Skip to main content

المعجزات ممكنة

بما أن الله الواحد موجود (انظر الفصل 3)، فالمعجزات ضرورية. لماذا؟ لأنه خلق العالم وهذه المعجزة الكبرى قاطبة. فلو كان للعالم بداية، فهذا يعني أن الله خلقه من العدم، وهذه أكبر معجزة ممكنة. وبهذا، فإنْ كان الله الواحد موجوداً، فالمعجزات ليست فقط ممكنة، بل المعجزة الكبرى، وهي خلق الشيء من العدم، قد حصلت. إن عمل الخمر من المياه (كما فعل يسوع في إنجيل يوحنا 2) ليست مشكلة لله الذي صنع الماء من العدم! فجميع الحجج التي تدعم وجود الله الواحد، تدعم إمكانية (وواقعية) الأعمال الخارقة.

إضافة لذلك، بما أن الله الواحد مازال موجوداً، يتبع ذلك أن المعجزات ما زالت ممكنة. وليس ثمة من طريقة لعزل الله عن كونه. إن الله كلي القدرة يستطيع أن يفعل أي شيء مستحيل فعلياً. كما إنه لا يستحيل عليه فعلياً التدخل بين الحين والآخر في مسار الأحداث العادية (والتي هي القوانين الطبيعة) بحدث غير عادي (والتي هي المعجزة). وعلى كل حال، فالمعجزات ليست مجرد إنها أحداث غير عادية. بل هي خارقة. وهي تدّخل غير عادي في العالم الطبيعي من جانب الله الفائق القوة.

ليس كل ما يلمع ذهباً

وبالتأكيد ليس كل ما هو غير عادي هو خارق. فثمة على الأقل أنواع مختلفة من الأحداث تُعتبر بشكل خاطئ على أنها معجزات، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك.[65]

(1) الشذوذ

  • حدث غير عادي مع أسباب غير معروفة أو مفهومة بشكل غامض (مثل الحياة حول الفتحات الحرارية على أرض المحيط، والتي كان من المعتقد من قبل أنها شديدة الحرارة، والظلمة، وعالية الضغط وسامة لا تصلح لوجود الحياة).

(2) الحدث النفسي الجسدي

  • حدث غامض بسبب عقلي غير معروف (مثل تأثير الدواء الوهمي الذي يؤدي إلى الشفاء من الأمراض الجسدية).

(3) «حدث سعيد»

  • حادثة غير عادية نافعة من سبب طبيعي معروف (مثل الضباب الذي سمح لقوات واشنطن بعبور الديلاوير والبقاء في مأمن من القوات البريطانية المعادية).

(4) الخدعة السحرية

  • حادثة غير اعتيادية ولكن لها سبب طبيعي سبب خداع العين أو الذهن (مثل سحب أرنب من قبعة)[66].

وكل هذه الأشياء تحدث من علل طبيعية أو عقلية. ولكن ليس أي منها فائقة الطبيعة. وأما السبب فوق الطبيعي فـ«بصمات» الله عليه. فثمة أشياء لا يقدر أن يعملها إلا الله. مثلاً، الله قادر على خلق الحياة (التثنية 32: 39؛ أيوب 1: 21). وكان بوسع سحرة مصر أن يقلدوا معجزات موسى بالسحر، ولكن عندما خلق الحياة من التراب، صرخوا: «هذَا إِصْبَعُ اللهِ» (خروج 8: 19). وفقط الله قادر على إقامة الأموات (يوحنا 11). وكذلك، الله فحسب، الذي يقدر أن يعمل أشياءً فوراً، مثل الشفاء الفوري للرجل الأعمى (يوحنا 9)، أو تحويل الماء إلى خمر (يوحنا 2). ولهذا فكثير من معجزات يسوع وتلامذته حصلت «حالاً» (متى 8: 3؛ 20: 34؛ مرقس 2: 12؛ أعمال 3: 7). وحتى الداروينيون يقرون أنه أن حدث تغيير في شكل من الحياة إلى شكلٍ آخر فوراً وليس تدريجياً، فإن ذلك هو معجزة.[67]

ثمة خصائص أخرى للمعجزة مثل الدلالة على تدخل ذكي. وبما أن الله هو العقل المطلق، فإن حصلت أي حادثة في العالم الطبيعي تحمل طابع العلة الفائقة الذكاء، مثل الظهور المفاجئ للحياة (الفصل 3)، أو الصيغة الجديدة للحياة، فذلك يدل على أن لها علة فوق طبيعية. وأخيراً، بما أن الله هو المطلق الأخلاقي (انظر الفصل 3)، فالمرء يتوقع أن الغايات الأخلاقية من عمل الصلاح مرتبطة بأعماله.

ثمة كلمات عديدة مرتبطة بالمعجزات في العهد الجديد التي تظهر حضور اليد الإلهية، مثل «عجيبة» وهي أحداث خارقة لتشد الانتباه إليها. وكذلك: «القوة» التي لها مصدر خارق في الإرادة الإلهية. وكذلك «آية» التي تستعمل للتأكيد على رسالة الله (عبرانيين 2: 3 ـ 4). وباختصار، فالمعجزات هي فعل الله لتأكيد كلمة الله إلى شعب الله. وبهذا، تتصف المعجزات بالتالي:

أولاً، للمعجزات صفة خارقة. فهي استثنائية وتتعارض مع الطريقة الاعتيادية للأحداث في العالم الطبيعي. مثل «العجيبة» التي تجلب الانتباه بفرادتها. فشجيرة محترقة بدون أن تتلف، نار من السماء، شخص يمشي على سطح الماء هي كلها أحداث غير طبيعية. وبالتالي، فهي تجلب اهتمام المشاهدين.

ثانياً، للمعجزات بعد لاهوتي. المعجزة هي عمل الله وتستلزم أن الله فاعلها. إن النظرة التي تنص على أن الله وراء العالم الذي خلقه، ويتحكم به، ويقدر على أن يتدخل به هي التي تسمى التوحيد (انظر الفصل 3).

ثالثاً، للمعجزات بعد أخلاقي. فهي تمجد الله من خلال اظهار الصفة الأخلاقية له. والمعجزات أفعال مرئية تعكس طبيعة الله غير المرئية. وبالتالي، لا شيء شرير هو معجزة حقيقة، لأن الله صالح. والمعجزات بالطبيعة تهدف إلى إنتاج و/ أو تشجيع الخير.

رابعاً، للمعجزات طابع تعليمي. المعجزات في الكتاب المقدس متصلة بشكل مباشر أو غير مباشر بـ«إعلان الحق». (انظر الفصل 5 أدناه). وهي طريقة لإظهار النبي الحق من النبي المزيف (التثنية 18: 22). وهي تؤكد صدق الله من خلال خادم الله (عبرانيين 2: 3 ـ 4). إن الرسالة والمعجزة تسيران جنباً إلى جنب.

خامساً، إن للمعجزات طابع غائي. فخلافاً للسحر، فالمعجزات لا تقدم لأجل المتعة. وقد دفع الفضول بهِيرُودُس للرغبة في رؤية معجزة، ولكن يسوع رفض فعلها (انظر لوقا 23: 8. قارن: متى 12: 39). المعجزات لها هدف مميز هو تمجيد الخالق وتقديم برهان لشعبه على الإيمان به من خلال تفويض نبي بحمل رسالة الله.

إمكانية المعجزات

الآن، بما أننا عرّفنا المعجزات، فيمكننا أن نبحث إن كانت ممكنة. ويكمن الجواب في الفصل السابق. إن كان الله موجوداً، فالمعجزات ممكنة. لماذا؟ لأنها عمل خارق من جانب الله، والأعمال الخارقة موجودة فحسب حيث يوجد كائن فوق طبيعي يقدر أن يتصرف بهذا الشكل. وقد ذكر سي. إس. لويس باقتدار، «إن كنا نقر بالله، فهل يجب أن نقر بالمعجزات؟ حقاً، حقاً، لا يوجد ما يقف ضدها. وهذا هو جوهر الأمر».[68]

وبعد، إنْ كان الله خلق العالم (انظر الفصل 3)، فأكبر المعجزات التي حصلت على الإطلاق ـ حيث تم صُنع شيء من العدم. والمعجزات الأخرى في الكتاب المقدس هي عمل شيء من شيء آخر. فإن كان الله قادراً على صنع الماء من العدم، فليس لديه إشكالية أن يحول الخمرَ ماءً. وبالمثل، إنْ كان الله يقدر أن يعمل المادة من العدم، فإن تكثير الأرغفة مجرد عمل مادة من مادة.

في الواقع، فإن معجزات يسوع الكثيرة هي أفعال فورية (وهي إحدى علامات العمل الالهي) لما يحدث في الطبيعة بشكل تدريجي. فعلى سبيل المثال، فالماء ينساب إلى الأرض، إلى الأعلى عبر الجذور إلى الكرمة ثم إلى العنب. وماذا عمل يسوع عندما حول الماء إلى خمر، كان تسريع العملية. وهذا ينطبق على تكثير الأرغفة. فالقمح ينتج القمح بشكل طبيعي. ومرة أخرى، ما قام به يسوع كان تسريع العملية عندما قام بتكثير الأرغفة. وحتى عندما لعن شجرة التين، فإنه سرَّع ما كان يحصل تدريجياً، أي الذبول.

وهذا هو محور النقاش بين الداروينين والخلقيين. أن التدرج هو علامة على التطور الطبيعي. ولكن الفجائية هو دلالة على الخلق. وهذا الحال، إذ ظهر في الفصل السابق أن الخلق قد حصل لدى نقطتين. الأولى، حينما عمل الله شيئاً من العدم لدى خلق المادة وهذا أمر معجز بما أنه كان فجائياً وغير متوقع ـ وبدون مادة مسبقة. والنقطة الثانية، عندما ظهرت الحياة الأولى من عدم الحياة، فصارت فجأةً. وحتى الملحد فرنسيس كريك أقر بأنها كانت مثل «المعجزة».[69] والكلمات نفسها «التوليد التلقائي»، تظهر الطبيعة الإعجازية. إذ لم يكن ثمة حياة، وفجاءةً ظهرت حياة بدون خطوات وسيطة تدريجية بين اللاحياة والحياة الأولى.

إذاً، وفق الدليل (انظر الفصل 3)، فالمعجزات حصلت في مرحلتين: الأولى، خلق المادة، والثانية خلق الحياة الأولى. وليس ثمة من تعليلات طبيعية لهذين الحدثين.[70]

هل المزيد من المعجزات ممكنة؟

ما دام الله موجوداً، فالمعجزات ممكنة. وطالما المعجزات الكبرى قد حدثت، فلا سبب للاعتقاد أنه لا يمكن أن تحصل معجزات صغرى. وقد أظهر العلم إمكانية (بل فعلية) المعجزات؛ والتاريخ قادر أن يروي لنا إن كانت قد حصلت أي منها منذ ذلك الحين. ولكن نحن نعرف ذلك مقدماً قبل النظر في الدليل: إن كان الله خلق العالم، فهو قادر أن يقيم الموتى. وليس البعث مشكلة بالنسبة لخالق الحياة (انظر الفصل 8). وحتى ديفيد هيوم الفيلسوف الريبي أقرَّ إنّ إقامة الموتى سيكون معجزة.[71] وإن كان الأمر كذلك، فلماذا يرفض العقل الحديث المعجزات؟ والجواب في كلمتين هو: بسبب ديفيد هيوم (ت 1776). فحججه ضد المعجزات هي المهيمنة على المشهد الثقافي لأكثر من مئتي سنة مضت. ويمكن وضع حجة هيوم في صيغتين. دعونا نبدأ من الحجة الأقوى أولاً.

حجة هيوم ضد إمكانية المعجزات (الصيغة الصعبة)

لقد شن هيوم هجومه على المعجزات بالتعليق: «أني أشعر بالرضى لأني اكتشفت الحجة... التي، لو كانت صحيحة، ستكون، بالنسبة للشخص الحكيم والمتعلم، الاختبار الدائم لكل أنوع وهم الخرافة، وبالنتيجة ستكون مفيدة طالما العالم مستمر».[72] وتسير حجة هيوم على الشكل التالي:

  1. إن المعجزات بالتعريف تخرق قوانين العالم.
  2. إن قوانين العالم قد توطدت بـ«التجربة الثابتة وغير قابلة للتغير».
  3. بهذا، فـ«البرهان ضد المعجزة، هو من صميم طبيعة الواقعة، وهو كامل مثل البرهان من التجربة التي يمكن تصورها».

وقد كتب هيوم: «بالتالي، ثمة شيء يجب أن يكون التجربة المنتظمة ضد كل حدث معجز. وإلا الحدث لن يستحق هذه التسمية».[73] وبهذا، «لا شيء يُعتبر معجزة إن حدث قط في مسار العام للطبيعة».[74]

رد على حجة هيوم الصعبة ضد المعجزات

في صيغة هذه الحجة، يصادر هيوم على المطلوب ببساطة بتحديد المعجزات أنها مستحيلة. فإن كانت المعجزات «خرق»، لما هو غير قابل لـ«التغير»، وبالتالي المعجزات هي بالحقيقة مستحيلة. إن تجربة «المنتظم» لهيوم مصادرة على المطلوب أو مرافعة خاصة. إنها مصادرة على المطلوب إن كان هيوم يفترض أن معرفة التجربة هي موّحدة وسابقة على الدليل. كيف يمكن للمرء أن يعرف أن كامل التجربة الممكنة ستؤكد المذهب الطبيعي بدون الوصول إلى كل التجارب الممكنة، الماضية، الحاضرة، والمستقبلية؟ وعلى الجانب الآخر، إن كان هيوم يقصد ببساطة بالتجربة «المنتظمة» التجارب المختارة لبعض الأشخاص (الذين لم يصادفوا معجزات)، فهذا التماس خاص. إذ ادعى آخرون أنهم اختبروا معجزات، كما لاحظ ستانلي جاكي: «بقدر ما كان ذا نزعة حسية أو فيلسوفاً تجريبياً، فهو قد أعطى مصداقية متساوية للاعتراف بأي واقع، عادي أو استثنائي».[75]

إن ملاحظة سي. اس. لويس في هذه النقطة: «علينا أن نوافق الآن مع هيوم إن كان ثمة «تجربة منتظمة» ضد المعجزات، وبكلمات أخرى فهي لم تحدث، فلما إذا لم تحدث. للأسف نحن نعرف أن التجربة ضدها متسقة فقط إن كنا نعرف أن جميع الأخبار بشأنها كانت مزيفة. ونحن نقدر أن نعرف أن جميع الأخبار مزيفة فقط إن كان نعرف من قبل إن كل المعجزات لم تحصل أبداً. وفي الواقع نحن نحاجج باستدلال دائري».[76]

حجة هيوم ضد مصداقية المعجزات (الصيغة اللينة)

إن أعطينا لهيوم قرينة الشك، فإنه حجته ستكون في صيغة لينة على الشكل التالي، ومع ذلك تبقى فعالة. وهي ليست حجة على استحالة المعجزات، بل على عدم مصداقيتها:

  1. إن المعجزة بالتعريف هي نادرة الحدوث.
  2. إن القانون الطبيعي بالتعريف هو وصف للحادثة الاعتيادية.
  3. إن الدليل على الأمر الاعتيادي هو دائماً أعظم من الدليل على الأمر النادر.
  4. الأفراد الحكماء يؤسسون إيمانهم دائماً على الدليل الأكبر.
  5. وبالتالي، لا يجب على الأفراد الحكماء أن يؤمنوا بالمعجزات قط.

لاحظ أن هذه الصيغة «اللينة» للحجة لا تستثنى المعجزات، بل تربط مصداقيتها بطبيعة الدليل. فلا يدعي الناس الحكماء أن المعجزات لا يمكن أن تحدث قط، بل بساطة لا يؤمنون قط أنها تحدث.

وفي هذا التفسير «اللين» للحجة، فالمعجزات ما زالت مستبعدة، بما أنها بطبيعة الحالة لا يجب على الناس المفكرين أن يتبنوا أنها تحدث حقاً. وإن كان الأمر كذلك، فهيوم على ما يظهر يتجنب المصادرة على المطلوب ومع ذلك يقصي بنجاح إمكانية الإيمان العقلاني بالمعجزات. وما زالت تنويعات مختلفة لهذه الحجح تُعتبر مقبولة من قبل بعض الفلاسفة المعاصرين الموقرين على نطاق واسع.[77]

تقييم حجة هيوم ضد مصداقية المعجزات

في هذه الصيغة من الحجة، فالمقدمة رقم 3: الدليل على أن الاعتيادي هو دائماً أعظم من النادر. وهذا زيف بشكل واضح، وبالإمكان تباين ذلك من المثال المضاد من وجهة نظر هيوم الطبيعية للعالم. إذ ثمة أمثلة عديدة يعتقد فيها المؤمن بالطبيعة أنها الدليل الأكبر على الحدث المفرد من الحدث الاعتيادي.

  1. يعود أصل الكون إلى حدث مفرد. كما أظهرنا سابقاً (الفصل 3)، فالكون المكاني ـ الزماني ـ الفيزيائي ليس سرمدياً. فله بداية، حسب القانون الثاني من الديناميكا الحرارية وهو ينضب من الطاقة النافعة منذ ذلك الحين. ويعتقد أغلب علماء الفيزياء الفلكية أن الكون بدأ بالانفجار الكبير، وهم يستعملون مجموعات أخرى مختلفة للبرهنة على آرائهم: توسع الكون، صدى الاشعاع، النظرية النسبية العامة لأينشتاين، كتلة الطاقة الكبيرة المكتشفة بواسطة مرصد الفضاء هابل. وبهذا، فحسب محاجتهم، وُجد الكون بالانفجار من العدم لمرة واحدة، وأن ذلك لم يتكرر ثانيةً. وهذا بالتعريف هو حدث مفرد، وهم يدعون بوجود أدلة متعددة تشير إليها. ومع ذلك فإن الحالة الفردية حصلت. ولكن وفق معيار هيوم، فالمرء الحكيم لا يجب أن يصدق حدوث شيء قط ما دام لم يتكرر مرة تلو المرة.
  2. يعود أصل الحياة إلى حدث مفرد. ثمة فرادة ثانية يعتقد العلماء الطبيعانيين[78] أنها حصلت. وبعضهم قد استعمل بشأنها كلمة «معجزة»، أي التوليد التلقائي للمرة الأولى. وأمثال هؤلاء العلماء يعتقدون أن الحياة جاءت من عدم الحياة مرة واحدة في الماضي، ولا يوجد دليل على أنها تكررت منذ ذلك الحين. وفي الواقع، فإن ردي وباستور لهما الفضل البرهنة على أن الحياة لم تحدث من عدم الحياة التوالد التلقائي. ويعتقد أصحاب النظرة الطبيعية أن الدليل يشير إلى ذلك الحدث الذي جرى لمرة واحدة في الماضي السحيق ولم يتكرر قط، بقدر ما يمكن أن نلاحظه. ولكن حسب هيوم، الذي كان من أصحاب الطبيعة، فلا شخص حكيم يجب أن يصدق قط التوالد التلقائي للحياة الأولى. فضلاً على أنه حسب اعتقادهم الخاص، فإن ذلك لم يحصل.
  3. التطور الدقيق حدث مفرد. كل العلماء الطبيعانيين يعتقدون بشكل ما بوجود نوع من التطور الدقيق، أي أن كل الحياة تطورت من سلف مشترك على فترة زمنية طويلة بوسائل طبيعية بدون تدخل فوق طبيعي. وحتى الكثير من التطوريين يشيرون إلى التطور الدقيق على أنه «حقيقة». ومع ذلك، فالتطور الدقيق لم يتكرر قط، لا في الطبيعة ولا في المختبر. فهو فريد، لم يتكرر، كما يعتقدون أن الدليل يشير إلى ذلك. ولكن مرة أخرى (وحتى إلى درجة أن يسموه «حقيقة»)، وحسب حجة هيوم ضد المعجزات، فليس من شخص حكيم مَنْ يؤمن بمثل هذه الفرادة. ويظهر بجلاء أن حجة هيوم ضد المعجزات تصيب نفسها بمقتل.

وثمة إشكالية أخرى بخصوص حجة هيوم تستحق الذكر هنا. وهي:

  1. إن حجة هيوم تبرهن أكثر مما يجب. فهي تبرهن إنه وإنْ حصلت معجزة، فلا يجب على الشخص الحكيم أن يؤمن بها! لأن في الصيغة الثانية للحجة، لم يستبعد هيوم إمكانية حدوث معجزة. بل هو ببساطة حاجج ضد مصداقية الإيمان بأن مثل ذلك قد حدث. فإن كانت المعجزة قد حصلت في الواقع، فحسب منطق هيوم، فلا يجب على الشخص الحكيم أن يصدق أنها جرت. ويبدو بوضوح أننا أمام أمر خاطئ في الحجة، «حتى لو حصل حدث ما فعلاً، على كل حال لا يجب عليك أن تصدق أن ذلك قد حصل!». وهذا ما يجعل المرء يقول: «الكثير من الشك يفقدك صوابك!».
  2. 5. إن نظرة هيوم ستلغي تاريخ نابليون. إن من سخرية الأمور أن ريبية هيوم كفيلة بأن تلغي أحد وظائفه. فهو كان مؤرخاً، وكتب تاريخ إنجلترا. وبوصفه مؤرخاً، فقد كان واعياً للأحداث الفردية في الماضي. وكان تاريخ نابليون مليئاً بها. وهذا ما جعل ريتشارد ويتلي يكتب عملاً بعنوان: «الشكوك التاريخية المتعلقة بتاريخ نابليون بونابرت»، حيث سخر في كتابه من نظرة هيوم، إذ أظهر أنه إنْ طبقنا معيار هيوم برفض تصديق الأحداث غير الاعتيادية، فلا يجوز لأحد أن يؤمن بتاريخ نابليون. لأن أعمال نابليون كانت من الروعة، والاستثنائية، وغير مسبوقة، فلا يمكن لشخص عاقل أن يعتقد بأن هذه الأحداث قد وقعت. وبعد رواية نجاحات نابليون العسكرية المدهشة التي لا مثيل لها، كتب ويتلي: «هل يؤمن أي شخص بكل هذه الأمور، وبعد ذلك يرفض المعجزة؟ أو بالأحرى، ما هذا إلا معجزة؟ أليس هذا خرقاً لقوانين الطبيعة؟». فإن كان الريبيون لا ينفون وجود نابليون، فإنه «يجب على الأقل أن يقروا أنهم لا يطبقون على هذه المسألة نفس خطة التفكير الذي استعملت في مواضيع أخرى».[79]
  3. إن هيوم أضاف دليلاً أكثر من تقييمه له. يوجد في أساس حجة هيوم خطأ أساسي: فهو يضيف دليلاً أكثر من تقييمه للدليل. خلاصة القول، هو يخلط الدليل والاحتمال. وبدقة أكثر، هو يضيف دليل لأحداث الماضي الطبيعية، أكثر من تقييم الدليل على الحدث الحالي فوق الطبيعي. فمثلاً، ليس على صلة بالموضوع إن كان يسوع قد قام من الموت ليضيف أن كل الناس قبله أنهم لم ينهضوا من الموت. الأمر الوحيد المتصل بالموضوع هو إنْ كان يوجد دليل على أن يسوع قد مات فعلاً وبعد أيام قليلة قام من الموت (انظر الفصل 8 لاحقاً). إن إضافة كل أدلة الماضي على الذين ماتوا ولم ينهضوا من الموت ليس على صلة بهذه المسألة. الأمر الوحيد الذي يحسب هو وزن الدليل المتوفر على قيامة يسوع من الموت. وحسب منطق هيوم، ليس ثمة من اختراع جديد أو تقدم طبي يمكن أن يقبل لأن ذلك لم يكن في الماضي. وقد اعترف هيوم بمغالطة هذا التحليل في مكان آخر عندما أقر، بناءً على مطابقة الماضي، أنه لا يمكن أن معرفة أي شيء صحيح فيما يخص المستقبل. وقال، نحن لا نقدر أن نعرف بثقة أن الشمس ستشرق غداً.[80] لأنه بالنسبة لهيوم، فإن رفض معجزات المستقبل يقوم على التجربة الماضية وهو أمر يتضارب مع مبادئه نفسها.

رفض علمي على المعجزات

وقبل أن نختم هذا الفصل بخصوص إمكانية المعجزات، بقي أن ننظر في اعتراضين. الأول، من الطبيعانية المنهجية[81] تقول إن المعجزة خرق للأجراء العلمي. وقال أصحابها إنه ليس من حدث معصوم عن التحليل العلمي. والسماح للمعجزات مثل تشييد علامة «ممنوع التجاوز» على واقعة. وقالوا إنه لا يمكن أن يُحال بين العلم والعالم الطبيعي. فكل ما يحدث في العالم الطبيعي متاح للبحث الطبيعي. والقبول بعالم المعجزات يعني كبح العلم عن التقدم.

رد على هذا الاعتراض العلمي

ثمة أشياء عديدة يجب أن تذكر في الرد. قبل كل شيء، إن كانت الفرضية الكامنة تعني: «إن كل الأحداث في العالم الطبيعي لها علل طبيعية»، وبالتالي هذا مصادرة على المطلوب لصالح الطبيعانية. فالعلم يجب أن يكون مفتوحاً لأي سببيمكن أن يكون. إمّا أنْ يكون لديك حكم مسبق على كل حدث سلفاً بالتأكيد على أن له سبباً طبيعياً، فهذا الحكم المسبق لا يظهر عقلاً منفتحاً في البحث وهو الواجب توفره في العالم.

ثانياً، أقر العلم الحديث بالفرادة (في أصل الكون) الذي ليس له علة طبيعية منذ أن سمّى العالم الفلكي االلاأدري روبرت جاستروا العلة «خارقة الطبيعية». وبخصوص أصل الحياة الأولى، فإنه حتى العالم الملحد فرانسيس كريك استعمل مفردة «معجزة» بشأنه.

ثالثاً، إن المعجزات لا تمنع البحث العلمي بالمعنى التجريبي لأن البحث يقوم على الأحداث العادية، والمعجزات بالتعريف ليست حدثاً عادياً. وبهذا، فالعلم الحق في البحث عن السبب الطبيعي لكل حدث هو جزء من النمط الاعتيادي للطبيعة. وبهذا، فالافتراض أن وجود علة خارقة لبعض الأحداث العادية هو مغالطة «إله الفجوة». وقد كان نيوتن مخطئاً عندما استحضر الله لتفسير أنماط من مسار الطبيعة الاعتيادي. وبهذا، تكون أية محاولات أخرى للقيام بنفس الشيء. والأحداث المفردة، مثل المعجزات، ليس جزءاً من النمط الطبيعي للعالم. بما أنها ليست موضوعاً للبحث التجريبي العلمي.[82]

رابعاً، أن تلك الحجة المسماة «علمية» ضد المعجزات تفشل في تذكر أنه ليست كل الأحداث لها أسباب طبيعة. فالعلل الذكية كانت دائماً جزءاً منطقياً من البحث العلمي، كما يدل على ذلك علم الآثار [الآركيولوجيا]، وعلم الشفرات، والطب الشرعي، ونظرية المعلومات، وبرنامج البحث عن الذكاء خارج الأرض. وهي كلها تتعامل مع أحداث مفردة تسمح بأن تكون ناتجة عن كائن ذكي. وبما أن المعجزات، مثل تلك الأحداث، لها علة ذكية، فيجب أن تُبحث وفق نفس القاعدة، أي يُفحص الدليل إنْ كان يشير إلى علّة ذكية. ولكن أنْ تلغي العلة الذكية لشخص ميت قد رجع للحياة (القيامة)، قبل أنْ تفحص الدليل هو مخالف لهذا النوع من العلم. لا سيما أننا نعرف (كما أظهرنا في الفصل 3) أن ثمة إلهاً فائق الطبيعة قادرٌ أن يعمل مثل هذه الأحداث الخارقة.

الاعتراض التاريخي على المعجزات

إن مبدأ التماثل قد وضعه إرنست ترويلتش (ح 1865 ـ 1923 م)[83] لدراسة الماضي. فهو طرح فكرة أن الماضي يمكن أن يعرف من ناحية الحاضر. وبما أنه لا تحدث معجزات في الحاضر، فهذا يؤكد على أنه ليس لدينا أي أساس لافتراض حدوثها في الماضي. وعلى ضوء هذا المبدأ، يرى البعض أنه لا يجوز الإيمان بالمعجزات في الكتاب المقدس لأنها لا تتعلق بما يحدث الآن. وبهذا، فالمنهج التاريخي السليم يقصي المعجزات.

وثمة اعتراف عريض اليوم من جانبي النقاش أن الولادات العذرية، أو قيامة الأموات، أو المشي على الماء لا تحدث اليوم. وبهذا، إن سرنا مع مبدأ التماثل فمثل هذه الأحداث لما يمكن أن تعرف أنها حدثت في الماضي. ووفق هذا المبدأ، فالمعجزات في الكتاب المقدس لا يمكن أن تكون قابلة للمعرفة تاريخياً.

وقد صرح أنتوني فلو بهذا الطريقة: (1) كل التاريخ النقدي متعلق بصلاحية مبدأين: (أ) إن بقايا الماضي يمكن أن تُستعمل كبرهان على إعادة تركيب التاريخ فقط عندما نسلم بنفس الضوابط الأساسية للطبيعة آنذاك والآن (ب) إن المؤرخ النقدي يجب أن يستعمل معرفة الحاضر الممكنة والمحتملة كمعايير لمعرفة الماضي. (2) ولكن الإيمان بالمعجزات هو عكس هذين المبدأين. (3) بالتالي، فالإيمان بالمعجزات يتعارض مع التاريخ النقدي. وإن كان الحال كذلك، فالأشخاص السذج فقط وغير النقديين يمكن أن يصدقوا المعجزات. والماضي يمكن معرفته فقط من خلال أنماط الحاضر الاعتيادية. وهذه أنماط الطبيعة في الحاضر تلغي أي معرفة للمعجزات في الماضي.

رد على الحجة التاريخية ضد المعجزات

أولاً، يجب أن نلاحظ أن هذه الحجة لا تقول إنها تلغي إمكانية المعجزات، بل هي ببساطة تسعى إلى استبعاد إمكانية معرفتها بما يسمى «التاريخ النقدي». فهي لا تنفي إمكانية المعجزات.

ثانياً، الحجة تخلط بين مبدأ التماثل (الحاضر هو مفتاح الماضي) والوتيرة الواحدة (كل أحداث الحاضر والماضي لها أسباب طبيعية). وليس ثمة فقط عدم تبرير للوتيرة الواحدة، بل أنها مصادرة على المطلوب لصالح الطبيعانية. وبالإضافة إلى ذلك، أنه ضد البحث العلمي، الذي يترك المجال للعلل الذكية لبعض أنواع محددة من الحوادث (مثلاً: علم الآثار وعلم الشفرات).

ثالثاً، خلافاً لمبدأ التماثل الصالح، الذي يفترض الحاضر مفتاحاً للماضي، وأن كل أنواع العلل التي نلاحظها تنتج أنواع محددة من الأحداث في الحاضر يجب أن نفترض أنها أنتجت أحداث مشابهة في الماضي. فمثلاً، تخبرنا الملاحظة المتكررة أن النصال [رأس الأسهم] تُصنع من جانب الكائنات الذكية. وبهذا عندما نكتشف نصلاً مدفوناً من الماضي، نفترض أن صانعه علة ذكية. وبالمثل، إذ رأينا بشكل متكرر نحاتين ينتجون منحوتات في الحاضر، فأمثال هذه المنحوتات الموجودة في الماضي نفترضها نتاج علة ذكية. وبنفس الطريقة، إن كنا نعرف من الملاحظة المتكررة في الحاضر أن النقوش هي نتاج كائنات ذكية، فإن أظهر التنقيب بعضها من الماضي، فإننا نعزوها لعلة ذكية. وبنفس المنطق، عندما نرى تعقيداً محدداً في اللغة البشرية هو نتاج كائن بشري في الحاضر، فعندما نجد تعقيداً محدداً بنفس الضرب من الحياة الأولى في الماضي، نصل إلى استنتاج أن له علة ذكية (انظر الفصل 3). ولكن هذا ما نعنيه بالحدث فوق الطبيعي للخلق، أي، حدث من الماضي لم ينتج من قوانين طبيعية، بل بتدخل ذكي في العالم الطبيعي. وبهذا، فبدلاً من أن ينهض مبدأ التماثل دليلاً ضد المعجزات، فهو في الواقع حجة لصالح المعجزات.

الخلاصة

إن كان الله ـ الله الواحد ـ موجوداً، فالمعجزات ممكنة. وقد بيَّنا (في الفصل 3) وجود دليل متين على وجود الله. وبالتالي، ينتج من هذا أن المعجزات ممكنة وأن المعجزة الكبرى ـ الخلق ـ قد حصلت فعلاً. الله، الذي خلق العالم من العدم لا يمكن أن يُحال بينه وبين العالم الذي صنعه. فهو قادر على التدخل متى وحينما يريد. الله الذي صنع الحياة من عدم الحياة، لقادر على أن يعيد الحياة إلى الجسد الميت.

إن الحجج ضد إمكانية المعجزات هي دائرية، فهي مصادرة على المطلوب بافتراض (وهو ما يجب أن يُبرهن عليه) أن لكل أحداث العالم علل طبيعية. وهذا ليس فقط زيف، بل هو عكس العلم، الذي يترك المجال دائماً للعلل الذكية (في علم الآثار، الطب الشرعي، علم التشفير، وبرنامج البحث عن الذكاء خارج الأرض، ونظرية المعلومات). وأن مبدأ التماثل (الذي نعرف به الماضي) لا يلغي العلل الذكية لأحداث الماضي. بل على العكس، هو يستدعيها في علم الآثار والبيولوجيا. وبخصوص التعقيد المحدد للحياة الأولى، بالتماثل مع التعقيد المحدد الذي نعرفه في الحاضر، فيجب أن يكون ثمة علة ذكية. وهذا ما يفهمه العلم على حق فلا يقصي التدخل الذكي في الطبيعة؛ بل، يستدعيها. يمكن للمعجزات أن تحصل. والمعجزة الكبرى (الخلق) قد حدثت، وعلينا أن نفحص الدليل لرؤية إن كان ثمة معجزات أخرى (مثل التي وردت في الأناجيل) قد حصلت (انظر الفصل 8).

المسائل الاثني عشر

1.     الحقيقة حول الواقع قابلة للمعرفة

2.     لا يمكن أن يكون كلا النقيضين صادقين

3.     إنها لحقيقة أن الله الواحد موجود

4.     المعجزات ممكنة

5.     يرتبط حدوث المعجزات بدعوى صادقة تعلن حق الله عبر رسل الله

6.     العهد الجديد نص موثوق

7.     كما شهد العهد الجديد، فيسوع المسيح أعلن أنه الله

8.     إعلان يسوع أنه الله تأكد بمجموعة فريدة من المعجزات

9.     وبهذا، فيسوع هو الله الظاهر بالجسد.

10. كل ما أكّده يسوع (الذي هو الله) أنه الحق، فهو حق

11. يسوع أكّد أن الكتاب المقدس كلمة الله

12. إذاً، الحق أن الكتاب المقدس كلمة الله، ومزيف وكل ما يعارض هذا الحق الكتابي

ü     المقصد الرئيس للمعجزات حسب الإسلام

ü     غير المؤمنين أيضاً يعترفون أن المعجزات يمكن أن تأتي لتأكيد على الإلهي

·        العلاقة المنطقية بين المعجزات والتأكيد الإلهي

·        معيار المصادقة بالمعجزات

 

ملخص الفصل

لقد رأينا من قبل أن الله موجود (الفصل 3) وبهذا، فالمعجزات ممكنة (الفصل 4). وفي هذا الفصل سنرى أنَّ المعجزات قد تأتي للبرهنة على إنْ كانت رسالة ما مرتبطة بالله فعلاً. ولكي تكون ذلك، يجب أن تكون خارقة حقاً، متعددة، فريدة، ومرتبطة بالحق المُعلن عنه. والقيام بتنبؤات (بما سيحدث) مسبقاً عن الحدث، مما يعطي الحدث تأكيداً أكبر على أنه من الله. وفي الفصول التالية سنرى أن نصوص العهد الجديد موثقة تاريخياً (الفصل 6)، وأن يسوع أعلن أنه الله الظاهر في الجسد (الفصل 7)، وأن هذا الدعوى تبرهنت بالتقاء ثلاث مجموعات من المعجزات غير مسبوقة وفريدة (الفصل 8). وبهذا، نجد أن يسوع هو تجسد الله الواحد، الله القوي، الواحد، خالق الكون (الفصل 3) في جسد بشري!

 

مسودة الفصل: يرتبط حدوث المعجزات بدعوى صادقة تعلن حق الله عبر رسل الله

·        المقصد الرئيس للمعجزات

ü     المقصد الرئيس للمعجزات في اليهودية

ü     المقصد الرئيس للمعجزات حسب المسيحية

  • عدد الزيارات: 1172