الحاجة إلى موقفين
من الجلي أن كل امرئ يتصرف أحياناً يتصرف الرجل الوجودي العقيدة. وليس هناك من أحد يعتبر نسبه وآله مجرد مصدر مادة للبحث العلمي. فإن أشد الأدباء غموضاً وتعقيداً، وأشد جماعي المعلومات مثابرة هم أولاً وآخراً أشخاص.
ومن الجلي أيضاً أن ليس من أحد يعيش دوماً عيش الرجل الوجودي، فإن الناس أحياناً أخرى نراهم يتمرسون بالموضوعية كي يبلغوا أهدافهم في الحياة.
وهكذا نجد أن في كل منا دافعين: دافعاً وجودياً و دافعاً موضوعياً. وبعضهم يميل إلى هذا الجانب وبعضهم إلى الجانب الآخر و لكنه يستحيل علينا أن نقسم الناس إلى فئتين ندعو الواحدة منهما الوجوديين والأخرى الموضوعيين. إذ أن معظم الناس يعسر علينا أن نصنفهم في إحدى الفئتين.
ولكن عوضاً عن هذا التقسيم الصارم يمكننا القول أن الوجودية والموضوعية موقفان نتخذهما ونعيش بهما وكلاهما موقفان من ضروريات الحياة المليئة الكاملة. والربط بين الموقفين من أعسر الأمور التي يعانيها من يحاول الربط بينهما لأن ذلك معناه أن هذا الرجل إنما يحاول أن يكون رجلا" بكل ما في الكلمة من معنى، وأن يعيش حياة فاضلة، وأن يدخل في عداد من بلغوا مرتبة تحديد الذات.
وإلى القارئ بعض الأمثال التي توضح بعض ما للوجودية (بالمعنى الذي كنت استعمل اللفظة) وللموضوعية من فضل وخير.
والمثل الأول الذي أضربه يتناول الفيلسوف الأثيني سقراط. وكرجل قوي الحجة في جدله، وكرجل يهمه تحديد معنى الألفاظ والمصطلحات بدقة متناهية، كان سقراط يعتبر من رواد علم المعنى، ومن رواد التفكير الفلسفي الموضوعي. ولكن كمشاغب ومحرض أزعج أهل مدينته، وكرجل راح يلقي الشكوك في نفوس الناس الذين اعتادوا أموراً لصيقة بحياتهم، وكرجل راح يقلق أفكار العامة بطرحه أسئلة مثيرة، أقول سقراط هذا يعتبر من الأوائل الذين مهدوا السبيل لظهور الوجودية.
هاتان الناحيتان من حياته برزتا بوضوح في الأيام الأخيرة التي عاشها في السجن قبيل موته. كان قد حكم عليه بالموت، لأن جماعة من صعاليك المدينة راحوا يتآمرون عليه، ولأن المحكمين في أثناء محاكمته أظهروا تحيزاً وتعصباً. فراح يتكلم مع أصدقائه الذين زاروه. أراد أن يبحث معهم قضية الخلود. وعرض أمامهم كثيراً من حججه وبراهينه التي تجعله يؤمن بأن النفس خالدة لا تموت وطلب من أصدقائه أن ينظروا جيداً في منطق براهينه وصحتها لئلا يكون شيء من الخطأ أو الخلل. وكان أمراً طبيعياً في مثل تلك الظروف أن يتحاشوا الجدل معه. إذ أنه ليس من اللياقة والتأدب بشيء أن تقول لرجل محكوم عليه بالموت أن إيمانه بخلود النفس إيمان فاسد. غير أن سقراط أصر على أن يجادلوه في الأمر. ولأنه كان شديد الحرص على أن يتحاشى الذاتية المغرضة، وعلى أن يجانب التعلل بالأمل الخائب، فإنه كان يؤثر أن يقال له أنه على خطأ- هذا إذا كان على خطأ- على أن يموت مطمئن النفس. هذا النوع من الموضوعية الصارمة التي تحلى بها سقراط، هو إحدى المنجزات الرائعة التي حققتها الفلسفة.
بعض الناس في يومنا هذا يسلمون بحجج سقراط وبراهينه. ولكن كثيرين من الناس يرون في ما وقع في أيامه الأخيرة من حوادث دليلاً يحملهم على الاقتناع أكثر مما حدث في أيامه الأولى فإن الأصدقاء الذين زاروه في سجنه كانوا قد رشوا السجانين وهيئوا السبيل لفراره. وكل ما كان على سقراط أن يفعله هو أن يخرج من السجن ويتوارى عن المدينة، ولكنه أبى. لقد حكم عليه بالموت من جراء تعاليمه المثيرة، وكان لا يزال يؤمن بتعاليمه ولذا آثر أن يظل على إيمانه بمعتقداته وألا يخرج عليها، ولو أدى الأمر به إلى الموت. وفضلاً عن هذا فإنه لم يكن يخشى الموت.
كانت حجج سقراط وبراهينه محاولة للإجابة عن قضية الموت، وكان رفضه الهرب من الموت جوابه الوجودي.الموضوعية تسأل إذا كانت الحياة تستمر بعد الموت. أما الوجودية فتلاقي الموت بثقة، والفرق بين الاثنين كبير. وأننا نرى هذا الفرق مرة بعد أخرى في تصرف الناس الذين يؤمنون بالحياة الأبدية بعقولهم ولكنهم يرتعدون خوفاً إذا ما مثل الموت أمامهم.
لقد ذكرت الموت وقضيته مراراً في هذا الفصل من الكتاب وذلك لأن الموت موضوع بارز في الأدب الوجودي. وعندما يقف المرء أمام الموت وجهاً لوجه تبرز قضية الحياة ومعناها. وهنالك أمثلة أخرى كثيرة على ما نحن بصدده. وقد آن لي أن أعود بكم إلى مثل آخر يختلف عن مثل سقراط.
لنأخذ العلم. أن العلم من أعظم منجزات القوة التفكيرية الموضوعية. فإن الكشف العلمي يتطلب دقة وأمانة ولا مكان فيه للأهواء والأغراض. وليس في المختبر العلمي متسع للعب بأدوات القياس ولا مجال لزيادة قليل من حامض ما إلى الأنبوب الذي تجري فيه اختباراً كي تأتي النتائج كما كنت تريدها مسبقاً أن تأتي. العلم يرفض كل سلطة أسبغ عليها صفة القداسة، رفضاً باتاً وينسف الخرافة نسفاً.، ويحتقر الذاتية ويهزأ بها.
وبعد أن أحرز العلم انتصارات باهرة في حقل الطبيعة راح ينظر في تصرف الناس وفي سلوك الجماعات. وقد علمنا الأسلوب العلمي الموضوعي أموراً عن ذواتنا لم يكن لنا بها عهد من قبل، ولم نكن لنؤمن بها. ومن المؤمل أن هذا الكشف عن ذواتنا، وعن طريق العلم، سيظل يعلمنا أموراً أخرى.
وهنا تحذرنا الفلسفة الوجودية بقولها لأن الأشخاص فقط هم الذين يستطيعون فهم التصرف الشخصي لا المختبر، وتصر الوجودية على القول بأن الاختبار في المختبر قد يخدع المختبر الذي يعجز عن أن يفهم ذاته. ويقول لنا الفيلسوف الوجودي مارتن بوبر أننا لا نفهم ذواتنا (ولا نكون ذواتنا) إلا إذا اتصلنا بالناس حولنا اتصالاً شخصياً وثيقاً. وإذا كانت التجارب المخبرية لتقودنا إلى اعتبار الناس أدوات كأدوات المختبر نتصرف بهم كتصرفنا بأدوات في مختبر فإن مثل هذا الأمر يخدعنا، وربما كان سلبياً في القضاء على ذواتنا الحقيقية.
وهذا مجال من أخطر المجالات التي يتصادم فيه الموقفان، الموقف الموضوعي والموقف الوجودي في عصرن الحاضر. تقول الموضوعية أن الجرذ في شبكة يحار فيها يتصرف تصرفاً نرى فيه شيئاً من تصرفنا، وتقول الوجودية أن الجرذ يخدعنا إذا جعلنا نشيح بأبصارنا عن بهجة الحياة الشخصية وآلامها أو لا نتملاها في العلاقات الشخصية.
وليس هناك ما يمنع أن يكون في كلا الموقفين الموضوعي والوجودي ما يدل على الحقيقة. إلا أن التوفيق بين الموقفين ليس من الأمور السهلة. ولم يفلح جيلنا إلى الآن في التوصل إلى فكرة عن طبيعة الذات توفي متطلبات العلم الموضوعي ومتطلبات الشخصية في آن واحد.
ولكن ليس هنالك بالضرورة تناقض بين العلم والوجودية. فإن باسكال (Blaise Pascal) مثلا"، كان من أعظم الرواد في حقل الرياضيات الحديثة وفي حقل الطبيعيات، وفي الوقت ذاته كان من القادة الأوائل الذين مهدوا السبيل للوجودية المعاصرة. وعندما راح رجل من اليسوعيين يبرهن على خطأ نظرياته العلمية كان رد باسكال عليه بأنه لجأ إلى إجراء التجارب المخبرية. فلا سلطة الكنيسة ولا فلسفة أرسطو الما ورائية تستطيعان أن تثبتا الحقائق العلمية. ولكن باسكال كان يصر، وبصلابة لا تقل عن صلابته في الأمور العلمية. على أن الواحد منا يعجز عن أن يفهم أخاه الإنسان ما لم ينظر في ذاته، وفي قلبه، وما تنطوي عليه ذاته من أسرار لا تلين للقياس ولا تخضع للتحديدات الموضوعية.
ومثل ثالث نضربه للقارئ وهو الدين. بالرغم من أن الناس قد يغيرون مذهبهم عن طريق النقاش والإقناع فإننا لا نعلم أن أحداً أصبح رجلاً دينياً ورعاً عن طريق التحليل المنطقي. فإن الدين يفجر العواطف القوية ويوجهها، فإن الدين عباد وثقة وتكريس للذات وتعهد أمام الله .
ونسمع، الفينة بعد الأخرى، أحد الناس يعلن على الملأ أن الدين يجب أن يظل قضية شعور شخصي خاص لا دخل للفكر والمنطق فيه إطلاقاً. ولكن مثل هذا القول لا يتقبله الناس ولا يشيع بينهم. لأن الدين الذي لا يخضع إلى شيء من النقد قد يسفر عن أمور خطيرة كاللعب مع حية سامة، أو كالخرافة التي تتملك صاحبها أو الوهم الذي يصاب به مدمن الخمرة أو الخيالات المحمولة الشاردة. ولذا كان على كل مجتمع أن ينظر في أمر دينه بتعقل وحكمة.
و هكذا نجد أن العقل البشري يتناول الدين عقلياً أحياناً عن طريق الإدراك العام أو عن طريق الفلسفة أو علم اللاهوت، ويحاول أن يجد في اختبارات البشر شيئاً من النظام عوضاً عن الفوضى، ويحاول أن يفرق بين الحق وبين الخطأ. ثم أن العقل البشري ينشد الوضوح العقلي في أمور الدين.
وقد أنتج العقل البشري في سعيه لوضع الدين موضع الفكر والنقد أنظمة لاهوتية عظيمة الشأن. ففي العصور المتوسطة، مثلاً ظهرت مؤلفات عظيمة كان أصحابها يسمونها "بالجامع الكامل " أو الخلاصة لأن أصحابها حاولوا أن يضمنوا هذه المؤلفات جميع المعارف الإنسانية المتعلقة بالله، وبالحقائق الدينية. وكان بعض هذه الأنظمة اللاهوتية يستهدف الموضوعية العقلية. فقد حاول بعضهم ان يبرهن عقلياً عن وجود الله. وعن حقيقة خلود النفس، بقطع النظر عن مجازفة الإيمان. ولكن حججهم وبراهينهم أصبحت فيما بعد على كثير من الإبهام والتعقيد.
ثم ظهر، بعد ذلك، الاحتجاج الذي أبداه الوجوديون. فقد قال مارتن لوثر:" إن الإنسان، ليصبح رجل لاهوت، عليه قبل ذلك أن يحيا وأن يموت وأن يحكم عليه لا أن يفهم ويقرأ ويفكر." كان لوثر يصر في قوله أن جوهر الدين هو الثقة بالله والإيمان به لا الحجاج والنقاش حول كنه الله.
وما أراد لوثر أن يقضي قضاء مبرماً على الموضوعية في أمور الدين، بل أن الأمر على نقيض هذا. فإنه كان يعمل على رفع مكانة المدرسة، وترجم الكتاب المقدس إلى لغة قومه كي يستطيع الرجل العادي أن يدرس لذاته عوضاً عن أن يؤمن عن طريق الإيمان الأعمى، أي ما يقوله له الناس. ولكنه كان يصر وبكل ما أوتى من قوة الشخصية، على أنه لا يمكن أن يكون دين بدون تكريس شخصي ولا يمكن أن يكون إيمان بدون ثقة.
ففي قضايا الدين، إذن، تسأل الموضوعية: هل هناك من إله؟ وتسأل الوجودية: ماذا عساني أن أفعله لكي أخلص؟ وتسأل الموضوعية: لماذا هناك عذاب وشقاء وشر في هذا العالم؟ والوجودية تسأل: كيف لي أن أتألم وأن أشقى؟ وماذا عساني أن أفعله تجاه الشر في العالم وإزاء الخطية في داخلي؟
وفي جميع هذه الأمثلة التي ضربناها نرى وجهة نظر الوجودي الثابتة التي لا تتقلب فإنه يكرر القول دوماً- وبوضوح كلي وأحياناً بشيء من القحة والجفاء- إن كثيراً من موضوعيتنا كذب فاضح وغرور متغطرس. فإننا نحن الموضوعيين عندما نشير إلى المعطيات التي نسلم بصحتها نرى الوجوديين يتساءلون فوراً عن الذي جمع المعلومات والمعطيات، وعندما نشير إلى فكرة نراه ينبهنا ويسأل عن صاحب الفكرة، ويخلص إلى القول أنه في الواقع لا وجود للباحث المجرد التام ولا للمفكر المجرد في تفكيره. إنما هنالك أشخاص يبحثون ويفكرون ولكنهم أشخاص يترقبون و يأملون ويخافون ويقررون.
يقول الوجودي إن كل معتقد (بما في ذلك معتقده الخاص) يعكس لنا صورة عن صاحب المعتقد ويصرح بان كل التزام أو تعهد شخصي إنما هو جزء من الحقيقة والصواب أو الفساد والخطأ. وإن همومه ورغائبه، حبه وشهوته، مخاوفه وقنوطه، جميعها، في نظره، جزء من الحقيقة كما يفهم الحقيقة. إنه لا يرى الحقيقة و يعترف بها مجردة وحسب. بل يقرر ما سيفعله وما سيكونه، وقراره هذا هو الذي يحدد الحقيقة التي يستطيع إدراكها.
ولكن ليس كل امرئ يستطيع الموافقة على هذا التصرف الفكري. فإن بعضهم يطرح عدداً من الأسئلة:" ما شأن خطيئتي و مطمحي و شأن جداول الضرب، وما شأن القرارات التي اتخذتها وشأن بنية ذرة اليورانيوم؟"
ويقول الوجودي في إجابته عن مثل هذه الأسئلة: "لا شأن لهذه الأمور بتلك. ولكنك إذا اخترت أن تجعل من جداول الضرب مركزاً رئيسياً تدور حياتك حوله، فإن هذا الاختيار هو من شأنك وطبيعي أن يكون مثل هذا الاختيار عملاً على غاية من السخف، لأن الإنسان لا يستطيع أن يركز حياته حول أرقام. وهو قرار فيه محاولة لمجانبة مشاكل أكثر تعقيداً، مشاكل تقض مضاجع صاحبها ( كما أنها مشاكل تقض مضاجعه غيره من الناس) وإذا نجحت في اتخاذك مثل هذا القرار بعض النجاح فإنك تكون قد حكمت على نفسك وأصبحت حياتك حياة مقيدة ضيقة فارغة. وإذا ظننت أن جداول الضرب هي التي تتألف منها الحقيقة فإنك أحمق مغفل. وحقيقة ما أنت عليه تتأثر من قرارك هذا أكثر مما تتأثر من قدرتك على تداول الأرقام و معالجتها.
- عدد الزيارات: 2839