Skip to main content

الفصل الأول: مفهوم الوحي في الكتاب المقدس

إن الإجابة على السؤال "ما هي المسيحية" يتعلق لدرجة كبيرة بوجهة نظرنا من الكتاب المقدس. فإن كنا نعتقد أنه كلمة الله تماماً ومعصوم عن الخطأ، فإننا نأتي بمفهوم واحد للدين المسيحي، ولكن إن كنا نعتقد أن الكتاب المقدس هو مجموعة كتابات بشرية فحسب –كتابات قد يعلو شأنها من الناحية الروحية والأخلاقية على الكثير من الكتب الأخرى، ومع ذلك يحتوي على أخطاء كثيرة- فإننا نأتي بمفهوم آخر للمسيحية، إذا كان يمكننا عندئذ أن ندعو ما عندنا مسيحية. ولذلك لا يمكننا أن نغالي في تقدير أهمية العقيدة الصحيحة بخصوص الوحي والكتاب المقدس.

وفي كل أمور المجادلات بين المسيحيين يُرجع إلى الكتاب المقدس كمحكمة الاستئناف العليا. وبالفعل لعب الكتاب المقدس دور السلطة المشتركة في العالم المسيحي. ونحن نؤمن بأنه يتضمن نظاما واحداً وتاماً للتعليم، وأن كل أجزائه هي مطابقة لبعضها البعض، وإنه من واجبنا أن نتبع هذه المطابقة ببحث دقيق في معاني الفصول الخاصة، ولقد اتكلنا على هذا الكتاب بدون تحفظ وبنينا عليه عقائدنا وتأكدنا بأنه كلمة الله وبأنه قد حفظ نقياً وكاملاً في كل الأجيال بعناية الله الفائقة. وهو الكتاب الموحى به من الله والدستور الوحيد للإيمان والحياة.

وكون مسألة الوحي قضية ذات أهمية حيوية للكنيسة المسيحية أمر واضح للغاية. فإذا كان عندنا مجموعة من الكتب المقدسة محددة وذات صلة نهائية أصبح العمل لصيغة عقائدنا سهلاً نسبياً. فكل ما علينا عندئذ هو أن نفتش في الكتاب المقدس على العقائد ونصيغها في قوانين إيماننا بشكل منطقي. ولكن إن لم تكن الكتب المقدسة متمتعة بسلطة نهائية، وإذا كان من الواجب أن تصحح وتنقح وبعض أجزائها يجب أن يرفض علناً، أصبح عمل الكنيسة شاقاً ولا حد عندئذ للآراء المتضاربة بخصوص غاية الكنيسة أو العقائد التي يجب اتباعها. فلا نتعجب كثيراً إذا رأينا نار الجدال تحتدم حول هذه القضية في هذه الأيام التي تجد المسيحية نفسها في معركة حامية مع قوات الكفر والإلحاد.

ومن الجدير بالملاحظة أن الكنيسة لم تتمسك بعقائدها الأخرى بهكذا إصرار ولم تعلم بهكذا وضوح كما فعلت بعقيدة الوحي. مثلاً كان ولا يزال يوجد فرق في الرأي بين المذاهب من جهة تعاليم الكتاب عن المعمودية والعشاء الرباني والتعيين السابق وعدم إمكانية الخاطئ أن يعمل أعمالاً صالحة والاختيار والكفارة والنعمة. ولكن بما أن الكتاب المقدس يعلم عقيدة الوحي بوضوح بالغ، نرى أن الكنيسة قد اتفقت بحكم فطري على أن الكتاب المقدس هو جدير بالثقة وأن كل تعاليمه هي نهائية.

بينما كانت هذه العقيدة تعد جزءاً لا يتجزأ من الإيمان المسيحي التاريخي، وبما أنها ما زالت إلى اليوم راسخة في قوانين الكنائس، فمن الواضح أن المشككين قد شنوا عليها غارات خطيرة. وربما لم يحدث تغيير بهذا المقدار في تاريخ الكنيسة المعاصر مثل الابتعاد المدهش عن الإيمان بسلطة الكتاب المقدس. حتى أنه في بعض الأوساط الإنجيلية التي كانت في عصر الإصلاح قد اتخذت سلطة الكتاب المقدس كأساس لعقائدها، نشاهد ميلاً كبيراً لإهمال كلمة الله.

هذا الإهمال المعاصر بخصوص التعاليم الصحيحة والكتابية هو على الأرجح السبب الرئيسي للتردد والنزاع الداخلي اللذين يجابهان المؤمنين. فالجهل بخصوص ماهية عقيدة الوحي أو فقدان الآراء الواضحة لا يؤول إلا إلى البلبلة. فالكثيرون اليوم هم مثل أناس أقدامهم على رمل متحرك ورؤوسهم في ضباب لا يعرفون ما هو إيمانهم عن الوحي وسلطة الكتاب المقدس.

وقد ابتدأ الكثير من هذا التردد وعدم الإيمان يخيم على القلوب من جراء ما يسمى بالنقد العالي الذي كان شائعاً في القرن التاسع عشر، ذلك النقد الذي أعطى بعضهم الجرأة على التصريح بأن عقائد الكنيسة التاريخية عن كون الكتب المقدسة موحى بها يجب أن يعدل عنها! فمن ثمَّ السؤال الملح: هل يمكننا بعد أن نظل واثقين بالكتاب المقدس وان ننظر إليه كدليل عقائدي وكمعلم ذي سلطة، أم يجب أن نجد أساساً جديداً للتعليم وبالنتيجة ننشئ نظاماً جديداً بالكلية للعقيدة المسيحية؟

لا يمكننا أن نفسر الوحدة المدهشة للكتاب المقدس على أي أساس آخر غير مصدره الإلهي. فهو من جهة كتاب واحد، ومع ذلك فإنه يتألف من ستة وستين كتاباً اشترك في كتابته لا أقل من أربعين كاتباً، في مدة لا تقل عن ألف وست مئة سنة. والكتاب أنفسهم انتموا إلى طبقات مختلفة في مجتمعهم. فالبعض كانوا ملوكاً وعلماء حاصلين على أفضل ثقافة وعلوم متوفرة في تلك الأيام، وغيرهم كانوا رعاة وصيادي سمك بدون أي ثقافة رسمية. فمن المستحيل أن يكون قد حصل تواطؤ فيما بين هؤلاء الكتاب، ومع ذلك فنحن لا نجد فيما كتبوه سوى نظاماً واحداً في العقائد والأخلاق. إن روح المسيح ووجهة نظره تطغيان على العهد القديم منذ بدايته في سفر التكوين حيث نقرأ بأن نسل المرأة يسحق رأس الحية إلى الناموس الموسوي حيث تشير كل الطقوس والذبائح إلى عمل المخلص، إلى المزامير وكتب الأنبياء حيث يختم النبي ملاخي العهد القديم بهذا الوعد "الرب الذي تنتظرونه سيأتي بغتة إلى هيكله". أما موضوع العهد الجديد بأسره فهو "المسيح المصلوب" وهكذا ليس في حيز الوجود أي كتاب آخر عبر التاريخ البشري يتمتع من قريب أو بعيد بهذه الظاهرة الفريدة التي نجدها في الكتاب المقدس.

وحتى القارئ العرضي يلاحظ البون الشاسع الذي يفصل هذا الكتاب عن الكتب البشرية الأخرى، وكأننا نقرأ "قدُّوس، قدُّوس، قدُّوس على كل صفحة من صفحاته. وعندما نباشر بقراءته نلاحظ تواً انه يكلمنا بسلطان، ونشعر بالفطرة أننا مضطرون إلى الإصغاء. وهكذا نرى أنفسنا مرغمين على السؤال "من أين أتى هذا الكتاب؟" وبما أنه فريد في القوة التي يبديها، سامٍ في المبادئ التي يضعها، وبما أنه يعيد مراراً وتكراراً بأنه من مصدر إلهي، ألا نكون محقين في الإيمان بأن هذا الكتاب هو في الواقع كلمة الله بالذات؟

سنحتاج إلى تعبيرين فيما يتعلق بهذه العقيدة، أولهما "الوحي الكلي أو التام" وثانيهما "الوحي اللفظي أو الكلامي" وهذان التعبيران هما في الحقيقة مترادفان فبالوحي الكلامي نعني أن التأثير الإلهي الذي أحاط بالكتبة القديسين امتد إلى الكلمات التي استعملوها، وليس فقط إلى الأفكار. وبالوحي الكلي أو التام نعني أن تأثير الروح القدس كان تاماً وكافياً وأنه امتد إلى كل أجزاء الكتاب المقدس جاعلاً إياه وحياً من الله ومتمتعاً بسلطة تامة. وهكذا بينما يأتي إلينا الوحي خلال عقول وإرادات الأنبياء فهو مع ذلك كلمة الله في أدق معنى. فالحقائق التي أراد الله أن يكشف عنها نقلت بدقة معصومة عن الخطأ والكتاب كانوا من الله بمعنى أن ما قالوه هم إنما قاله الله.

1- الوحي ضروري لضمان الدقة

لقد انتهينا من القول بأن الوحي امتد إلى الكلمات بذاتها وهذا يبدو طبيعياً عندما نتذكر أن القصد من الوحي هو الحصول على سجل للحقيقة منزه عن الخطأ. فالأفكار والكلمات تتصل إلى هكذا درجة بحيث أن كل تغيير في الكلمات يؤدي إلى تغيير مماثل في الأفكار.

ففي الأمور البشرية مثلاً نرى أن رجل الأعمال يملي رسائله إلى أمين سره في كلماته الخاصة لكي تتضمن معناه بالضبط، فهو لا يكتفي بإعطاء أمين سره فكرة إجمالية عن الأمور الهامة تاركاً إياه لكتابة نصوص رسائله. وهكذا أيضاً لا يكتفي الروح القدس بأن يقول إلى كاتبه اكتب بهذا المعنى، بل إنه يقود الكتبة بشكل تكون فيه الكلمات أيضاً من الله. فالكتاب المقدس يتطرق إلى الكلام عن أمور بعيدة كل البعد عن سعة الحكمة البشرية، مثل طبيعة وصفات الله، أصل وغاية الإنسان، الكون ونهايته، سقوط الإنسان في الخطيئة وحالته الحاضرة العاجزة، تدبير الفداء الذي يتضمن حياة يسوع المسيح وموته وقيامته، أمجاد السماء وعذابات الجحيم. فما يلزمنا إذاً هو أكثر من مراقبة عامة إذا كانت الحقيقة بخصوص هذه المواضيع الهامة ستعطى بدون خطأ أو تغرض. وعدم الوقوع في الخطأ يستلزم أن يختار الله كلماته الخاصة.

كل الذين حاولوا تفسير هذه المواضيع العميقة بدون الرجوع إلى الوحي الإلهي لم ينتهوا بالحقيقة إلا بإظهار جهلهم الشخصي. وما علينا إلا أن ننظر إلى عقائد الشعوب الوثنية أو إلى آراء المتعجرفين من فلاسفة الغرب لكي نجد حدود حكمتنا البشرية والكثيرون من الذين يدعون بأنهم في طليعة مفكري العالم قد شكُّوا في وجود الله وخلود النفس! فالله وحده إذن جدير بأن يتكلم بوضوح وسلطان عن هذه المواضيع. وبالفعل نجد أن الكتاب المقدس يعطينا معرفة كافية عن الله تعالى وعن حالة قلب الإنسان الخاطئ والعلاج الناجع للخطيئة. وهو يعلمنا بأنه لا الشرائع ولا الثقافة يمكنها أن تغير القلب البشري، وأنه لا شيء سوى قوة يسوع الفدائية يمكن أن تجعل الإنسان ما عليه أن يكون.

إن مجرد خبر بشري عن الأمور الإلهية يتضمن بالطبع الكثير أو القليل من الأخطاء، وذلك إما في الكلمات المختارة أو في التشديد النسبي المعطى للأقسام المختلفة من الوحي. وبما أن أفكار معينة تتصل دائماً بمفردات معينة، فانتقاء الكلمات يجب أن يكون دقيقاً وإلا فالأفكار المنقولة تكون ناقصة أو غير صحيحة. فإذا سلِّم مثلاً بأن الكلمات: فداء، كفارة، قيامة، خلود، وغيرها من الكلمات المستعملة في الكتاب المقدس ليس لها معنى محدد، تصبح العقائد المبنية عليها بدون قيمة. ويمكننا أن نلاحظ في استعمال الكتاب المقدس الأهمية التي تعلق على كلمات خاصة، كما ورد في الإنجيل حسب (يوحنا 10: 35) عندما قال الرب يسوع "ولا يمكن أن ينقض المكتوب" أو عندما أجاب الصدوقيين (أي المجموعة اليهودية المتشككة) موجهاً أنظارهم إلى الكلمات التي نطق بها الله عندما ظهر لموسى "أنا إلى إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب" الإنجيل حسب (مرقس 12: 26) أو حينما يعطي الرسول بولس أهمية الوعد الذي قطعه الله مع إبراهيم، حيث الكلمة الهامة أعطيت في المفرد وليس في صيغة الجمع "نسل كأنه عن واحد وليس أنسال كأنه عن كثيرين، وفي نسلك الذي هو المسيح" (غلاطية 3: 16).

ففي كل حالة من الحالات السابقة كانت المحاورة تدور حول استعمال كلمة خاصة، وفي كل حالة كانت تلك الكلمة قاطعة لأنها كانت مدعومة من قبل سلطة نهائية وإلهية.

2- للوحي دور حيوي في مضمون العقيدة المسيحية

إننا بحاجة ماسة إلى اليقين بصدق الكتاب المقدس لكي نستطيع درس العقائد المسيحية بصورة جدية. فإذا كان الكتاب دليلاً ذا سلطان تام وجديراً بالثقة، فإننا إذ ذاك نقبل العقائد التي يصوغها. قد لا نكون قادرين على تفهم كل ما هو في الكتاب، وقد توجد صعوبات كثيرة في عقولنا بخصوصها، ولكننا لا نشك قط بكونها صحيحة. ونحن نعترف بمحدودية المعرفة البشرية ولكننا نؤمن بكل ما كشف الله لنا في الكتاب المقدس. وبالحقيقة أن نجاح المسيحية مرتبط بشكل وثيق بضمان صحة عقيدة الكتاب المقدس عن الوحي، لأن المسيحية الحقَّة ليست سوى ديانة الكتاب الذي أوحى به الله.

فإذا كان عندنا كتاب مقدس يوثق به كقائد عقائدي فمن الممكن وضع نظام كتابي للعقيدة المسيحية، نظام يختلف كل الاختلاف عن النظام الطبيعي أو العقلي. ولكن إذا لم يكن بالإمكان الركون إلى الكتاب المقدس فعلينا البحث عن أساس آخر لعقائدنا، وعلى الأرجح لن يكون ما قد نصل إليه آنذاك أكثر من نظام فلسفي وبشري. وإذا قوضنا أركان الثقة بالكتاب المقدس ككتاب موحى به، نكون قد قضينا على أساس الثقة بالنظام المسيحي. وما لم تقتبس عن الكتاب المقدس ككتاب موحى به من الله فإن سلطته وفائدته للوعظ والتبشير، للتعزية في المرض أو الموت، تكونان قد ضعفتا لدرجة خطيرة. وتصبح العبارة "هكذا قال الرب" مجرد افتراض بشري، ولا نستطيع النظر إليه كقانوننا الفعّال للإيمان والحياة. وإذا لم يكن الاقتباس منه ككتاب موحى به، فقيمته كسلاح في النقاش تكون قد أضعفت لدرجة كبيرة، بل ربما تكون قد أبيدت تماماً، لأنه ما الفائدة من الاقتباس عنه لصد مقاوم إذا استطاع هذا بأن يجيب بأنه ليس للكتاب سلطان؟

3- الوحي هو في اللغات الأصلية

أوحى الله بمحتويات الكتاب المقدس في لغاته الأصلية أي في العبرية والآرامية واليونانية، وحفظه لنا بدون تغيير وتحوير على مر العصور والأجيال. والناسخون أنجزوا نسخهم بدقة فائقة، كما قام المترجمون بعملهم بكل أمانة فعندما نقرأ الكتاب المقدس بالعربية مثلاً فإننا إنما نقرأ كلام الله كما أعطي للأنبياء والرسل. وكم وجب علينا شكر الله تعالى لأجل كون الكتاب المقدس قد وصلنا بهذا الشكل من النقاوة والطهارة الذي تبنته الكنيسة عبر التاريخ.

هذا هو الموقف من سلطة الكتاب المقدس الذي سجل في العقائد الرسمية لعصر الإصلاح. فيما يلي نقتبس من بعضها بعض الفقرات: "نؤمن ونقر ونعلم بأن القانون الوحيد والمقياس الفريد الذي يجب أن تقاس به كل العقائد هو أسفار الأنبياء والرسل في العهد القديم والعهد الجديد".

"نؤمن ونعترف بأن الكتب القانونية للأنبياء والرسل القديسين لكلى العهدين هي كلمة الله الحقة، وإنها تملك سلطة كافية مستمدة من ذاتها وليس من أي إنسان، لأن الله نفسه كلم الآباء والأنبياء والرسل وهو لا يزال يكلمنا بواسطة الكتب المقدسة".

"إن الله قد شاء بأن يعلن ذاته بأنواع وطرق كثيرة وبأن يكشف عن إرادته للكنيسة، وبعدئذ ... أن يسلم هذه بأجمعها لتكتب".

"إن سلطة الكتاب المقدس الذي يجب أن نؤمن به وأن نطيعه، لا تتعلق بشهادة أي إنسان أو كنيسة بل تُستمد بمجملها من الله نفسه -الذي هو الحق بالذات- الذي هو المؤلف، ولذلك يجب أن يقبل لأنه كلام الله".

إن العهدين القديم والجديد "قد أُعطيا مباشرة بوحي من الله وقد حفظا نقيين في كل الأجيال بواسطة العناية الإلهية".

وفي الأزمنة الحديثة اتخذ هذا الموقف الإنجيلي الأساتذة المؤمنون في عدة معاهد لاهوتية شهيرة. هؤلاء قد تمسكوا بأن الكتاب المقدس لا يتضمن كلمة الله فحسب كما تشمل كومة من التبن على القليل من القمح، بل أن الكتاب هو كلمة الله في كل جزء من أجزائه.

  • عدد الزيارات: 9577