التعبير غير المباشر
قال باسكال مرة أنه يصعب عليه أن يكتب مصوِراً الاختبار البشري بطريقة منطقية رتيبة، ذلك لأنه يحاول أن يري أن موضوع كتابته، أي الإنسان ذاته واختباراته، لا يخضع لنظام أو منطق رتيب. وجميع الوجوديين العظام يلجئون، إن عاجلاً أو آجلاً، إلى نوع من الفوضى المتعمدة المقصودة. فإنهم يؤثرون ألاّ يضعوا نظرياتهم وآراءهم أمامنا واضحة جلية، ذلك لأنهم يريدون أن يرموا بنا في هاوية من الفوضى والاضطراب لكي نجد نحن أنفسنا معنى للشيء الذي يتكلمون عنه.
في إحدى مقالاته الساحرة يخبرنا كير كغادر كيف أنه وطد العزم على أن يتخذ الكتابة مهنة يتعاطاها. يقول أنه ذات أحد عند العصر دخل مقهى يجلس الناس فيه في الهواء الطلق وأخذ يفكر فيما عساه يفعل بحياته وكيف يريد أن يحياها. فراح يفكر بعظام المحسنين الذين خدموا الإنسانية والذين حاولوا أن ييسروا الحياة على الآخرين. ولكن عندما أشعل سيجارته الثانية مرّ في خاطره خاطر وكأنّه شعاع يخترق ضباباً. لماذا لا تكون حرفته أو مهمته في هذه الحياة عكس ما فعله أهل الخير من المحسنين، أي أن يجعل الحياة أعسر وأصعب؟ فيقول: "يخيل إليّ أن مهمتي في الحياة أن أخلق المصاعب وأن أضع العقبات في كل مكان". ومنذ ذلك الحين- وأنا في مأمن من خطأ ما أقوله- وجميع الوجوديين يشاركون كير كغارد في هدفه في الحياة.
ولا يعود السبب في ذلك إلى غرابة أطوار جماعة الوجوديين إنما يعود إلى ما يسميه كير كغارد ضرورة "التعبير غير المباشر". فإن الحقائق الخطيرة الشأن، كما يقول، لا يستطيع أن يخبرك بها أحد من الناس. أما الحقائق الموضوعية والنتائج المعقولة فيمكن نقلها والإخبار عنها مباشرة. أما الحقيقة التي تتطلب كشفاً عن الذات، الحقيقة المتعلقة بشخص ما، فلا يمكن نقلها من رجل إلى آخر عن طريق اللفظة أو العبارة.
لنفترض مثلاً، أن فناناً بيّن لك أن هذه الصورة أو تلك صورة جميلة، وأنت تصدقه في قوله هذا. ثم أنك تروح مردداً ما قاله لك من أن:"هذه الصورة جميلة". ولكنك لا تفهم ما تردد قوله ما لم تكتشف أنت لذاتك سر الجمال فيها. وعلى هذا المنوال لا يستطيع الوجودي أن ينقل إليك، أو أن يعطيك ما توصل إليه من أنه نتائج معقولة. جلّ ما يستطيع عمله هو أن يدخلك- عن طريق الإقناع أو الإزعاج- إلى حظيرة الأسرار، إلى التجربة التي يختبرها من يحاول الكشف عن غامض.
هذه التجربة، إذا ما تكررت إلى الحد الأقصى، تنتهي بصاحبها إلى ما يشبه نوعاً من البوذية التي تعرف بـ"زن". في هذه الطائفة من البوذية يستطيع المعلمون أن يرفضوا الإدلاء بشيء من المعلومات، ولكن عوضاً عن الإدلاء فإنهم يطرحون أسئلة لا يستطيع الطلاب أن يجيبوا عنها. والغاية من هذا إحداث هزة في الطالب تضعه في موضع الرجل المتبصر المتأمل. والمسيحية على نقيض هذا النوع من البوذية، فإنها تعطي المرء معلومات صريحة واضحة مستمدة من التوراة و الإنجيل عن حياة يسوع وعن تعاليمه. وليس من شك أن مثل هذه المعلومات يمكن نقلها و إعطاؤها بصورة مباشرة. ولكن، يقول لنا الرجل الوجودي العقيدة، لاحظوا الحقيقة الخطيرة الشأن، وهي أن المسيحية تقول للناس أن الله، سبحانه وتعالى، يخاطب الناس إدراك هذا الاتصال إذا استطاعوا،عن طريق الإيمان، أن يكتشفوا في هذا الرجل المضطهد المخلص و المنجي.
لذلك نجد أن الأدب الوجودي قل أن يكون أدبا صريحاً في عرضه أمراً أو تناوله فكرة. فقد اختار كير كغارد أسماء مستعارة ولجأ إلى ذرائع أدبية مختلفة ليثير قراءه أو لكي يحرك فيهم حدة من غضب. وقد استعمل نيتشه أشخاصاً وهميين وضع على ألسنتهم بعض نفثاته الشعرية. وقد كتب وجوديين آخرون قصصاً طويلة، وقصصاً قصيرة، وروايات ونظموا شعراً وألفوا في النقد الأدبي. وأعاظم الفلاسفة من المتزمتين خرجوا أيضا من الالتزام واعتمدوا أساليب شتى. وهكذا نجد هيديجر، الذي يمكن اعتباره كاتباً متأنقاً متعنتاً إلى حد كبير، يسترسل في حالات غيبية، ولغة رمزية، ويحتاج يلسبرس إلى "أرقام"، إلى رموز ترمز إلى حقائق يصعب الكلام عنها بصورة مباشرة.
- عدد الزيارات: 2895