Skip to main content

3- الصليب ضرورة لأنه فتح قلب الله للإنسان وبين له محبته

امتلأ قلب الإنسان بالعداء لله , من يوم أن عصاه وما زال الشيطان يحاول كل يوم أن يزيد هذا العداء البغيض في قلب الإنسان , بتوجيه نظره إلى الجوانب السوداء في الحياة فهو بدلا من أن يفتح عيون الناس على نور الشمس المشرقة , يفتحها لكي تنظر ساهمة إلى ظلام الليل البهيم , وبدلا من أن يريهم جمال الزهور المنثورة على وجه الأرض , يملأ عقولهم بالتفكير في قسوة المرض وضراوة الجراثيم !! وبدلا من أن يوجه أفكارهم إلى غنى رحمة الله , يذكرهم بالظروف السوداء التي تمر بهم في موكب الزمن , وهكذا يرسم صورة قاسية لله , تزيد قلب الإنسان نفوراً , وإحساسه قساوة وجموداً

ويخطئ من يعتقد أن الله قد كره الإنسان بعد أن تمرد عليه , وكسر وصيته , فالحقيقة أن الله قد أبغض خطية الإنسان ! ولا شك أن الله ملتزم أن يقف ضد الخطية , لأن الخطية قد أتلفت أجمل مخلوقاته وهو الإنسان ,وأعمت عينيه عن أن يرى صلاحه العظيم , وملأت بسمومها كل ينابيع كيانه , وحملت إلى الموت والقبر الملايين الكثيرة من الناس , وصنعت السلاسل التي تقيد بها النفوس !! ومن نبعها القذر قد فاض الحزن , والألم , والصراخ , والدماء , والدموع فكيف يمكن لله مع الخطية كأنها أمر زهيد ؟!

لقد كان عليه أن يظهر غضبه على الخطية , فأغرقها بالطوفان في أيام نوح , وأحرقها بالنار في أرض سدوم , فظن البشر أن الله يكرههم هم , مع أنه يقيناً يكره الخطية التي لوثت حياتهم !!

وعندما جاء المسيح ومات على الصليب , لم يأت ليثير الشفقة من نحونا في قلب الله , بل جاء لان الله أحبنا , وهذا ما يقرره بولس الرسول في كلماته ((لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء , مات في الوقت المعين لأجل الفجار , فانه بالجهد يموت أحد لأجل بار ربما لأجل الصالح يجسر أحد أيضاً أن يموت ولكن الله بين محبته لنا لأنه بعد خطاة مات المسيح لأجلنا)) رو 6:5 -8 ومن يدرس الإصحاح الخامس من رسالة رومية يلاحظ أربع صفات للناس الذي أحبهم الله , فهم ((ضعفاء)) و ((فجار)) و ((خطاة)) و ((أعداء)) , ومع هذا كله يبين الله محبته لهم بموت المسيح على الصليب , هذه التضحية الكبرى التي صورها يوحنا في إنجيله الذهبي قائلا ((لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية)) يو 16:3 , ثم أراد أن يجعل المؤمنين يتعمقون في بحرها الطامي فهتف لهم مردداً ((أنظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله)) 1 يو 1:3 أجل إنها محبة يصعب التعبير عنها بلغة البشر أظهرها لنا صليب المسيح الكريم !

حدثنا رجل من رجال الله في بلاد الغرب , عن قصة فتاة اسمها ((ماري)) تركها والدها وهي طفلة ما زالت في المهد , وكانت جميلة مشرقة الوجه , كجمال الورد وإشراقه في وقت الربيع وكانت أمها فقيرة فقراً مدقعاً , لكنها أحبت الطفلة الجميلة وبدأت تكافح من أجلها في الحياة , رضت لنفسها أن تقوم بأحقر الأعمال حتى توفر العيش الهنيء لابنتها المحبوبة , وكبرت الطفلة , ونمت وترعرعت , وسارت سيراً جميلا في مراحلها الدراسية , أنهت التعليم الابتدائي , والثانوي , والعالي , وبدلا من أن ترد الجميل للأم العجوز التي تعبت من أجلها , وكافحت في سبيل تربيتها , تدهورت تدهوراً شنيعاً جداً , وهربت إلى مكان لا تعرفه أمها الحنون

ولم تستطع الأم العجوز أن تنسى ابنتها , كانت تحبها حبا ملك عليها مشاعرها , أحبتها رغم تمردها وشرها وهربها , وشرعت تفتش عنها في كل مكان تعتقد أنها ذهبت إليه , وكان بحثها عن الابنة الضالة يكلفها مالا , فكانت تشتغل في تنظيف البيوت لتحصل على ما يكفيها للقيام برحلة للبحث عن ابنتها لكن جهودها ذهبت دون جدوى كان طيف ابنتها الشاردة يداعب خيالها أثناء النوم , ويمر بذاكرتها وقت النهار كانت تذكر طفولتها البيضاء وشبابها الجميل , وأنوثتها المكتملة , فتذوب شوقا إليها , ويدفعها الحنين إلى أن تسعى في أرجاء البلاد للبحث عنها

أعياها السفر , وأتعبها البحث , وأجهدها التفكير , وأضناها ألم الفراق , فتفتق ذهنها عن حيلة جديدة , قدمت نفسها للخدمة في عدة بيوت , فلما اقتصدت مبلغا كافياً ذهبت إلى مصور مشهور , وطلبت منه أن يلتقط لها صورة وهي في منظر المتوسلة الضارعة وأن يطبع لها من هذه الصورة اثنتي عشرة واحدة من حجم كبير يلفت الأنظار , وأن يعطيها لخطاط يكتب تحت الصورة هذه العبارة ((ما زلت أحبك يا ماري عودي اليّ))

أجاب المصور طلبها , وسلمها الصور , فقامت برحلات إلى كل مكان اعتقدت أن ابنتها قد تذهب إليه , وتوسلت إلى أصحاب الملاهي والمراقص أن يضعوا صورتها هذه في مكان ظاهر , فقد تأتي ماري وتراها فتنكسر أمام حبها وتعود وأشفق أصحاب الملاهي على المرأة العجوز. ووضعوا صورتها في مكان يلفت الأنظار

وفي ليلة ما دخلت ماري إلى مرقص من هذه المراقص , كانت في تلك اللحظة محطمة النفس , ضعيفة الجسم فقد باعت نفسها للشيطان والخطية , ولم تجن منهما إلا الشوك والحسك كان أصدقاؤها قد هجروها , وكان المرض قد بدأ يدب في جسدها , وكانت نفسها قد استيقظت تطالبها بالتوبة والرجوع إلى أمها والى إلهها , وكان ما يقض مضجعها هو : ((هل تقبلها أمها في البيت بعد أن هجرتها ؟ هل تصفح الأم المسكينة عن آثام ابنتها التي ضلت سواء السبيل ؟ آه ! ليتها تستطيع أن تعود إنها بحاجة إلى صدر أمها الحنون , والى قبلاتها الطاهرة , والى كلماتها الرقيقة , والى غفرانها وصفحها لكن هل يمكن؟))

دخلت إلى المرقص وهي تترنح من الألم , واسترعى انتباهها جماعة من الناس يتطلعون في صورة على الحائط , فدفعها الفضول أن تتقدم لنرى , وظلت تقترب وتقترب حتى تبينت صورة أمها , إنها هي ليست في ذلك أدنى ريب , لكن من الذي أتى بصورتها إلى هذا المكان ؟ من الذي وضعها في هذا المكان الظاهر للعيان ؟ واستمرت الفتاة تتأمل الصورة المعلقة أمامها !! هل يمكن أن تكون هذه الصورة هي صورة لامرأة شبيهة بأمها , آه ! ما هذه الكلمات المكتوبة تحت الصورة ((ما زلت أحبك يا ماري عودي اليّ)) , ولم تحتمل الفتاة أكثر فقد تحطم قلبها أمام محبة والدتها فأسرعت إلى المحطة وركبت أول قطار إلى مدينتها , ودخلت لترتمي على صدر أمها وتطلب منها الصفح و الغفران وقد غفرت الأم !! غفرت منذ خرجت الشاردة من بيتها غفرت وكانت عودة ابنتها لتشعرها بهذا الغفران !!

وإذا كانت هذه الصورة , صورة قوية للمحبة الغافرة , فهي في الواقع صورة باهتة إذا قيست بمحبة الله التي ظهرت في الصليب , فمحبة هذه الأم , هي محبة إنسان لإنسان أم لابنتها أما محبة الله , فهي محبة الله الخالق , لابن آدم الدود إنها يقيناً فائقة المعرفة

يحدثنا مستر مودي المبشر المعروف بحادثة كان لها أكبر الأثر في حياته, ففي سنة 1867 , تقابل مودي مع مبشر ممتلئ بروح الله اسمه ((هنري مورهاوس)) في مدينة لندن , كان مودي يعظ في دار مرسلية , وأصغى إليه ((مورهاوس)) خمس دقائق , عرف منها أن مودي لا يعظ الكتاب , وليس في عظته من الكتاب إلا الآية , وبعد الوعظ اتجه إليه وقال له بصراحة ((يا مودي , أنت غلطان ! لو أنك تعظ كلام الله لا كلامك أنت لصيرك الله قوة عظيمة ! واستاء مودي جداً من الملاحظة , خصوصا وقد كان يرى نفسه أعظم الواعظين !! لكن ((مورهاوس)) لم يتوقف عند هذا الحد فقد اتجه إلى شيكاغو , وفي غياب مودي ألقى عظتين في ليلتين متواليتين عن الآية الذهبية ((لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية)) يو 16:3 واستمر يعظ عن هذه الآية سبع مرات , وعاد مودي من غيابه ليجد جماهير تأتي لتسمع الشاب الانجليزي الذي يعظ عن آية واحدة سبع عظات متوالية , والذي لا يقسم الوعظ إلى ثانيا وثالثا ورابعا , بل يأخذ الآية بكليتها ثم يغوص في التوراة من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا ليبرهن أن الله أحب العالم في كل الأجيال وقال مودي في نفسه وهو يسمعه ((إني لم أعرف أن الله أحب العالم هكذا , فابتدأ قلبي يخفق ولم أقدر أن أحجز دموعي المتهاطلة , قد كنت معتاداً أن أعظ : أن الله وراء الخاطئ حاملا سيفاً ذا حدين ليضربه به , ولكني من ذلك اليوم شرعت أعظ أن الله وراء الخاطئ بالمحبة , وأن الله يركض والخاطئ أمامه يهرب من محبته !!))

وظل ((مورهاوس)) يعظ عن محبة الله بانياً كل حقيقة يقولها على أسس من الكتاب ومن الكتاب وحده , وفي الليلة السابعة رقي المنبر ثم ردد هذه الكلمات ((يا أصحابي , لقد اجتهدت أن أجد آية جديدة أعظ عنها هذه الليلة , فلم أجد أنسب من الآية القديمة ((هكذا أحب الله العالم)) , وفي ختام عظته ذكر هذه العبارات : ((أيها الأصحاب , لقد قصدت خلال الأسبوع أن أخبركم كيف أحب الله العالم على أنه ذلك متعذر عليّ بهذا اللسان القاصر , ولو استطعت أن أرقى سلم يعقوب وأسأل جبرائيل الواقف في حضرة القدوس عن مقدار محبة الله للبشر , لكان ما يقدر أن يقوله : ((هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية)) أجل : هناك فوق الجلجثة و تكلم الله للناس لا في لغة يونانية , ولا في لغة لاتينية , ولا في لغة عبرانية , بل في لغة ((البذل والتضحية)) أنه أحب العالم المتمرد المسكين !!

  • عدد الزيارات: 3971