تهديد الذات الإنسانية
وبما أن هذه الحركات والثورات لا تزال تهدد الإنسان في ذاته وفي كرامته حتى يومنا هذا فإنه جدير بنا أن نتفحص هذه الحركات، وأن ننعم النظر في تحليل آثارها ووقعها في حياة الناس.
التهديد الأول: الإنسان عدّاد. منذ زمن قصير استطاع الإنسان أن يصنع آلة الكترونية تستطيع أن تلعب الشطرنج وأن تغلب بيسر لاعباً آخر ممن هم على شيء من المهارة في هذه اللعبة. وظاهر أن بعض هذه الماكينات الإلكترونية تفوق الناس في حل المشاكل والحسابات. فترى بعض الناس، حيناً بعد آخر، يجادلون، وبشيء من عدم الحياء، قائلين أن العداد الإلكتروني ماكينة تفضل الإنسان كماكينة. ويبدو أن الإنسان لم يعرف ذلك الإنسان الذي هو يقر أمره ويحتم مصيره. إنه آلة ضمن الآلة الكونية التي تكتنهه.
إن هذه القصة بدأت منذ قرون قليلة عندما اكتشفت جماعة من العلماء البارزين- كوبرنيكس (Copernicus ) وكبلر(Kepler ) وغاليليو (Galileo ) وباسكال ونيوتن(Newton ) وغيرهم من العلماء- أساليب تربط بين حقائق الرصد الفلكي وبين حقائق علم الرياضيات وقواعده، والتي كان من شأنها تمكين الإنسان من أن يصف عمل الطبيعة وأن يتكهن عن وقوع؟ أحداثها بطريقة رياضية. إن مثل هذا الاكتشاف غير كثيراً في نظرة الإنسان إلى الكون وأمد الجنس البشري بطاقات جديدة.
كان أولئك العلماء على حق في نظرتهم إلى الإمكانات العظيمة التي يمكن تحقيقها عن طريق الرياضيات وفي إكبارهم هذا العلم. وكان بعضهم (وكانوا يعرفون بالعقلانيين الرياضيين) يؤكد أن الكون ليس سوى آلة ضخمة. وكان أحدهم رينه ديكارت (Rrene Ddescartes ) العبقري الإفرنسي الذي عاش في القرن السابع عشر، والذي اكتشف الهندسة التحليلية. وجرى الناس في أيامنا هذه على لوم ديكارت على أنه المسؤول عن جميع الأخطاء التي تقع في العقلانية المعاصرة. وهذا ظلم في الحكم، ولكن ديكارت يظل واحداً من عدد من الناس الذين يقع عليهم اللوم في ما يجري في دنيانا من أخطاء.
أثار ديكارت السؤال العميق الخطير التالي: ما مركز الإنسان في هذه الآلة العظيمة، الآلة الكون؟ وكان جوابه عن هذا السؤال أن الإنسان هو المفكر الذي يكتشف لذاته كيف تسير هذه للآلة وكيف تعمل. وانتهى به الأمر إلى تحديد الذات الإنسانية تحديداً عجيباً، تحديداً على كثير من الصواب، وعلى كثير من الضلال. كان جوابه: "إنني شيء يفكر".
ومن الواضح أن كل إنسان يفكر- وأرجو ألا أكون على خطأ في زعمي هذا! ولكن ليس للإنسان أن يقول عن ذاته: "أنا شيء يفكر." فما ضرّه لو قال مثلاً: "أنا شيء يأكل." أو لو أنه قال: "أنا شيء يكافح ويناضل." أو كما قال أحد كتاب الرواية (وتبايعه في قوله هذا جماعة من الوجوديين) : "أنا شيء تنبعث منه رائحة كريهة!" ولكن للإنسان أن يقول: "أنا ذات، أنا نفس تؤمل وتخاف، تحب وتحتقر، نفس تعيش في هم وإقدام".
ولكن شاع بين الناس أن يحددوا الذات الإنسانية على أنها شيء يفكر كعداد (وهو تضييق على ما كان ديكارت يتصور الفكر.) وأضحت الشخصية في طريقها إلى أن تكون مجرد آلة، وآلة ليست بذي كفاءة.
التهديد الثاني: همّ الإنسان أن يطلب الراحة والرفاه. يلفت الكتاب انتباهنا إلى أن الرجل الحر الصلب، إلى أنه في طريقه إلى أن يصبح شخصية "موجهة" أو إلى أن يصبح مجرد جزء من النظام. وهذا الاتجاه، بالرغم من أنه حديث العهد، فإن له جذوراً في التاريخ ترجع إلى نشأة الأخلاق العلمية كما يراها الرجل العادي، تلك الأخلاق العلمية العادية التي ظهرت ونمت في القرنين الثامن والتاسع عشر، وهي الأخلاق التي تعرف أحياناً بأخلاق الطبقة البرجوازية وسلوكها الاجتماعي. كانت أخلاقاً وسلوكاً يسيران في طريق رياضية عقلانية، وكان لهل أثر مباشر في الحياة العادية اليومية. ولكن لا ننسى أن الناس الذين هم رياضيون بعقولهم قلّة قليلة، بينما أكثر الناس لهم أن يدّعوا بأنهم على شيء من الفهم والإدراك.
هذا النوع من الأخلاق يعين السلوك الذي يجب على المواطن الشريف أن يسلكه في تعاطي تجارته كي يؤمّن لنفسه الربح، ويصبح رجلاً يحافظ على تعهداته، ويفي ديونه عند استحقاقها، وقل أن يكون السبب في إثارة الشغب والاضطراب. ومثل هذه الفضائل تعود بالخير على من يتحلى بها. ولا يشعر الناس بقيمة هذه الفضائل في المجتمع إلا عندما يأخذ أفراد المجتمع بمجانبتها وبالتخلي عنها. ولكن ما شأن هذه الأخلاق إذا ما اعتبر الواحد منا الولاء الصادق والشجاعة الفائقة كما يتمثلان في نبي من أنبياء العهد القديم، أو كما عاشها السيد المسيح؟
بعض أجدادنا حاول جاهداًُ أن يبرهن أن هذه الأخلاق الجديدة هي مسيحية في جوهرها. وبعض الناس كان يفخر بقوله أنها أخلاق ليست من المسيحية. كانوا يفاخرون ويتباهون بتشككهم وبأن السلطة التي يرجعون إليها في الأخلاق سلطة مستقلة استقلالاً تاماً عن السلطة التي يرجع إليها غيرهم. وكان بعضهم يكافحون بعناء في سبيل الحرية ولكن كثيرين منهم كانوا يكثرون من الكلام دون العمل. لأنه إذا أراد المرء أن يقوم بشيء عظيم فإن أول ما يحتاج إليه هو الاقتناع التام بصحة ما يريد عمله وأهميته. لكن المشككين الذين هم ممن يعوزهم هذا الاقتناع التام، يستحيلون أحياناً إلى أناس متعصبين للحرف متغاضين عن الروح وراء الحرف.
وهكذا، وبالرغم من أن هذه الأخلاق البرجوازية الجديدة قضت على كثير من السخف القديم فإنها كانت السبب في ظهور سخافة تتميز بها هي ذاتها. فإن "الأخلاق النفعية" التي كان يقول بها جرمي بنثام (Jermy Bentham) تعلّم الإنسان العاقل كيف يمكنه، في سياق الحياة، أن يحصل على أقصى حد من اللذة بأقل ما يمكن من النتائج المؤلمة. لا بل أنها كانت تعاليم تدّعي أن لديها "عملية حسابية للذة"، عملية من شأنها أن تحدد الخط الذي ينبغي للسلوك أن يتبعه. وكاد بنثام أن يجعل من نظريته هذه نظرية تامة كاملة بحيث تستطيع آلة حاسبة أن تقرر ما هو الصواب بطريقة تفضل الطريقة التي يستطيع بها الإنسان ذاته أن يقرره. وهكذا أصبح الحكم في الأمور وتقريرها وأصبح الشعور بالذنب والتضحية، جميعها أموراً مهملة مماته. ومرة أخرى نرى الإنسان يفقد نفسه.
التهديد الثالث: الإنسان جزء صغير من آلة كبيرة. وهذا التهديد الثالث جاء نتيجة الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. أسفرت هذه الثورة الصناعية عن إنشاء معامل ضخمة، وعن ظهور مدن كبيرة عصرية، وعن قيام أحياء عصرية للسكن في ضواحيها، كما أنّها أسفرت عن أساليب الحرب الحديثة. وجميعنا ينعم بخيراتها ونعمها، وجميعنا يشعر بنشوتها، كما أننا نحمل على كواهلنا همومها ومتاعبها. ومثل واحد يوضح ما نحن بصدده. فقد دخلت اللغة عبارة جديدة: "سوق اليد العاملة" ولو لم نكن قد اعتدنا سماعها لظننا أنها من أشد العبارات قتاماً. فإن عمل الإنسان - وهذا يعادل قولنا الذات الإنسانية وهي تعمل- أصبح سلعة تباع وتشترى. فإن المصنع يستخدم ألوفاً من "الأيدي". ومعلقو الصحف يقولون لنا، وبكثير من انعدام العطف والمؤاساة، إن اقتصاد البلاد يسير سيراً أفضل إذا كان هنالك ثلاثة أو أربعة ملايين من العمال العاطلين عن العمل والذين يشكلون "سوقاً من العمال" يسمح بشيء من الليونة والمرونة في الصناعة. ونحن بيسر ننسى أن الأيدي العاملة والأيدي العاطلة عن العمل إنما هم أشخاص، هم أناس يتوقون إلى أن يكونوا أناساً يقررون مصائرهم ومستقبلهم بأنفسهم لا أن يكونوا "سوقاً" تحت تصرف المعامل.
إن ارتفاع مستوى العيش، والضمان ضد الجوع والمرض، والفراغ الذي ننعم به، جميعها مكاسب، ولكن النظام الاقتصادي الذي وفر لنا هذه النعم وهذه البركات لتحقيق الذات الإنسانية هو نفسه مجلبة للأخطار التي تقضي على الذات.
التهديد الرابع: الإنسان حيوان. نشر داروين (Darwin) كتابه الموسوم بـ "أصل الأنواع" سنة 1849. ولاشك أن النظرية التي تقول بالتطور العضوي، والتي تعضدها كثرة من المعطيات والأدلة، أوضحت للإنسان أموراً كثيرة وقضت على فوضى التفكير في هذا الحقل بالذات. ولكن الاعتقاد الشعبي العام المبني على النظرية الداروينية والذي يقول أن التطور والارتقاء يوفر لنا الدليل القاطع على طبيعة الإنسان وأصله، خلق فوضى في التفكير أكثر مما وفر في الوضوح. فقامت جماعة من المتحمسين لهذه النظرية ووضعوا نظرية تعرف بـ "الداروينية الاجتماعية" مؤداها أن تنازع البقاء وبقاء الأصلح هو أفضل وسيلة لتنظيم المجتمع بموجبه. وكان من جراء هذا أن الإنسان أصبح يمجد كل سلوك وتصرف لا يعتبر عادة سلوكاً بشرياً بل سلوكاً أقرب منزلة من تصرف الحيوانات التي هي أدنى من الإنسان.
تبدأ إحدى "أوبرات" جلبرت وسوليفان (Gilbert and Sullivan) الخفيفة هكذا:
"إنسان داروين، وإن كان خلوقاً حسن التصرف، أحسن ما يقال عنه أنه قرد حليق!"
ولم يعتبر كل من سمع هذه الأوبرا أن القضية قضية نكتة أو فكاهة. فإن الإنسان إذا ترددت هذه العبارة على سمعه مرة تلو أخرى مال إلى تصديقها والأخذ بها.
وهناك تهديدات أخرى، ولكني لن أمر على ذكرها. ما قلته يكفي للتدليل على ما نحن بصدده. وما كان الناس ليسيروا في اتجاه واحد، فقد كان من العسير على بعضهم أن يصدق أنه آلة تفكر ورجل مقيد بتقاليد، وبرغي في آلة ضخمة، وحيوان مفترس يعيش على غيره، في وقت واحد . ولكن جميع هذه الأخطار التي تهدد البشرية جمعاء من شانها أن تستحق الوعي الذاتي في الرجل الحر المسؤول، الرجل الذي يقوى على أن يتخذ لنفسه القرارات وأن يشعر بعبء الذنب والخطية، وأن يظهر ضروباً من الشجاعة و الإقدام.
ومع هذا فإن الإنسان يأبى أن يسجن في قفص- وإن كان سجنه في قفص لخيره ونفعه. فإنه عندما تشتد وطأة الهموم والمتاعب فتكبل الشخصية الوجودية عندها يثور الإنسان.
- عدد الزيارات: 4641