Skip to main content

الله الواحد موجود

لا تتخطى هذه الفصل، فهو أحد أهم فصول الكتاب. وكل ما يعقب هذا الفصل متعلق به. فإما الله الواحد موجود، أو ليس موجوداً. إنْ لم يكن موجوداً، فالإلحاد (عدم وجود الله) حق. وإنْ كان موجوداً، فالإيمان بالله حق. وإنْ كان الإيمان بالله حق، فهذا يعني أن المسيحية قد تكون على حق. وإن لم يكن من إله، فالمسيحية لا يمكن أن تكون على حق بما أنها دين يؤمن بالإله. 

عن أي إله نحن نتحدث؟

بما إنه يوجد آراء مختلفة عن الله، فعلينا أن نكون محددين حينما نتكلم عن الله. وبخلاف ذلك، لن يسعنا أن نعرف عن أي إله نتحدث عند السؤال عن إن كان الله موجوداً أو غير موجود. فالمسيحية هي إحدى الديانات التوحيدية الكبرى: اليهودية، والمسيحية، والإسلام. ونظرة التوحيد لله هي على تعارض مع كل النظرات الأخرى عن الله.

التوحيد: الله سرمدي شخصي وهو الذي خلق الكون

الله «هو» شخص، وليس «هو» لا شخصي. وبالمثل، إما الكون موجود منذ الأزل مع الله، أو إنّ الله موجود منذ الأزل. ويؤكد التوحيد أن الله أبديٌّ، وأن للكون بداية. وإنّ الله خلقه. وهذا ما نقصده عندما نقول «الله»، أي الله الواحد.

والله الوحد يختلف عن العالم، مثل الرسام الذي يختلف عن اللوحة. الله خلق العالم، ولكنه لا يتطابق معه. واللوحة نتاج عقل الرسام. فهي من الرسام، ولكنها مختلفة عنه. وبالمثل، فالله هو الخالق، والكون صنع يديه.

وقد كان كثيراً من المفكرين الكبار، مؤمنين بالله. ومن بينهم القديس أغسطينوس، القديس أنِسلم، والقديس توما الأكويني. وفي العالم المعاصر كان لايبنيتس مؤمناً،[15] وفي عصرنا لدينا اسم واسع الشهرة هو سي. س. لويس. وبالطبع، فكل مفكري الأديان التوحيدية الكبرى كانوا مؤمنين بالله.

الربوبية: الله إله لا شخصي متناهٍ موجود، ولكن المعجزات غير موجودة

ثمة اختلافان رئيسيان بين التوحيد والربوبية. الأول، الربوبية مثل التوحيد ولكنها بدون معجزات. بالنسبة للربوبي الله لا يعمل معجزات. والعالم الذي صنعه الله يسير وفق قوانينه الطبيعية. والأمر الثاني، وخلافاً للتوحيد، فالربوبي يرى أن الله لا يحكم العالم. فهو قد خلقه، ولكنه لا يحكم وجوده. فالكون بالنسبة للربوبية مكتفٍ بذاته.

مثل الكرة التي تُرمى بالهواء، فبالنسبة للربوبي العالم يستمر بنفسه بعد أن أوجده الله. وبالنسبة للتوحيدي، على العكس، الله لم يخلق العالم فحسب، ولكنه يمسك بزمام وجوده. ويقول الكتاب المقدس: «وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (العبرانيين 1: 3). و«وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ» (كولوسي 1: 17).

ومن أبرز الربوبيين، ڤولتير، توماس بين، جيفرسون، وبنيامين فرانكلين. واليوم، فإن مفكرين كثر دخلوا في هذا الإطار وأصبحوا يؤمنون بالإله المحدود.

الألوهية المحددة: يوجد إله شخصي محدود خارج العالم

كان أفلاطون في العالم القديم أحد أشهر أنصار الألوهية المحدودة. فخلافاً لبعض المحدثين، كان أفلاطون يؤمن بسرمدية الكون، وأن الله لم يخلقه بل قام الله بتشكيله. ومن النماذج الحديثة لأتباع الألوهية المحدودة جون ستيوارت ميل وويليام جيمس. ومن المعاصرين لدينا الحبر كوشنر.

ومن وجهة نظر القائلين بالألوهية المحدودة، الله ليس مطلقاً (غير محدود). بل، الله محدود في القوة والكمال. وهم يرون أن نظرتهم هذه جاءت من واقع أن العالم ليس كاملاً، ولو كان الله كلي القدرة وكامل لكان خلق العالم كاملاً.

الإلحاد: لا يوجد إله قط

يعتقد الملاحدة بعدم وجود الله، سواء أكان شخصياً، أو لا شخصياً، مطلقاً أو محدوداً. ثمة الكون، وهذا هو الموجود. وفي قائمة الملاحدة المشهورين فريدريك نيتشه، سيغموند فرويد. واليوم ثمة ملحدان مشهوران على نطاق واسع هما: ريتشارد دوكينز وكريستوفر هيتشِنز.

يوجد عدة نظرات مترابطة نحتاج أن نصنفها. فالريبيون يشكون بوجود الله. واللاأدريون لا يعرفون إن كان الله موجوداً، والملاحدة ينفون وجود الله. ولكن كلهم لا يؤمنون بوجود الله بالمعنى الواسع للكلمة، فهم ملحدون (أي: ليسوا مؤمنين بالله).

إن العالم المادي موجود، وهو كل شيء. كما وضّح كارل ساجان، «العالم هو كل شيء، كان من الأزل، وإلى الأبد سيبقى».[16] فمنذ البدء ثمة مادة في حركة. وكل شيء، بما في ذلك «العقل»، هو إما مادي أو قابل للاختزال إليه.

وحدة الوجود: الله في الكل والكل في الله

بينما يقول الإلحاد إنّ كل شيء هو مادة، تؤكد وحدة الوجود على أن الكل هو العقل (أو الروح). والله هو الكل الموجود، والكل الموجود هو الله. وفي العالم القديم كان أفلاطون مؤمناً بوحدة الوجود. وبِنِديكت سبينوزا من المحدثين المؤمنين بوحدة الوجود. وفي العالم المعاصر لدينا علماء مسيحيون، والكثير من جماعة العصر الجديد مثل ديباك تشوبرا. والكثير من الهندوس، وأتباع بوذية الزن هم مؤمنون بوحدة الوجود.

وثمة أشكال مختلفة لوحدة الوجود. وفي صيغتها الأكثر صرامة، مثل شانكرا الهندوسية، أو العلموية المسيحية، اتباعهما يرون أن الشرَّ وهمٌ. ويقول الإلحاد إن الشر حقيقي، وأن الله ليس كذلك، وفي وحدة الوجود تسلم بأن الله موجود، ولكن الشر ليس موجوداً.

وحدة الموجود: الكل في الله والله في الكل

قد يبدو أن وحدة الموجود تشابه وحدة الوجود، ولكن الحقيقية ليست كذلك. فوحدة الوجود تقول إن الله هو الكل، بينما تقول وحدة الموجود أن الله هو في الكل. فبالنسبة لأصحاب وحدة الموجود، الله له قطبان، الأول وراء العالم (القطب المحتمل) الآخر في العالم (القطب الفعلي). والقطب الفعلي متناه وفي تغيير مستمر. وهذه النظرة تُسمَّى لاهوت الصيرورة.

والفيلسوف الإنجليزي، ألفرد نورث وايتهيد هو الأب الحديث لوحدة الموجود، وتلميذه، تشْالِيز هارتشورن الذي حمل التقليد في الولايات المتحدة، وتبعه شوبِرت أوجدِن، وجون كوب، ولويس فورد. وفي الآونة الأخيرة جريج بويد، وكلاك بنّوك الذين تأثرو بشدة بلاهوت الصيرورة من خلال نظرة سموها التوحيد المفتوح (انظر كتاب بينّوك، Most Moved Mover).

التعددية: يوجد الكثير من الآلهة المحدودة في العالم

خلافاً للموحدين، يقول المعدودون بوجود آلهة متعددة، وإن جميعها متناهية. وكذلك، هذه الآلهة لا تخلق العالم. بل هي في العالم، وليست وراء العالم.

وفي العالم القديم، كان المصريون، واليونان، والرومان معددين. وفي الأزمنة الحديثة لدينا الويكا، وكثيرة من أتباع العصر الجديد، والمرمون الذين حافظوا على الشرك حياً.

هل الله الواحد موجود؟

باستثناء الهندوسية، التي في شكلها الرسمي لديها إله وحدوي الوجود (براهمان) وظهورات متناهية شخصية للإله، فإن كل النظرات السابقة عن الله متضاربة. وبهذا، يجب أن تكون إحدى هذه النظرات صحيحة والأخريات خاطئة. لأن الله لا يمكن أن يكون سرمدياً ومتناهياً. ولا يمكن أن يكون إلهاً واحداً ومع ذلك متعدداً. كما أنه لا يمكن أن يكون الله فردا ولا شخصياً. وبالمثل، إن كان الله موجود (التوحيد)، فالإلحاد لا يمكن أن يكون صحيحاً.

وبما أن المسيحية ديانة توحيدية، فالسؤال أمامنا هو: إنْ كان الله الواحد موجوداً. أي، هل ثمة شخص، أخلاقي، سرمدي خارج الكون، هو من خلق الكون؟ دعونا ننظر إلى الدليل عن الله الواحد.

البرهان الكوني على وجود الله

إن مفردة كوني (cosmological) مكونة من كون (universe)، وسبب (logos). وتعني تقديم علة لوجود الكون. وثمة صيغتان للبرهان الكوني: الأولى تعالج بداية الكون (الحجة الأفقية)، والثانية تعالج وجود الكون حالياً (الحجة العمودية). 

أ. صيغ الحجة الأفقية (الكلام)[17] على الله

إن خطوط الحجة الأفقية على وجود الله بسيطة للغاية:

  1. أي شيء له بداية، له بادئ (سبب).
  2. للكون بداية.
  3. إذاً، للكون بادئ (سبب).

المقدمة الأولى قائمة على المبدأ الأساسي للسبية: «لكل شيءٍ علة». فلا شيء يأتي من لا شيء؛ فمثل ذلك لا يحدث قط. وحتى ديفيد هيوم الريبي أكد، «لم أقل قطّ بهذا الافتراض السخيف أنه يمكن لأي شيء أن يأتي بدون سبب: وكل ما اعتقد به هو أن اليقين الذي لدينا بخصوص زيف الافتراض لا يأتي من الحدس، ولا من الإثبات، بل من مصدر آخر».[18]

المقدمة الثانية معززة بالبرهان العلمي والعقلي. علمياً، فالقانون الثاني للديناميكيا الحرارية ينص على «أن في نظام مغلق (مثل الكون) فكمية الطاقة القابلة للاستهلاك في تناقص». باختصار، إن الطاقة القابلة للاستهلاك في الكون تُستهلك. وكما قال اللاأدري عالم الفيزياء الفضائي روبرت جاسترو، «ما إنْ يحترق الهيدروجين مع النجوم ويتحول إلى عناصر ثقيلة، فلا يمكن أن يعاد مجدداً إلى حالته الأولى. فدقيقة بعد دقيقة، وسنة بعد أخرى، فالهيدرجين يُستخدم في النجوم، ومصادر هذا العنصر تصبح أقلَّ فأقل».[19]

إذاً، فالكون يخسر طاقته القابلة للاستعمال. ولكن، هو مثل ساعة رملية حيث يتدفق الرمل من القسم العلوي إلى السفلي، ونعلم إنه إن لم يكن رمل في القاع، فهذا يعني، أنه لم يكن من قبل. وبما أنه لم ينضب بعد الطاقة القابلة للاستعمال في الكون لم تنضب بعد، فهذا يعني، أن الكون ليس سرمدياً. فله بداية. ولكن أي شيء له بداية، فله سبب. وبهذا، فللكون علةً (الله).[20] ذلك أن سبب الكون هو وراء العالم المحدود، ويجب أن يكون مسبب الكون غير محدود (سرمدياً). وبما أنه وراء العالم الطبيعي، فيجب أن يكون فوق الطبيعي. كما قال جاستروا: «ثمة ما يمكن أن أطلق عليه أنا أو غيري، قوى عليا تعمل الآن، واعتقد أنه لواقع مبرهن بشكل علمي».[21] وأضاف في مكان آخر: «إن بحث العلماء عن الماضي انتهى في لحظة الخلق. وهو تطور غريب للغاية، وغير متوقع للكل، ما عدا اللاهوتيين. فهم كانوا قد قبلوا كلمة الكتاب المقدس: «فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» [التكوين 1: 1]».[22]

وثمة حجة فلسفية لبداية العالم. وتنص:

  1. توجد علّة لكل بداية.
  2. الكون زمني، وله بداية.
  3. إذاً، فللكون الزمني علة (الله).

إن الوقت بوصفه سلسلة متعاقبة من اللحظات لا يمكن أن يكون سرمدياً. لماذا؟ لأن السلسلة السرمدية بالتعريف لا تنتهي أبداً. ولكن اللحظة الحاضرة هي نهاية لحظات سابقة قبلها. وبالتالي، فاللحظات قبل اليوم لا يمكن أن تكون أبديةً. إذ يجب للوقت أن يكون له بداية. وللعالم الزمني بداية، وبالتالي يجب أن يكون له علة (الله).

وبهذا، فكلا من البرهان العلمي، والمنطق السليم يقود إلى علّة سرمدية عليا هي أصل العالم المادي ـ الزمني. وهذا ما يقصده التوحيد عند الحديث عن «الله».

ب. صيغة الحجة العمودية للبرهان الكوني على الله

وهذه الحجة تجيب على سؤال قديم: لماذا الآن فحسب وُجد شيء ما، بعد أن لم يكن من شيء؟ وبكلمات أخرى، ما الذي جعل الكون يوجد الآن؟ ويمكن إيراد الحجة بأشكال مختلفة. والطريقة التقليدية هي التالي:[23]

  1. كل أمر مشروط (تابع) له علة الآن.
  2. كامل العالم الفيزيائي مشروط الآن.
  3. وبالتالي، فإن للعالم الفيزيائي علة الآن.

إن المقدمة الأولى هي صيغة لمبدأ السببية. لأن أي شيء مشروط (تابع) فهو غير مسؤول عن وجوده. لماذا؟ لأنه تابع في وجوده، وأي شيء تابع في وجوده فهو مرتبط بشيء آخر لأجل وجوده. وبكلمات أخرى، أي شيء هو تابع في وجوده كان يمكن ألا يوجد. وبهذا، فله إمكانية أن ألاّ يكون موجوداً. ولكن أي شيء موجود، ولكن كان يمكن ألاَّ يوجد، يحتاج إلى أن يفسر سبب وجوده. ولكن كان بإمكان كل الكون ألا يكون موجوداً. فعدم وجوده ممكن.[24] وبالتالي، يحتاج كل الكون إلى علة لوجوده الآن. ولكن العلة التابعة لا يمكن أن تكون بنفسها وجوداً مشروطاً وإلاّ ستكون بحاجة إلى مسبب. وبالتالي فعلة العالم التابع يجب أن تكون وجوداً غير تابع، أو كائناً ضرورياً (الله).

بطريقة أخرى سنضع هذا البرهان في عبارات الأجزاء والكل.

  1. كل جزء من العالم يحتاج إلى علة.
  2. الكل هو مجموع كل الأجزاء.
  3. بالتالي، كامل الكون يحتاج إلى علة (الله).

لا جزء من هذا العالم قائم بذاته. كل جزء مرتبط بجزء آخر لوجوده. وليس ثمة أجزاء لا سبب لها، مهما كان هذا «الجزء» الذي نعنيه (الجزيئات، الذّرات، الطاقة الفيزيائية، أو أي شيء). فكل جزءٍ من الكون متعلق بشيء خارجه لوجوده. وفي مصطلحات أكثر علمية، لا يوجد جزء يتكون من طاقة سرمدية، الطاقة التي لا تنضب. فحسب القانون الثاني للديناميكيا الحرارية (انظره فما سبق)، تستنفد كل المادة في الكون الطاقة القابلة للاستخدام. وبهذا، فكل جزء من الكون هو تابع أو له علة. ولكن الكل هو مساو لمجموع الأجزاء، وبالتالي، إنْ كان لكل جزء سبب، فلجميع الكون سبب أيضاً.

ويعترض المعارضين على هذه بالقول إنها مغالطة التركيب، التي تقول إن الكل ليس دائماً يملك خصائص الأجزاء. مثلاً، المربع، يمكن أن يرسم بمثلثين. ولكن كل جزء هو مثلث، ولكن الكل مربع.

وفي الرد على ذلك، يقول المؤمنون إن كلا الجزئين شكلان هندسيان، وأن طبيعة التركيب هي الشكل الهندسي. وإن كانت كل بلاطة على الأرض بنية، فإن كل الأرضية هي بنية. وفي حالة المثلثات التي لا تنتج مثلثاً بالضرورة فهذه حالة عرضية وليست ضرورية. ولكن الأمر الأساسي هو أن الجزء التابع يضاف إلى كومة كاملة، وهي لا تعادل الكائن الضروري. وبغض النظر كم يبلغ عدد الأجزاء التابعة في الكل، فإن حصيلة الكل تبقى مشروطة.

وإحدى الطرق لفهم ذلك هو طرح سؤالاً بسيطاً: إن أبعدت كل أجزاء الكون، فهل يبقى أي شيء؟ إن كان الجواب لا، فهذا يعني إن كل العالم يساوي مجموع كل أجزائه، وبهذا، فله مسبب. وإن قالوا، نعم يبقى شيء ما عند ذهاب كل الأجزاء، عندها فهو يجب أن يكون شيئاً أكثر من شيء مشروط، وزمني، أو الكون المصنوع. بل يجب أن يكون كائناً متعالياً، ضرورياً، سرمدياً، غير مخلوق، به يتعلق كل جزء من الكل من أجل وجوده! ولكن هذا ما يقوله المؤمنون بـ«الله» الواحد. في كلا الحالين (أكانت الأجزاء مساوية للكل أم لا)، فإن كل جزء من الكون يحتاج إلى سبب (الله)، وكذلك يحتاج الكون برمته.

وقد قدم بعض المؤمنين الحجة المختصرة على وجود الله. وهي على الشكل التالي:

  1. ثمة شيء موجود (مثلاً، أنا موجود).
  2. ولكن اللاشيء لا يمكن أن يسبب شيئاً.
  3. وبالتالي، فالكائن السرمدي والضروري (الله) موجود.

ويجب أن يكون سرمدياً لأنه أن كان ثمة عدم في وقت ما، فهذا العدم لا يمكن أن يسبب شيئاً ما. والسرمدي ضروري لأنه لا يمكن أن تكون كل الكائنات مشروطة (تابعة). فيجب أن يكون ثمة كائن ضروري به تتعلق الكائنات لوجودها. وبالتالي، فإن كنت أنا موجوداً بشكل لا جدال فيه، فهذا يعني أن ثمة كائناً سرمدياً ضرورياً موجوداً بوصفه أساس لوجودي (أو أي شي آخر قد يكون موجوداً).[25]

البرهان الغائي على وجود الله

إن الكلمة اليونانية telos تعني نهاية، الغاية، أو التصميم. إن إقامة الحجة من التصميم هي ما نسميها البرهان الغائي [التيولوجي] على الله. ولها أشكال مختلفة، وأحدث الشواهد العلمية عليها تأتي من مصدرين.

أ. المبدأ الأنثروبولوجي [الإنساني]

إن أحد أهم الاكتشافات العلمية الهامة في الأزمنة المعاصرة هي المبدأ الأنثروبولوجي.[26] وحسب هذا المبدأ فإن بداية الكون الأولى كانت مناسبة أو موائمة أو مهيئة لظهور الحياة البشرية.[27] ثمة أكثر من مئة عامل[28] يجب أن تكون في تناغم كامل لأجل الحياة البشرية التي نعرفها الآن. ومن هذه العوامل:

  • 21% من الأوكسجين هو المناسب للحياة (أكثر من ذلك، يعرضنا للاحتراق، وأقل من ذلك نتعرض للاختناق)؛
  • إن المسافة بين الشمس والأرض هي المناسبة (أقرب من ذلك سنتعرض للاحتراق، وأبعد من ذلك سنتجمد)؛
  • إن ميل الأرض هو المناسب للحياة (وبخلاف ذلك فسنتعرض للبرد ليلاً والحرارة نهاراً)؛
  • إن قوة الجاذبية مناسبة بحيث تسمح لنا بالحركة، لكنها تحول بيننا وبين التحليق في للهواء؛
  • إن مكان كوكب المشتري مناسب بحيث يحمي الأرض من تصيبه وتدمره الأجسام الفضائية؛
  • القوة النووية مناسبة للحافظ على تماسك الذرات.

وقد لخص عالم الفلك روبرت جاستروا ذلك الوضع بشكل جيد: «إن المبدأ الأنثروبولوجي الأكثر تشويقاً بخصوص البرهان على الخلق، لا بل هو الأكثر تشويقاً لأنه يبدو أنه يقول إن العلم نفسه يبرهن، من الواقع المعقد، على أن هذا الكون قد خُلق، وصُمم، لكي يعيش فيه الإنسان. وهذه النتيجة التي يقول بها الإيمان بالضبط».[29]

فلماذا يعطي المبدأ الأنثروبولوجي نتيجة متصلة بالإيمان؟ لأنه يشير إلى أن الله الواحد هو وراء كل العالم وأنه خطط لظهور البشر قبل الكون، وطوره بشكل مناسب من البدء ليجعله صالحاً. وبوسعنا أن نضع صيغة الحجة على الشكل التالي:

  1. التخطيط الذكي دليل على علة ذكية.
  2. يظهر الكون وجود تخطيط متقدم.
  3. بالتالي، الكون كان مخططاً من جانب علة ذكية (الله).[30]

عندما تأمل طبيعة القوانين الفيزيائية للكون وحده، فإن العالم الجليل ألبرت آينشتاين قال: «إن تناغم القانون الطبيعي... يظهر وجود ذكاء متفوق، وإنْ وازنا التفكير المنظم والتصرفات البشرية يظهر لنا أنها بالمقارنة معه لها تفكير تافه للغاية»[31]. وبالمثل، فالملحد السابق، عالم الفلك، آلان سانديج قال: «وكما قلت من قبل، فالعالم شديد التعقيد في كل جوانبه بحيث لا يمكن أن ينتج عن الصدفة فقط. وأنا على يقين أن وجود الحياة في كل نظامها، والكائنات الحية المرتبة والموضوعة سويا بكل بساطة... وكلما تعلم المرء أكثر عن الكيمياء الحيوية كلما أصبح أكثر ميلاً وتصديقاً لوجود نوع معين من المبدأ التنظيمي ـ مهندس معماري بالنسبة للمؤمنين».[32]

ويلخّص العالم ميشيل بِهِ البرهان بشكل جيد، فيقول ما لدينا هو: «كوكب في مكان مثالي من المجموعة الشمسية، في المنطقة الصحيحة للمجرة، مع كل أنواع القوانين الصحيحة لإنتاج المواد الكيمائية، مع كل أنوع الخصائص الصحيحة ـ وكل هذا ضروري للحياة، ولكن ما زال لا يكفي. فالكوكب بنفسه لا يجب أن يكون كبيراً للغاية ولا صغيراً أيضاً، مع كمية كافية، ولكن ليست فائضة من المياه، وأنواع صحيحة من المعادن في المكان المناسب... وكلها حيوية. ولو نقص أحد هذه العناصر، لما وجدنا الحياة العاقلة».[33]

ولكن الترتيب المسبق الضروري لهذه الأجزاء كلها تتعاون سوياً لنفس الغاية، وهي علامة دائماً على التصميم. ونحن لم نشاهد سابقاً القوانين الطبيعية تقوم بمثل هذا الشيء.

ب. البرهان الغائي من علم الأحياء

في عصر داروين، كان ينظر إلى الخلية الحية على أنها «صندوق أسود» لافتقاد العلماء إلى المجاهر التي تسمح لهم بالنظر إلى أسرار الخلية. وفي كتابه المعنون: «صندوق داروين الأسود»، بدأ عالم الأحياء ميكائيل بِه تصميماً ثورياً. فبعد أن تحدث عن الدليل الذي لا يصدق، على التعقيد المدهش للخلية الحية، استخلص بِه، «يظهر طبيعياً في ختام التصميم الذكي نفس المعلومات ـ وليس من الكتب المقدسة أو الإيمان المذهبي. مما يدل على أن الأنظمة البيوكيميائية كانت قد صُممت من طرف فاعل ذكي، وهي عملية مكررة لا تتطلب مبادئ منطق جديدة أو فاعلية ذكية».[34] وفي كتابه الأحدث، يطوّر بِهِ حجته بإظهار أن الحياة أكثر تعقيداً مما كان يُعتقد.[35]

وحتى فرنسيس كريك، الملحد، حامل جائزة نوبل، أقر: «المرء النزيه، المسلح بكل المعرفة الممكنة المتوفرة لدينا الآن، يمكنه أن يقول بمعنى ما، أن أصل الحياة ظهر في لحظة هي تقريباً معجزة، إذ أن شروط كثيرة كان يجب تكون متوفرة لتسمح بالحياة أن تبدأ».[36]

وبالفعل، فالملحد السابق، السير فرِد هويل، صرح أن الأمر على الشكل التالي: «منظومات الكيمياء الحيوية هي من التعقيد إلى حد بعيد، بحيث أن فرصة أن تتشكل خلال الخلط العشوائي للجزئيات العضوية هي متدنية للغاية، إلى النقطة التي لا يمكن أن تبتعد عن الصفر». وبهذا، يجب أن يكون ثمة «ذكاء، قد خطط المواد الكيميائية الحيوية وله الفضل في أصل الحياة الكربونية».[37]

وحتى عالم الأحياء التطوري، الملحد، ريتشارد دوكينز أقر أنه يبدو أنّ الحياة قد صُممت، وأنّ الحيوان وحيد الخلية له ألف مجموعة كاملة للبيانات الجينية![38] ولكن من أين يمكن أن تكون قد أتت هذه المعلومات المعقدة، إنْ لم تكن من مخطط ذكي للحياة الأولى.

ج. البرهان البيولوجي المستمد من تعقيدات محددة

الحياة فريدة. وهي تتسم بما يسميه العلماء: «التعقيد المحدد». البلورات هي محددة ولكنها ليست معقدة، فهل تمتلك رسالة تعيدها تكراراً. المركبات الكيميائية العشوائية معقدة ولكنها ليست محددة، ولا تحمل رسالة قط. الحياة فقط لها التحديد والتعقيد. وقد طور كلاود شانون نظرية معلومات لمختبرات بِل، التي تظهر أن المعلومات تنقل أحرفاً تمتلك حرفاً معيناً ذا تردد. وطبق هوبرت يوكي هذه النظرية على الحمض النووي [DNA] في الخلايا الحية واكتشف أن وجود تماثل حسابي بين الأحرف المتتالية في الحمض النووي واللغة البشرية، فكتب: «تنطبق فرضية التتابع بشكل مباشر على البروتين وعلى النص الجيني مثلما تنطبق على اللغة المكتوبة، وبهذا فإن المعالجة هي متطابقة حسابياً».[39] وهذا يؤدي إلى الحجة التالية:

  1. حيثما وجدنا تعقيداً محدداً في الحاضر (مثل اللغة البشرية)، فإن له علة ذكية.[40]
  2. التعقيد المحدد في الخلية الحية متماثل حسابياً مع اللغة البشرية.
  3. إذاً، لا بد أن الحياة الأولى كان لديها علة ذكية.

ومن المهم ملاحظة أن ليس غياب العلة الطبيعية أدى إلى هذا الاستنتاج. بل وجود البرهان على العلة الذكية. وبهذا فوضع علة ذكية للحياة الأولى ليست مغالطة «إله الفجوات». فمثلاً، ليس بسبب غياب معرفة الأسباب الطبيعية الذي يدفعنا للقول بعلة ذكية على سطح جبل روشمور أو رمل قلعة على شاطئ. بل هو دليل معروف على علة ذكية من التجربة السابقة التي تدفعنا للاستنتاج بوجود علة للحياة الأولى. وفي سنة 1997، في فيلم «الاتصال»، الذي أعد فكرته كارل ساجان، فإن كارل ساجان وبرنامج البحث عن الذكاء خارج الأرض قد صوّر علماء ابتهجوا حينما حصلوا على رسالة من الفضاء الخارجي (كل الأعداد الأولية من 1 إلى 100) عبر تلسكوب راديو. وكما أعلن ساجان، «إن تلقي رسالة واحدة من الفضاء الخارجي كفيلة بإظهار أنه من الممكن العيش عبر مثل هذه المراهقة التكنولوجية»[41] لأنه كان سيثبت وجود حضارة ذكية خارجاً. وما يدعو للسخرية، أن ساجان نفسه، قال في مكان آخر أن العقل البشري هو معقد بحيث أنه يحتوي على 20 مليون مجلد ممتلئ من المعلومات الوراثية فيه. إذ كتب ساجان «إن الكيمياء العصبية للدماغ مشغولة بشكل مدهش، فدوائر الآلة لهي أشد روعة من أي شيء أبدعه البشر».[42] فإن كان الأمر كذلك، ويحتاج الأمر إلى كائن ذكي لتشكيل رسالة بسيطة واحدة، فكم أعظم هو العقل الذي خلق العقل البشري مع سعة تعادل مكتبة الكونغرس فيه!

وبعد مراجعة البرهان العلمي على وجود الله، فأكثر الملاحدة السابقين السيء السمعة في الأزمنة الحاضرة، أنتوني فلو، يستخلص: «هؤلاء العلماء الذين يشيرون إلى عقل الله لا يقدمون فقط سلسلة من البراهين أو عمليات الاستنتاج المنطقية. بل هم يقترحون رؤية للواقع تنبثق من قلب مفاهيم العلم المعاصر، ويفرضونها على الذهن العقلاني. وهي رؤية أجدها مقنعة وغير قابل للدحض».[43]

البرهان الأخلاقي

بالإضافة إلى البرهان الكوني الذي يشير إلى العلة العليا السرمدية للكون، والبرهان الغائي الذي يظهر أن هذه العلة هي كينونة فائقة الذكاء، هناك البرهان الأخلاقي الذي يكشف أن الله هو الكامل أخلاقياً. وهو ينص على التالي:

  1. لكل قانون أخلاقي ثمة مانح أخلاقي له.
  2. ثمة قانون أخلاقي موضوعي.
  3. وبهذا يجب أن يكون ثمة معطٍ أخلاقي موضوعي.

وأكثر الصيغ شهرة لهذه الحجة هي ما صرح به سي إس لويس.[44] والمقدمة الأولى وهي واضحة بنفسها. إذ يجب أن يكون للقوانيين مشرّع، وللوصفات يجب أن يكون لها واصفين. وثقل البرهان يقع على المقدمة الثانية. ما هو الدليل على وجود قانون أخلاقي موضوعي، ليس فقط الفاعل أو الشخص. من الغريب أن الملاحدة يقدمون بأنفسهم الدليل على القانون الأخلاقي ـ الدليل المتين بحيث جعل الكثيرين منهم يتحولون للإيمان بوجود معطٍ قانوني أخلاقي (الله).

بوصفه ملحداً سابقاً، كان سي. إس لويس يعتقد أن الشر والظلم في العالم يلغيان الله. ولكن سأل نفسه:

كيف حصلت على فكرة العدل والظلم؟ فلا يمكن للمرء أن يسمي شيئاً ما أعوجاً إنْ لم يكن لديه فكرة عن الخط المستقيم. فبماذا كنت أقارن هذا العالم عندما كنت اسميه جائراً.... بالطبع كان يمكنني أنْ أقدم فكرتي عن العدالة بالقول إنّها ليس إلاَّ فكرتي الخاصة. ولكن إنْ فعلت ذلك، فإنَّ حجتي ضد الله كانت ستسقط أيضاً ـ لأنّ الحجة متعلقة بالقول إنّ العالم كان جائراً فعلياً، وليس صدفة أنه لم يكن يرضي أهوائي الخاصة. وبهذا ففي المسعى الذي كنت أقوم به للبرهنة على عدم وجود الله ـ وبكلمات أخرى، إن كل الواقع كان بدون معنى ـ وجدت نفسي مجبراً على الافتراض بأن جزءاً واحداً من الواقع، أي فكرتي عن العدالة، هي ذات معنى كامل.[45]

وليس سي. إس لويس وحده من سار على هذا الطريق، فها هو الملحد السابق جاي بودجييزوسكي من جامعة تكساس قد أقرَّ بنفس الطريقة بالله. وكان منطقه، «ما الذي أعادني إلى الوراء هو حدس متزايد بأن ظرفي هو شر بشكل موضوعي... إنَّ الشر هو نقص في الخير؛ وليس ثمة شيء مثل جوهر الشر، أو الشر بحد ذاته. وبهذا فإنْ كانت حالتي الخاصة هي شر عملي، فيجب يكون هناك أمر صالح كانت حالتي في خراب بالنسبة له». باختصار، لا يمكننا أن نعرف الشر، إنْ لم يكن على ضوء الخير. فإنْ كان الشرُّ حقيقة، فيجب أنْ يكون ثمة معيار موضوعي نعرف به الشر.[46]

وحتى الملحد السابق والعالم المشهور حالياً ورئيس مشروع الجينوم البشري، الدكتور فرانسيس كولينز، كان متأثراً بالبرهان الأخلاقي في عودته إلى الله. وكتب لاحقاً: «بعد ثمانية وعشرين سنة كمؤمن، فإن القانون الأخلاقي يبرز على أنه أقوى علامات الإرشاد إلى الله. وأكثر من ذلك، فهو يشير إلى الله الذي يهتم بالبشر، والله الذي هو صالح ومقدس بلا حدود».[47]

وثمة أسباب كثيرة تحتم وجود قانون أخلاقي موضوعي:

  1. لم نكن لنعلم بوجود الظلم إنْ لم يكن ثمة معيار موضوعي عن العدالة.
  2. يستحيل التقدم الحقيقي إنْ لم يكن لدينا معيار موضوعي نقيس به.
  3. الأشياء إما تصبح أفضل أو أسوأ.
  4. إنّ التضاربات الأخلاقية ليست ممكنة بدون معيار أخلاقي موضوعي.
  5. ونفس القانون الأخلاقي الأساسي موجود في أغلب الثقافات.[48]
  6. لم يكن كسر القانون الأخلاقي إثماً عالمياً لو لم يكن ثمة قانون أخلاقي موضوعي.
  7. حتى أولئك الذين ينفون الثوابت الأخلاقية لديهم مبادئ أخلاقية يعتبرونها عالمية مثل التسامح، حرية التعبير، وخطيئة التعصب والإبادة.
  8. نحن لم نخترع القانون الأخلاقي أكثر من اختراعنا قوانين الرياضيات أو الفيزياء. إذ تم اكتشاف هذه القوانين وليس خلقها.
  9. أحياناً نختار واجب انقاذ شخص يغرق على غريزة حفظ النفس من الخطر.
  10. لقد تم اكتشاف القانون الأخلاقي، لا وفق طريقة تصرفنا، بل كيف نود أن يسلك الآخرون نحونا.
  11. لا يمكن تفسير الإيثار بشكل كافٍ من منطلق الطبيعة.

أعرف طالباً حضّر بدوره ورقة دراسية قائمة على توثيق وبحث جيدين، حيث ادعى فيها أنه كان نسبي الأخلاق. وقد أعطى الأستاذ البحث درجة الرسوب، وذيل الورقة بهذه الكلمات: «صفر! لا أحب المجلدات الزرقاء!». فاحتج الطالب بشدة إلى الأستاذ أنه كان مجحفاً بحقه، غير عادل، ولا يحق له أن يعطي «صفراً» بناءً على لون المجلد. وبالفعل كان الطالب محقاً باحتجاجه. ولكنه كان محقاً فقط لأنه كان على خطأ في بحثه. لأن أي طالب يعرف أنه ثمة مبدأ أخلاقي موضوعي يقول إنه من الخطأ إعطاء طالب «صفر» لأن لون المجلد لا يستند على محتوى البحث.

البرهان من الحاجة الدينية

ثمة سبب آخر لوجود لله يستحق الذكر هنا. وهو على الشكل التالي:

  1. كل الناس يحتاجون إلى الله.
  2. ما نحتاجه حقاً، موجود فعلاً.
  3. وبهذا فإن الله موجود.

يقر أغلب الناس بحاجتهم لله. ولكن الذي ليس معروفاً على نطاق واسع هو أن أغلب الملاحدة يشعرون بحاجتهم إلى الله. فهم ببساطة لا يؤمنون بوجوده واقعياً، إذ قال سيجموند فرويد أنه وهماً،[49] وادعى لودفيج فويرباخ أن الإله إسقاط للتصور البشري.[50] وكلاهما أضاعا الأمر، فالحاجة إلى الله هي حاجة فعلية، وليست مجرد رغبة. لننظر إلى البرهان، كما وضعه فرانسيس كولينز الملحد السابق: «لماذا يوجد مثل هذا الجوع الإنساني العالمي بشكل فريد، إن لم توجد صلة بفرصة لتلبيته».[51] وأضاف، «والمخلوق لا يولد برغبات إن لم تكن تلبية تلك الرغبات ممكنة. فالطفل يشعر بالجوع: وفعلاً ثمة شيء اسمه الطعام. وتريد البطة الصغيرة السباحة، وبالفعل ثمة شيء اسمه الماء. ويشعر الإنسان بالرغبة الجنسية، وبالفعل، ثمة شيء اسمه الجنس».[52] فلما لدينا مكان لله في قلوبنا إنْ لم يكن ليُملأ بالله؟

إن الوهم مجرد رغبة، مثل الاعتقاد بوجود وعاء من الذهب في نهاية قوس قزح! ولكن الشعور بالحاجة إلى إله ليس مجرد رغبة، أكثر من حاجة المرء للماء. صحيح إنه لا يحصل كل شخص على الماء أو الطعام الذي هو بحاجة إليه. ولكن هذا لا يعني إنه ليس ثمة من طعام أو ماء في أي مكان. وبالمثل، ليس كل شخص سيجد الله، ولكن لا يعني هذا أن الله ليس موجوداً في أي مكان. انظر إلى التشوق إلى الله، حتى بين أولئك الذين لا يؤمنون به:

  • برتراند رسل: «حتى عندما يشعر المرء أنه أقرب ما يكون إلى الناس، ثمة شيء في المرء يجعله منتمي لله بقوة... وعلى الأقل هذا ما يجب أن أعبر عنه إن كنت أعتقد بوجود الله. إنه لغريب، أليس كذلك؟ وأني كثير الاكتراث بشكل حار لهذا العالم وللكثير من الأشياء والناس فيه، وبعد... ما هو كل؟ ثمة شيء يشعر به المرء أكثر أهمية، رغم أني لا أؤمن بوجوده».[53]
  • إيريش فروم: «إن الحاجة... لموضوع للتوقير متجذر في شروط الوجود البشري».[54]
  • لودفيج فويرباخ: «الله حاجة للعقل، ضرورة للفكر: أعلى درجات قوة التفكير».[55]
  • جان بول سارتر: «أنا أحتاج الله... أتطلع إلى الدين، أتشوق له، كان شفاءً. لو رفضني، لكنت قد اخترعته بنفسي».[56]
  • فريدريك نيتشه: «ماذا تكون أنت، أيها الاله المجهول؟ إلى آخر كل ما هو وحيد، تعالِ!... فشعلة قلبي الأخيرة... تشتعل نحوك!!!، تعال إلهي المجهول».[57]
  • ألبرت كامو: «ليس ثمة ما يثبط الرغبة نحو الإله في قلب الإنسان».[58]
  • القديس أوغسطينوس، هذا الريبي السابق يقر: «شكلتنا لأجلك، وقلوبنا مضطربة ما لم تجدك».[59]

فإن كان البشر يحتاجون الله، بمن فيهم الملاحدة، فمن غير المعقول أن نصل إلى نتيجة أن لا إله لمجرد أن بعض الناس لم تجده ببساطة.

يمكنك أن تقود جواداً إلى النبع ولكن...

إن كان ثمة أسباب وجهية للإيمان بالله، فلماذا يرفض الملحدون الله؟ أحد الملاحدة السابقين وضّح: «لأن وجود الله يجعلني منزعجاً أكثر وأكثر، فقد بدأت أتطلع إلى أسباب تدفع للاعتقاد أنه غير موجود. وأنه لأمر طريف يخصنا نحن البشر: هو أنه لا يوجد كثيرون منا يشكّون في وجود الله ومع ذلك يشرعون في الإثم. والكثير منا يبدأ بالخطيئة ثم يبدأ بالشك بوجود الله».[60] وقد كشف نيتشه أن إشكاليته ليست مسألة العقل، بل الإرادة حينما كتب: «إن قدر أحدهم على البرهنة على إله المسيحيين هذا، فيجب أن نكون حتى أقل قدرة على الإيمان به»[61]. وهذا مثال العلماء الذين يرون البرهان العلمي على وجود الله، ومع ذلك يرفضونه، وقد وضع روبرت جستروا أصبعه على الإشكالية عندما كتب، «ثمة ضرب من الدين في العلم. إنه دين شخص يؤمن... ليس ثمة علة أولى... وهذا الإيمان الديني للعلماء يتعرض للكسر باكتشاف إن للعالم بداية. ... وعندما يحصل ذلك، يفقد العلم السيطرة».[62] وقد كان ريتشارد ليونتين، أحد الملاحدة من هارفرد، صادقاً، عندما قال: «نحن ننحاز إلى طرف العلم الطبيعي رغم السخف الظاهر لبعض بنياته... ولأن لدينا التزام مسبق نحو المادية». وقد أضاف: «وحسب منظومتنا فالمادية مطلقة، وبهذا لا يمكننا أن نسمح للإلهي بالولوج من الباب».[63]

ردود على بعض الاعتراضات الهامة

وهذا ليس للقول إن الملاحدة لا يقدمون اعتراضات على الإيمان بالله، بل فقط أنهم لا يعرضون وجهات نظر صالحة بشكل عقلاني. وللحق فإن اعتراضاتهم متقادمة ويتم تجديدها.

الاعتراض الأول: إن كان كل شيء يحتاج لعلة، فالله بدوره يحتاج إلى علة. وإنْ كان الله لا يحتاج إلى علة، كذلك الكون لا يحتاج بدوره إلى غلة.

الرد: هذا تعبير خاطئ لمبدأ السببية. لأن المؤمنين لا يحاججون «أن كل شيء يحتاج إلى سبب». فقط المفعولات تحتاج إلى علل. فقط الأشياء المحدودة، والمشروطة، الأشياء التي لها بداية تحتاج إلى سبب لأنها لا تفسر لماذا هي موجودة، عندما لا يكون وجودها ضرورياً. وبهذا، فأشياء الكون محدودة ومشروطة وتحتاج إلى سبب. ولكن الله ليس له بداية، وليس محدوداً. وبهذا فهو لا يحتاج إلى علة. ولكن العالم محدود، ومشروط، وله بداية. وبهذا، فالعالم يحتاج إلى سبب، ولكن الله لا يحتاج إلى علة.

الاعتراض الثاني: يوجد إمكانية لسلسلة لا متناهية من العلل. وبهذا، ليس ثمة من علة أولى (الله).

الرد: إن سلسلة غير منتهية من العلل قبل اليوم مستحيلة. أولاً، لأنه لا يمكن أن يوجد سلسلة غير متناهية لأشياء متناهية قبل اليوم، لأن السلسلة السرمدية (أبدية) ليس لها نهاية. ولكن اليوم هو نهاية كل الأيام التي مضت قبله. وبالتالي، لا يمكن أن يوجد عدد غير متناهٍ من العلل قبل اليوم. وبالطبع، يمكن أن يكن ثمة عدد لا حصر له من النقاط المجردة بين أ و ب. ولكن النقاط المجردة ليست أشياء معينة. وبهذا، ثمة أعداد غير متناهية للنقاط المجردة بين نهايتي رف كتب. ولكن المرء لا يقدر أن يحصل على عدد لا نهائي من الكتب الحقيقية هنا، بغض النظر مهما كان رقيقة. وبهذا فرقم لا نهائي لأسباب فعلية هو أمر مستحيل.

ثانياً، في كل سلسلة أساسية من العلل، لكل سبب علة. وإلاّ سيكون لدينا سبب لا علة له (الله)، وهذا ما يحاول أصحاب هذا الاعتراض أن يتجنبوه. وعلاوة على ذلك، في أمثال هذه السلاسل من علل الوجود، فعلة على الأقل لدينا هي علة مُسببة. وإلا لن يكون ثمة من سببية في هذه السلسلة. ولكن في هذه الحالة، فإن هذا السبب سيكون سبب نفسه (وإذ يكون هو العلة والمعلول)، وهذا مستحيل. إن كل سبب هو سابق بالوجود على مفعوله، ولكن لا يوجد سبب سابق على نفسه في الواقع منطقياً.

الاعتراض الثالث: إن اعتبار الله يماثل الأسباب العاقلة في الحاضر لا يصل بنا إلى القول بالله الواحد، بل إلى علة شبيهة بالإنسان، التي هي فقط الأسباب التي نجدها تعطي هذه النوع من الأشياء في الحاضر.

الرد: لا يتطلب مبدأ التماثل (القائم على معرفة نوع السبب الذي يعطي شيئاً في الحاضر) سبباً مطابقاً في الماضي بل سبباً مشابهاً لما نلاحظه في الحاضر. وإن برنامج «سيتي» (البحث عن الذكاء خارج الأرض) لم يشترط أن يكون الذين خارج الأرض مثل البشر، بل فقط أن يكون لديهم ذكاء مماثلاً لذكائنا. علاوة على ذلك، لا يجب أن تكون العلة مشابهة بأي طريقة جسدية، بل فقط أن يكون لديها ذكاء مثل الذكاء البشري. وأخيراً، أن الخالق، لا يمكنه أن يكون مثل المخلوق. فالخالق سرمدي (غير محدود)، والمخلوق فانٍ (محدود). وبالتالي، أنْ ننسبَ جسماً أو أجزاء من الجسم (وهي كلها محدودة) للخالق أمر لا يمكن تبريره.

الاعتراض الرابع: إن الحجج المقدمة لإثبات الإله لا تبرهن على أنه يوجد إله واحد، كما يدعي أصحاب التوحيد.

الرد: إن هذه الحجج تؤكد وجود إله واحد فقط لعدة أسباب.

أولاً، فإله الحجة الكونية سرمدي، لأن كل شيء متناه ويحتاج إلى سبب. ولا يمكن أن يكون لدينا كينونتان سرمديتان. لأنه لو كان لدينا كائنان من نفس النوع، لكان يجب أن يكون كل كائن مختلفاً عن الآخر. وأما كائنان سرمديان فلا يمكن أن يختلفان؛ بل يجب أن يكونان من نفس الكينونة، أي يكونان سرمديين.

ثانياً، الله الواحد (في الحجة الأخلاقية) هو كامل بشكل مطلق. ولا يمكن أن يكون لدينا كينونتان كاملتان بشكل مطلق. لأنه يجب أن تكونا مختلفتين، وواحدة لها الكمال والأخرى ليس لها نفس الكمال. والكينونة التي ينقصها هذا الكامل لن تكون كاملة بشكل مطلق. وبالتالي، يجب أن يكون لدينا كينونة كاملة بشكل مطلق واحدة.

ثالثاً، تظهر الحجة الغائية (حسب المبدأ الأنثروبولوجي) أنه كان يوجد عقل واحد وراء كامل العالم الذي كان يخطط لكل الأشياء. وأخيراً، ثمة مجموعة واحدة فحسب من القوانين الفيزيائية في كل العالم التي تعكس عقلاً واحداً كامناً وراءه. إنه كون واحد (عالم واحد من عقل واحد) وليس قصائد متعددة (عوالم متعدد من عقول عديدة).

بعض الأفكار الختامية

تظهر مختلف الحجج بخصوص الله أنه يوجد إله واحد فحسب، وليس آلهة كثيرة. ويجب أن يكون هذا الإله سرمدياً لأنه يقف وراء العالم النهائي الذي صنعه. وأيضاً، يجب أن يكون شخصياً لأنه عاقل وأخلاقي، وهو المصمم العاقل ومعطي القانون الأخلاقي. بالإضافة لهذا، فهذا الإله روحاني وفوق طبيعي لأنه هو وراء العالم الفيزيائي والطبيعي. بوسعه أن يصنع معجزات لأنه قام هو بالمعجزة الأعظم على الإطلاق، وهي أنه خلق العالم. وبهذا، فالدليل يشير إلى وجود الله الواحد، السرمدي، العاقل، الكامل، الفرد، الخارق. حتى أن اللاأدري، عالم الفلك روبرت جاستروا وضح:

إن تقصي العلماء في الماضي انتهى في لحظة الخلق. وهذا تطور غريب إلى حد بعيد، وغير متوقع من طرف الكل، ما عدا اللاهوتيين. الذين قبلوا دائماً كلمة الكتاب المقدس: «فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» [التكوين 1: 1].[64]

خلاصة القول، ينتهي العلم حيث يبدأ الكتاب المقدس.

المسائل الاثني عشر

1.     الحقيقة حول الواقع قابلة للمعرفة

2.     لا يمكن أن يكون كلا النقيضين صادقين

3.     إنها لحقيقة أن الله الواحد موجود

4.     المعجزات ممكنة

5.     يرتبط حدوث المعجزات بدعوى صادقة تعلن حق الله عبر رسل الله

6.     العهد الجديد نص موثوق

7.     كما شهد العهد الجديد، فيسوع المسيح أعلن أنه الله

8.     إعلان يسوع أنه الله تأكد بمجموعة فريدة من المعجزات

9.     وبهذا، فيسوع هو الله الظاهر بالجسد

10. كل ما أكّده يسوع (الذي هو الله) أنه الحق، فهو حق

11. يسوع أكّد أن الكتاب المقدس كلمة الله

12. إذاً، الحق أن الكتاب المقدس كلمة الله، ومزيف وكل ما يعارض هذا الحق الكتابي

ملخص الفصل

إن كان الله ـ الواحد ـ موجوداً، فالمعجزات ممكنة. وقد رأينا (في الفصل 3) وجود دليل متين على وجود الله. وبالتالي، يؤدي ذلك إلى أن المعجزات ممكنة، وأكبر المعجزات قاطبةً التي حصلت هي الخلق. إن الله الذي خلق العالم من العدم لا يمكن أنْ يُحَدَّ من العالم الذي خلقه. فبإمكان الله أن يتدخل إنْ أراد وحينما يريد. والله الذي خلق الحياة من عدم الحياة، لقادر أن يعيد الحياة إلى الأجساد الميتة.

إن الحجة ضد إمكانية المعجزات دائرية؛ وهي مصادرة على المطلوب، بالافتراض أن كل الأحداث لها أسباب طبيعية (وهذا ما يجب أن يبرهن عليه). وهذا ليس فقط خاطئاً، بل هو على عكس العلم، الذي يترك مكاناً للأسباب الذكية. ومبدأ الانتظام (الذي به نعرف الماضي) لا يزيل الأسباب العاقلة لأحداث الماضي، بل يدعو إليها في علم الآثار وعلم الأحياء. بسبب من التعقيد المحدد في الحياة الأولى، بالمقارنة مع التعقيد المُعين المعروف في الحاضر، فإن له علة ذكية. وبهذا فالعلم كما يُفهم حقاً لا يزيل التدخل الذكي في الطبيعة؛ بل، يستدعيها. والمعجزات ممكنة. وأكبر معجزة (وهي الخلق) قد حصلت، وعلينا أن نفحص الدليل لرؤية معجزات أخرى حصلت (مثل التي وردت في الأناجيل) (انظر الفصل 8).

مسودة الفصل: المعجزات ممكنة

·        ليس كل ما يلمع ذهباً

·        إمكانية المعجزات

·        هل المعجزات ممكنة؟

ü     تقييم حجة هيوم ضد مصداقية المعجزات

ü     الاعتراض العلمي على المعجزات

ü     الاعتراض التاريخي على المعجزات

 

  • عدد الزيارات: 917