الفصل الأول: في الجو
في أحد الأيام، سنة 1957، نقلت أسلاك البرق خبراً أذاعته (الصحافة المتحدة) في طول القارة وعرضها عن ممثلة صبية في هوليود. كانت فتاة طويلة القامة حمراء الشعر وعلى سيمائها قلق وحيرة. فقد عرض عليها أن تشترك في تمثيل فيلم سينمائي جديد، يعود عليها بالشهرة التي تحلم بها، غير أنها لم تفقه كنه الدور الذي كان عليها أن تمثله، لأن كاتب القصة وصف الشخصية التي كانت لتمثلها باقتضاب قائلاً أنها شخصية امرأة تعتنق الوجودية مذهباً.
سألت الممثلة: "من هو الوجودي؟" لقد فهمت هذه الفتاة كل شخصية مثلتها قبلاً إذ كانت شخصية لها خصائصها وميزاتها، وإنما دور الوجودي فقد كان دوراً مبهماً أوقعها في حيرة وارتباك. وفي ظني لو أن هذه الفتاة الممثلة راحت تسأل رجلاً يعتنق الفلسفة الوجودية لما وجدت عنده من جواب عن تساؤلها. ولربما كان أعرض عن سؤالها بشيء من الجفوة والفظاظة، إذ أن الوجوديين كثيراً ما يكونون على شيء من الخشونة في التصرف. فإنهم قلّ أن يبالوا بالناس الذين يأتونهم راغبين عن إخلاص في التعرف إلى الفلسفة الوجودية. وإنما يهمهم أمر الرجل الذي يكون قد تعثر في دروب الاختبارات المريرة في الحياة أو أمر الرجل الذي تعرض في حياته إلى صدمة عنيفة فراح يسأل: "ما بي، وماذا أنا فاعله؟".
غير أن الممثلة، أو ربما الوكيل الصحفي الذي أراد أن يكسبها شهرة، أفلحت في إقحام اسمها في الجرائد. ومما لا شك فيه أن بعض قراء الجرائد فيما وقعت فيه الممثلة من حيرة وارتباك من أمر الوجودية. وكان البعض الآخر يعرف شيئاً عن الوجودية، ولكن لم يكن يهمهم أمرها لا من قريب ولا من بعيد. وفريق ثالث وطد العزم، وبشيء من حرارة الإيمان، على أن الوجودية هي الفلسفة التي تنسجم معها نفوسهم.
وإن الوجودية فلسفة توقع الإنسان في حيرة وارتباك. أما فيما يتعلق بتاريخ ظهورها فإن بعضهم يتقصى نشأتها إلى أن يصل به التقصي أولاً إلى مقاهي باريس ونواديها الليلية وأحياء الضفة الشمالية من نهر السين، إلى أماكن مماثلة لها في حي من أحياء نيويورك يعرف بقرية غرينش، ومن نيويورك (أو بالأحرى عن طريق بعض معارضها الفنية ومسارحها وأرض كلياتها) تتجه الحركة ناحية هوليود. هذا من جهة، غير أن بعضهم يرى أن تاريخ نشأتها يبدأ بسقراط مروراً بالعهد القديم من الكتاب المقدس إلى زمننا المعاصر.
بعض الناس، إذا أرادوا الإطلاع على الوجودية ودرسها، راحوا يفتشون عنها في كتب للفلسفة التي تعدّ من أفضل الكتب التي تعالج الفلسفة في عصرنا هذا، وبعضهم الآخر يجمع معلوماته عنها معتمداً المجلات السائرة مرجعاً أو في ملحق الأحد في أحد الجرائد.
غير أن غالبية الناس، سواءً أكانوا يعرفون الوجودية معرفة ضيقة أم لا يعرفون عنها شيئاً، أخذت تشعر بوقعها وأثرها في الحياة، مثلها في ذلك مثل الأشعة الكونية التي تؤثر فينا جميعاً سواء سمعنا عن الأشعة الكونية أم لم نسمع بها. فإن الوجودية كالأشعة الكونية، موجودة في الجو الذي يحيط بنا، وكفلسفة راحت تنسجم مع المزاج النفسي السائد في عالمنا المعاصر، لا بل كانت عاملاً تعتمل على خلق هذا المزاج.
وهكذا، وبالرغم من أن بعض الناس يعتبرونها فلسفة، فإن بعضهم الآخر يشعر بوقعها وأثرها في الحياة بقطع النظر عن أنها فلسفة يعنى بها الأدباء والعلماء. وقد نشأ حول الوجودية أدب قصصي بعناوين غريبة كرواية عنوانها "تقيؤ"، وأخرى بعنوان أرفع قدراً كرواية موسومة بـ "الغريب". أما المسرح فإنه أحياناً يعالج الوجودية عن عمد، وأحياناً يعالجها عن طريقة الأيماءة الخفية. أما الرسم والأدب والسياسة والدين فقد تأثرت بها جميعاً. أما التربية الأمريكية التقدمية على ما نعدها في غالبية المدارس الأمريكية، فقد أصبغت بصبغتها. وإذا كانت مصطلحات الوجودية لا تزال في أكثر الأحيان مصطلحات تتداولها النخبة من المفكرين، فإن همها الأول يتناول الحياة العادية اليومية في هذه الفترة التاريخية العجيبة العنيفة المحمومة. وتروح دور الإذاعة والتلفزيون تنشر رسالتها في طول البلاد وعرضها.
ولكن ما أن يحاول امرؤ تحديد الوجودية والتعريف بها حتى يدرك فورا أنها قضية جدلية يختلف الناس في أمرها اختلافاً شديداً. فإن الممثلة التي ظنت أن مستقبلها الفني يتوقف على مبلغ تفهمها الوجودية راحت تسأل عنها أستاذ جامعة قال لها إن الوجودية هي "الإباحية والعبث والسخافة". ولو أنها راحت تسال كاهناً أو قسيساً لقال لها أنها حركة دينية على غاية من العمق والتعقيد. والجوابان على شيء من الحقيقة التي تبرر قولهما.
في سنة 195. شجب قداسة البابا بيوس الثاني عشر في رسالة عامة موسومة بـ Human Generis (الولادة البشرية) بعض أشكال الوجودية وامتدح فلسفة توما الأكويني. وقبل ظهور هذه الرسالة البابوية كتب جاك ماريتان Maritian، وهو ربما أعظم فيلسوف كاثوليكي معاصر، كتاباً حاول أن يبرهن فيه على أن توما الأكويني كان وجودياً يمثل الوجودية على حقيقتها. ومن المحتمل ألا يكون هناك خلاف بين وجهة نظر البابا ووجهة نظر ماريتان،إنما قد يكون أنهما استعملا اللفظة ذاتها،الوجودية،كل بمعنى يختلف عن المعنى الذي أراده الآخر. غير أن البابا كان يؤنب بعض الفلاسفة الكاثوليك لتبنيهم كثيراً من مبادئ الوجودية العصرية.
وقبل هذا بزمن، عندما أصدر الفاتيكان قائمة "بالكتب الممنوعة" أثبت فيها كتب جان باول سارتر، وهو أشهر الفلاسفة الفرنسيين الوجوديين الملحدين. وكثيرون من الإنجيليين كانوا شخصياً قد رفضوا هذه الكتب أيضاً. ومن الغريب أن روسيا "الملحدة" منعت كتب سارتر من التداول بين الناس، ولكن لأسباب أخرى. ولكن في إحدى الجامعات الأميركية مثلت جماعة من المسيحيين المنتمين إلى تلك الجامعة إحدى روايات سارتر على مسرح الجامعة على أنها رواية تثير قضايا دينية أساسية.
وهكذا يبدو جلياً أنه لا يمكن تحديد الوجودية تحديداً دقيقا ًصحيحاً في عبارة واحدة أو في عبارتين، ذلك لأنها خصبة في فكرها، متنوعة في صورها، عنيفة في حدة أثرها. ولهذا عوضاً عن أن نحدد هذه الكلمة فإننا سنحاول أن نصف بعض القضايا الرئيسية التي تثيرها هذه الحركة الفلسفية ونسرد شيئاً عن سيرها في التاريخ.
- عدد الزيارات: 3189