6- الصليب ضرورة لأنه الواسطة التي صالح بها الله خليقته
قال أيوب في عمق بلواه وهو يتحدث عن إحساسه من نحو الله ((لأنه ليس إنسانا مثلي فأجاوبه فنأتي جميعا إلى المحاكمة ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا)) أيوب 32:9 و33 , وكأن أيوب وهو يفكر في جلال الله , وقداسته , يحس بأنه كانسان خاطئ لا يستطيع الاقتراب إليه فيتمنى أن يأتي ذلك المصالح الذي يضع يده على يد الله , ويضعها كذلك على يده ويصالحه مع الله , ولاشك أن الشخص الذي تاق أيوب إلى مجيئه , لابد أن يكون إلها كاملا ليضع يده على يد الله , وإنسانا كاملا ليضع يده على يد الإنسان , أي أن يكون وسيطا إلهيا يصالح الإنسان مع الله !!
ولقد جاء هذا المصالح و ومات على الصليب , وتحدث عنه بولس قائلا ((ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصالحة أي أن الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وواضعا فينا كلمة المصالحة
اذاً نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه)) 2 كو 18:5-21 وقد يتبادر إلى الذهن أن المسيح بموته على الصليب قد أزال العداوة التي في قلب الله من نحو البشر , وقرب الله إلى الناس , وهذا فكر خاطئ من أساسه ذلك لأن ((الله محبة)) وهو لم يبغض خليقته في يوم من الأيام , ولم يشعر نحوها قط بإحساس العداء ولكنه قد أبغض الخطية لأنه يعرف ما عملته بالجنس البشري , وكيف خربت حياة الناس وقادتهم إلى الهلاك الأبدي !! وموقف السيد له المجد وهو يمر على مدينة أورشليم قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها , يرسم لنا صورة واضحة للمحبة الباكية و التي ترى عناد البشرية , وترى النهاية المريعة الآتية كنتيجة لهذا العناد فلا يسعها إلا أن تبكي , وهذا هو ما نقرأه في إنجيل لوقا ((وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلا انك لو علمت أيضا حتى في يومك هذا ما هو لسلامك ولكن الآن قد أخفى عن عينيك فانه ستأتي أيام ويحيط ك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً على حجر لأنك لم تعرفي زمان افتقادك)) لو 41:19 -44فهذه الدموع التي ذرفها المسيح على المدينة التي لم تعرف زمان افتقادها هي دموع المحبة الباكية على الخاطئ المسكين الذي لا يعرف نهايته المفزعة , فالله يحب الخاطئ , ويكره الخطية , ولكن الإنسان يحب الخطية , ويقف موقف العداء من الله حتى أنه يقول له في تبجحه ((أبعد عنا وبمعرفة طرقك لا نسر))
لهذا جاء الله المحب في المسيح , ليعلن للناس عواطف قلبه , حتى إذا رأى الناس هذا الحب الإلهي وقد تمثل في صورة بشر , وتحمل لأجلهم الألم والعذاب , ومات موت الصليب , تزول العداوة التي في قلوبهم من نحو الله فيسعون إلى الاقتراب إليه
وجدير بنا أن نلاحظ أن الإنسان لم يسع من جانبه لمصالحة اله بل أن الله هو الذي ((كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم))
سأل أحدهم مستر جرينفلد : هل تقدر أن تخبرني عن السبب الذي من أجله دعي يسوع المسيح كلمة الله ؟ أجاب مستر جرينفلد قائلا : أظن أنه كما أن الكلمات هي واسطة التفاهم بين الناس , استعمل الوحي الإلهي هذا التعبير ليوضح لنا بأن المسيح هو واسطة التفاهم بين الله والناس ! ((لأنه يوجد اله واحد ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح الذي بذل نسه فدية لأجل الجميع)) 1 تي 5:2 يقيناً أنه لأجل مصالحتنا مع الله جاء يسوع ومات على الصليب
وقد حدثنا دكتور ((جويلبويد)) عن رجل عذّب زوجته عذاباً شديداً قبل تجديده , فلما تجدد كان أول ما نطق به بعد عبارات الشكر لله أن قال ((الآن علي أن أذهب لمصالحة زوجتي)) لقد ذاب العداء الذي في قلبه من نحو زوجته , وأحس أنه يجب أن يعود للاعتذار لها عن ما بدر منه في حقها !! وهذا هو المعنى المقصود بالمصالحة مع الله , ففي اللحظة التي يرى فيها الإنسان آلام المسيح المصلوب , يذوب العداء الذي في قلبه ضد الله ويسرع إلى المصالحة معه , معترفاً له بخطيته , وعازماً أن يعيش الحياة التي ترضيه , ويبدو هذا المعنى واضحاً في كلمات الرسول التي وجهها إلى القديسين والأخوة في كولوسي قائلا : ((لأنه فيه سر أن يحل كل الملء وأن يصالح به الكل لنفسه عاملا الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم ما في السموات وأنتم الذين كنتم قبلا أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة قد صالحكم الآن في جسم بشريته بالموت)) كو 19:1 -21
ثم يوضح غرض هذه المصالحة العظمى قائلا ((ليحضركم قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه)) كو 22:1 فالمصالحة اذا تعني وجهين : الوجه الأول : هو إزالة العداء من قلب الإنسان , والوجه الثاني : هو تغيير حياة الإنسان من الأعمال الشريرة , إلى الحياة التي بلا لوم ولا شكوى أمامه بما يتفق مع قداسة الله , وهكذا يتمتع الإنسان بالسلام مع الله , ويضم صوته إلى صوت بولس قائلا : ((لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه فبالأولى كثيراً ونحن مصالحون نخلص بحياته وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضا بالله بربنا يسوع المسيح الذي نلنا به المصالحة)) رو 10:5 و 11 وفي ذات الوقت فان هذه المصالحة تحمل معنى ثالثا : هو وجود السلام بين اليهود والأمم كما يقول الرسول : ((لذلك أذكروا أنكم أنتم الأمم قبلا في الجسد المدعوين غرلة من المدعو ختانا مصنوعا باليد في الجسد أنكم كنتم في ذلك الوقت بدون مسيح أجنبيين عن رعوية إسرائيل وغرباء عن عهود الموعد لا رجاء لكم وبلا اله في العالم ولكن الآن في المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلا بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً وتقض حائط السياج المتوسط أي العداوة مبطلا بجسده ناموس الوصايا في فرائض لكي يخلق الاثنين في نفسه إنسانا واحدا جديدا صانعا سلاما ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلا العداوة به)) أفسس 11:2-16.
فالمسيح بموته على الصليب قد جعل اليهود والأمم واحداً , ليس بجعله اليهودي أمميا أو الاممي يهوديا , بل بأن أنسي اليهودي يهوديته وأنسي الاممي أمميته وصار الاثنان يذكر أنهما مسيحيان قبل كل شيء , وفوق كل شيء, ويقول رجل من رجال الله في تفسيره لهذه الآيات ((لسنا ندري هل وجدت بين العوامل الطبيعية مادة تصهر معدنين متباينين فتصيغ منهما معدنا واحداً , لكننا نعلم علم اليقين أن المسيح قد استطاع بدمه الثمين أن يصوغ من اليهود والأمم – الذين لا يقبلان تمازجاً بطبيعتهما – معدنا واحداً صافيا , إذا أمعنت النظر فيه ألفيته عنصراً واحداً , لكن السيد عمل هذا بنقضه لحائط السياج المتوسط الذي كان بين اليهود والأمم , ولكي نفهم المراد من هذه العبارة , يجب أن نرجع بأفكارنا إلى الحالة التي عليها الهيكل وقت كتابة هذه الكلمات , فمن المسلم به أن هيرودس الأكبر أضاف إلى الهيكل قطعة فسيحة من الأرض كانت مؤلفة من دار متداخلة في دار , حتى تصل إلى القدس , ومنه إلى قدس الأقداس , وكانت كل دار تزيد في درجة ((القدسية)) عن الدار الخارجة عنها , حتى تنتهي إلى ((قدس الأقداس)) الذي لا يسمح بدخوله إلا لرئيس الكهنة وحده , مرة واحدة في السنة , وأما القدس فكان يسمح للكاهن بدخوله يوميا ليحرق البخور على مذبح المحرقة وقت تقديم ذبيحتي الصباح والمساء , وكانت تقدم هاتان الذبيحتان في دار الكهنة على مذبح المحرقة , وخارج هذه الدار , داران أخريان : أحدهما , وهي الملاصقة لدار الكهنة مباشرة تسمى ((دار بني إسرائيل)) والثانية و وهي خارج الأولى شرقا تسمى ((دار النساء)) كل هذه الأمكنة , قدس الأقداس , والقدس , ودار الكهنة , ودار بني إسرائيل , ودار النساء , كانت مقامة على مستوى عال حسا ومعنى , ينتهي في عدة مواضع منه إلى خمس درجات تؤدي إلى أبواب مفتوحة في جدار مرتفع , تتصل به منصة ضيقة تشرف على دار خارجية فسيحة , وهذه الدار الخارجية كانت مخصصة للأمميين الذين يريدون أن يجتلوا محاسن أمجاد هيكل اليهود , أو أن يقدموا ذبائح وتقدمات لإله إسرائيل و ولكن لم يكن مسموحا لهم أن يتخطوا هذا ((الحائط)) الذي كان يفصل هذه الدار عن الهيكل وكل من تحدثه نفسه باقتحام ذلك الحائط يقع تحت طائلة الإعدام , ومبالغة في التحوط , لمنع الأمم من أن يمسوا الجدار المرتفع ذا الأبواب أقام اليهود حائط سياج منحوتا من حجر , مطوقا أبنية الهيكل , يبلغ ارتفاعه نحو خمسة أقدام , هذا السياج الذي قصده بولس وحدثنا عنه يوسيفوس في ((سفر الأثار)) , وحائط السياج المتوسط هذا لم يكن موجوداً في الهيكل فقط , بل كان قائماً في قلوب اليهود فمنع دخول الأمم إليهم , لكنه زال مذ أن انشق حجاب الهيكل والمسيح معلق على الصليب , وهكذا تصالح اليهود والأمم في صليب المسيح , وصارا إنسانا واحداً جديداً , رمز للإنسانية الجديدة الموحدة التي لا مجال فيها للخلاف الذي توجده الجنسية , ولا للعداء الذي يسببه اللون , ولا للمشاحنة التي يولدها المذهب , ومن ثم صالح المسيح الاثنين اليهود والأمم – بعد أن أزال علة عداوتهما – وهو ناموس الوصايا في فرائض , أي الناموس الطقسي الذي أقام منه اليهود سوراً منيعاً فصل بينهم وبين الأمم , فاليهود كانوا يتورعون عن أن يمسوا شيئاً في الأسواق العامة متى علموا أن يداً أممية مسته لئلا يتنجسوا , وكانوا يأنفون أن يأكلوا على مائدة واحدة مع شخص أممي لئلا يتلوثوا , فجعلوا من هذه الفرائض حصناً منيعاً تحصنوا وراءه ضد الأمم , فامتلأت قلوبهم بالعداء لهم))
وقد أزال المسيح بموته على الصليب هذا الناموس الطقسي , ثم صالح الاثنين مع الله بالصليب قاتلا العداوة به !! ومن يستطيع أن يعي معنى هذه المصالحة الكبرى ولا يرقص قلبه طربا
يحدثنا دكتور سكوفيلد في إحدى عظاته عن حادثة مؤثرة حدثت في حياة تشارلس فني ! كان فني يعقد سلسلة اجتماعات , وفي ختام أحدها جاءه رجل ترتسم عليه علائم الشقاء , وصافحه ورجاه أن يزوره في بيته , لكن أحد الأصدقاء نصح فني أن لا يذهب لأن الرجل شرير خطير , لكن ((فني)) عزم على أن يبر بوعده وذهب مع الرجل حتى وصلا إلى البيت , ففتح الرجل الباب وأدخل مستر فني , ثم أغلق الباب بالمزلاج , وأخرج ((مسدسا)) من جيبه وأشهره في وجه ((فني)) وقال : قتلت أربعة بهذا ((المسدس)) وأنت ستكون الخامس إن لم تعطني إجابة شافية عن أشياء سأسألك عنها :
1- قتلت في شري وأثمي أربعة رجال , وقد الوقت الذي يستطيع القانون أن يحاكمني فيه , لكن ضميري ثائر على ! فهل من علاج ؟ أجابه مستر فني قائلا ((دم يسوع المسيح يطهر من كل خطية))
2 – إني أدير حانة , قدت الكثيرين من الذين دخلوها إلى البؤس والشقاء , وأنزلت بالكثيرين منهم إلى الخراب والدمار , فمن نجا بثيابه لم ينج بصحته فهل من علاج ؟ فأجابه مستر فني قائلا ((دم يسوع المسيح يطهر من كل خطية))
3 – في حانتي مكان للقمار , صفت فيه الموائد الخضراء للمقامرين المغرورين فمن خرج ببعض المال من حانة الخمر , سلبته منه على موائد القمار فهل من علاج ؟ قال فني : ((دم يسوع المسيح يطهر من كل خطية))
4 – وتابع الرجل حديثه قائلا : ((منذ ثلاث عشرة سنة تزوجت من امرأة فاضلة رزقت منها ابنة عمرها الآن إحدى عشرة سنة اسمها ((مرغريت)) وأنزلت بزوجتي وابنتي أقسى أنواع العذاب ! قد خدعت زوجتي قبل الزواج موهما إياها بأنني وكيل لإحدى الشركات ! فهل من علاج ؟ وأجاب فني ((دم يسوع المسيح يطهر من كل خطية))
5 – وسكت الرجل لحظة ثم عاد يقول : هناك سؤال أخيرياً يا مستر فني , أشعر بعد أن سمعت كلامك بأنني يجب أن أتصالح مع الله , وأخرج العداء الذي في قلبي من نحوه ! فهل من علاج ؟
وأجاب فني : ((دم يسوع المسيح يطهر من كل خطية))
مد المجرم الخطير يد فني مصافحا , وفتح له الباب للخروج
وفي الصباح الباكر رؤى ذلك الرجل , وهو يحطم المرايا , والزجاجات , وموائد القمار , ويعلن أنه أغلق حانته الرهيبة إلى الأبد ثم يتجه إلى بيته ليعتذر لزوجته عن ما سببه لها من آلام ! ومن ذلك الوقت صار بيته جنة فيحاء وامتلأ قلب زوجته بالهناء , وضاع كل إحساس بالخوف وكل شعور بالشقاء من قلب ابنته التي كانت جميلة كالزهرة البيضاء ! وتصالح الرجل مع الله وأصلح صلاته مع الناس وكل ذلك حدث بقوة الصليب الذي صالح به الله خليقته
- عدد الزيارات: 3717