معنيان
ولفهم هذه القضية التي نحن بصددها نطلب إلى القارئ أن يعتبر عدداً من المسائل التي تعالج جميعها قضية واحدة، ولكن بطرق تختلف اختلافاً كلياً.
أولاً:"كل نفس ذائقة الموت" فإنها مسألة من المسائل المنطقية المؤثرة عند أصحاب المنطق وهم يؤثرونها لأنها واحدة من المسائل العامة أو الشاملة التي لا يختلف في صحتها اثنان. (ملاحظة: وهذا القول لا يتناول مسألة الخلود لا من قريب ولا من بعيد.كل ما في هذا القول هو أن الإنسان ينتهي إلى أجل، وإن هذه الحياة الحاضرة تسير حتماً إلى الموت.) فقد يكتبها معلم على اللوح الأسود ليقرأها تلاميذه، وقد يضمنها مؤلف أحد كتبه فلا نسمع اعتراضاً على صحتها. ولا يستطيع أحد أن يبرهن برهاناً قاطعاً على صحتها، ولكن الدلائل التي تشير إلى صحتها واضحة لا يستطيع معها امرؤ أن يعارض أو أن يجادل.
والعبارة هذه لها علاقة بحقيقة موضوعية،وقد لا تروق في نظر القارئ، أو قد يشمئز منها، وقد يتمنى لو أنها كانت قولاً غير صحيح. غير أنه يسلم بصحتها ويتقبل مضمونها كشيء عادي دون أن ينوح أو أن يرتجف خوفاً. والآن قابل هذه المسألة المنطقية بالمسألة التالية:
ثانيا":"إنك ستموت اليوم." ولنفترض أن قائل العبارة رجل يعرف أنك ستموت - طبيبك أو السجان المولج بحراستك، أو الجندي العريف الذي تأتمر بأمره في إبان المعركة. في هذه الحال يكون للعبارة هذه وزن وسلطة تجعلك تصدق مضمونها.
إن هذه المسالة "إنك ستموت اليوم" واحدة من مسائل كثيرة تدخل، منطقياً ضمن المسألة الأولى: "كل نفس ذائقة الموت." لأنك ساعة تعترف بصحتها تعلم جيداً أنك ستموت يوما ما. أما الآن فإنك تعرف على سبيل التحديد متى ستموت.
وهي قضية تدخل في التفاصيل، وهذا التفصيل بالذات امر ليس بذي بال بالنسبة إلى المنطق، أو بالنسبة إلى سائر الناس .
غير أن المسألة الثانية لها وقع وجرس في النفس يختلف الاختلاف كله عن وقع المسألة الأولى وجرسها.المسألة الثانية تقع عليك وقع الصاعقة. وسواء أبت عليك نفسك أن تصدق القول أم رحبت به فإن الثابت هو أن هذا القول قد أثر بك وغير حياتك.فإنك إن كنت في شوق عظيم للراحة أو العطلة، أو أنك كنت ترتجف خوفاً من دين مستحق عليك أو أنك كنت تفكر أن تؤمّن على حياتك عند شركة للتأمين على الحياة، كل هذه المخاوف والهموم أصبحت أموراً تختلف الآن عما كانت عليه قبل سماعك بأنك ستموت اليوم. فإنك الآن لا تفكر بالتوظيف ولا بالتثمير كما كنت تفكر قبلاً. إن حياتك كلها مهددة الآن بالخطر الشديد وأصبح الموت أمراً وجودياً قائماً يهمّك ويعنيك بالذات.
إن المسألة الثانية أقل شأناً من المسألة الأولى لأنها أمر يتعلق بشخص واحد من أصل ثلاثة بلايين من البشر على الأرض. ولكنها مسألة شديدة الخطورة عنيفة الوقع بالنسبة إليك، وقد تكون أشد خطورة وأعنف وقعاً.
ثالثا": "يا غبي هذه الليلة تطلب نفسك منك ". نلاحظ هنا أن اللغة قد تغيرت، وأن المتكلم غير الذي تفوه بالمسألتين الأوليين، فإن الله سبحانه وتعالى هو المتكلم الآن. وقد جاء هذا الكلام في مثل ضربه السيد المسيح كما جاء في إنجيل لوقا 2.:12.
يدور المثل حول رجل ثري كان يتباهى بأنه سوف يهدم أهراءه ليبني أهراء أضخم ليخزن فيه طعامه. ثم يروح يهني نفسه قائلاً:" يانفس لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة، استريحي وكلي واشربي وافرحي". ثم لا يلبث حتى يسمع صوت وكأنه صاعقة تنزل به: "يا غبي هذه الليلة تطلب نفسك منك، وهذه التي أعددتها لمن تكون؟".
القضية هنا تتعدى كونها قضية إنذار بالموت. إنها دعوة لتأدية الحساب. بعضهم يرى فيها تأدية حساب أمام الله الديان. وقد يرى فيها أحدهم، وإن كان لا يؤمن بوجود الله، شيئاً من التحدي والشؤم والنحس في جميع ما قام به من منجزات ومآت، وفي جميع ما حلم به من غايات ومقاصد. وكل امرئ ذي احساس مرهف يشعر، إزاء هذه المسألة، بمرارة وأسى عندما يدرك أن حياته كلها كانت هباء وتفاهة. إن الدعوة التي توجه لكل منا كي يحصي أعماله، ويرى أن مجموع ما قام به يربو على الصفر، دعوة خطيرة تتطلب منا أن نفحص ذواتنا، وأن نحاسب أنفسنا " بخوف ورعدة ".
والآن دعنا نعيد النظر في المسائل الثلاث: المسألة الأولى قد يهمك أمرها وقد تشعر بأنها تستأثر بشيء من تفكيرك. إنها مسألة عامة وموضوعية. أما المسألة الثانية- هذا إذا صدقتها- فإنها ترعبك، لأنها قضية خطيرة تتناول حياتك وكيانك الطبيعي وجميع ما يلازم الحياة والكيان. وأما المسألة الثالثة- هذا إذا أردت أن تسمع وأن تؤمن- فإنها تحطمك تحطيماً. فإنها قضية لا تتناول الكيان أو الوجود الحياتي وحسب، وإنما تتناول معنى الوجود الشخصي.
وفي الأدب المعاصر، وفي الفكر المعاصر تقتصر لفظة "وجود " على المعنى الأخير، أي الوجود الشخصي. فالوجودية كفلسفة تنطلق من النظرة إلى الوجود الشخصي. وبالرغم من أن النظرة هذه قد تتجه يمنةً ويسرى فإنها دوماً تبدأ بالسؤال: ما معنى وجودي؟ وقد تتجه نحو كل شخص فتسأل عن أموره وعن غاياته وعن طبيعة وجوده الشخصي.
ويقول أصحاب الفلسفة الوجودية أن الناس يكتشفون بعض الحقيقة لا عن طريق التمرس بالموضوعية بل عن طريق الاختبار الشخصي اللصيق. أي أن التورط لا التجرد والموضوعية هو الطريق إلى الإدراك الصحيح. فإن كثيراً من المعلومات عن الموت تأتيه عن طريق العالم البيوكميائي، وعن طريق شركات التأمين على الحياة، وعن طريق متعهدي دفن الموتى ولكن يصبح للموت معنى أعمق في نظر الإنسان الذي يدرك ما معنى الموت بالنسبة لنفسه أو لصديقه، وما يعنيه الموت بالنسبة إلى الغايات والأهداف التي نحلم بها والمنجزات التي نقوم بها.
وهناك سبل أخرى نستطيع بواسطتها أن نصف الانتقال من المسألة الأولى إلى المسألة الثانية (والمسألة الثانية محطة تتوسطهما). إنه انتقال من الموضوعي إلى الذاتي الشخصي، ومن العام إلى الخاص، ومن المجرد إلى الملموس. وهو أيضاً انتقال من المراقبة والملاحظة إلى التورط، من المعلومات إلى المسؤولية، وهو انتقال مما كدسه المرء واختزنه لذاته إلى حقيقة ما هو ذاته.
ولكن في جميع هذه المفارقات علينا أن ندرك أن الوجودية ليست تهرباً من الموضوعية إلى الذاتية كما نفهم عادة" هذين المصطلحين. ولا تهمها الخيالات الشاردة ولا الأحلام الهانئة. بل تعنى بالذات، وتعنى بالأمور التي تتطلب قراراً واختياراً، يهمها الموت، وهذه جميعهاً أمور موضوعية كغيرها من الأمور. وهي أمور حقيقية، وحقيقية إلى درجة القسوة، لا يستطيع أحد منا أن يتهرب من حقيقتها. ولكن هذه الحقائق الموضوعية الملموسة تعني شيئاً لمن يتقبلها باهتمام وعناية شخصية. وإذا ما حاول أحدنا أن يتجرد عن الاهتمام وعن الغاية الشخصية لمجرد الحصول على المعرفة المجردة يكون كمن يشوه فهم الحقيقة. وقد لا يسفر الأمر عن اتساع في الفكر وغنى في العقل بل على نقيض هذا: ضيق في الفكر وهزال في الذات.
- عدد الزيارات: 2876