Skip to main content

1- الصليب ضرورة لأنه وفق بين عدل الله ورحمته

يتساءل الكثيرون مراراً عن الضرورة القصوى التي جعلت كل آلام المسيح أمرا مقضياً , فمن قائل ((ألم تكن مجرد كلمة من الله بكافية أن تغفر كل الخطايا ؟)) إلى سائل ((أليس الله هو الغفور الرحيم فلماذا يطلب ذبيحة كقارية حتى يغفر خطايا البشر ؟)) إلى متسائل ((كيف يكون الله محبة ثم يرضى بعذاب المسيح البريء على الصليب ؟)) وليس في مقدور أحد أن يجيب عن هذه الأسئلة إلا إذا عرف صفات الله جل وعلا , فمن هو ذلك الشخص الذي رأى الله حتى يخبرنا تماماً عن صفاته ؟ لقد أراد موسى أن يرى الله وقال له ((أرني مجدك)) , لكن الله أجابه قائلاً ((لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش)) خر 18:33و20 إذن كيف يستطيع الإنسان أن يعرف الله , وأن يدرك صفاته جلت قدرته ؟

إن السبيل الوحيد هو أن يعلن الله عن ذاته للناس بوحي من السماء هو أن يقول للناس من هو وما هي صفاته !! وبغير هذا السبيل يكون الحديث عن الله مجرد تكهن لا أساس له من الصحة , وهذه هي الحقيقة التي قررها الرسول يوحنا في غرة إنجيله قائلا ((الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو حضن الآب هو خبر)) يو 18:1 وإذن ففي مقدورنا , أن نعرف صفات الله بواسطة التعاليم التي علم بها المسيح له المجد وسجلها البشيرون في كتاباتهم

فما هي صفات الله الواضحة في تعاليم السيد له المجد ؟ إن الصورة المجسمة لهذه الصفات تتمثل في صفتين ((الرحمة)) و ((العدالة)) ففي إنجيل متى نجد رحمة الله ظاهرة في هذه الكلمات ((يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين)) مت 45:5 , بينما نجد عدالة الله واضحة في هذه العبارات ((فان كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم)) مت 29:5 , وبينما تتجلى رحمة الله في دعوة المسيح للمتعبين لنوال الراحة في قوله ((تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم)) مت 28:11 , نرى عدالة الله بارزة في الكلمات ((فكما يجمع الزوان ويحرق بالنار هكذا يكون في انقضاء هذا العالم , يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم ويطرحونهم في أتون النار هناك يكون البكاء وصرير الأسنان)) 40:13-42

وإذ ندخل إلى مقاديس إنجيل مرقس , نرى انه بينما يذخر هذا الإنجيل بأعمال الرحمة , تبدو فيه العدالة بصورة مجسمة في قول المسيح له المجد ((من جدف على الروح القدس فليس له مغفرة إلى الأبد بل هو مستوجب دينونة أبدية)) مرقس 49:3

وعلى هذه الوتيرة نجد هذين الخطين جنباً إلى جنب , في كل الأناجيل , الخط القرمزي المميز لرحمة الله ومحبته , والخط الناري المميز لعدالة الله وقداسته ويبدو هذا جليا في إنجيل لوقا فبينما نقرأ هناك عن قصة الابن الضال التي تمثل حنان الآب وغفرانه , وقصة الفريسي والعشار التي تصور رحمة الله على الخاطئ التائب , وقصة الخروف الضال التي ترينا بحث الله عن الخاطئ الهارب , كذلك نقرأ عن عقاب الله لمن يهملون التوبة والالتجاء إلى رحمته , إذ نقرأ في هذا الإنجيل إجابة السيد له المجد للقوم الذين جاءوا يخبرونه عن الجليليين الذين خلط ببلاطس دمهم بذبائحهم في قوله ((أتظنون أن هؤلاء الجليليين  كانوا خطاة أكثر من كل الجليليين لأنهم كابدوا مثل هذا كلا أقول لكم بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون))لوقا 2:13و3 , وفي مرة ثانية يتكلم المسيح لتلاميذه عن عدالة الله ويظهرها في هذا الحديث ((وأية مدينة دخلتموها ولم يقبلوكم فاخرجوا إلى شوارعها وقولوا حتى الغبار الذي لصق بنا من مدينتكم ننفضه لكم ولكن اعلموا هذا انه قد اقترب منكم ملكوت الله , وأقول لكم انه يكون لسدوم قي ذلك اليوم حالة أكثر احتمالا مما لتلك المدينة)) لو 10:10-12

ويتجلى التعليم عن رحمة الله وعدالته في إنجيل يوحنا , المعروف بأنه إنجيل المحبة فبينما ترن موسيقى رحمة الله ومحبته في الكلمات ((لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد)) يو 16:3 تتجسم عدالة الله في الكلمات ((الذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله)) يو 36:3

وهذا التعليم نفسه يظهر واضحاً في رسالة يوحنا الأولى , ففي الإصحاح الرابع يقول يوحنا ((الرب محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه)) 1 يو 16:4 وفي الإصحاح الأول يقول ((الله نور وليس فيه ظلمة البتة)) إن قلنا أن لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة نكذب ولسنا نعمل الحق)) 1 يو 5:1 و6 فما معنى عبارة  ((الله نور)) إن النور ليس فقط ضد الظلام , لكنه لا يمكن أن يعيش مع الظلام فحيثما يوجد النور يهرب الظلام , فإذا كانت محبة الله ترغب في أن تغفر للخاطئ , لكن ((الله نور)) لا يستطيع أن يحيا مع الخطية أو يحتملها , فالله والخطية لا يمكن أن يوجدا معاً كما يقول حبقوق ((عيناك أطهر من أن تنظرا الشر ولا تستطيع النظر إلى الجور)) حب 13:1 والذين يسلكون في الظلمة لا يمكن أن يكون لهم شركة مع الله , ومن الآية يتوضح لنا السلوك في الظلمة هو حالة الذين يكذبون ولا يعملون الحق , وهؤلاء لا صلة لهم بالله !!

وعلى هذا فالصورة التي يجب أن نرسمها لله في أذهاننا هي : أن الله الرحيم هو أيضا اله عادل ,وأن الله المحب هو أيضا اله قدوس يكره الخطية ! وإذا تركزت هذه الصورة في أذهاننا , فأننا لن نعود إلى سؤالنا القديم ((ألم تكن مجرد كلمة من الله بكافية لأن تغفر كل الخطايا)) إذ أننا سندرك على الفور أن صفات الله الأدبية الكاملة , لا يمكن أن تسمح بغفران الخطية دون أن تنال قصاصها , وقد أعلن الله عن عقاب الخطية في الكلمات ((ها كل النفوس هي لي نفس الأب كنفس الابن كلاهما لي النفس التي تخطيء هي تموت)) حز 4:18 , فالخطية اذاً ليست من السهولة حتى يمكن غفرانها بكلمة دون أن تنال القصاص

وعلى هذا فأن الصليب يبدو ضرورة حتمية للتوفيق بين عدل الله ورحمته !!

وقف أحد خدام الله في ميدان من ميادين لندن , يتأمل تمثال العدل المقام فوق دار محكمة كبرى في ذلك الميدان , وهو تمثال لامرأة معصوبة العينين , تمسك بيدها اليمنى بسيف ذي حدين , وتقبض بيدها اليسرى على ميزان , وهي تمثل العدالة التي لا تحابى بالوجوه , وإنما تحكم بحسب ميزان القانون وعلى مسافة ليست ببعيدة , رأى ذلك الخادم الجليل صليباً مرتفعاً فوق قبة كنيسة ضخمة !!وقف مبهوتاً بين المنظرين , وأشار بيده إلى تمثال العدل وقال:هنا عدالة الله التي تنفذ القانون بغير محاباة !!! هنا الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة ثم أشار إلى الصليب المرتفع وهتف مردداً : وهنا الرحمة المتجسدة التي فتحت الطريق إلى الفردوس المردود , بعد أن أضاع الإنسان فردوسه المفقود

أجل إن الصليب ضرورة لازمة لإظهار رحمة الله , وعدالة الله , فالمسيح عندما مات على الصليب كان بديلا للإنسان الذي تعدى وصية الله , وفيه تلائم العدل والرحمة وظهر بر الله كما يقرر ذلك بولس الرسول وهو يشرح فلسفة الصليب قائلا : ((وأما الآن فقد ظهر بر الله بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون لأنه لا فرق إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله متبررين مجانا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله)) رو 21:3و22-25 فالصليب في نظر بولس كان هو الوسيلة التي بها تعانقت الرحمة مع العدل إذ عليه مات ((الإنسان الثاني يسوع المسيح)) نائبا عن البشرية الساقطة , وكما سقطت البشرية في آدم الأول إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع)) رو 12:5 كذلك أعطيت الإنسانية فرصة لنوال الحياة عن طريق ((الموت)) الذي احتمله المسيح لأجلها , وهذا ما يقرره بولس في الرسالة إلى رومية أيضا قائلا ((لأنه إن كان بخطية واحد مات الكثيرون فبالأولى كثيراً نعمة الله والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين)) رو 16:5 فآدم ممثل البشرية الأول جلب الموت للبشرية , فجاء يسوع المسيح ((الممثل الثاني للبشر)) وحمل هذا الموت في جسده على الصليب , وهكذا حرر كل من يؤمن به من هذا القصاص الرهيب , وهذا ما يؤكده لنا بولس الرسول في كلماته ((الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر الذي بجلدته شفيتم)) 1 بط 24:2 , وبهذه الكيفية ارتاحت رحمة الله وسكنت أحشاء رأفته , بينما أخذ العدل الإلهي حقه كاملا في يسوع المسيح الذي رضى طائعاً مختاراً أن يفدي الإنسان الأثيم , وتمت الكلمة المكتوبة ((الرحمة والحق التقيا البر والسلام تلائما)) مز 10:85

  • عدد الزيارات: 8141