطبق علينا بشكل إجماعي! أنفسرها بتجريدها عن معناها الطبيعي؟ إذ ذاك علينا تفسير العهد الجديد بكامله بتجريده من معناه! كم يدعو إلى الإشفاق كوننا لا نقدر أن نرى ونشعر بركام الآيات التي نرزح تحتها بالوضوح الذي يمكننا أن نرى ونشعر به بركام الحجارة! فلا نحجم عندئذ عن فتح أعيننا لشهادة العهد الجديد عن الوحي التام للكتاب المقدس، ولا نعود نتعجب لقبول الكنيسة الأولى هذه الأسفار ولتشبثها بها تشبثاً لا يعرف التردد".

  • عدد الزيارات: 3622