بدء العصيان
إذا ما بدأت حركة عصيان فإنها قل أن تقف عند حدود أو أن تسير في اتجاه واحد. فإن حركة العصيان هذه التي نحن بصددها تفجرت في نواح عديدة وفي اتجاهات عديدة. ولكن هذه التفجرات تحدت مجتمعا" نعابا" مداجيا" يقول للإنسان أنه أقل شأنا" من الإنسان.
فقد ظهر على مسرح التاريخ شخصيات راحت تثبت أن الذاتية لها معنى في الفردية الشخصية. ثم إن هذه الشخصيات راحت تستأنف إلى الاختبار ولكن ليس الاختبار الذي تختبره عن طريق الحواس، ولكن إلى اختبار الإنسان ككل وراحت تنظر في أغوار النفس البشرية. وكانت تميل إلى أعمال الفكر فيما يتعلق في الاختبار ولكنها لم تكن تميل إلى إنكار أمر الاختبار ولا إلى جعلها أنماط عقلانية غير حقيقية. هؤلاء الأشخاص يتقبلون الحياة كممثلين على المسرح لا كمتفرجين. إنهم يعترفون بأن الذات الإنسانية محاطة بالأسرار الغامضة لا يستطيع العقل أن يدرك كنهها ولا تستطيع الصناعة أن تضبط أمورها.
جاءت هذه الثورة كزلازل. بدأ الزلزال بهزات خفيفة أعقبتها هزات عنيفة هدّارة ثم أعقبها صدى يردد تموجات الهزات. وكل ما حدث في هذه الثورة كان على كثير من التعقيد والغموض. وإني سأكتفي بذكر بعض حوادثها الكبرى.
يمثل باسكال الهزة الأولى قبيل الزلزال أفضل تمثيل. كان يسبق عصره بقرنين وكان بعقله المرهف الحساس يشعر بالتهديدات التي تهدد الإنسان والتي كان غيره من الناس ليشعروا بها بعد زمنه بأجيال كثيرة.
كان باسكال عالماً عبقرياً وسّع آفاق علم الطبيعة والرياضيات. وكانت تعروه هزة إعجاب وافتخار بقوى العقل البشري التي تجعل من هذا الإنسان الصغير شخصاً أعظم من الكون العظيم الذي لا قدرة له على التفكير. وكان يقول كما كان يقول ديكارت إن الإنسان بدون قوة التفكير لا يمكن أن يكون إنساناً.
ولكنه لم يلبث أن ثار على الحركة العقلانية التي تميز بها جيله. فإنه بعد أن صنع آلة حاسبة راح يقول أنها، بالنسبة إلى قدرتها على حل الأعمال الحسابية، أقرب إلى الإنسان ولكنها تفتقر إلى الحياة. ثم إنه طرح هذا السؤال الخطير المثير: ما معنى كون الإنسان حياً في هذا الكون الذي أخذ العلم يكشفه؟ وراح يفتش عن معنى الشخص، الشخص في كون يسير خبط عشواء في خط رياضي جاف حتى أنه لا يشعر بوجود شخص حي فيه. كتب يقول:" هذا السكون، هذا الصمت الأبدي الذي يخيم على الأبعاد غير المتناهية يخيفني". ثم راح يتساءل:"من جاء بي إلى هنا؟ من أمر و من أوصى أن يلازمني هذا المكان وهذا الزمان؟".
وبالرغم من أن باسكال كان رجلاً عالمياً ومسيحياً فإنه لم يكن ليعني كلياً بأمر المحاولات البريئة التي يقوم بها بعضهم ليثبت أن الطبيعة تبرهن على وجود إله. كان باسكال يقول: ليست القضية أن تعرف شيئاً عن الإله، ولكن القضية الرئيسية هي أن تحب إلهاً رحيماً شفوقاً وأن تثق به. إننا نجد الله ليس عن طريق علم الرياضيات الموضوعي، ولكن شعور الإنسان بأنه تائه ضائع في هذه الأبعاد غير المتناهية وشعور الخاطئ الشقي بدون إله يرجع إليه، هي اختبارات تقود الإنسان إلى الله. وأخيراً قال هذا العالم المفكر: "إن للقلب أسباب لأعماله لا يدركها العقل" .
وكرجل كاثوليكي وقع في جدل مع البابا، راح باسكال يعني بأمر منابع السلطة في الدين. وبالرغم من أنه كان يرجع كثيراً إلى نصوص الكتاب المقدس إلى التراث المسيحي، فإنه اكتشف لذاته أن رسالته ودعوته هي أن يتكلم ولكن بسلطان من الخارج، ولكن لضرورة التكلم .
كان باسكال، من وجوه عديدة، رجلاً وجودياً سبق عصره في لجوئه إلى الاختبار الشخصي، وفي انصرافه عن الموضوعية إلى التورط، وفي محاولته الكشف عن مصدر الهم والشعور بالخطيئة، وفي قبوله تحمل المسؤولية عن كل قرار ملح خطير يتخذه المرء. غير أن الناس لم يكونوا في وضع يستطيعون معه الإصغاء إليه والتجاوب مع ما كان يقول به، غير أن الوقت الذي به سيصغون إليه ويتجاوبون معه لم يكن بعيداً.
- عدد الزيارات: 2970